لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن

الخازن القرن الثامن الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 542

قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ١

مدنية وهي اثنان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة وألف وسبعمائة واثنان وتسعون حرفا .

قوله عز وجل : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } «نزلت في خولة بنت ثعلبة وقيل اسمها جميلة وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت وكان به لمم وكانت هي حسنة الجسم فأرادها فأبت عليه فقال لها أنت عليّ كظهر أمي ثم ندم على ما قال وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية فقال ما أظنك إلا قد حرمت عليّ فقالت والله ما ذاك طلاق فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة تغسل شق رأسه فقالت يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات أهل ومال حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني وقد ندم فهل من شيء يجمعني وإياه وتنعشني به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه فقالت يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر الطلاق وإنه أبو ولدي وأحب الناس إليّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي قد طالت له صحبتي ونثرت له بطني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراك إلا قد حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه هتفت وقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وشدة حالي وإن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليّ جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول اللهم أشكو إليك اللهم فأنزل على لسان نبيك فرجي وهذا كان أول ظهار في الإسلام ، فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر فقالت انظر في أمري جعلني الله فداءك يا نبي الله فقالت عائشة أقصري حديثك ومجادلتك أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أخذه مثل السبات فلما قضي الوحي قال ادعي لي زوجك فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها الآية » ( ق ) عن عائشة قالت الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمته في جانب البيت وما أسمع ما تقول فأنزل الله { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } الآية وأما تفسير الآية فقوله تعالى قد سمع الله قول التي تجادلك أي تحاورك وتخاصمك وتراجعك في زوجها أي في أمر زوجها { وتشتكي إلى الله } أي شدة حالها وفاقتها ووحدتها ، { والله يسمع تحاوركما } أي مراجعتكما الكلام { إن الله سميع } أي لمن يناجيه ويتضرع إليه { بصير } أي بمن يشكو إليه ثم ذم الظهار ، فقال تعالى : { الذين يظاهرون منكم من نسائهم } .

ٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآئِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَٰتِهِمۡۖ إِنۡ أُمَّهَٰتُهُمۡ إِلَّا ٱلَّـٰٓـِٔي وَلَدۡنَهُمۡۚ وَإِنَّهُمۡ لَيَقُولُونَ مُنكَرٗا مِّنَ ٱلۡقَوۡلِ وَزُورٗاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ٢

{ الذين يظاهرون منكم من نسائهم } يعني يقولون لهن أنتن كظهور أمهاتنا { ما هن أمهاتهم } أي ما اللواتي يجعلونهن من زوجاتهن كالأمهات بأمهات والمعنى ليس هن بأمهاتهم { إن أمهاتهم } أي ما أمهاتهم { إلا اللائي ولدنهم وإنهم } يعني المظاهرين { ليقولون منكراً من القول } يعني لا يعرف في الشرع { وزوراً } يعني كذباً وقيل إنما وصفه بكونه منكراً من القول وزوراً لأن الأم محرمة تحريماً مؤبداً والزوجة لا تحرم عليه بهذا القول تحريماً مؤبداً فلا جرم صار ذلك منكراً من القول وزوراً { وإن الله لعفو غفور } عفا الله عنهم وغفر لهم بإيجاب الكفارة عليهم .

( فصل في أحكام الظهار : وفيه مسائل ) :

المسألة الأولى : في معناه لغة قيل إن مشتق من الظهر وهو العلو وليس هو من ظهر الإنسان إذ ليس الظهر بأولى من سائر الأعضاء التي هي مواضع التلذذ والمباضعة فثبت بهذا أنه مأخوذ من الظهر الذي هو العلو لأن امرأة الرجل مركب له وظهر يدل عليه قول العرب في الطلاق نزلت عن امرأتي أي طلقتها وفي قولهم أنت علي كظهر أمي حذف وإضمار لأن تأويله ظهرك علي أي ملكي إياك وعلوي عليك حرام كعلوي أمي وعلوه عليها حرام .

المسألة الثانية : كان الظهار من أشد طلاق أهل الجاهلية لأنه في التحريم آكد ما يمكن فإن كان ذلك الحكم صار مقرراً بالشرع كانت الآية ناسخة له وإلا لم يعد نسخاً لأن النسخ إنما يدخل في الشرائع لا في أحكام الجاهلية وعادتهم .

المسألة الثالثة : في الألفاظ المستعملة لهذا المعنى في الشريعة وعرف الفقهاء الأصل في هذا قوله أنت عليّ كظهر أمي وأنت مني أو معي أو عندي كظهر أمي وكذا لو قال أنت عليّ كبطن أمي أو كرأس أمي أو كيد أمي أو قال بطنك أو رأسك أو يدك عليّ كظهر أمي أو شبه عضواً منها بعضو من أعضاء أمه يكون ذلك ظهاراً وقال أبو حنيفة إن شبهها ببطن أمه أو بفرجها أو بفخذها يكون ظهاراً وإن شبهها بعضو غير هذه الأعضاء لا يكون ظهاراً ولو قال أنت عليّ كأمي أو كروح أمي وأراد به الإعزاز والإكرام لا يكون ظهاراً حتى ينويه ويريده ولو شبهها بجدته فقال أنت عليّ كظهر جدتي يكون ظهاراً وكذلك لو شبهها بامرأة محرمة عليه بالقرابة بأن قال أنت علي كظهر أختي أو عمتي أو خالتي أو شبهها بامرأة محرمة عليه بالرضاع يكون ظهاراً على الأصح .

المسألة الرابعة : فيمن يصح ظهاره قال الشافعي الضابط في هذا أن كل من صح طلاقه صح ظهاره فعلى هذا يصح ظهار الذمي وقال أبو حنيفة لا يصح احتج الشافعي بعموم قوله :{ والذين يظاهرون من نسائهم } واحتج أبو حنيفة بأن هذا خطاب للمؤمنين فيدل على أن الظهار مخصوص بالمؤمنين وأجيب عنه بأن هذا خطاب يتناول جميع الحاضرين فلم قلتم إنه مختص بالمؤمنين .

وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ ذَٰلِكُمۡ تُوعَظُونَ بِهِۦۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ٣

قوله تعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم } يعني يمتنعون بهذا اللفظ من جماعهن { ثم يعودون لما قالوا } اختلف العلماء في معنى العود في قوله { ثم يعودون لما قالوا } ولا بد أولاً من بيان أقوال أهل العربية ثم بيان أقوال الفقهاء فنقول قال الفراء لا فرق في اللغة بين أن يقال يعودون لما قالوا وفيما قالوا ، وقال أبو علي الفارسي كلمة إلى اللام تتعاقبان كقوله :{ وأوحى إلى نوح } و{ بأن ربك أوحى لها } وأما لفظة «ما » في قوله لما فهي بمعنى الذي والمعنى يعودون إلى الذي قالوا وفي الذي قالوا . وفيه وجهان :

أحدهما : إنه لفظ الظهار والمعنى أنهم يعودون إلى ذلك اللفظ .

الوجه الثاني : أن المراد لما قالوا أي القول فيه وهو الذي حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه ، وعلى هذا المعنى قوله ثم يعودون لما قالوا أي يعودون إلى شيء وذلك الشيء هو الذي قالوا فيه ذلك القول ، ثم إذا فسر هذا اللفظ بالوجه الأول يجوز أن يكون المعنى عاد لما فعل أي فعله مرة أخرى ، وعلى الوجه الثاني يجوز أن يقال عاد لما فعل أي نقض ما فعل وذلك أن من فعل شيئاً ثم أراد أن يفعله ثانياً فقد عاد إليه وكذا من فعل شيئاً ثم أراد إبطاله فقد عاد إليه بالتصرف فيه ، فقد ظهر بما تقدم أن قوله ثم يعودون لما قالوا يحتمل أن يكون المراد ثم يعودون إليه بأن يفعلوا مثله مرة أخرى ويحتمل أن يكون المراد ثم يعودون إليه بالنقض والرفع والإزالة ، وإلى هذا الاحتمال ذهب أكثر المجتهدين ثم اختلفوا فيه على وجوه :

الأول : وهو قول الشافعي إن معنى العود لما قالوا هو السكوت عن الطلاق بعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه ، وذلك لأنه لما ظاهر فقد قصد التحريم فإن وصله بالطلاق فقد تمم ما شرع فيه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه فإذا سكت عن الطلاق فذلك يدل على أنه ندم على ما ابتدأ به من التحريم ، فحينئذ تجب عليه الكفارة وفسر ابن عباس العود بالندم فقال يندمون فيرجعون إلى الألفة .

الوجه الثاني : في تفسير العود وهو قول أبي حنيفة إنه عبارة عن استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة وذلك أنه لما شبهها بالأم في حرمة هذه الأشياء ثم قصد استباحة ذلك كان مناقضاً لقوله أنت علي كظهر أمي .

الوجه الثالث : وهو قول مالك إن العود إليها عبارة عن العزم على وطئها وهو قريب من قول أبي حنيفة .

الوجه الرابع : وهو قول الحسن وقتادة وطاوس والزهري إن العود إليها عبارة عن جماعها ، وقالوا لا كفارة عليه ما لم يطأها ، قال العلماء والعود المذكور هنا هب أنه صالح للجماع أو للعزم عليه أو لاستباحته إلا أن الذي قاله الشافعي هو أقل ما ينطلق عليه الاسم فيجب تعليق الحكم عليه لأنه هو الذي به يتحقق مسمى العود وأما الباقي فزيادة لا دليل عليه وأما الاحتمال الأول في قوله ثم يعودون أي يفعلون مثل ما فعلوه فعلى هذا الاحتمال في الآية وجوه أيضاً الأول قال مجاهد والثوري العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام وتجب الكفارة به والمراد من العود هو العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار فجعل الله حكم الظهار في الإسلام على خلاف حكمه عندهم فمعنى ثم يعودون لما قالوا أي في الإسلام فيقولون في الإسلام مثل ما كانوا يقولون في الجاهلية فكفارته كذا وكذا على الوجه الثاني قال أبو العالية إذا كرر لفظ الظهار فقد عاد وإلا لم يكن عود وهذا قول أهل الظاهر واحتجوا عليه بأن ظاهر قوله ثم يعودون لما قالوا يدل على إعادة ما فعلوه وهذا لا يكون إلا بالتكرير وإن لم يكرر اللفظ فلا كفارة عليه .

وقوله تعالى : { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } المراد بالتماس المجامعة فلا يحل للمظاهر وطء امرأته التي ظاهر منها ما لم يكفر ، { ذلكم توعظون به } يعني أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ولا تعاودوه { والله بما تعملون } أي من التكفير وتركه { خبير } ثم ذكر حكم العاجز عن الرقبة فقال تعالى : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين . . . } .

فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۖ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗاۚ ذَٰلِكَ لِتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ٤

{ فمن لم يجد } أي الرقبة { فصيام شهرين } أي فكفارته وقيل فعليه صيام شهرين { متتابعين من قبل أن يتماسّا فمن لم يستطع } أي الصيام ( ف ) كفارته { إطعام ستين مسكيناً ذلك } أي الفرض الذي وصفناه ، { لتؤمنوا بالله ورسوله } أي لتصدقوا الله فيما أمر به وتصدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن الله تعالى : { وتلك حدود الله } يعني ما وصف من الكفارة في الظهار { وللكافرين } أي لمن جحد هذا وكذب به { عذاب أليم } أي في نار جهنم يوم القيامة .

( فصل : في أحكام الكفارة ، وما يتعلق بالظهار )

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اختلفوا فيما يحرمه الظهار فللشافعي قولان : أحدهما أنه يحرم الجماع فقط ، والقول الثاني وهو الأظهر أنه يحرم جميع جهات الاستمتاع وهو قول أبي حنيفة .

المسألة الثانية : اختلفوا فيمن ظاهر مراراً فقال الشافعي وأبو حنيفة لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد التكرار للتأكيد فإن عليه كفارة واحدة ، وقال مالك من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة فليس عليه إلا كفارة واحدة .

المسألة الثالثة : الآية تدل على إيجاب الكفارة قبل المماسّة سواء أراد التكفير بالإعتاق أو بالصيام أو بالإطعام وعند مالك إن أراد التكفير بالإطعام يجوز له الوطء قبله لأن الله تعالى قيد العتق والصوم بما قبل المسيس ولم يقل في الإطعام { من قبل أن يتماسا } فدل على ذلك . وعند الآخرين الإطلاق في الطعام محمول على المقيد في العتق والصيام فإن جامع قبل أن يكفر لم يجب عليه إلا كفارة واحدة وهو قول أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وسفيان ، وقال بعضهم وإن واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان وهو قول عبد الرحمن بن مهدي .

المسألة الرابعة : كفارة الظهار مرتبة فيجب عليه عتق رقبة مؤمنة وقال أبو حنيفة هذه الرقبة تجزي سواء كانت مؤمنة أو كافرة لقوله تعالى : { فتحرير رقبة } فهذا اللفظ يفيد العموم في جميع الرقاب .

دليلنا أنا أجمعنا على أن الرقبة في كفارة القتل مقيدة بالإيمان فكذا هنا وحمل المطلق على المقيد أولى .

المسألة الخامسة : الصوم فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين فإن أفطر يوماً متعمداً أو نسي النية يجب عليه استئناف الشهرين ولو شرع في الصوم ثم جامع في خلال الشهرين بالليل عصى الله تعالى بتقديم الجماع على الكفارة لكن لا يجب عليه استئناف الشهرين وعند أبي حنيفة يجب عليه استئناف الشهرين .

المسألة السادسة : إن عجز عن الصوم لمرض أو كبر أو فرط شهوة بحيث لا يصبر عن الجماع يجب عليه إطعام ستين مسكيناً كل مسكين مد من الطعام الذي يقتات به أهل البلد من حنطة أو شعير أو أرز أو ذرة أو تمر أو نحو ذلك ، وقال أبو حنيفة يعطي لكل مسكين نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير ولو أطعم مسكيناً واحداً ستين جزءاً لا يجزيه عند الشافعي وقال أبو حنيفة يجزيه . حجة الشافعي ظاهر الآية وهو أن الله تعالى أوجب إطعام ستين مسكيناً فوجب رعاية ظاهر الآية وحجة أبي حنيفة أن المقصود دفع الحاجة وهو حاصل .

وأجيب عنه بأن إدخال السرور على قلب ستين مسكيناً أولى من إدخال السرور على قلب مسكين واحد .

المسألة السابعة : إذا كانت له رقبة إلا أنه محتاج إلى الخدمة أو له ثمن الرقبة لكنه محتاج إليه لنفقته ونفقة عياله فله أن ينتقل إلى الصوم وقال مالك والأوزاعي يلزمه الإعتاق إذا كان واجداً للرقبة أو ثمنها وإن كان محتاجاً إليه ، وقال أبو حنيفة إن كان واجداً لعين الرقبة يجب عليه إعتاقها وإن كان محتاجاً إليه ، وإن كان واجداً لثمن الرقبة لكنه محتاج إليه فله أن يصوم .

المسألة الثامنة : قال أصحاب الشافعي الشبق المفرط والغلمة الهائجة عذر في الانتقال من الصيام إلى الإطعام والدليل عليه ما روي عن سلمة بن صخر البياضي قال «كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً تتايع بي حتى أصبحت فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء فما لبثت أن نزوت عليها فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر ، قال فقلت امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لا والله فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال أنت بذاك يا سلمة قلت أنا بذاك يا رسول الله مرتين وأنا صابر لأمر الله فاحكم بما أمرك الله به . قال حرر رقبة قلت والذي بعثك بالحق نبياً ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي قال فصم شهرين متتابعين قال وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام قال فأطعم وسقاً من تمر ستين مسكيناً قلت والذي بعثك بالحق نبياً لقد بتنا وحشين لا نملك لنا طعاماً ، قال فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر وكُل أنت وعيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم وبنو بياضة بطن من بني زريق » أخرجه أبو داود .

قوله نزوت عليها أي وثبت عليها وأراد به الجماع وقوله تتايع به التتايع الوقوع في الشر واللجاج فيه والوسق ستون صاعاً ، وقوله وحشين يقال رجل وحش إذا لم يكن له طعام وأوحش الرجل إذا جاع .

وعن خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت " ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه ويقول اتقي الله فإنه ابن عمك فما برحت حتى نزل القرآن قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها إلى الفرض قال يعتق رقبة قلت لا يجد قال فليصم شهرين متتابعين قلت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام ، قال فليطعم ستين مسكيناً قلت ما عنده شيء يتصدق به ، قال فإني سأعينه بعرق من تمر قلت يا رسول الله وأنا أعينه بعرق آخر قال قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً ارجعي إلى ابن عمك " أخرجه أبو داود وفي رواية " قلت إن أوساً ظاهر مني وذكرت أن به لمماً وقالت والذي بعثك بالحق ما جئتك إلا رحمة له إن له في منافع وذكرت نحوه " العرق بفتح العين والراء المهملتين زنبيل يسع ثلاثين صاعاً وقيل خمسة عشر صاعاً وقولها إن به لمماً اللمم طرف من الجنون وقال الخطابي لبس المراد من اللمم هنا الجنون والخبل إن لو كان به ذلك ثم ظاهر في تلك الحال لم يلزمه شيء ، بل معنى اللمم هاهنا الإلمام بالنساء وشدة الحرص والشبق والله أعلم .

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ٥

قوله عز وجل : { إن الذين يحادون الله ورسوله } أي يعادون الله ورسوله ويشاقون ويخالفون أمرهما ، { كبتوا } أي ذلوا وأخزوا وأهلكوا { كما كبت الذين من قبلهم } أي كما أخزي من كان قبلهم من أهل الشرك ، { وقد أنزلنا آيات بينات } يعني فرائض وأحكاماً . { وللكافرين } أي الذين لم يعملوا بها وجحدوها { عذاب مهين } .

يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓاْۚ أَحۡصَىٰهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ٦

{ يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه الله } أي حفظ الله أعمالهم { ونسوه } أي نسوا ما كانوا يعملون في الدنيا ، { والله على كل شيء شهيد } .

page 543

أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ٧

قوله تعالى : { ألم تر } أي ألم تعلم { أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماوات ، ثم أكد ذلك بقوله تعالى : { ما يكون من نجوى ثلاثة } أي من أسرار ثلاثة وهي المسارة والمشاورة ، والمعنى ما من شيء يناجي به الرجل صاحبه ، وقيل ما يكون من متناجين ثلاثة يسار بعضهم بعضاً { إلا هو رابعهم } أي بالعلم يعني يعلم نجواهم كأنه حاضر معهم ومشاهدهم ، كما تكون نجواهم معلومة عند الرابع الذي يكون معهم ، { ولا خمسة إلا هو سادسهم } فإن قلت لما خص الثلاثة والخمسة ، قلت : أقل ما يكفي في المشاورة ثلاثة حتى يتم الغرض ، فيكون اثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات والثالث كالمتوسط الحاكم بينهما ، فحينئذ تحمد تلك المشاورة ويتم ذلك الغرض وهكذا كل جمع يجتمع للمشاورة لا بد من واحد يكون حكماً بينهم مقبول القول ، وقيل إن العدد الفرد أشرف من الزوج فلهذا خص الله تعالى الثلاثة والخمسة ، ثم قال تعالى : { ولا أدنى من ذلك ولا أكثر } يعني ولا أقل من ثلاثة وخمسة ولا أكثر من ذلك العدد { إلا هو معهم أينما كانوا } أي بالعلم والقدرة ، { ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم } .

أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجۡوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَيَتَنَٰجَوۡنَ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِۖ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوۡكَ بِمَا لَمۡ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ لَوۡلَا يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ حَسۡبُهُمۡ جَهَنَّمُ يَصۡلَوۡنَهَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ٨

قوله عز وجل : { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون بما يسوءهم فيحزن المؤمنين ذلك ، ويقولون ما نراهم إلا قد بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو هزيمة فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم فلما طال على المؤمنين وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين فلم ينتهوا ، فأنزل الله ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى أي المناجاة فيما بينهم ، { ثم يعودون لما نهوا عنه } أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها ، { ويتناجون بالإثم والعدوان } يعني ذلك السر الذي كان بينهم ، لأنه إما مكر وكيد بالمسلمين أي شيء يسوءهم وكلاهما إثم وعدوان ، { ومعصية الرسول } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد نهاهم عن النجوى فعصوه وعادوا إليها ، وقيل معناه يوصي بعضهم بعضاً بمعصية الرسول ، { وإذا جاؤوك } يعني اليهود ، { حيوك بما لم يحيك به الله } وذلك أن اليهود كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون السام عليك ، والسام الموت ، وهم يوهمونه بأنهم يسلمون عليه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد فيقول عليكم ، { ويقولون في أنفسهم } يعني إذا خرجوا من عنده قالوا { لولا يعذبنا الله بما نقول } يريدون لو كان نبياً لعذبنا الله بما نقول من الاستخفاف به قال الله تعالى : { حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } المعنى أن تقديم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة والمصلحة ، وإذا لم تقتض المشيئة والمصلحة تقديم العذاب فعذاب جهنم يوم القيامة كافيهم ( ق ) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : ( دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليك ، قالت عائشة ففهمتها فقلت عليكم السام واللعنة ، قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله ، فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قلت عليكم ) وللبخاري ( إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليك فقال وعليكم فقالت عائشة السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش ، قالت أولم تسمع ما قالوا ؟ قال أولم تسمعي ما قلت رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في ) السام الموت قال الخطابي عامة المحدثين يروون إذا سلم عليكم أهل الكتاب فإنما يقولون السام عليكم فقولوا وعليكم الحديث ، فيثبتون الواو في وعليكم وكان سفيان بن عيينة يرويه بغير واو قال وهو الصواب لأنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوا مردوداً عليهم بعينه وإذا أثبت الواو وقع الاشتراك معهم لأن الواو تجمع بين الشيئين ، والعنف ضد الرفق واللين ، والفحش الرديء من القول .

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَنَٰجَيۡتُمۡ فَلَا تَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَمَعۡصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَٰجَوۡاْ بِٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ٩

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } ، في المخاطبين بهذه الآية قولان :

أحدهما :أنه خطاب للمؤمنين ، وذلك أنه لما ذم اليهود والمنافقين على التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول أتبعه بأن نهى المؤمنين أن يسلكوا مثل طريقهم وأن يفعلوا كفعلهم فقال لا تتناجوا بالإثم وهو ما يقبح من القول والعدوان وهو ما يؤدي إلى الظلم ومعصية الرسول وهو ما يكون خلافاً عليه .

والقول الثاني : وهو الأصح أنه خطاب للمنافقين والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم وقيل آمنوا بزعمهم ، كأنه قال لهم لا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، { وتناجوا بالبر والتقوى } أي بالطاعة وترك المعصية ، { واتقوا الله الذي إليه تحشرون } .

إِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ لِيَحۡزُنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيۡسَ بِضَآرِّهِمۡ شَيۡـًٔا إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ١٠

{ إنما النجوى من الشيطان } أي من تزيين الشيطان وهو ما يأمرهم به . من الإثم والعدوان ومعصية الرسول { ليحزن الذين آمنوا } إنما يزين ذلك ليحزن المؤمنين ( ق ) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث » زاد ابن مسعود في رواية «فإن ذلك يحزنه » وهذه الزيادة لأبي داود { وليس بضارهم شيئاً } يعني ذلك التناجي وقيل الشيطان ليس بضارهم شيئاً { إلا بإذن الله } أي إلا ما أراد الله تعالى وقيل إلا بإذن الله في الضر ، { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أي فليكل المؤمنون أمرهم إلى الله تعالى ويستعيذوا به من الشيطان ، فإن من توكل على الله لا يخيب أمله ولا يبطل سعيه .

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ١١

قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا } الآية ، قيل في سبب نزولها «إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس منهم يوماً وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه ، فرد عليهم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم ثم قاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لمن حوله قم يا فلان وأنت يا فلان ، فأقام من المجلس بقدر أولئك النفر الذين كانوا بين يديه من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم ، فأنزل الله هذه الآية » ، وقيل نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وقد تقدمت القصة في سورة الحجرات ، وقيل كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحبون القرب منه فكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلاً تضاموا في مجلسهم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض . وقيل كان ذلك يوم الجمعة في الصفة والمكان ضيق . والأقرب أن المراد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يتضامون فيه تنافساً على القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصاً على استماع كلامه فأمر الله المؤمنين بالتواضع وأن يفسحوا في المجلس لمن أراد الجلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم ليتساوى الناس في الأخذ بالحظ منه ، وقرئ في المجلس لأن لكل واحد مجلساً ، ومعناه ليفسح كل رجل في مجلسه فافسحوا أي فأوسعوا في المجلس أمروا بأن يوسعوا في المجالس لغيرهم ، { يفسح الله لكم } أي يوسع الله لكم في الجنة والمجالس فيها ( ق ) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لا يقيمن أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا يفسح الله لكم » ، ( م ) عن جابر بن عبد الله قال :«لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول افسحوا » ذكره الحميدي في أفراد مسلم موقوفاً على جابر ورفعه غير الحميدي ، وقيل في معنى الآية إن هذا في مجالس العرب ومقاعد القتال كان الرجل يأتي القوم وهم في الصف فيقول توسعوا ، فيأبون عليه لحرصهم على القتال ورغبتهم في الشهادة فأمروا بأن يوسعوا لإخوانهم ، لأن الرجل الشديد البأس قد يكون متأخراً عن الصف الأول والحاجة داعية إلى تقدمه ، فلا بد من التفسح له ثم يقاس على ذلك سائر المجالس كمجالس العلم والقرآن والحديث والذكر ونحو ذلك لأن كل من وسع على عباد الله أنواع الخير والراحة وسع الله عليه خيري الدنيا والآخرة . { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } أي إذا قيل ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسعوا لإخوانكم فارتفعوا ، وقيل كان رجال يتثاقلون عن الصلاة في الجماعة إذا نودي لها فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمعنى إذا نودي إلى الصلاة فانهضوا إليها ، وقيل إذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة وإلى الجهاد وإلى كل خير فانهضوا إليه ولا تقصروا عنه ، { يرفع الله الذين آمنوا منكم } أي بطاعتهم لله ولرسوله وامتثال أوامره في قيامهم من مجالسهم وتوسعتهم لإخوانهم ، { والذين أوتوا العلم } أي ويرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين بفضل علمهم وسابقتهم ، { درجات } أي على من سواهم في الجنة ، قيل يقال للمؤمن الذي ليس بعالم إذا انتهى إلى باب الجنة أدخل ويقال للعالم قف فاشفع في الناس ، أخبر الله عز وجل أن رسوله صلى الله عليه وسلم مصيب فيما أمروا أن أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا وأن النفر من أهل بدر مستحقون لما عوملوا به من الإكرام ، { والله بما تعملون خبير } قال الحسن قرأ ابن مسعود هذه الآية وقال يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبنكم في العلم فإن الله تعالى يقول يرفع المؤمن العالم فوق المؤمن الذي ليس بعالم درجات ، وقيل إن العالم يحصل له بعلمه من المنزلة والرفعة ما لا يحصل لغيره لأنه يقتدي بالعالم في أقواله وفي أفعاله كلها عن قيس بن كثير قال قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء وهو بدمشق فقال ما أقدمك يا أخي ، قال حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أما جئت لحاجة غيره ؟ قال لا ، قال أما قدمت في تجارة ؟ قال : لا ، قال أما جئت إلا في طلب هذا الحديث ؟ قال نعم ، قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة ، وإن الملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما أورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر " أخرجه الترمذي ولأبي داود نحوه ، ( ق ) عن معاوية بن أبي سفيان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من يريد الله به خيراً يفقهه في الدين " ، وعن ابن عباس مثله أخرجه الترمذي ، وروى البغوي بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون إلى الله ويرغبون إليه والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه فقال كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه ، أما هؤلاء فيدعون إلى الله ويرغبون إليه وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمون الجاهل فهؤلاء أفضل وإنما بعثت معلماً ثم جلس فيهم " .

page 544

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةٗۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ١٢

{ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } ، يعني إذا أردتم مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدموا أمام ذلك صدقة ، وفائدة ذلك إعظام مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الإنسان إذا وجد الشيء بمشقة استعظمه ، وإن وجده بسهولة استحقره ، ونفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة قبل المناجاة ، قال ابن عباس إن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثروا حتى شق عليه فأراد الله تعالى أن يخفف على نبيه صلى الله عليه وسلم ويثبطهم على ذلك ، فأمرهم أن يقدموا صدقة على مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل نزلت في الأغنياء وذلك أنهم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره رسول الله صلى الله عليه وسلم طول جلوسهم ومناجاتهم ، فلما أمروا بالصدقة كفوا عن مناجاته ، فأما الفقراء وأهل العسرة فلم يجدوا شيئاً ، وأما الأغنياء وأهل الميسرة فضنوا واشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الرخصة . وقال مجاهد نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب تصدق بدينار وناجاه ثم نزلت الرخصة ، فكان علي يقول آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي وهي آية المناجاة . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لما نزلت { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ما ترى ديناراً قلت لا يطيقونه ، قال فنصف دينار قلت لا يطيقونه ، قال فكم قلت شعيرة ، قال إنك لزهيد قال فنزلت { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات . . . } الآية قال فبي خفف الله عن هذه الأمة أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب ، قوله قلت شعيرة أي وزن شعيرة من ذهب وقوله إنك لزهيد يعني قليل المال قدرت على قدر حالك .

فإن قلت في هذه الآية منقبة عظيمة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ لم يعمل بها أحد غيره . قلت هو كما قلت وليس فيها طعن على غيره من الصحابة ، ووجه ذلك أن الوقت لم يتسع ليعملوا بهذه الآية ولو اتسع الوقت لم يتخلفوا عن العمل بها ، وعلى تقدير اتساع الوقت ولم يفعلوا ذلك إنما هو مراعاة لقلوب الفقراء الذين لم يجدوا ما يتصدقون به لو احتاجوا إلى المناجاة ، فيكون ذلك سبباً لحزن الفقراء إذ لم يجدوا ما يتصدقون به عند مناجاته . ووجه آخر وهو أن هذه المناجاة لم تكن من المفروضات ولا من الواجبات ولا من الطاعات المندوب إليها بلى إنما كلفوا هذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة ولما كانت هذه المناجاة أولى بأن تترك لم يعملوا بها وليس فيها طعن على أحد منهم ، وقوله : { ذلك خير لكم } يعني تقديم الصدقة على المناجاة لما فيه من طاعة الله وطاعة رسوله { وأطهر } أي لذنوبكم { فإن لم تجدوا } يعني الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به { فإن الله غفور رحيم } يعني أنه تعالى رفع عنهم ذلك .

ءَأَشۡفَقۡتُمۡ أَن تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَٰتٖۚ فَإِذۡ لَمۡ تَفۡعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ١٣

{ أأشفقتم } قال ابن عباس أبخلتم والمعنى : أخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم وهو قوله { أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا } أي ما أمرتم به ، { وتاب الله عليكم } أي تجاوز عنكم ونسخ الصدقة ، قال مقاتل بن حيان كان ذلك عشر ليال ثم نسخ ، وقال الكلبي ما كان إلا ساعة من نهار ثم نسخ { فأقيموا الصلاة } أي المفروضة { وآتوا الزكاة } أي الواجبة { وأطيعوا الله ورسوله } أي فيما أمر ونهى { والله خبير بما تعملون } أي إنه محيط بأعمالكم ونيتكم .

۞أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ قَوۡمًا غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مَّا هُم مِّنكُمۡ وَلَا مِنۡهُمۡ وَيَحۡلِفُونَ عَلَى ٱلۡكَذِبِ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ١٤

قوله عز وجل : { ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم } نزلت في المنافقين وذلك أنهم تولوا اليهود ونصحوهم ونقلوا أسرار المؤمنين إليهم ، فأراد بقوله قوماً غضب الله عليهم اليهود { ما هم } يعني المنافقين { منكم } أي من المؤمنين في الدين والولاء { ولا منهم } يعني ولا من اليهود ، { ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } أي أنهم كذبة « نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق وكان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرفع حديثه إلى اليهود فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجره إذ قال يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار ينظر بعيني شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق العينين ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل وجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فأنزل الله هذه الآية » .

أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدًاۖ إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ١٥
ٱتَّخَذُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ جُنَّةٗ فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ١٦

{ اتخذوا أيمانهم } يعني الكاذبة { جنة } أي يستجنون بها من القتل ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم ، { فصدوا عن سبيل الله } يعني أنهم صدوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل وأخذ أموالهم بسبب أيمانهم ، وقيل معناه صدوا الناس عن دين الله الذي هو الإسلام ، { فلهم عذاب مهين } يعني في الآخرة .

لَّن تُغۡنِيَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ١٧

{ لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم } يوم القيامة ، { من الله شيئاً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .

يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعٗا فَيَحۡلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍۚ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ١٨

{ يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له } يعني كاذبين أنهم ما كانوا مشركين ، { كما يحلفون لكم } أي في الدنيا ، وقيل كان الحلف جنة لهم في الدنيا فظنوا أنه ينفع في الآخرة أيضاً { ويحسبون أنهم على شيء } يعني من أيمانهم الكاذبة ، { ألا إنهم هم الكاذبون } يعني في أقوالهم وأيمانهم .

ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ١٩

{ استحوذ عليهم الشيطان } أي غلب واستولى عليهم وملكهم { فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } .

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ أُوْلَـٰٓئِكَ فِي ٱلۡأَذَلِّينَ٢٠

{ إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين } يعني في جملة من يلحقهم الذل في الدنيا والآخرة لأن ذل أحد الخصمين على حسب عز الخصم الثاني .

ولما كانت عزة الله غير متناهية كانت ذلة من ينازعه غير متناهية .