سورة المزمل مكية
وهي تسع عشرة أو عشرون آية وفيها ركوعان
{ قم } : إلى الصلاة ، { الليل } : كله ، { إلا قليلا } ، كان الليل فرضا على الكل ، ثم نسخ ،
{ نصفه } ، بدل من قليلا[5174] ، وهذا النصف الخالي عن الطاعة ، وإن ساوى النصف المعمور بذكر الله في الكمية لا يساويه في التحقيق ، بل هو القليل ، وذلك النصف بمنزلة الكل ، { أو انقص منه } : الضمير إلى النصف أو الليل المقيد بالاستثناء ، والحاصل واحد ، { قليلا } ، وهو الثلث ،
{ إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } : تلقيه لعظمة الكلام ، وفي الحديث " ينزل عليه الوحي في يوم شديد البرد ، فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقا[5177] وأيضا " كان إذا أوحى إليه وهو على ناقته وضعت جرانها أي باطن عنقها ، فما تستطيع أن تحرك حتى يسري عنه " [5178] أو ثقيل العمل به على المكلفين ، والجملة كالعلة لقيام الليل فإن الطاعة سيما في الليل تعين الرجل على نوائبه وتسهل عليه المصائب ،
{ إن ناشئة الليل } أي : قيامه مصدر كالعافية ، أو ساعاته ، فإنها تنشأ أي : تحدث واحدة بعد أخرى أو النفس الناشئة التي تنشأ وتنهض من مضجعها إلى العبادة ، { هي أشد وطئا } أي : كلفة ، أو أشد ثباتا في الخبر ، وأما قراءة الوطأ ، فبمعنى المواطأة يعني : موافقة القلب ، والسمع ، والبصر ، واللسان بالليل أشد وأكثر ، { وأقوم قيلا } : وأشد مقالا ، وأصوب قراءة لسكوت الأصوات فيه ،
{ إن لك في النهار سبحا طويلا } : تقلبا ، وإقبالا ، وإدبارا في أشغالك ، وأصله سرعة الذهاب ، أو فراغا وسعة للنوم[5179] والحوائج جملة فيها حث على قيام الليل ،
{ واذكر اسم ربك } : ودم على ذكره ، { وتبتل } : انقطع ، { إليه } : إلى الله لعبادتك ، { تبتيلا } ، لما لم ينفك التبتل الذي هو لازم عن التبتيل الذي هو متعد يمكن أن يؤتي بمصدر أحدهما عن الآخر ، وفيه مبالغة مع رعاية الفواصل أي : انقطع وجرد نفسك عما سواه تبتيلا ،
{ رب } أي : هو رب ، { المشرق والمغرب } ، وقراءة الجر ، فعلى البدل من ربك ، { لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا[5180] } : فإن وحدته في الألوهية تقتضي التوكل عليه ،
{ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا } : بالإعراض عنهم ، والمداراة معهم ، وترك المكافأة ، وقيل : هذا آية القتال ،
{ إن لدينا أنكالا } : قيودا ثقالا ، { وجحيما }
{ وطعاما ذا غصة } : يغص في الحلق ، ولا ينزل فيه بسهولة كالزقوم ، { وعذابا أليما } : نوعا آخر لا يمكن تعريفه ،
{ يوم ترجف } : تضطرب ، ظرف لمتعلق لدينا ، { الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا } : مثل رمل مجتمع ، { مهيلا } : منثورا أي : تصير كذلك بعدما كانت حجارة صما ،
{ إنا أرسلنا إليكم } : يا معشر قريش ، { رسولا شاهدا عليكم } : في القيامة { كما أرسلنا إلى فرعون رسولا }
{ فعصى فرعون الرسول } أي : ذلك الرسول الذي أرسلنا إليه ، { فأخذناه أخذا وبيلا } : ثقيلا ،
{ فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا } أي : كيف تتقون يوما ؟ أي : عذاب[5183] يوم يجعل الولدان من شدة هوله شيبا إن كفرتم في الدنيا ، كأنه قال ، هب أنكم لا تؤاخذون في الدنيا كما أخذنا فرعون ، فكيف تتقون أنفسكم هول القيامة إن دمتم على الكفر ، ومتم عليه ؟ أو " يوما " مفعول لكفرتم بمعنى جحدتم ، أي : كيف تتقون الله إن جحدتم ذلك اليوم ، وفي ذكر " إن " التي للشك إشعار بأنه لا ينبغي الشك مع إٍرسال هذا الرسول النور المبين ، وفي الحديث " قرأ- صلى الله عليه وسلم- يوم يجعل الولدان شيبا ، قال : ذلك حين يقال لآدم : قم فابعث من ذريتك بعثا إلى النار ، قال : من كم يا رب ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين[5184] "
{ السماء منفطر به } : منشق بسبب ذلك اليوم وهوله ، أو الباء للآلة ، أو منفطر بالله وبأمره ، وتذكير منفطر على تأويل السقف ، { كان وعده مفعولا }
{ إن هذه } الآيات ، { تذكرة } : عظة ، { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } : يتقرب إليه بالطاعة .
{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى } : أقل ، { مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } ، وفي قراءة نصب نصفه وثلثه عطف على أدنى ، ويكون المراد من أدنى من ثلثي الليل الربع ، ليكون تجاوزا عن الأمر فيترتب عليه قوله : " فتاب عليكم " ، ويكون موافقا لتلك القراءة معنى ، { وطائفة } ، عطف على فاعل تقوم ، { من الذين معك } أي : يقومون أقل ، { والله يقدر الليل والنهار } : لا يعرف مقادير ساعتهما إلا هو ، فيعلم القدر الذي يقومون فيه ، { علم أن لن تحصوه } : أن لن تطيقوا ما أوجب عليكم من القيام ، أو لن تستطيعوا ضبط الساعات ، { فتاب عليكم } : عاد عليكم بالعفو والتخفيف ، وعن غير واحد من السلف إن هذه الآية نسخت الذي كان الله أوجبه على المسلمين أولا من قيام الليل[5185] واختلفوا في المدة التي بينهما سنة ، أو قريب منها أو ستة عشر شهرا أو عشر سنين ، { فاقرءوا[5186] ما تيسر من القرآن } : من غير تحديد لوقت لكن قوموا من الليل ما تيسر عبر عن الصلاة بالقراءة ، ومذهب حسن البصري وبعض آخر : الواجب على حملة القرآن أن يقوموا من الليل ، ولو بشيء منه ، وفي الحديث ما يدل على ذلك ، { علم أن سيكون منكم مرضى } : لا يستطيعون القيام الذي قررناه ، { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } : يسافرون للتجارة ، واجتماع كلفة السفر ، كلفة إحياء الليل بالصلاة في غاية من الصعوبة ، { وآخرون يقاتلون في سبيل الله } ، هذا إخبار عن الغيب ، فإن السورة مكية ، والقتال شرع في المدينة ، { فاقرءوا ما تيسر[5187] منه وأقيموا الصلاة } : المفروضة عن بعض : إنه نسخ قيام الليل بالصلوات الخمس ، { وآتوا الزكاة } : الواجبة ، وهذا يدل على قوله من قال : إن فرض الزكاة بمكة لكن المقادير والمصرف لم يبين إلا بالمدينة ، { وأقرضوا الله قرضا حسنا } ، يريد سوى الزكاة من الصدقات ، { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو } ، هو ضمير الفصل ، { خيرا } : من الذي تؤخرونه ، أو من الذي أعطيتموه ، وهو ثاني مفعولي تجدوه ، { وأعظم أجرا } : نفعا ، وجزاء ، وفي الصحيح قال- عليه السلام- " أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه ؟ قالوا : ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه ، قال : اعلموا ما تقولون ، قالوا : ما نعلم إلى ذلك ، قال : إنما مال أحدكم ما قدم ، ومال وارثه ما أخر " ، { واستغفروا[5188] الله إن الله غفور رحيم } .
والحمد لله رب العالمين .