التفسير الحديث لدروزة

دروزة القرن الخامس عشر الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 587

وَيۡلٞ لِّلۡمُطَفِّفِينَ١

سورة المطففين

في السورة تنديد بالغشاشين في الكيل والميزان وإنذار بحساب الله . واستطراد إلى ذكر مصير المكذبين والمؤمنين يوم القيامة . وحكاية لسخرية الكفار بالمؤمنين في الدنيا وانقلاب الحال في الآخرة . وآيات السورة متوازنة منسجمة مما يسوغ القول : إنها نزلت دفعة واحدة .

والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه السورة آخر السور المكية نزولا . ومعظم روايات ترتيب النزول تذكر أنها من السور المتأخرة في النزول كذلك ، ومنها ما يتفق مع المصحف بأنها الآخر نزولا . غير أن مضمونها وأسلوبها يثيران في النفس شكا في ذلك ويسوغان الظن بأنها من السورة المبكرة في النزول . مثل السور القصيرة المسجّعة .

بسم الله الرحمان الرحيم

1 التطفيف : البخس في الوزن والكيل .

{ ويل للمطففين1 ( 1 ) الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ( 2 ) وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ( 3 ) ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ( 4 ) ليوم عظيم( 5 ) يوم يقوم الناس لرب العالمين ( 6 ) } [ 1-6 ] .

احتوت الآيات :

1- تقريعا للذين إذا اشتروا لأنفسهم كالوا ما اشتروه أو وزنوه أو أخذوه وافيا ، وإذا باعوا للغير طففوا وكالوا ووزنوا ناقصا ليضمنوا لأنفسهم الربح في الحالتين على حساب ضرر الآخرين .

2- وتساؤلا في معرض الإنذار عما إذا كانوا حينما يفعلون ذلك لا يعرفون أنهم مبعوثون بعد الموت لليوم العظيم الذي يقف الناس فيه بين يدي الله رب العالمين ليقدموا الحساب عن أعمالهم .

وهذه ثانية سورتين ابتدأتا بكلمة ( الويل ) التقريعية . والآيات تنطوي على صورة من صور أخلاق بعض التجار في مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر . وهي في الوقت نفسه عامة تظهر في كل زمان ومكان . والمتبادر أن إطلاق التقريع والإنذار في الآيات هو بسبب ذلك ليكون فيها تلقين مستمر المدى في تقبيح بخس الناس وغشهم وسلب أموالهم بطريق الحيلة والخداع .

ولقد احتوت سورتا الإسراء والأنعام آيات فيها أمر بوفاء الكيل والميزان والوزن بالموازين المستقيمة حيث ينطوي في هذا تقرير كون هذا الأمر من الأخلاق الهامة التي عنى القرآن بإيجابها لما له من صلة بجميع الناس تتكرر في كل وقت . والإنذار والتقريع في الآيات هما توكيد لما احتوته آيات السورتين بأسلوب آخر .

والتساؤل ينطوي على تقرير ما فتئ القرآن يقرره ، وهو أن جرأة كثير من الناس على الآثام تأتي من عدم مراقبتهم الله وحسبانهم حساب الآخرة . وهذا من دون ريب متصل بحكمة الله فيما يقرره القرآن من حقيقة البعث والجزاء الأخرويين .

وقد روى المفسرون [0] عن ابن عباس أن أهل المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا وأنه كان فيها رجل يقال له : أبو جهينة معه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله الآيات . ومقتضى هذا أن تكون الآيات مدنية . ولا تفهم حكمة لوضع آيات مدنية في رأس سورة تجمع الروايات على سلكها في عداد السور المكية . ويؤيد ذلك مضمونها وأسلوبها . وموضوعها من المواضيع التي ذكرت في سور مكية على ما ذكرناه آنفا . والذي يتبادر لنا أن الآيات تليت في موقف ما في المدينة على سبيل الإنذار والتقريع ، فأدى ذلك إلى الالتباس . وهو ما نرجحه في كثير من الآيات التي يروى أنها مدنية ووردت في سور مكية .

ولقد روى البخاري والترمذي في سياق آية { يوم يقوم الناس لرب العالمين } حديثا عن ابن عمر قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه )[1] . وهناك حديث آخر رواه البغوي بطرقه فيه توضيح لتعبير ( رشحه ) عن المقداد قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين فتصهرهم فيكونون في العرق بقدر أعمالهم ، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من يأخذه إلى حقويه ومنهم من يلجمه إلجاما ) . وفي الحديثين تنبيه إنذاري متساوق مع التنبيه القرآني كما هو واضح .

ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكۡتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسۡتَوۡفُونَ٢
وَإِذَا كَالُوهُمۡ أَو وَّزَنُوهُمۡ يُخۡسِرُونَ٣
أَلَا يَظُنُّ أُوْلَـٰٓئِكَ أَنَّهُم مَّبۡعُوثُونَ٤

page 588

لِيَوۡمٍ عَظِيمٖ٥
يَوۡمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٦
كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٖ٧

1 إن كتاب الفجار لفي سجين : قيل في تخريج كلمة سجين اللغوي : إنها صفة مبالغة من السجن على سبيل التخليد لمن يدخلونه . وقيل : إنها المكان السحيق أو العميق المظلم أو الأرض السفلى وقيل : إنها بئر في جهنم وعلى كل حال فالذي يتبادر من الجملة أن المقصود من الكلمة مكان العذاب الذي يعذب فيه الكفار في الآخرة وأن المقصود من الجملة بيان كون الذي كتب وقضى على الفجار : هو أن يكونوا في سجين . وجملة { ويل يومئذ للمكذبين } في الآيات والإشارة إلى يوم القيامة في الآيات السابقة قرائن أو دلائل على ذلك .

{ كلا إن كتاب الفجار لفي سجين1 ( 7 ) وما أدراك ما سجين2 ( 8 ) كتاب مرقوم 3 ( 9 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 10 ) الذين يكذبون بيوم الدين ( 11 ) وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ( 12 ) إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ( 13 ) كلا بل ران 4 على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( 14 ) كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ( 15 ) ثم إنهم لصالوا الجحيم ( 16 ) ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ( 17 ) } [ 7-17 ] .

في الآيات حملة شديدة على الفجار المكذبين بيوم الدين . وقد ابتدأت بالردع والزجر للتنبيه على أن الأمر أعظم مما يظنون . ثم آذنتهم بأن مصير الفجار قد كتب وتقرر في الهوة السحيقة المظلمة المعدة لعذابهم يوم القيامة . وما أعظم هولها . والويل لهم في يوم الجزاء الذي يكذبون به . ولا يكذب به إلا كل أثيم باغ إذا سمع آيات الله هزأ بها وقال : إنها ليست إلا أساطير الأولين . والحقيقة من أمرهم أن ما اقترفوه من آثام وجلبت عليه نفوسهم من شر وخبث قد غطى على بصائرهم وحجّر قلوبهم . وإنهم لمبعدون عن الله ورضوانه . ولسوف يصلون الجحيم ، ويقال لهم عند ذلك : هذا الذي كنتم به تكذبون .

ويربط بين هذه الآيات وما قبلها الإنذار بالبعث ليوم الدين العظيم الذي يقف الناس فيه بين يدي الله . فهي والحالة هذه متصلة بها سياقا وموضوعا .

والحملة قوية مفزعة من شأنها بالإضافة إلى واجب الإيمان بالمشهد الأخروي إثارة الرعب في قلوب السامعين وحملهم على الارعواء من جهة ، وقد انطوت على صورة لما كان عليه الكفار من شدة العناد والمكابرة حين نزولها من جهة أخرى ، والإنذار متحقق بالنسبة للذين ظلوا على كفرهم وإثمهم .

ولقد روى الترمذي في سياق الآية [ 14 ] حديثا عن أبي هريرة قال : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكره الله { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } ) . حيث ينطوي في الحديث تفسير وتبشير وإنذار معا . وقد أورد المفسرون أقوالا لابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم تفيد أن القصد من الجملة : هو بيان ما يحدثه الكفر والآثام في قلب صاحبها من تحجر وانغلاق وموتان .

ولقد روى المفسرون في مناسبة جملة { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون }إلى الكلام عن رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ، حيث استدل بعضهم وأوردوا أقوالا لبعض علماء التابعين وللإمام الشافعي في الاستدلال بها على ذلك ، وحيث أورد بعضهم أقوالا تفيد أن المقصود بالجملة حجب الكرامة والرحمة الربانية . وقد قال الطبري : إن الجملة قد تحتمل هذا المعنى وقد تحتمل ذلك ولكن ليس فيها وليس هناك أثر نبوي يساعد على ترجيح أحدهما على الآخر .

ولقد شرحنا الموضوع الأصلي وعلقنا عليه في سياق تفسير الآيات { وجوه يومئذ ناضرة 22 إلى ربها ناظرة 23 } في سورة المدثر بما يغني عن الإعادة .

وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سِجِّينٞ٨
كِتَٰبٞ مَّرۡقُومٞ٩
وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ١٠
ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ١١
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِۦٓ إِلَّا كُلُّ مُعۡتَدٍ أَثِيمٍ١٢
إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ١٣
كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ١٤
كَلَّآ إِنَّهُمۡ عَن رَّبِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ لَّمَحۡجُوبُونَ١٥
ثُمَّ إِنَّهُمۡ لَصَالُواْ ٱلۡجَحِيمِ١٦
ثُمَّ يُقَالُ هَٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ١٧
كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡأَبۡرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ١٨

1 إن كتاب الأبرار لفي عليين : كلمة عليين صفة مبالغة من العلو . وقد جاءت في مقابل سجين ومما قيل : إنها في السماء السابعة أو في السماوات العليا أو عند عرش الله أو الجنة وعلى كل حال فإن الجملة تعني أن كتاب الأبرار قد كتب بأنهم سوف يكونون في عليين التي يتنعمون فيها .

{ كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين1 ( 18 ) وما أدراك ما عليون ( 19 ) كتاب مرقوم 2 ( 20 ) يشهده المقربون ( 21 ) إن الأبرار لفي نعيم ( 22 ) على الأرائك ينظرون ( 23 ) تعرف في وجوههم نظرة النعيم ( 24 ) يسقون من رحيق3 مختوم ( 25 ) ختامه مسك 4 وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ( 26 ) ومزاجه من تسنيم 5 ( 27 ) عينا يشرب بها المقربون ( 28 ) } [ 18-28 ] .

وجريا على الأسلوب القرآني جاءت هذه الآيات لوصف مصير الأبرار الأخروي بالمقابلة : فمصيرهم قد كتب وتقرر في عليين حسب كتاب أعمالهم الذي يشهد عليه الملائكة المقربون . ومنازلهم منازل النعيم حيث تعلو فيها وجوههم بهجة السرور ويتناولون في مجالسهم الشراب الصافي النفيس الذي يمزج بماء عين التسنيم العالية في الجنة ، والذي تكون أباريقه مختومة بطينة من المسك ليكون مذاقه ورائحته مسكا . وإن هذا لهو مجال التنافس الممدوح الذي يحسن أن يتنافس فيه المتنافسون للوصول إليه .

واتصال الآيات بالسياق والموضوع قائم . والوصف قوي شائق حقا من شأنه بث الطمأنينة والشوق في نفس المؤمنين من جهة ، وقد انطوى على التنويه بالمؤمنين الذين استحقوا هذه الدرجة من النعيم والتكريم من جهة وعلى الحث على الإيمان والعمل الصالح لنيلها من جهة .

وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ١٩
كِتَٰبٞ مَّرۡقُومٞ٢٠