الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي

الثعالبي القرن التاسع الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 187

بَرَآءَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ١

سورة التوبة

مدنية وآياتها 129

وهي مدنية إلا آيتين ، قوله سبحانه : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [ التوبة : 128 ] إلى آخرها ، وتسمى سورة التوبة ، قاله حذيفة وغيره ، وتسمى الفاضحة قاله ابن عباس وقال : ( ما زال ينزل ومنهم ، ومنهم ) ، حتى ظن أنه لا يبقى أحد ، وهي من آخر ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال علي رضي الله عنه لأبن عباس : بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبشارة ، وبراءة نزلت بالسيف ونبذ العهود ، فلذلك لم تبدأ بالأمان .

بسم الله الرحمان الرحيم

قوله عز وجل : { بَرَاءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُّمْ مِّنَ المشركين } [ التوبة : 1 ] .

التقدير : هذه الآيةُ براءَةٌ ، ويصحُّ أن يرتفع «براءَةٌ » ؛ بالابتداء ، والخَبَرُ في قوله : { إِلَى الذين } ، و{ بَرَاءَةٌ } معناه : تَخَلَّصٌ وتَبَرٍّ من العهود التي بَيْنَكم ، وبَيْنَ الكفَّار البادئين بالنَّقْض ، قال ابن العَرَبِّي في «أحكامه » : تقول : بَرَأْتُ مِنَ الشَّيْءِ أَبْرَأُ بَرَاءَةً ، فأنا مِنْه بَرِيءٌ ؛ إِذا أنزلْتَهُ عن نَفْسكَ ، وقطَعْتَ سبَبَ ما بينك وبَيْنه ، انتهى .

ومعنى السياحة في الأرض : الذَّهَاب فيها مسرحين آمنين ؛ كالسَّيْح من الماء ، وهو الجاري المنبسطُ ؛ قال الضَّحَّاك ، وغيره من العلماء : كان من العرب مَنْ لا عَهْدَ بينه وبَيْن النبيِّ صلى الله عليه وسلم جملةً ، وكان منهم مَنْ بينه وبينهم عهدٌ ، وتحُسسَ منهم نَقْضٌ ، وكان منهم مَنْ بينه وبينهم عهدٌ ولم ينقضوا ، فقوله : { فَسِيحُوا فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [ التوبة : 2 ] هو أَجَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهِ لِمَنْ كان بينه وبينهم عهد ، وتحسَّس منهم نقْضَهُ ، وأول هذا الأجَلِ يومُ الأذان ، وَآخره انقضاء العَشْر الأُوَل مِنْ رَبيعٍ الآخِرِ .

وقوله سبحانه : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] . حُكْمٌ مباينٌ للأوَّل ، حَكَمَ به في المشركين الذين لا عَهْدَ لهم البتة ، فجاء أَجَلُ تأمينهم خمسين يوماً ، أوَّلها يومُ الأذانِ ، وآخرها انقضاء المُحَرَّم .

وقوله : { إِلَى الذين عَاهَدْتُّم } [ التوبة : 4 ] .

يريد به الذين لَهُمْ عهدٌ ، ولم ينقضوا ، ولا تُحُسِّسِ منهم نَقْضٌ ، وهم فيما روي بَنُو ضَمْرَةَ من كِنَانَة ، كان بَقِيَ مِنْ عهدهم يومَ الأذان تِسْعَةُ أشهرٍ .

فَسِيحُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخۡزِي ٱلۡكَٰفِرِينَ٢

وقوله عز وجل : { واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله } [ التوبة : 2 ] .

أي : لا تفلتون اللَّه ، ولا تعجزونه هَرَباً .

وَأَذَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوۡمَ ٱلۡحَجِّ ٱلۡأَكۡبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيٓءٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ وَرَسُولُهُۥۚ فَإِن تُبۡتُمۡ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ٣

وقوله : { وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 3 ] .

أي : إِعلامٌ ، و{ يَوْمَ الحج الأكبر } قال عمر وغيره : هو يَوْمُ عَرَفَة ، وقال أبو هريرة وجماعة : هو يوم النَّحْر ، وتظاهرتِ الرواياتُ ؛ أن عليًّا أَذَّنَ بهذه الآياتِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِثْرَ خُطْبة أبي بَكْر ، ثم رأَى أَنه لم يعمَّ الناس بالاستماع ، فتتبَّعهم بالأذانِ بها يوم النَّحْر ، وفي ذلك اليَوْمِ بَعثَ أبو بَكْرٍ مَنْ يعينه في الأذَانِ بها ؛ كَأَبِي هُرَيْرَة وغيره ، وتتَّبعوا بها أيضاً أسْوَاقَ العَرَب ، كَذِي المَجَازِ وغيره ؛ وهذا هو سبب الخلاف ، فقالتْ طائفةٌ : يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَر : عرفَةُ ؛ حيث وقع أَوَّلُ الأذان ، وقالتْ أُخْرَى : هو يومُ النَّحْرِ ؛ حيث وقع إِكمال الأذَان ، وقال سفيان بن عُيَيْنَة : المراد باليَوْمِ أيامُ الحجِّ كلُّها ؛ كما تقول : يَوْمُ صفِّينَ ، وَيَوْمُ الجَمَلِ ؛ ويتجه أن يوصَفُ ب «الأَكبر » ؛ علَى جهة المدحِ ، لا بالإِضافة إِلَى أصْغِرَ معيَّنٍ ، بل بكون المعنى : الأكبر مِنْ سائر الأيام ، فتأمَّله ،

واختصار ما تحتاجُ إِلَيْهِ هذه الآيةُ ؛ على ما ذكَرَ مجاهد وغيره مِنْ صورة تلك الحال : أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم افتتح مكَّة سنةَ ثمانٍ ، فاستعمل عليها عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ ، وقضى أَمْرَ حُنَيْنٍ والطائِفِ ، وانصرف إِلى المدينة ، فأقام بها حتَّى خرج إِلى تَبُوكَ ، ثم انصرفَ مِنْ تَبُوكَ في رَمَضَانَ سَنَةَ تسْعٍ ، فأَراد الحَجَّ ، ثم نظر في أَنَّ المشرِكِينِ يَحُجُّون في تلْكَ السَّنَة ، ويَطُوفون عُرَاةً ، فقال : لا أريدُ أنْ أَرَى ذلك ، فأمّر أبا بَكْرٍ على الحَجِّ بالناس ، وأنفَذَهُ ، ثم أَتْبَعَهُ عليَّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه علَى ناقتِهِ العَضْبَاءِ ، وأمره أنْ يؤذِّن في النَّاس بأربعين آيةً : صَدْرُ سورةِ «بَرَاءَة » ، وقيل : ثَلاَثِينَ ، وقيل : عشرين ، وفي بعض الروايات : عَشْر آيات ، وفي بعضها : تسع آيات ، وأمره أن يُؤْذِنَ الناسَ بأربعةِ أشياء ، وهي : أَلاَّ يحجَّ بعد العام مُشْرِكٌ ، ولا يدخُلَ الجَنَّة إِلا نَفْسٌ مؤمنةٌ ، وفي بعض الروايات : ولا يَدْخُلَ الجَنَّةَ كَافرٌ ، ولا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيَانٌ ، ومَنْ كان له عنْدَ رَسُولِ اللَّهِ عهْدٌ ، فهو إِلى مدَّته ، وفي بعض الروايات : ومَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّه عَهْدٌ ، فأجله أربعةُ أَشهُرٍ يسيحُ فيها ، فإِذا انقضت ، فإِن اللَّه بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولَهِ .

قال ( ع ) : وأقول : إنهم كانوا ينادُونَ بهذا كلِّه ، فأربعةُ أشهر ؛ للذين لهم عَهْدٌ وتُحُسِّسَ منهم نقضُهُ ، والإِبقاء إِلى المدَّة لمن لم يخبر منه نقضٌ ، وذكر الطبريُّ أن العرب قالت يومئذٍ : نَحْنُ نَبرأُ مِنْ عهدك ، ثم لام بعضُهُمْ بعضاً ، وقالوا : ما تَصْنَعُونَ ، وقد أسلَمَتْ قريشٌ ؟ فأسلموا كلُّهم ، ولم يَسِحْ أحد ،

قال ( ع ) : وحينئذٍ دخل الناس في دين اللَّه أفواجاً .

وقوله سبحانه : { أَنَّ الله بَرِيءٌ مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ } [ التوبة : 3 ] .

أي : ورسولُهُ بريءٌ منهم .

وقوله : { فَإِن تُبْتُمْ } ، أي : عن الكُفْر .

إِلَّا ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ثُمَّ لَمۡ يَنقُصُوكُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَمۡ يُظَٰهِرُواْ عَلَيۡكُمۡ أَحَدٗا فَأَتِمُّوٓاْ إِلَيۡهِمۡ عَهۡدَهُمۡ إِلَىٰ مُدَّتِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ٤

وقوله سبحانه : { إِلاَّ الذين عاهدتم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } [ التوبة : 4 ] .

هذا هو الاستثناءُ الذي تقدَّم ذكْره ، وقرأ عكرمة وغيره : { ينْقُضُوكُمْ } بالضاد المعجمة ، { يظاهروا } : معناه : يعاونوا ، والظَّهيرُ : المُعِينُ .

وقوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } : تنبيهٌ على أنَّ الوفاء بالعَهْد من التقوَى .

فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ٥

قوله سبحانه : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم } : الانسلاخ : خروجُ الشيء عن الشيء المتلبِّس به ؛ كانسلاخ الشاة عن الجِلْدِ ، فشبه انصرام الأشهر بذلك .

وقوله سبحانه : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } .

قال ابن زَيْد : هذه الآية ، وقوله سبحانه : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } [ محمد : 4 ] : هما مُحْكَمَتان ؛ أي : ليستْ إِحداهما بناسخةٍ للأخرى .

قال ( ع ) : هذا هو الصواب .

وقوله : { وَخُذُوهُمْ } معناه : الأسْر .

وقوله : { كُلَّ مَرْصَدٍ } : معناه : مواضع الغرَّة ؛ حيث يرصدون ونصب { كُلَّ } على الظرف أو بإسقاط الخافِضِ ، التقدير : في كُلِّ مَرْصَد .

وقوله : { فَإِن تَابُوا } ، أي : عن الكُفْر .

وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡلَمُونَ٦

وقوله سبحانه : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك } [ التوبة : 6 ] .

أي : جَلَبَ منك عهداً وجواراً يأمن به ، { حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله } ، يعني القُرْآن ، والمعنى : يفهم أحكامه ، قال الحسن : وهذه آية محكمة ؛ وذلك سُنَّة إِلى يوم القيامة .

page 188

كَيۡفَ يَكُونُ لِلۡمُشۡرِكِينَ عَهۡدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِۦٓ إِلَّا ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۖ فَمَا ٱسۡتَقَٰمُواْ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِيمُواْ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ٧

وقوله سبحانه : { إِلاَّ الذين عاهدتم عِندَ المسجد الحرام } [ التوبة : 7 ] .

قال ابنُ إسحاق : هي قبائلُ بني بَكْر ؛ كانوا دخلوا وقْتَ الحديبية في العهد ، فأُمِرَ المسلمون بإِتمام العَهْدِ لمن لم يكُنْ نَقَضَ منهم .

كَيۡفَ وَإِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ لَا يَرۡقُبُواْ فِيكُمۡ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ يُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَٰسِقُونَ٨

وقوله سبحانه : { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } [ التوبة : 8 ] .

في الكلام حذْفٌ ، تقديره : كيف يكون لهم عهد ونحوه ، وفي { كيف } هنا تأكيدٌ لِلاستبعادِ الذي في الأُولَى ،

ٱشۡتَرَوۡاْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ ثَمَنٗا قَلِيلٗا فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ٩
لَا يَرۡقُبُونَ فِي مُؤۡمِنٍ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُعۡتَدُونَ١٠

و{ لاَ يَرْقُبُوا } معناه : لا يُرَاعُوا ، ولا يَحْفَظُوا ، وقرأ الجمهور : { إِلاًّ ، وهو اللَّه عزَّ وجلَّ ؛ قاله مجاهد ، وأبو مِجْلِزٍ ، وهو اسمه بالسُّرْيانية ، وعُرِّب ، ويجوز أن يراد به العَهْدُ ، والعَرَبُ تقول للعهد والحِلْف والجِوَارِ ونحوِ هذه المعاني : «إِلاًّ » ، والذِّمةُ أيضاً : بمعنى الحِلْفِ والجوارِ ونحوه .

فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِۗ وَنُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ١١
وَإِن نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمۡ فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَنتَهُونَ١٢

وقوله سبحانه : { وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ } [ التوبة : 12 ] .

ويليق هنا ذكْرُ شيء مِنْ حُكْمٍ طعن الذميِّ في الدِّين ، والمشهورُ من مذْهَب مالِكٍ : أنه إِذا فعل شيئاً من ذلك ؛ مِثْلُ تكذيبِ الشريعة ، وسبِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قُتِلَ .

وقوله سبحانه : { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } ، أي : رؤوسهم وأعيانهم الذين يقودُونَ الناس إِليه ، وأصوبُ ما يقال في هذه الآية : أنه لا يُعْنَى بها معيَّنٌ وإِنما وَقَعَ الأمر بقتال أئمة الناكثين للعهود من الكَفَرةِ إِلَى يوم القيامة ، واقتضت حالُ كفَّار العرب ومحارِبي النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أَن تكون الإِشارة إِليهم أَولاً ، ثم كُلُّ مَنْ دَفَعَ في صدر الشريعة إِلى يوم القيامة فهو بمنزلتهم .

وقرأ الجمهور : { لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } ( جَمْع يمين ) ، أي : لا أيمان لهم يُوفَى بها وتُبَرُّ ، وهذا المعنَى يشبه الآيةَ ، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة : { لا إِيمَانَ لَهُمْ } ، وهذا يحتملُ وجهين :

أحدهما : لا تصديقَ لهم ، قال أبو عَليٍّ : وهذا غَيْرُ قويٍّ ؛ لأنه تكريرٌ ، وذلك أنه وَصَفَ أَئمَّة الكُفْرِ بأنهم لا إِيمان لهم ، والوجْه في كَسْر الألفِ أَنَّه مصْدَرٌ من آمَنْتُهُ إِيماناً ؛ ومنه قوله تعالى : { مِنْ جُوع وَآمَنَهُمْ } [ قريش : 4 ] فالمعنى : أنهم لاَ يُؤَمَّنُونَ كما يُؤَمَّنُ أَهْلُ الذمَّة الكتابيُّون ؛ إِذ المشركون ليس لهم إِلا الإِسلام أو السَّيْفَ ، قال أبو حاتمْ : فَسَّر الحَسَنُ قراءته : ( لا إِسلام لهم ) .

قال ( ع ) : والتكريرُ الذي فَرَّ أبو عَلِيٍّ منه متَّجِهٌ ، لأنه بيانُ المهمِّ الذي يوجبُ قَتْلهم .

أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمٗا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ١٣

وقوله عز وجل : { أَلاَ تقاتلون قَوْماً نَّكَثُوا أيمانهم وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول } [ التوبة : 13 ] .

«ألا » : عَرْضٌ وتحضيضٌ ، قال الحسن : والمراد ب{ إِخْرَاجٍ الرسول } : إخراجُه من المدينة ، وهذا مستقيمٌ ؛ كغزوة أُحُدٍ والأحزاب ، وقال السديُّ : المرادُ مِنْ مَكَّة .

وقوله سبحانه : { وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ، قيل : يراد أفعالهم بمكَّة بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وبالمؤمنين ، وقال مجاهدٌ : يراد به ما بَدَأَتْ به قريشٌ مِنْ معونة بني بَكْر حلفائِهِمْ ، على خُزَاعَةَ حلفاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فكان هذا بَدْءَ النقْض ، وقال الطبريُّ : يعني فعْلَهم يَوْمَ بدر .

قال الفَخْر : قال ابن إِسحاق والسُّدِّيُّ والكَلَبِيُّ : ( نزلَتْ هذه الآية في كفَّار مَكَّة ؛ نكثوا أيمانهم بعد عَهْدِ الحديبية ، وأعانوا بني بَكْر عَلَى خُزَاعة ) . انتهى .

وقوله سبحانه : { أَتَخْشَوْنَهُمْ } : استفهام على معنى التقرير والتوبيخ ، { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } ، أي : كَامِلِي الإِيمان .

page 189

قَٰتِلُوهُمۡ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَيۡدِيكُمۡ وَيُخۡزِهِمۡ وَيَنصُرۡكُمۡ عَلَيۡهِمۡ وَيَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمٖ مُّؤۡمِنِينَ١٤

وقوله سبحانه : { قاتلوهم يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } [ التوبة : 14 ] .

قرّرت الآياتُ قبلها أفعالَ الكَفَرة ، ثم حضَّ على القتال مقترناً بذنوبهم ؛ لتنبعث الحميَّة مع ذلك ، ثم جزم الأمْرَ بقتالِهِمْ في هذه الآيةَ مقترناً بوَعْدٍ وكِيدٍ يتضمَّن النصْرَ عَلَيْهِم ، والظَّفَرَ بهم .

وقوله سبحانه : { يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } ، معناه : بالقتل والأسر ، و{ وَيُخْزِهِمْ } ، معناه : يذلَّهم علَى ذنوبهم ، يقال : خَزِيَ الرجُلُ يَخْزَى خَزْياً ، إِذا ذَلَّ من حيثُ وَقَعَ في عَارٍ ، وأَخْزَاهُ غيره ، وخزي يخزى خزاية إذا استحيى ، وأما قوله تعالى : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } ، فيحتمل أنْ يريد جماعةَ المؤمنين ، لأن كلَّ ما يهدي من الكُفْرِ هو شفاءٌ مِنْ هَمِّ صدور المؤمنين ، ويحتمل أنْ يريد تخصيصَ قومٍ من المؤمنين ، وروي أنهم خُزَاعَةْ ؛ قاله مجاهدٌ والسُّدِّيُّ ، ووجْه تخصيصهم أنهم الذين نُقِضَ فيهم العهدُ ، ونالتهم الحربُ ، وكان يومئذٍ في خُزَاعَةَ مؤمنين كثير ؛ ويقتضي ذلك قولُ الخزاعيِّ المستَنْصِرِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم : [ الرجز ]

ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا ***

وفي آخر الرجز :

وَقَتَّلُونَا رُكَّعاً وَسُجَّدَا ***

وقرأ جمهور الناس : و{ يَتُوبُ } [ التوبة : 15 ] بالرفع على القطْع مما قبله ، والمعنَى أن الآية استأنفت الخبر بأنه قد يَتُوبُ على بعض هؤلاء الكَفَرة الذين أَمَرَ بقتالهم .

وَيُذۡهِبۡ غَيۡظَ قُلُوبِهِمۡۗ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ١٥

وعبارةُ ( ص ) : و{ يَتُوب } ، الجمهورُ بالرّفْعِ على الاستئناف ، وليس بداخلٍ في جوابِ الأمر ؛ لأن توبته سبحانه على مَنْ يشاء لَيْسَتْ جزاءً على قتال الكُفَّار . انتهى .

أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تُتۡرَكُواْ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَلَمۡ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَا رَسُولِهِۦ وَلَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَلِيجَةٗۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ١٦

وقوله عز وجل : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ } [ التوبة : 16 ] .

خطابٌ للمؤمنين ؛ كقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجنة } [ البقرة : 214 ] ومعنى الآية : أظننتم أن تتركوا دون اختبار وامتحانٍ ، والمراد بقوله : { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله } ، أي : لما يعلم اللَّه ذلك موْجُوداً ؛ كما عَلِمَهُ أَزلاً بشرط الوجود ، وليس يَحْدُثُ له علْم تبارك وتعالى عن ذلك ، و{ وَلِيجَةً } : معناه : بِطَانَة ودَخِيلة ، وهو مأخوذ من الوُلُوج ، فالمعنى : أَمْراً باطناً مما يُنْكَر ، وفي الآيةِ طَعْنٌ على المنافقين الذين اتخذوا الوَلاَئِجَ ، قال الفَخْر : قال أبو عُبَيْدَة : ( كلّ شيءٍ أدخلْتَه في شيءٍ ليس منه ، فهو وَلِيجةٌ ) ، وأصله من الوُلُوج ، قال الواحديُّ يقال : هو وَلِيجَةٌ ، للواحدِ والجمع . انتهى .

مَا كَانَ لِلۡمُشۡرِكِينَ أَن يَعۡمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِم بِٱلۡكُفۡرِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ وَفِي ٱلنَّارِ هُمۡ خَٰلِدُونَ١٧

وقوله سبحانه : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ } [ التوبة : 17 ] . إِلى قوله : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ آمَنَ بالله } [ التوبة : 18 ] .

لفظ هذه الآية الخَبَرُ ، وفي ضمنها أمر المُؤمنين بِعَمارة المساجد ، وروي أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ ؛ أَن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ المَسَاجِدَ ، فاشهدوا لَهُ بالإِيمان ) .

إِنَّمَا يَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ يَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَۖ فَعَسَىٰٓ أُوْلَـٰٓئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِينَ١٨

( ت ) زاد ابن الخَطِيبِ في روايته : «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الأخر } انتهى من ترجمة محمَّد بنِ عبدِ اللَّهِ ، وفي الحديثِ عَنْه صلى الله عليه وسلم ؛ أَنَّهُ قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِمَنْ كَانَتْ المَسَاجِدُ بَيْتَهُ الأَمْنَ ، والأَمَانَ ، وَالجَوَازَ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ القِيَامَةِ ) خَرَّجه عليُّ بن عبد العزيز البَغَوِّيُّ في «المُسْنَد المُنْتَخَب » له ، وروى البغويُّ أيضاً في هذا «المسند » ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أَنَّهُ قَالَ : ( إِذَا أَوْطَنَ الرَّجُلُ المَسَاجِدَ بِالصَّلاَةِ ، وَالذِّكْرِ ، تَبَشْبَش اللَّهُ لَهُ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الغَائِبِ لِغَائِبِهمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ ) انتهى من «الكَوْكَب الدُّرِّيِّ » . قيل : ومعنى «يَتَبَشْبَشُ » : أي يفرح به .

وقوله سبحانه : { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } .

يريد : خشيةَ التعظيمِ والعبادةِ ، وهذه مرتبةُ العَدْل من الناس ، ولا محالة أَنَّ الإِنسان يخشَى غيره ، ويخشَى المحاذيرَ الدنياويَّة ، وينبغي أن يخشَى في ذلك كلِّه قضاءَ اللَّهِ وتصريفَهُ .

۞أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ١٩

وقوله سبحانه : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج } [ التوبة : 19 ] .

{ سِقَايَةَ الحاج } : كانَتْ في بني هَاشِمٍ ، وكان العبَّاس يتولاَّها ، قال الحسن : ولما نزلَتْ هذه الآيةُ ، قال العبَّاس : ما أَراني إلاَّ أتركُ السقايةَ ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : { أُقِيمُوا عَلَيْهَا فَهِيَ خَيْرٌ لَكُمْ } { وَعِمَارَةَ المسجد الحرام } : قيلَ : هي حِفْظه ممَّن يظلم فيه ، أو يقول هُجْراً ، وكان ذلك إِلى العبَّاس ، وقيل : هي السّدَانَة وَخِدْمَةِ البَيْت خَاصَّة ، وكان ذلك في بني عَبْد الدَّار ، وكان يتولاَّها عثمانُ بنُ طَلْحَة ، وابنُ عمه شَيْبَةُ ، وأقرَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لهما ثَانِيَ يَوْمِ الفتحِ ، وقال : ( خُذَاهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لاَ يُنَازِعُكُمُوهَا إِلاَّ ظَالِمٌ ) .

واختلف الناس في سبب نزولِ هذه الآية ، فقال مجاهدٌ : أُمرُوا بالهجرة ، فقال العبَّاس : أنا أسقي الحاجَّ ، وقال عثمانُ بن طلحة : أنا حاجبُ الكَعْبَة ، وقال محمدُ بنُ كَعْب : إِن العبَّاس وعليًّا وعثمان بن طلحة تَفَاخَرُوا فنزلَتِ الآية ، وقيل غير هذا .

ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ أَعۡظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ٢٠

وقوله سبحانه : { الذين آمَنُوا وَهَاجَرُوا وجاهدوا فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله } [ التوبة : 20 ] .

لما حكم سبحانه في الآية المتقدِّمة بأن الصِّنفين لا يستوون ، بيَّن ذلك في هذه الآية الأخيرة ، وأوضحه ، فعدَّد الإِيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفْس ، وحَكَم عَلَى أنَّ أهل هذه الخصالِ أَعظمُ درجةً عند اللَّه مِنْ جميع الخَلْقِ ، ثم حَكَمَ لهم بالفَوْزِ بِرَحْمَتِهِ ورضْوانه ، والفَوْزُ : بلوغُ البُغْيَةْ ، إمَّا في نيل رَغِيبَة ، أو نجاةٍ من هَلَكَة ، ويَنْظُرُ إِلى معنَى هذه الآية الحديثُ : ( دَعُوا لي أَصْحَابِي ؛ فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً ، مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نِصِيفَهُ ) ؛ ولأن أصحاب هذه الخِصَال علَى سيوفهم انبنى الإِسلام ، وتمهَّد الشرْعُ .