قوله : { وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } الآية[29353] . «ذَا » بمعنى صاحب و «النون » الحوت . ويجمع على نِينَان[29354] كحوت وحيتان والمراد بذي النون يونس - عليه السلام-[29355] وسمي بذلك ، لأنَّ النون ابتلعه . وقد تقدم أن الاسم إذا دار بين أن يكون مفيداً ولقباً فحمله على المفيد أولى خصوصاً إذا علمت الفائدة التي لذلك الوصف[29356] .
قوله : { مُغَاصِباً } حال من فاعل «ذَهَبَ »[29357] والمفاعلة هنا تحتمل أن تكون على بابها من المشاركة ، أي : غاضب قومه وغاضبوه حين لم يؤمنوا في أول الأمر[29358] ، وفي بعض التفاسير : مغاضباً لربه[29359] فإن صح ذلك عمن يعتبر قوله ، فينبغي أن تكون اللام للتعليل لا التعدية للمفعول ، أي : لأجل ربه ولدينه[29360] .
ويحتمل أن يكون بمعنى غضبان ، فلا مشاركة كعاقبت وسافرت[29361] . والعامة على «مُغَاضِباً » اسم فاعل . وقرأ أبو شرف[29362]«مُغَاضِباً » بفتح الضاد على ما لم يسم فاعله كذا نقله أبو حيان[29363] . ونقله الزمخشري عن أبي شرف «مُغْضباً » دون ألف من أغضبته فهو مغضب[29364] .
قوله : { أن لَّن } «أنْ »[29365] هذه المخففة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، و { لَنْ نَقْدِرَ } هو الخبر ، والفاصل حرف النفي[29366] . والمعنى : أن نضيق عليه كقوله : { فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ }[29367] { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ }[29368] . والعامة على «نَقْدِرَ » بنون العظمة مفتوحة وتخفيف الدال ، والمفعول محذوف أي : الجهات والأماكن[29369] .
وقرأ الزهري بضمها وتشديد الدال[29370] . وقرأ ابن أبي ليلى[29371] وأبو شرف والكلبي وحميد بن قيس ويعقوب «يُقْدَر » بضم الياء من تحت ، وفتح الدال خفيفة مبنياً للمفعول[29372] . وقرأ الحسن وعيسى بن عمر بفتح الياء وكسر الدال خفيفة[29373] وعلي بن أبي طالب واليماني بضم الياء وكسر الدال مشددة[29374] .
والفاعل على هذين الوجهين ضمير يعود على الله تعالى[29375] .
قوله : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ } يجوز في «أَنْ » وجهان :
أحدهما : أنها المخففة من الثقيلة فاسمها كما تقدم محذوف ، والجملة المنفية بعدها الخبر[29376] .
والثاني : أنها تفسيرية ، لأنَّها بعد ما هو بمعنى القول دون حروفه[29377] .
فصل
معنى الآية : واذكر صاحب الحوت ، وهو يونس بن متى { إذْ ذَهَبَ[29378] مُغَاضِباً } قال ابن عباس[29379] : كان يونس وقومه يسكنون فلسطين ، فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً[29380] ، وبقي سبطان ونصف ، فأوحى الله إلى شعيا[29381] النبي[29382] أن اذهب إلى حزقيل الملك ، وقل له حتى يوجه نبياً قوياً أميناً ، فإني ألقي في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل . فقال الملك : ومن ترى ؟ وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ، فقال : يونس بن متى فإنه قوي أمين ، فدعا[29383] الملك يونس وأمره أن يخرج ، فقال يونس : هل أمرك الله بإخراجي ؟ قال : لا . قال : هل سماني لك ؟ قال : لا . قال[29384] : فهاهنا[29385] أنبياء غيري أقوياء فألحوا عليه ، فخرج مغاضبا للنبي وللملك ولقومه . فأتى بحر الروم ، فوجد قوما هيأوا سفينة فركب معهم[29386] . وقال عروة بن الزبير[29387] وسعيد بن جبير وجماعة : إذ ذهب عن قومه مغاضبا لربه إذ كشف عن قومه العذاب بعد ما وعدهم . فكره أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف[29388] فيما وعدهم ، واستحيى منهم ، ولم يعلم السبب الذي به رفع العذاب عنهم ، وكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده ، وأن يسمى كذابا لا كراهية لحكم[29389] الله . وفي بعض الأخبار أن كان من عادة قومه أن يقتلوا من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد ، فغضب . والمغاضبة هاهنا هي المفاعلة التي تكون من واحد كالمسافرة والمعاقبة[29390] .
فمعنى قوله : { مُغَاضِباً } أي : غضبان . وعن ابن عباس قال : أتى جبريل يونس فقال : انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم ، قال : ألتمس دابة قال : الأمر أعجل من ذلك ، فغضب ، فانطلق إلى السفينة[29391] . وقال وهب[29392] : إن يونس بن متى كان عبداً صالحاً ، وكان في خلقه ضيق ، فلما حمل عليه أثقال النبوة تَفسَّخَ تَحْتَهَا الرَّبع تحت الحمل الثقيل[29393] . فقذفها من يده ، وخرج هارباً منها ، فلذلك أخرجه الله من أول العزم ، فقال لنبيه محمد - عليه السلام[29394]- : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل }[29395] ، قال : { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت[29396] }[29397] .
قوله : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } أي : أن نقضي عليه بالعقوبة[29398] . قال مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وهو رواية العوفي عن ابن عباس : يقال : قدّر الله شيئاً تقديراً ، وقدر يقدر قدرً بمعنى واحد[29399] . ومنه قوله : { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ[29400] الموت }[29401] في قراءة من خفّفها[29402] دليل هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز[29403] والزهري { فَظَنَّ أَن لَّن نُّقَْدِّرَ عَلَيْهِ } بالتشديد[29404] . وقال عطاء وكثير من العلماء : معنا فظن أن لن نضيق عليه الحبس من قوله تعالى : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ }[29405] أي : يضيق . وقال ابن زيد : هو استفهام معناه أفظن أنه يعجز ربه فلا يقدر ( عليه[29406] ؟ )[29407] . وعن الحسن قال : بلغني أنَّ يونس[29408] لما أصاب الذنب انطلق مغاضباً لربه ، واستزله الشيطان حتى ظن أن لن نقدر عليه ، وكان له سلف وعبادة ، فأبى الله أن يجعله للشيطان ، فقذفه في بطن الحوت ، فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة[29409] . وقال عطاء : سبعة أيام ، وقيل : ثلاثة أيام . وقيل : إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة[29410] . وقيل : بلغ به تخوم الأرض السابعة ، فتاب إلى ربه في بطن الحوت ، وراجع نفسه ، فقال : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ[29411] إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } حين عصيتك ، وما صنعت من شيء ، فلم أعبد غيرك ، فأخرجه الله من بطن الحوت برحمته[29412] .
فصل
احتج القائلون[29413] بجواز الذنب على الأنبياء بهذه الآية من وجوه :
أحدها : أن أكثر المفسرين على أنه ذهب يونس مغاضباً لربه ، قيل : هذا قول ابن مسعود وابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير ووهب ، واختيار ابن قتيبة ومحمد بن جرير ، وإذا كان كذلك فمغاضبة الله من أعظم الذنوب ، ثم على تقدير أن هذه المغاضبة لم تكن مع الله بل كان مع ذلك الملك ، أو مع القوم ، فهو أيضاً محظور لقول الله تعالى : { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت }[29414] وذلك[29415] يقتضي أن ذلك الفعل من يونس محظور .
وثانيها : قوله : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } وذلك يقتضي كونه شاكاً في قدرة الله .
وثالثها : قوله : { إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } والظلم مذموم قال تعالى : { أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين }[29416] .
ورابعها[29417] : أنه لو لم يصدر منه الذنب ، فلم عاقبه الله بان ألقاه في البحر في بطن الحوت .
وخامسها : قوله : { فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ }[29418] والمليم هو ذو الملامة ومن كان كذلك فهو مذنب .
وسادسها : قوله : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت }[29419] فإن لم يكن صاحب ذنب ولم يجز النهي عن التشبّه به وإن كان مذنباً فهو المطلوب .
وسابعها : قوله : { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت }[29420] وقال : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم }[29421] وهذا يقتضي أنّ ذلك الفعل مخرج أن يكون يونس من أولي العزم .
والجواب : أنه ليس في الآية من غاضبة ، فلا نقطع على نبي الله بأنه غاضب ربه ، لأنّ ذلك صفة من يجهل كون الله مالكاً للأمر والنهي ، والجاهل بالله لا يكون مؤمناً فضلاً عن أن يكون نبياً .
وأما ما روى من أنه خرج مغاضباً لأمر يرجع إلى الاستعداد فمما يرتفع حال الأنبياء عنه ، لأنّ الله تعالى إذا أمرهم بشيء فلا يجوز أن يخالفوه ، لقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ }[29422] وقوله : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ[29423] فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ }[29424] . فإذا كان في الاستعداد مخالفة لم يجز أن يقع ذلك منهم . وإذا ثبت أنه لا يجوز صرف هذه المغاضبة إلى الله وجب أن يكون المراد أنه خرج مغاضباً لغير الله ، والغالب أنه إنما يغاضب من يعصه فيما يأمره به ، فيحمل على مغاضبة قومه ، أو الملك ، أو هما جميعاً ومعنى مغاضبته لقومه أنه غاضبهم لمفارقته لخوف[29425] حلول العذاب بهم ، وقرئ «مغضباً » كما تقدم[29426] وأما قولهم : مغاضبة القوم أيضاً محظورة لقوله : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت }[29427] .
فالجواب لا نسلم أنها[29428] كانت محرمة ، أما الذهاب ، فلأن الله أمره بتبليغ الرسالة إليهم ، وما أمره بأن يبقى معهم أبداً ، فظاهر الأمر لا يقتضي التكرار ، فلم يكن خروجه من بينهم معصية . وأما الغضب لما لم يكن منهياً عنه قبل ذلك ظن أن ذلك جائز من حيث أنه لم يفعله إلا غضباً لله وأنفة لدينه ، بل كان الأولى أن يصابر وينتظر من الله الأمر بالمهاجرة عنهم ، ولهذا قال تعالى : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت }[29429] كأن[29430] الله تعالى أراد لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل المنازل وأعلاها .
وأما الجواب عن قوله : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } فنقول من ظن عجز الله فهو كافر ، ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين فكيف إلى الأنبياء ، فإن لا بدَّ فيه من التأويل ، وفيه وجوه :
الأول : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } نضيق عليه كقوله : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ }[29431] { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ }[29432] أي : ضيق[29433] ، وكذا قوله : { وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ }[29434] أي : ضيق ، فمعناه : أن لن نضيق عليه ، وعلى هذا فالآية حجة لنا ، لأن يونس ظن أنه مخير[29435] إن شاء أقام وإن شاء خرج وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره ، وكان في المعلوم أنَّ الصلاح في تأخير خروجه ، وهذا من الله بيان لما يجري مجرى العذر[29436] له من حيث خرج لا على تعمد المعصية لكن ظن أنَّ الأمر في خروجه موسع يجوز أن يقدم ويؤخر ، وكان الصلاح خلاف ذلك .
والثاني : أن يكون هذا من باب التمثيل ، أي : فكانت حاله مماثلة لحال من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه عن قومه من غير انتظار لأمر الله .
الثالث : أن يفسر القدر بالقضاء ، والمعنى فظن أن لن نقدر عليه بشدة .
قال مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي ، ورواية العوفي عن ابن عباس واختيار الفراء[29437] والزجاج[29438] : يقال : قَدَرَ الله الشيء قَدْراً وقَدَّرَهُ تَقْدِيراً فالقدر بمعنى التقدير ، وتقدم قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري بضم النون والتشديد من التقدير[29439] .
وروي أنه دخل عن ابن عباس على معاوية ، فقال معاوية : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة ، فغرقت فيها ، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك . فقال : وما هي ؟ قال : ظن نبي الله أن لن يقدر الله عليه . فقال ابن عباس : هذا من القدر لا من القدرة .
الرابع : فظن أن لن[29440] ( نقدر ، أي : فظن أن لن نفعل لأن )[29441] بين القدرة والفعل مناسبة ، فلا يبعد جعل أحدهما مجازاً عن الآخر .
الخامس : أنه استفهام بمعنى التوبيخ كما تقدم عن ابن زيد[29442] .
السادس : قول من قال إن هذه الواقعة كانت قبل رسالة يونس ، فيكون هذا الظن حاصلاً قبل الرسالة ، وإذا كان كذلك فلا يبعد في حق غير الأنبياء أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان ، ثم إنه يرده بالحجة والبرهان .
وأما الجواب عن قوله { إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } فنقول : إن حملناه على ما قبل النبوة فلا كلام ، وإن حملناه على ما بعدها فيجب تأويله ، لأنا لو أجريناه على ظاهره ، لاستحق اللعن ، وهذا لا يقوله مسلم ، وإذا وجب التأويل فنقول : لا شك أنه كان تاركاً للفضيلة مع القدرة على تحصيل الأفضل ، فكان ذلك ظلماً .
وأما الجواب عن إلقائه في البحر في بطن الحوت ، وأن ذلك عقوبة ، فلا نسلم أنَّ ذلك عقوبة ، إذ الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا بل المراد المحنة .
وأما الجواب عن الملامة فإنما كان بسبب ترك الأفضل[29443] .
فصل
قوله[29444] { فنادى فِي الظلمات }[29445] قال الزمخشري : أي : في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ }[29446] وقوله : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } . وقيل : أراد ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت[29447] .
{ أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ } نزه ربه عن كل النقائض ، ومنها العجز ، وهذا يدلّ على أنه ما كان مراده من قوله : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } أنه ظن العجز ، وإنما قال : { سُبْحَانَكَ } ، لأنّ معناه سبحانك أن تفعل جوراً أو شهوة الانتقام أو عجزاً عن تخليصي عن هذا الحبس ، بل فعلته بحق الإلهية وبمقتضى الحكمة[29448] { إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } أي : ظلمت نفسي بفراري من قومي بغير إذنك كأنه قال : كنت من الظالمين ، وأنا الآن من التائبين النادمين فاكشف عني المحنة[29449] .
روى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «مَا من[29450] مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له »[29451] .