قوله تعالى : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه . . " 15 " } ( سورة الإسراء ) : لأن الحق سبحانه لا تنفعه طاعة ، ولا تضره معصية ، وهو سبحانه الغني عن عباده ، وبصفات كماله وضع منهج الهداية للإنسان الذي جعله خليفة له في أرضه ، وقبل أن يخلقه أعد له مقومات الحياة كلها من أرض وسماء ، وشمس وقمر ، وهواء وجبال ومياه .
فصفات الكمال ثابتة له سبحانه قبل أن يخلق الخلق ، إذن : فطاعتهم لن تزيده سبحانه شيئاً ، كما أن معصيتهم لن تضره سبحانه في شيء . وهنا قد يسأل سائل : فلماذا التكليفات إذن ؟
نقول : إن التكليف من الله لعباده من أجلهم وفي صالحهم ، لكي تستمر حركة حياتهم ، وتتساند ولا تتعاند ؛ لذلك جعل لنا الخالق سبحانه منهجاً نسير عليه ، وهو منهج واجب التنفيذ لأنه من الله ، من الخالق الذي يعلم من خلق ، ويعلم ما يصلحهم وينظم حياتهم ، فلو كان منهج بشر لبشر لكان لك أن تتأبى عليه ، أما منهج الله فلا ينبغي الخروج عليه .
لذلك نسمع في الأمثال الدارجة عند أهل الريف يقولون : الأصبع الذي يقطعه الشرع لا ينزف ، والمعنى أن الشرع هو الذي أمر بذلك ، فلا اعتراض عليه ، ولو كان هذا بأمر البشر لقامت الدنيا ولم تقعد .
ومن كماله سبحانه وغناه عن الخلق يتحمل عنهم ما يصدر عنهم من أحكام أو تجن أو تقصير ؛ ذلك لأن كل شيء عنده بمقدار ، ولا يقضي أمر في الأرض حتى يقضي في السماء ، فإذا كلفت واحداً بقضاء مصلحة لك ، فقصر في قضائها ، أو رفض ، أو سعى فيها ولم يوفق نجدك غاضباً عليه حانقاً .
وهنا يتحمل الخالق سبحانه عن عباده ، ويعفيهم من هذا الحرج ، ويعلمهم أن الحاجات بميعاد وبقضاء عنده سبحانه ، فلا تلوموا الناس ، فلكل شيء ميلاد ، ولا داعي لأن نسبق الأحداث ، ولننتظر الفرج وقضاء الحوائج من الله تعالى أولاً .
ومن هنا يعلمنا الإسلام قبل أن نعد بعمل شيء لابد أن نسبقه بقولنا : إن شاء الله لنحمي أنفسنا ، ونخرج من دائرة الحرج أو الكذب إذا لم نستطع الوفاء ، فأنا إذن في حماية المشيئة الإلهية إن وفقت فبها ونعمت ، وإن عجزت فإن الحق سبحانه لم يشأ ، وأخرج أنا من أوسع الأبواب .
إذن : تشريعات الله تريد أن تحمي الناس من الناس ، تريد أن تجتث أسباب الضغن على الآخر ، إذا لم تقض حاجتك على يديه ، وكأن الحق سبحانه يقول لك : تمهل فكل شيء وقته ، ولا تظلم الناس ، فإذا ما قضيت حاجتك فاعلم أن الذي كلفته بها ما قضاها لك في الحقيقة ، ولكن صادف سعيه ميلاد قضاء هذه الحاجة ، فجاءت على يديه ، فالخير في الحقيقة من الله ، والناس أسباب لا غير .
وتتضح لنا هذه القضية أكثر من مجال الطب وعلاج المرضى ، فالطبيب سبب ، والشفاء من الله ، وإذا أراد الله لأحد الأطباء التوفيق والقبول عند الناس جعل مجيئه على ميعاد الشفاء فيلتقيان .
ومن هنا نجد بعض الأطباء الواعين لحقيقة الأمر يعترفون بهذه الحقيقة ، فيقول أحدهم : ليس لنا إلا في ( الخضرة ) . والخضرة معناها : الحالة الناجحة التي حان وقت شفائها . وصدق الشاعر حين قال :
والناس يلحون الطبيب وإنما خطأ الطبيب إصابة الأقدار .
فقول الحق تبارك وتعالى : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه . . " 15 " } ( سورة الإسراء ) : أي : لصالح نفسه .
والاهتداء : يعني الالتزام بمنهج الله ، والتزامك عائد عليك ، وكذلك التزام الناس بمنهج الله عائد عليك أيضاً ، وأنت المنتفع في كل الأحوال بهذا المنهج ؛ لذلك حينما ترى شخصاً مستقيماً عليك أن تحمد الله ، وأن تفرح باستقامته ، وإياك أن تهزأ به أو تسخر منه ؛ لأن استقامته ستعود بالخير عليك في حركة حياتك .
وفي المقابل يقول الحق سبحانه : { ومن ضل فإنما يضل عليها . . " 15 " }( سورة الإسراء ) : أي : تعود عليه عاقبة انصرافه عن منهج الله ؛ لأن شر الإنسان في عدم التزامه بمنهج الله يعود عليك ويعود على الناس من حوله ، فيشقى هو بشره ، ويشقى به المجتمع .
ومن العجب أن نرى بعض الحمقى إذا رأى منحرفاً أو سيئ السلوك ينظر إليه نظرة بغض وكراهية ، ويدعو الله عليه ، وهو لا يدري أنه بهذا العمل يزيد الطين بلة ، ويوسع الخرق على الراقع كما يقولون .
فهذا المنحرف في حاجة لمن يدعو الله له بالهداية ، حتى تستريح أولاً من شره ، ثم لتتمتع بخير هدايته ثانياً . أما الدعاء عليه فسوف يزيد من شره ، ويزيد من شقاء المجتمع به .
ومن هذا المنطلق علمنا الإسلام أن من كانت لديه قضية علمية تعود بالخير ، فعليه أن يعديها إلى الناس ؛ لأنك حينما تعدي الخير إلى الناس ستنتفع بأثره فيهم ، فكما انتفعوا هم بآثار خلالك الحميدة ، فيمكنك أنت أيضاً الانتفاع بآثار خلالهم الحميدة إن نقلتها إليهم .
لذلك حرم الإسلام كتم العلم لما يسببه من أضرار على الشخص نفسه وعلى المجتمع . يقول صلى الله عليه وسلم : " من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " .
وكذلك من الكمال الذي يدعونا إليه المنهج الإلهي أن يتقن كل صاحب مهنته ، وكل صاحب صنعة صنعته ، فالإنسان في حركة حياته يتقن عملاً واحداً ، لكن حاجاته في الحياة كثيرة ومتعددة .
فالخياط مثلاً الذي يخيط لنا الثياب لا يتقن غير هذه المهنة ، وهو يحتاج في حياته إلى مهن وصناعات كثيرة ، يحتاج إلى : الطبيب والمعلم والمهندس والحداد والنجار والفلاح . . الخ .
فلو أتقن عمله وأخلص فيه لسخر الله له من يتقن له حاجته ، ولو رغماً عنه ، أو عن غير قصد ، أو حتى بالمصادفة .
إذن : من كمالك أن يكون الناس في كمال ، فإن أتقنت عملك فأنت المستفيد حتى إن كان الناس من حولك أشراراً لا يتقنون شيئاً فسوف ييسر الله لهم سبيل إتقان حاجتك ، من حيث لا يريدون ولا يشعرون . وقوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى . . " 15 " } ( سورة الإسراء ) : أي : لا يحمل أحد ذنب أحدٍ ، ولا يؤاخذ أحد بجريرة غيره ، وكلمة : { تزر وازرة . . " 15 " } ( سورة الإسراء ) : من الوزر : وهو الحمل الثقيل ، ومنها كلمة الوزير : أي الذي يحمل الأعباء الثقيلة عن الرئيس ، أو الملك أو الأمير . فعدل الله يقتضي أن يحاسب الإنسان بعمله ، وأن يسأل عن نفسه ، فلا يرمي أحد ذنبه على أحد ، كما قال تعالى : { لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا . . " 33 " }( سورة لقمان ) : وحول هذه القضية تحدث كثير من المستشرقين الذين يبحثون في القرآن عن مأخذ ، فوقفوا عند هذه الآية : { ولا تزر وازرة وزر أخرى . . " 15 " } ( سورة الإسراء ) : وقالوا : كيف نوفق بينها وبين قوله : { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم . . " 13 " } ( سورة العنكبوت ) .
وقوله تعالى : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون " 25 " }( سورة النحل ) .
ونقول : التوفيق بين الآية الأولى والآيتين الأخيرتين هين لو فهموا الفرق بين الوزر في الآية الأولى ، والوزر في الآيتين الأخيرتين .
ففي الأولى وزر ذاتي خاص بالإنسان نفسه ، حيث ضل هو في نفسه ، فيجب أن يتحمل وزر ضلاله . أما في الآية الثانية فقد أضل غيره ، فتحمل وزره الخاص به ، وتحمل وزر من أضلهم .
ويوضح لنا هذه القضية الحديث النبوي الشريف : " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء " .
وقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " 15 " }( سورة الإسراء ) : العذاب : عقوبة على مخالفة ، لكن قبل أن تعاقبني عليها لابد أن تعلمني أن هذه مخالفة أو جريمة ( وهي العمل الذي يكسر سلامة المجتمع ) ، فلا جريمة إلا بنص ينص عليها ويقننها ، ويحدد العقاب عليها ، ثم بعد ذلك يجب الإعلام بها في الجرائد الرسمية لكي يطلع عليها الناس ، وبذلك تقام عليهم الحجة إن خالفوا أو تعرضوا لهذه العقوبة .
لذلك حتى في القانون الوضعي نقول : لا عقوبة إلا بتجريم ، ولا تجريم إلا بنص ، ولا نص إلا بإعلام .
فإذا ما اتضحت هذه الأركان في أذهان الناس كان للعقوبة معنى ، وقامت الحجة على المخالفين ، أما أن نعاقب شخصاً على جريمة هو لا يعلم بها ، فله أن يعترض عليك من منطلق هذه الآية .
أما أن يجرم هذا العمل ، ويعلن عنه في الصحف الرسمية ، فلا حجة لمن جهله بعد ذلك ؛ لأن الجهل به بعد الإعلام عنه لا يعفي من العقوبة .
فكأن قول الله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " 15 " }( سورة الإسراء ) .
يجمع هذه الأركان السابقة : الجريمة ، والعقوبة ، والنص ، والإعلام ، حيث أرسل الله الرسول يعلم الناس منهج الحق سبحانه ، ويحدد لهم ما جرمه الشرع والعقوبة عليه . لذلك يقول تعالى في آية أخرى : { وإن من أمةٍ إلا خلا فيها نذير " 24 " } ( سورة فاطر ) . ويقول : { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير . . " 19 " }( سورة المائدة ) .
إذن : قد انقطعت حجتكم برسالة محمد البشير النذير صلى الله عليه وسلم . وقد وقف العلماء أمام هذه القضية فقالوا : إن كانت الحجة قد قامت على من آمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فما بال الكافر الذي لم يؤمن ولم يعلم منهج الله ؟ وكأنهم يلتمسون له العذر بكفره .
نقول : لقد عرف الإنسان ربه عز وجل أولاً بعقله ، وبما ركبه فيه خالقه سبحانه من ميزان إيماني هو الفطرة ، هذه الفطرة هي المسئولة عن الإيمان بقوة قاهرة وراء الوجود ، وإن لم يأت رسول ، والأمثلة كثيرة لتوضيح هذه القضية :
هب أنك قد انقطعت بك السبل في صحراء واسعة شاسعة لا تجد فيها أثراً لحياة ، وغلبك النوم فنمت ، وعندما استيقظت فوجئت بمائدة منصوبة لك عليها أطايب الطعام والشراب . بالله ألا تفكر في أمرها قبل أن تمتد يدك إليها ؟ ألا تلفت انتباهك وتثير تساؤلاتك عمن أتى بها إليك ؟
وهكذا الإنسان بعقله وفطرته لابد أن يهتدي إلى أن للكون خالقاً مبدعاً ، ولا يمكن أن يكون هذا النظام العجيب المتقن وليد المصادفة ، وهل عرف آدم ربه بغير هذه الأدوات التي خلقها الله فينا ؟
لقد جئنا إلى الحياة فوجدنا عالماً مستوفياً للمقومات والإمكانيات ، وجدنا أمام أعيننا آيات كثيرة دالة على الخالق سبحانه ، كل منها خيط لو تتبعته لأوصلك . خذ مثلاً الشمس التي تنير الكون على بعدها تطلع في الصباح وتغرب في المساء ، ما تخلفت يوماً ، ولا تأخرت لحظة عن موعدها ، ألا تسترعى هذه الآية الكونية انتباهك ؟
وقد سبق أن ضربنا مثلاً ب " أديسون " الذي اكتشف الكهرباء ، وكم أخذ من الاهتمام والدراسة في حين أن الإضاءة بالكهرباء تحتاج إلى أدوات وأجهزة وأموال ، وهي عرضة للأعطال ومصدر للأخطار ، فما بالنا نغفل عن آية الإضاءة الربانية التي لا تحتاج إلى مجهود أو أموال أو صيانة أو خلافه ؟
والعربي القح الذي ما عرف غير الصحراء حينما رأى بعر البعير وآثار الأقدام استدل بالأثر على صاحبه ، فقال في بساطة العرب : البعرة تدل على البعير ، والقدم تدل على المسير ، سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، ونجوم تزهر ، وبحار تزخر ، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟
إذن : بالفطرة التكوينية التي جعلها الله في الإنسان يمكن له أن يهتدي إلى أن للكون خالقاً ، وإن لم يعرف من هو ، مجرد أن يعرف القوة الخفية وراء هذا الكون .
وحينما يأتي رسول من عند الله يساعده في الوصول إلى ما يبحث عنه ، ويدله على ربه وخالقه ، وإن هذه القوة الخفية التي حيرتك هي ( الله )خالقك وخالق الكون كله بما فيه ومن فيه .
وهو سبحانه واحد لا شريك له ، شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو ولم يعارضه أحد ولم يدع أحد أنه إله مع الله ، وبذلك سلمت له سبحانه هذه الدعوى ؛ لأن صاحب الدعوة حين يدعيها تسلم له إذا لم يوجد معارض لها .
وهذه الفطرة الإيمانية في الإنسان هي التي عناها الحق سبحانه في قوله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى . . " 172 " }( سورة
الأعراف ) : وهذا هو العهد الإلهي الذي أخذه الله على خلقه وهم في مرحلة الذر ، حيث كانوا جميعاً في آدم عليه السلام فالأنسال كلها تعود إليه ، وفي كل إنسان إلى يوم القيامة ذرة من آدم ، هذه الذرة هي التي شهدت هذا العهد ، وأقرت أنه لا إله إلا الله ، ثم ذابت هذه الشهادة في فطرة كل إنسان ؛ لذلك نسميها الفطرة الإيمانية .
ونقول للكافر الذي أهمل فطرته الإيمانية وغفل عنها ، وهي تدعوه إلى معرفة الله : كيف تشعر بالجوع فتطلب الطعام ؟ وكيف تشعر بالعطش فتطلب الماء ؟ أرأيت الجوع أو لمسته أو شممته ؟ إنها الفطرة والغريزة التي جعلها الله فيك ، فلماذا استخدمت هذه ، وأغفلت هذه ؟
والعجيب أن ينصرف الإنسان العاقل عن ربه وخالقه في حين أن الكون كله من حوله بكل ذراته يسبح بحمد ربه ، فذرات الكون وذرات التكوين في المؤمن وفي الكافر تسبح بحمد ربها ، كما قال تعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم . . " 44 " }( سورة الإسراء ) : فكيف بك يا سيد الكون تغفل عن الله والذرات فيك مسبحة ، فإن كانت ذرات المؤمن حدث بينه وبين ذرات تكوينه انسجام واتفاق ، وتجاوب تسبيحه مع تسبيح ذراته وأعضائه وتوافقت إرادته الإيمانية مع إيمان ذراته ، فترى المؤمن منسجماً مع نفسه مع تكوينه المادي .
ويظهر هذا الانسجام بين إرادة الإنسان وبين ذراته وأعضائه في ظاهرة النوم ، فالمؤمن ذراته وأعضائه راضية عنه تحبه وتحب البقاء معه لا تفارقه ؛ لأن إرادته في طاعة الله ، فترى المؤمن لا ينام كثيراً مجرد أن تغفل عينه ساعة من ليل أو نهار تكفيه ذلك ؛ لأن أعضاءه في انسجام مع إرادته ، وهؤلاء الذين قال الله فيهم : { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون " 17 " } ( سورة الذاريات ) : وكان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه ، لأنه في انسجام تام مع إرادته صلى الله عليه وسلم . وما أشبه الإنسان في هذه القضية بسيد شرس سيئ الخلق ، لديه عبيد كثيرون ، يعانون من سوء معاملته ، فيلتمسون الفرصة للابتعاد عنه والخلاص من معاملته السيئة .
على خلاف الكافر ، فذراته مؤمنة وإرادته كافرة ، فلا انسجام ولا توافق بين الإرادة والتكوين المادي له ، لذا ترى طبيعته قلقة ، ليس هناك تصالح بينه وبين ذراته ، لأنها تبغضه وتلعنه ، وتود مفارقته .
ولولا أن الخالق سبحانه جعلها منقادة له لما طاوعته ، وإنها لتنتظر يوم القيامة يوم أن تفك من إرادته ، وتخرج من سجنه ، لتنطق بلسان مبين ، وتشهد عليه بما اقترف في الدنيا من كفر وجحود ؛ لذلك ترى الكافر ينام كثيراً ، وكأن أعضاءه تريد أن ترتاح من شره .
ولابد أن نعلم أن ذرات الكون وذرات الإنسان في تسبيحها للخالق سبحانه ، أنه تسبيح فوق مدارك البشر ؛ لذلك قال تعالى : { ولكن لا تفقهون تسبيحهم . . " 44 " } ( سورة الإسراء ) : فلا يفقهه ولا يفهمه إلا من منحه الله القدرة على هذا ، كما منح هذه الميزة لداود عليه السلام فقال : { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين " 79 " } ( سورة الأنبياء ) : وهنا قد يقول قائل : ما الميزة هنا ، والجبال والطير تسبح الله بدون داود ؟
والميزة هنا لداود عليه السلام أن الله تعالى أسمعه تسبيح الجبال وتسبيح الطير ، وجعلها تتجاوب معه في تسبيحه وكأنه ( كورس )أو نشيد جماعي تتوافق فيه الأصوات ، وتتناغم بتسبيح الله تعالى ، ألم يقل الحق سبحانه في آية أخرى : { يا جبال أوبي معه والطير . . " 10 " } ( سورة سبأ ) : أي : رجعي معه ورددي التسبيح .
ومن ذلك أيضاً ما وهبه الله تعالى لنبيه سليمان عليه السلام من معرفة منطق الطير أي لغته ، فكان يسمع النملة وهي تخاطب بني جنسها ويفهم ما تريد ، وهذا فضل من الله يهبه لمن يشاء من عباده ، لذلك لما فهم سليمان عليه السلام لغة النملة ، وفهم ما تريده من تحذير غيرها تبسم ضاحكاً : { وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي . . " 19 " }( سورة النمل ) : إذن : لكل مخلوق من مخلوقات الله لغة ومنطق ، لا يعلمها ولا يفهمها إلا من ييسر الله له هذا العلم وهذا الفهم .
وحينما نقرأ عن هذه القضية نجد بعض كتاب السيرة مثلاً يقولون : سبح الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم نقول لهم : تعبيركم هذا غير دقيق ، لأن الحصى يسبح في يده صلى الله عليه وسلم كما يسبح في يد أبي جهل ، لكن الميزة أنه صلى الله عليه وسلم سمع تسبيح الحصى في يده ، وهذه من معجزاته صلى الله عليه وسلم .
والحق سبحانه يريد أن يلفتنا إلى حقيقة من حقائق الكون ، وهي كما أن لك حياة خاصة بك ، فاعلم أن لكل شيء دونك حياة أيضاً ، لكن ليست كحياتك أنت ، بدليل قول الحق سبحانه : { كل شيءٍ هالك إلا وجهه . . " 88 " } ( سورة القصص ) : فكل ما يطلق عليه شيء مهما قل فهو هالك ، والهلاك ضد الحياة ؛ لأن الله تعالى قال : { ليهلك من هلك عن بنيةٍ ويحيى من حي عن بينةٍ . . " 42 " } ( سورة الأنفال ) : فدل على أن له حياة تناسبه . ونعود إلى قوله الحق سبحانه : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " 15 " }
( سورة الإسراء ) : فإن اهتدى الإنسان بفطرته إلى وجود الخالق سبحانه ، فمن الذي يعلمه بمرادات الخالق سبحانه منه ، إذن : لابد من رسول يبلغ عن الله ، وينبه الفطرة الغافلة عن وجوده تعالى .