البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي

أبو حيان القرن الثامن الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 440

يسٓ١

سورة يس

هذه السورة مكية ، إلا أن فرقة زعمت أن قوله : { ونكتب ما قدموا } ، و { وآثارهم } ، نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول ، وليس زعماً صحيحاً .

وقيل : إلا قوله : { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } الآية .

وتقدم الكلام في الحروف المقطعة في أول البقرة ، قال ابن جبير هنا : إنه اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم ، ودليله { إنك لمن المرسلين } .

قال السيد الحميري :

يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة *** على المودة إلا آل ياسيناً

وقال ابن عباس : معناه يا إنسان بالحبشية ، وعنه هو في لغة طيء ، وذلك أنهم يقولون إيسان بمعنى إنسان ، ويجمعونه على أياسين ، فهذا منه .

وقالت فرقة : يا حرف نداء ، والسين مقامة مقام إنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه .

وقال الزمخشري : إن صح أن معناه يا إنسان في لغة طيء ، فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين ، فكثر النداء على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره ، كما قالوا في القسم : م الله في أيمن الله . انتهى .

والذي نقل عن العرب في تصغيرهم إنسان أنيسيان بياء بعدها ألف ، فدل على أن أصله أنيسان ، لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها ، ولا نعلمهم قالوا في تصغيره أنيسين ، وعلى تقدير أنه بقية أنيسين ، فلا يجوز ذلك ، لا أن يبنى على الضم ، ولا يبقى موقوفاً ، لأنه منادي مقبل عليه ، مع ذلك فلا يجوز لأنه تحقير ، ويمتنع ذلك في حق النبوة .

وقوله : كما قالوا في القسم م الله في أيمن الله ، هذا قول .

ومن النحويين من يقول : إن م حرف قسم وليس مبقى من أيمن .

وقرىء : بفتح الياء وإمالتها محضاً ، وبين اللفظين .

وقرأ الجمهور : بسكون النون مدغمة في الواو ؛ ومن السبعة : الكسائي ، وأبو بكر ، وورش ، وابن عامر : مظهرة عند باقي السبعة .

وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى : بفتح النون .

وقال قتادة : يس قسم .

قال أبو حاتم : فقياس هذا القول فتح النون ، كما تقول : الله لأفعلن كذا .

وقال الزجاج : النصب ، كأنه قال : اتل يس ، وهذا على مذهب سيبويه أنه اسم للسورة .

وقرأ الكلبي : بضم النون ، وقال هي بلغة طيء : يا إنسان .

وقرأ السماك ، وابن أبي إسحاق أيضاً : بكسرها ؛ قيل : والحركة لالتقاء الساكنين ، فالفتح كائن طلباً للتخفيف والضم كحيث ، والكسر على أصل التقائهما .

وإذا قيل أنه قسم ، فيجوز أن يكون معرباً بالنصب على ما قال أبو حاتم ، والرفع على الابتداء نحو : أمانة الله لأقومن ، والجر على إضمار حرف الجر ، وهو جائز عند الكوفيين .

وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡحَكِيمِ٢

والحكيم : إما فعيل بمعنى مفعل ، كما تقول : عقدت العسل فهو عقيد : أي معقد ، وإما للمبالغة من حاكم ، وإما على معنى السبب ، أي ذي حكمة .

إِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ٣
عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ٤

{ على صراط } : خبر ثان ، أو في موضع الحال منه عليه السلام ، أو من المرسلين ، أو متعلق بالمرسلين .

والصراط المستقيم : شريعة الإسلام .

تَنزِيلَ ٱلۡعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ٥

وقرأ طلحة ، والأشهب ، وعيسى : بخلاف عنهما ؛ وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : تنزيل ، بالنصب على المصدر ؛ وباقي السبعة ، وأبو بكر ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والحسن ، والأعرج ، والأعمش : بالرفع مبتدأ محذوف ، أي هو تنزيل ؛ وأبو حيوة ، واليزيدي ، والقورصي عن أبي جعفر ، وشيبة ؛ بالخفض إما على البدل من القرآن ، وإما على الوصف بالمصدر .

لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمۡ فَهُمۡ غَٰفِلُونَ٦

{ لتنذر } : متعلق بتنزيل أو بأرسلنا مضمرة .

{ ما أنذر } ، قال عكرمة : بمعنى الذي ، أي الشيء الذي أنذره آباؤهم من العذاب ، فما مفعول ثان ، كقوله : { إنا أنذرناكم عذاباً قريباً } قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، أي { ما أنذرهم آباؤهم } ، والآباء على هذا هم الأقدمون من ولد إسماعيل ، وكانت النذارة فيهم .

و { فهم } على هذا التأويل بمعنى فإنهم ، دخلت الفاء لقطع الجملة من الجملة الواقعة صلة ، فتتعلق بقوله : { إنك لمن المرسلين } .

{ لتنذر } ، كما تقول : أرسلتك إلى فلان لتنذره ، فإنه غافل ، أو فهو غافل .

وقال قتادة : ما نافية ، أي أن آباءهم لم ينذروا ، فآباؤهم على هذا هم القربيون منهم ، وما أنذر في موضع الصفة ، أي غير منذر آباؤهم ، وفهم غافلون متعلق بالنفي ، أي لم ينذروا فهم غافلون ، على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم .

وباعتبار الآباء في القدم والقرب يزول التعارض بين الإنذار ونفيه .

لَقَدۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ عَلَىٰٓ أَكۡثَرِهِمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ٧

{ لقد حق القول على أكثرهم } : المشهور أن القول { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } وقيل : لقد سبق في علمه وجوب العذاب .

وقيل : حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبان برهانه ؛ فأكثرهم لا يؤمنون بعد ذلك .

إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ٨

قمح البعير رأسه : رفعه أثر شرب الماء ، ويأتي الكلام فيه مستوفي .

والظاهر أن قوله : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } الآية هو حقيقة لا استعارة .

لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون ، أخبر عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار .

والغل ما أحاط بالعنق على معنى التعنيف والتضييق والتعذيب والأسر ، ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة على معنى التعليل .

والظاهر عود الضمير في فهي إلى الأغلال ، لأنها هي المذكورة والمحدث عنها .

قال ابن عطية : هي عريضة تبلغ بحرفها الأذقان ، والذقن مجتمع اللحيين ، فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء ، وذلك هو الإقماح ، وهو نحو الأقناع في الهيئة .

وقال الزمخشري : الأغلال وأصله إلى الأذقان مكزوزة إليها ، وذلك أن طوق الغل الذي هو عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادراً من الحلقة إلى الذقن ، فلا تخليه يطاطىء رأسه ويوطىء قذاله ، فلا يزال مقمحاً . انتهى .

وقال الفراء : القمح الذي يغض بصره بعد رفع رأسه .

وقال الزجاج نحوه قال : يقال قمح البعير رأسه عن ري وقمح هو .

وقال أبو عبيدة : قمح قموحاً : رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب ، والجمع قماح ، ومنه قول بشر يصف ميتة أحدهم ليدفنها :

ونحن على جوانبها قعود *** نغض الطرف كالإبل القماح

وقال الليث : هو رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود .

وقال الزجاج : للكانونين شهرا قماح ، لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رؤوسها لشدة برده ، وأنشد أبو زيد بيت الهذلي :

فتى ما ابن الأعز إذا شتونا *** وحب الزاد في شهري قماح

رواه بضم القاف ، وابن السكيت بكسرها ، وهما لغتان .

وسميا شهري قماح لكراهة كل ذي كبد شرب الماء فيه .

وقال الحسن : القامح : الطافح ببصره إلى موضع قدمه .

وقال مجاهد : الرافع الرأس ، الواضح يده على فيه .

وقال الطبري : الضمير في فهي عائد على الأيدي ، وإن لم يتقدم لها ذكر ، لوضوح مكانها من المعنى ، وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين ، ولذلك سمي الغل جامعة لجمعه اليد والعنق .

وأرى علي ، كرم الله وجهه ، الناس الأقماح ، فجعل يديه تحت لحييه وألصقهما ورفع رأسه .

وقال الزمخشري : جعل الأقماح نتيجة قوله : { فهي إلى الأذقان } .

ولو كان الضمير للأيدي ، لم يكن معنى التسبب في الأقماح ظاهراً .

على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطل الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج . انتهى .

وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ٩

قال ابن عطية : وقوله { فأغشيناهم فهم لا يبصرون } يضعف هذا ، لأن بصر الكافر يوم القيامة إنما هو حديد يرى قبح حاله .

انتهى ، ولا يضعف هذا .

ألا ترى إلى قوله : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً } وقوله : { قال رب لما حشرتني أعمى } وإما أن يكون قوله : { فبصرك اليوم حديد } كناية عن إدراكه ما يؤول إليه ، حتى كأنه يبصره .

وقال الجمهور : ذلك استعارة .

قال ابن عباس ، وابن إسحاق : استعارة لحالة الكفرة الذين أرادوا الرسول بسوء ، جعل الله هذا لهم مثلاً في كفه إياهم عنه ، ومنعهم من أذاه حين بيتوه .

وقال الضحاك ، والفراء : استعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله ، كما قال : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } وقال عكرمة : نزلت حين أراد أبو جهل ضربه بالحجر العظيم ، وفي غير ذلك من المواطن ، فمنعه الله ؛ وهذا قريب من قول ابن عباس ، فروى أن أبا جهل حمل حجراً ليدفع به النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي ، فانثنت يداه إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر في يده قد لزق ، فما فكوه إلا بجهد ، فأخذ آخر ، فلما دنا من الرسول ، طمس الله بصره فلم يره ، فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه ، فجعل الغل يكون استعارة عن منع أبي جهل وغيره في هذه القصة .

ولما كان أصحاب أبي جهل راضين بما أراد أن يفعل ، فنسب ذلك إلى جمع .

وقالت فرقة : استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه .

قال ابن عطية : وهذا أرجح الأقوال ، لأنه تعلى لما ذكر أنهم لا يؤمنون ، لما سبق لهم في الأزل عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حال المغلوين . انتهى .

وقال الزمخشري : مثل تصمميهم على الكفر ، وأنه لا سبيل إلى دعواهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رؤوسهم له ، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا يبصرون ، إنهم متعامون عن النظر في آيات الله تعالى .

انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال .

ألا ترى إلى قول أهل السنة استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان ؟ وقول الزمخشري مثل تصمميهم ونسبته الأفعال التي يعدها إليهم لا إلى الله .

وقرأ عبد الله ، وعكرمة ، والنخعي ، وابن وثاب ، وطلحة ، وحمزة ، والكسائي ، وابن كثير ، وحفص : { سداً } بفتح السين فيهما ؛ والجمهور : بالضم ، وتقدم شرح السد في الكهف .

وقرأ الجمهور : { فأغشيناهم } بالغين منقوطة ؛ وابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن يعمر ، وعكرمة ، والنخعي ، وابن سيرين ، والحسن ، وأبو رجاء ، وزيد ابن علي ، ويزيد البربري ، ويزيد بن المهلب ، وأبو حنيفة ، وابن مقسم : بالعين من العشاء ، وهو ضعف البصر ، جعلنا عليها غشاوة .

وَسَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ١٠

{ وسواء عليهم } الآية : تقدّم الكلام على نظيرها تفسيراً وإعراباً في أول البقرة .

إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكۡرَ وَخَشِيَ ٱلرَّحۡمَٰنَ بِٱلۡغَيۡبِۖ فَبَشِّرۡهُ بِمَغۡفِرَةٖ وَأَجۡرٖ كَرِيمٍ١١

{ إنما تنذر } : تقدم { لتنذر قوماً } ، لكنه لما كان محتوماً عليهم أن لا يؤمنوا حتى قال : { وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } ، لم يجد الإنذار لانتفاء منفعته فقال : { إنما تنذر } : أي إنذاراً ينفع من اتبع الذكر ، وهو القرآن .

قال قتادة : أو الوعظ .

{ وخشي الرحمن } : أي المتصف بالرحمة ، مع أن الرحمة قد تعود إلى الرجاء ، لكنه مع علمه برحمته هو يخشاه خوفاً من أن يسلبه ما أنعم به عليه بالغيب ، أي بالخلوة عند مغيب الإنسان عن غيوب البشر .

ولما أحدث فيه النذارة ، بشره بمغفرة لما سلف ؛ { وأجر كريم } على ما أسلف من العمل الصالح ، وهو الجنة .

إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ١٢

ولما ذكر تعالى الرسالة ، وهي أحد الأصول الثلاثة التي بها يصير المكلف مؤمناً ، ذكر الحشر ، وهو أحد الأصول الثلاثة .

والثالث هو توحيد ، فقال : { إنا نحن نحيي الموتى } : أي بعد مماتهم .

وأبعد الحسن والضحاك في قوله : إحياؤهم : إخراجهم من الشرك إلى الإيمان .

{ ونكتب ما قدموا } ، كناية عن المجازاة : أي ونحصي ، فعبر عن إحاطة علمه بأعمالهم بالكتابة التي تضبط بها الأشياء .

وقرأ زر ومسروق : ويكتب ما قدموا وآثارهم بالياء مبنياً للمفعول ، وما قدموا من الأعمال .

وآثارهم : خطاهم إلى المساجد .

وقال : السير الحسنة والسيئة .

وقيل : ما قدّموا من السيئات وآثارهم من الأعمال .

وقال الزمخشري : ونكتب ما أسلفوا من الأعمال الصالحات غيرها ، وما هلكوا عنه من أثر حسن ، كعلم علموه ، وكتاب صنفوه ، أو حبيس أحبسوه ، أو بناء بنوه من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك ، أو سيء كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين ، وسكة أحدثها فيها تحيرهم ، وشيء أحدث فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاه ، وكذلك كل سنة حسنة ، أو سيئة يستن بها ، ونحوه قوله عز وجل : { ينبؤ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخر } من آثاره . انتهى .

وقرأ الجمهور : { وكل شيء } بالنصب على الاشتغال .

وقرأ أبو السمال : بالرفع على الابتداء .

والإمام المبين : اللوح المحفوظ ، قاله مجاهد وقتادة وابن زيد ، وقالت فرقة : أراد صحف الأعمال .

page 441

وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلًا أَصۡحَٰبَ ٱلۡقَرۡيَةِ إِذۡ جَآءَهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ١٣

تقدم الكلام على { اضرب } مع المثل في قوله : { إن يضرب مثلاً ما بعوضة } والقرية : أنطاكية ، فلا خلاف في قصة أصحاب القرية .

{ إذ جاءها المرسلون } : هم ثلاثة ، جمعهم في المجيء ، وإن اختلفوا في زمن المجيء .

إِذۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱثۡنَيۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثٖ فَقَالُوٓاْ إِنَّآ إِلَيۡكُم مُّرۡسَلُونَ١٤

{ إذا أرسلنا إليهم اثنين } .

الظاهر من أرسلنا أنهم أنبياء أرسلهم الله ، ويدل عليه قوله المرسل إليهم : { ما أنتم إلا بشر مثلنا } .

وهذه المحاورة لا تكون إلا مع من أرسله الله ، وهذا قول ابن عباس وكعب .

وقال قتادة وغيرهم من الحواريين : بعثهم عيسى عليه السلام حين رفع وصلب الذي ألقي عليه الشبه ، فافترق الحواريون في الآفاق ، فقص الله قصة الذين ذهبوا إلى أنطاكية ، وكان أهلها عباد أصنام ، صادق وصدوق ، قاله وهب وكعب الأحبار .

وحكى النقاش بن سمعان : ويحنا .

وقال مقاتل : تومان ويونس .

{ فكذبوهما } ، أي دعواهم إلى الله ، وأخيراً بأنهما رسولا الله ، { فكذبوهما فعززنا بثالث } : أي قوينا وشددنا ، قاله مجاهد وابن قتيبة ، وقال ؛ يقال تعزز لحم الناقة إذا صلب ، وقال غيره : يقال المطر يعزز الأرض إذا لبدها وشدها ، ويقال للأرض الصلبة القرآن ، هذا على قراءة تشديد الزاي ، وهي قراءة الجمهور .

وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وأبو بكر ، والمفضل ، وأبان : بالتخفيف .

قال أبو علي : فغلبنا .

انتهى ، وذلك من قولهم من عزني ، وقوله تعالى : { وعزني في الخطاب } وقرأ عبد الله : بالثالث ، بألف ولام ، والثالث شمعون الصفا ، قاله ابن عباس .

وقال كعب ، ووهب : شلوم ؛ وقيل : يونس .

وحذف مفعول فعززنا مشدداً ، أي قويناهما بثالث مخففاً ، فغلبناهم : أي بحجة ثالث وما يلطف به من التوصل إلى الدعاء إلى الله حتى من الملك على ما ذكر في قصتهم ، وستأتي هي أو بعض منها إن شاء الله .

قَالُواْ مَآ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا وَمَآ أَنزَلَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مِن شَيۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَكۡذِبُونَ١٥
قَالُواْ رَبُّنَا يَعۡلَمُ إِنَّآ إِلَيۡكُمۡ لَمُرۡسَلُونَ١٦

{ قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون } وجاء أولاً مرسلون بغير لام لأنه ابتداء إخبار ، فلا يحتاج إلى توكيد بعد المحاورة .

{ لمرسلون } بلام التوكيد لأنه جواب عن إنكار ، وهؤلاء أمة أنكرت النبوات بقولها : { وما أنزل الرحمن من شيء } ، وراجعتهم الرسل بأن ردوا العلم إلى الله وقنعوا بعلمه ،

وَمَا عَلَيۡنَآ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ١٧

وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط ، وما عليهم من هداهم وضلالهم ، وفي هذا وعيد لهم .

ووصف البلاغ بالمبين ، وهو الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإرسال ، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميت .

قَالُوٓاْ إِنَّا تَطَيَّرۡنَا بِكُمۡۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهُواْ لَنَرۡجُمَنَّكُمۡ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٞ١٨

{ قالوا إنا تطيرنا بكم } : أي تشاء منا .

قال مقاتل : احتبس عليهم المطر .

وقال آخر : أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل .

قال ابن عطية : والظاهر أن تطير هؤلاء كان سبب ما دخل فيهم من اختلاف الكلمة وافتتان الناس ، وهذا على نحو تطير قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى نحو ما خوطب به موسى عليه السلام .

وقال الزمخشري : وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم ، وعادة الجهال أن يتمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وقبلته طباعهم ، ويشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه ، فإن أصابتهم نعمة أو بلاء قالوا : ببركة هذا وبشؤم هذا ، كما حكى الله عن القبط :

{ وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } وعن مشركى مكة : { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } انتهى .

وعن قتادة : إن أصابنا شيء كان من أجلكم .

{ لنرجمنكم } بالحجارة ، قاله قتادة .

{ عذاب أليم } : هو الحريق .

قَالُواْ طَـٰٓئِرُكُم مَّعَكُمۡ أَئِن ذُكِّرۡتُمۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ مُّسۡرِفُونَ١٩

{ قالوا طائركم معكم } : أي حظكم وما صار لكم من خير أو شر معكم ، أي من أفعالكم ، ليس هو من أجلنا بل بكفركم .

وقرأ الحسن ، وابن هرمز ، وعمرو بن عبيد ، وزر بن حبيش : طيركم بياء ساكنة الطاء .

وقرأ الحسن فيما نقل : اطيركم مصدر اطير الذي أصله تطير ، فأدغمت التاء في الطاء ، فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر .

وقرأ الجمهور : طائركم على وزن فاعل .

وقرأ الجمهور : { أئن ذكرتم } بهمزتين ، الأولى همزة الاستفهام ، والثانية همزة إن الشرطية ، فخففها الكوفيون وابن عامر ، وسهلها باقي السبعة .

وقرأ زر : بهمزتين مفتوحتين ، وهي قراءة أبي جعفر وطلحة ، إلا أنها البناء الثانية بين بين .

وقال الشاعر في تحقيقها :

أإن كنت داود بن أحوى مرحلاً *** فلست بداع لابن عمك محرماً

والماجشوني ، وهو أبو سلمة يوسف بن يعقوب بن عبدالله بن أبي سلمة المدني : بهمزة واحدة مفتوحة ؛ والحسن : بهاء مكسورة ؛ وأبو عمرو في رواية ، وزر أيضاً : بمدة قبل الهمزة المفتوحة ، استثقل اجتماعهما ففضل بينهما بألف .

وقرأ أبو جعفر أيضاً ، والحسن أيضاً ، وقتادة ، وعيس الهمداني ، والأعمش : أين بهمزة مفتوحة وياء ساكنة ، وفتح النون ظرف مكان .

وروي هذا عن عيسى الثقفي أيضاً .

فالقراءة الأولى على معنى : إن ذكرتم تتطيرون ، بجعل المحذوف مصب الاستفهام ، على مذهب سيبويه ، بجعله للشرط ، على مذهب يونس ؛ فإن قدرته مضارعاً كان مجزوماً .

والقراءة الثانية على معنى : ألان ذكرتم تطيرتم ، فإن مفعول من أجله ، وكذلك الهمزة الواحدة المفتوحة والتي بمدة قبل الهمزة المفتوحة ؛ وقراءة الهمزة المكسورة وحدها ، فحرف شرط بمعنى الإخبار ، أي إن ذكرتم تطيرتم .

والقراءة الثانية الأخيرة أين فيها ظرف أداة الشرط ، حذف جزاؤه للدلالة عليه وتقديره : أين ذكرتم صحبكم طائركم ، ويدل عليه قوله : { طائركم معكم } .

ومن جوز تقديم الجزاء على الشرط ، وهم الكوفيون وأبو زيد والمبرد ، يجوز أن يكون الجواب { طائركم معكم } ، وكان أصله : أين ذكرتم فطائركم معكم ، فلما قدم حذفت الفاء .

وقرأ الجمهور : ذكرتم ، بتشديد الكاف ؛ وأبو جعفر ، وخالد بن الياس ، وطلحة ، والحسن ، وقتادة .

وأبو حيوة ، والأعمش من طريق زائدة ، والأصمعي عن نافع : بتخفيفها .

{ بل أنتم قوم مسرفون } : مجاوزون الحد في ضلالكم ، فمن ثم أتاكم الشؤم .

وَجَآءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ رَجُلٞ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ٢٠

{ وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى } اسمه حبيب ، قاله ابن عباس وأبو مجلز وكعب الأحبار ومجاهد ومقاتل .

قيل : وهو ابن إسرائيل ، وكان قصاراً ، وقيل : إسكافاً ، وقيل : كان ينحت الأصنام ، ويمكن أن يكون جامعاً لهذه الصنائع .

و { من أقصى المدينة } : أي من أبعد مواضعها .

فقيل : كان في خارج المدينة يعاني زرعاً له .

وقيل : كان في غار يعبد ربه .

وقيل : كان مجذوماً ، فميزله أقصى باب من أبوابها ، عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهم لكشف ضره .

فلما دعاه للرسل إلى عبادة الله قال : هل من آية ؟ قالوا : نعم ، ندعو ربنا القادر يفرج عنك ما بك ، فقال : إن هذا لعجيب ! لي سبعون سنة أدعو هذه الآلهة فلم تستطع ، يفرجه ربكم في غداة واحدة ؟ قالوا : نعم ، ربنا على ما يشاء قدير ، وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر ، فآمن .

ودعوا ربهم ، فكشف الله ما به ، كأن لم يكن به بأس .

فأقبل على التكسب ، فإذا مشى ، تصدق بكسبه ، نصف لعياله ، ونصف يطعمه .

فلما هم قومه بقتل الرسل جاءهم فقال : { يا قوم اتبعوا المرسلين } .

وحبيب هذا ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبينهما ستمائة سنة ، كما آمن به تبع الأكبر ، وورقة بن نوفل وغيرهما ، ولم يؤمن بني غيره أحد إلا بعد ظهوره .

وقال ابن أبي ليلى : سباق الأمم ثلاثة ، لم يكفروا قط طرفة عين : على بن أبي طالب ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون .

وأورد الزمخشري قول ابن أبي ليلى حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقدم قبل من حاله أنه كان مجذوماً ، عبد الأصنام سبعين سنة ، فالله أعلم .

وهنا تقدم : { من أقصى المدينة } ، وفي القصص تأخر ، وهو من التفنن في البلاغة .

{ رجل يسعى } : يمشي على قدميه .

{ قال يا قوم اتبعوا المرسلين } .

الظاهر أنه لا يقول ذلك بعد تقدم إيمانه ، كما سبق في قصة .

وقيل : جاء عيسى وسمع قولهم وفهمه فيما فهمه .

روي أنه تعقب أمرهم وسبره بأن قال لهم : أتطلبون أجراً على دعوتكم هذه ؟ قالوا : لا ، فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم ،