تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته

شحاته القرن الخامس عشر الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 151

الٓمٓصٓ١

بين يدي سورة الأعراف ( 24 )

سورة الأعراف هي السورة السابعة في الترتيب المصحفي وهي إحدى السور التي بدأت ببعض حروف التهجي ( المص ) ولم يتقدم عليها من هذا النوع سوى ثلاث سور سبقتها في تاريخ النزول وهي ن ، ق ، ص .

ويبلغ عدد السور التي بدأت بحروف التهجي تسعا وعشرين سورة ، وكلها سور مكية ما عدا البقرة وآل عمران . وعدد آيات سورة الأعراف ( 206 ) آيات ، وعدد كلماتها ( 3315 ) كلمة .

معنى فواتيح السور :

ليس لهذه الفواتح في اللغة العربية معان مستقلة ، ولم يرد من طريق صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيان للمراد منها ، بيد أنه قد أثرت عن السلف آراء متعددة في معاني هذه الحروف ، وهذه الآراء على كثرتها ترجع إلى رأيين اثنين .

أحدهما : أنها جميعا مما استأثر الله به ولا يعلم معناه أحد سواه ، وهذا رأي كثير من الصحابة والتابعين .

وثانيها : أن لها معنى ، وقد ذهبوا في معناها مذاهب شتى .

فمنهم من قال : إنها أسماء للسور التي بدئت بها أوأن كلا من علامة على انتهاء سورة والشروع في أخرى .

ومنهم من قال : إنها ( رموز ) لبعض أسماء الله تعالى وصفاته .

ومنهم من قال : إن المقصود منها هو تنبيه السامعين وإيقاظهم ، وسياسة النفوس المعرضة عن القرآن واستدراجها للاستماع إليه واستمالة العقول بشيء غريب على السمع للانتباه والإصغاء للقرآن .

وأشهر آراء علماء البلاغة والبيان أن هذه الحروف ذكرت للتحدي وبيان إعجاز القرآن وان الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ، وفي هذا دلالة على أنه ليس من صنع بشر بل تنزيل من حكيم حميد .

ويرى ابن جرير الطبري أن أفضل الآراء في معنى فواتح السور هو اشتمالها على جميع الوجوه التي ذكرها العلماء في معانيها . فهي أسماء للسورة ، وهي رموز ، وهي حروف للتنبيه والتحدي . إلخ .

وسورة الأعراف هي السورة المكية الثانية في ترتيب المصحف ، وهي تتسم بتلك السمات العامة التي أسلفنا الإشارة إليها في الحديث عن سورة الأنعام .

ثم تتميز بطابعها الخاص بعد ذلك من ناحية الموضوعات التي تعالجها والسياق الذي تسير فيه .

وموضوع السورة الرئيس هو الإنذار . . إنذار من يتولون غير الله ومن يكذبون بآيات الله ومن يستكبرون عن طاعة الله ، ومن ينسون الله ومن لا يشكرون نعمته . إنذارهم هلاك الدنيا وعذاب الآخرة ، ذلك فوق الخزي والهوان والنسيان .

تبدأ السورة بالإنذار ، ثم تسلك بهذا المعنى سبلا شتى وتتصرف فيه تصرفات كثيرة وترسم له صورا متعددة وتلمس به المشاعر لمسات مختلفة . فتارة يأخذ السياق شكل القصة : قصة آدم مع إبليس ، ثم قصص نوح وهود وصالح وشعيب وموسى مع أقوامهم ؛ لتنتهي كل قصة بالعذاب والنكال لمن يخالفون عن أمر الله ، وتارة يأخذ شكل مشهد من مشاهد القيامة أو مشاهد الاحتضار تنكشف فيه مصائر المكذبين المتكبرين ، ومصائر الطائعين لله رب العالمين .

ويتخلل القصص والمشاهد ما يتسق مع الجوالعام من توجيه الأنظار والقلوب ومن الدعوة إلى التوبة والإنابة قبل أن يحل العقاب ويتحقق الإنذار ومن الإشارة إلى عواقب المكذبين من الأمم الخالية التي حق عليها النذير .

ويرد كل ذلك في تناسق مطلق بين السياق والقصة أو السياق والمشهد ، أو السياق والتوجيهات ، فتبدو القصص والمشاهد والتوجيهات كلها أجزاء من هذا السياق العام ملونة بلونه ، مظللة بجوه محققة للغرض الذي يتجه إليه موضوع السورة الرئيس من البدء للختام .

مقاصد السورة ومزاياها :

مهدت سورة الأعراف لمقاصدها ببيان عظمة الكتاب ، وجلال هدايته وقوة حجته في توضيح الدعوة وإنذار المخالفين بها .

ثم تناولت أهداف الدعوة في مكة ، وهي تقرير رسالة الإسلام وبيان أصول هذه الدعوة : توحيد الله في العبادة والتشريع ، وتقرير البعث والجزاء ، وتقرير الوحي والرسالة بوجه عام ، وتقرير رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوجه خاص ، وتلك هي أصول الدعوة الدينية التي كانت لأجلها جميع الرسالات الإلهية .

وقد سلكت السورة في طريقة عرض هذه الحقائق أسلوبين بارزين أحدهما : أسلوب التذكير بالنعم والآخر : أسلوب التخويف من العذاب والنقم .

أما أسلوب التذكير بالنعم فنراه واضحا في لفتها أنظار الناس إلى ما يلمسونه ويحسونه من نعمة تمكينهم ونعمة خلقهم وتصويرهم في أحسن تقويم ، ونعمة تمتع الإنسان بما في هذا الكون من خيرات سخرها الله له .

أما أسلوب الإنذار والتخويف فهو ظاهر في جو السورة ، وفي قصص الأنبياء فيها وقد استغرق هذا القصص أكثر من نصفها ، وقد ساقت لنا السورة ما دار بين الأنبياء وأقوامهم ، وسجلت السورة جزاء المكذبين بأمر الله الخارجين على دعوة رسله وهدايتهم ، وهي ظاهرة تكررت الإشارة إليها في سور القرآن المكي ؛ تحذيرا لأهل مكة أن يصيبهم ما أصاب الأمم من قبلهم .

عرض إجمالي لأجزاء السورة :

سورة الأعراف أول سورة طويلة نزلت من القرآن الكريم وهي أطول سورة في المكي ، وهي أول سورة عرضت ؛ لتفصيل في قصص الأنبياء مع أممهم ، وقد نزلت بين جملتين من السور المكية : يكثر في الجملة التي نزلت قبلها السور القصيرة ، التي تعرف بسور ( المفصل ) ( 25 ) . ويكثر في الجملة التي نزلت بعدها السور المتوسطة التي تعرف بسور ( المئين ) ( 26 ) .

وتطالعنا سورة الأعراف بالحديث عن عظمة القرآن . وتأمرنا باتباعه وتحذرنا من مخالفته . وتحثنا على العمل الذي تثقل به موازيننا يوم القيامة ( 27 ) في بداية تعد براعة استهلال أو عنوان لما تشمل عليه السورة . وهي سمة غالبة في سور القرآن حيث نجد الآيات الأولى منها عنوانا معبرا عن أهدافها وسماتها .

وفي أول سورة الأعراف يقول سبحانه :

المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين * اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون . ( الأعراف : 1 – 3 ) .

ثم ساقت لنا السورة بأسلوب منطقي بليغ قصة آدم مع إبليس . وكيف أن إبليس قد خدعه بأن أغراه بالأكل من الشجرة المحرمة . فلما أكل منها هو وزوجته .

بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة .

( الأعراف : 22 ) .

ثم وجهت إلى بني آدم نداء في أواخر هذا الربع نهتهم فيه عن الاستجابة لوسوسة الشيطان .

قال تعالى : يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما * إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين يؤمنون . . . ( الأعراف : 27 ) .

وفي الربع الثاني منها نراها تأمرنا بأن نأخذ زينتنا عند كل مسجد ، وتخبرنا بأن الله – تعالى – قد أباح لنا أن نتمتع بالطيبات التي أحلها لنا ، وتبشرنا بحسن العاقبة متى اتبعنا الرسل الذين أرسلهم الله لهدايتنا ، ثم تسوق لنا في بضع آيات عاقبة المكذبين لرسل الله ، وكيف أن كل أمة من أمم الكفر عندما تقف بين يدي الله للحساب تلعن أختها .

قال تعالى : كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذابا ضعفا من النار * قل لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون . ( الأعراف : 38 ، 39 ) .

ثم تبين السورة بعد ذلك عاقبة المؤمنين فتقول :

والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . ( الأعراف : 42 ) .

وفي أواخر هذا الربع وفي أوائل الربع الثالث منها نراها تسوق لنا تلك المحاورات التي تدور بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، وتحكي لنا ما يحصل بينهم من نداءات ومجادلات ، تنتهي بأن يقول أصحاب النار لأصحاب الجنة على سبيل التذلل والتوسل :

أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله .

فيجيبهم أصحاب الجنة :

إن الله حرمها على الكافرين * الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا . . . ( الأعراف : 50 ، 51 ) .

ثم تسوق لنا السورة بعد ذلك جانبا من مظاهر نعم الله على خلقه ، وتدعونا إلى شكره عليها ؛ لكي يزيدنا من فضله .

وفي الربع الرابع منها وفي أواخر الثالث تحدثنا عن قصة نوح مع قومه ، ثم عن قصة هود مع قومه ، ثم عن قصة صالح مع قومه ، ثم عن قصة لوط مع قومه ، ثم عن قصة شعيب مع قومه . ولقد ساقت لنا خلال حديثها عن هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم من العبر والعظات ما يهدي القلوب ، ويشفي الصدور ويحمل العقلاء على الاستجابة لهدى الأنبياء والمرسلين .

أما في الربع الخامس منها فقد بينت لنا سنن الله في خلقه ، ومن مظاهر هذه السنن أنه – سبحانه – لا يعاقب قوما إلا بعد الابتلاء والاختبار ، وأن الناس لو آمنوا واتقوا ؛ لفتح – سبحانه – عليهم بركات من السماء والأرض وأن الذين يأمنون مكر خالقهم هم القوم الخاسرون .

قال تعالى : تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين * وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين . ( الأعراف : 101 ، 102 ) .

ثم عقبت على ذلك ببيان أن الله تعالى قد ساق قصص السابقين ؛ للعظة والاعتبار .

ثم أسهبت السورة في الحديث عن قصة موسى – عليه السلام – فقصت علينا في زهاء سبعين آية – استغرقت الربع السادس و السابع والثامن – ما دار بينه وبين فرعون من محاولات ومناقشات ، وما حصل بينه وبين السحرة من مجادلات ومساجلات انتهت بأن قال السحرة :

آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون . ( الأعراف : 121 ، 122 ) .

ثم حكت لنا ما لقيه موسى من قومه بني إسرائيل من تكذيب وجهالات ، مما يدل على أصالتهم في التمرد والعصيان ، وعراقتهم في الكفر والطغيان .

وفي الربع التاسع منها حدثتنا عن العهد الذي أخذه الله على البشر بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ثم حدثتنا على التفكير والتدبير في ملكوت السموات والأرض ، وبينت لنا أن موعد قيام الساعة لا يعلمه سوى علام الغيوب ، وأن الرسل الكرام وظيفتهم تبليغ رسالات الله ، ثم هم بعد ذلك لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا .

أما في الربع العاشر والأخير فقد اهتمت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية الله ، وأنكرت على المشركين شركهم ، ودعت الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم :

خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين . ( الأعراف : 199 ) .

وأمرتهم بأن يكثروا من التضرع والدعاء :

واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين * إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون . ( الأعراف : 205 ، 206 ) .

قصة آدم :

ذكرت قصة آدم في سورة البقرة ثم أكملت سورة الأعراف حلقات هذه القصة . وذكرت أن الله خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له ؛ إظهارا لفضله وتنويها بما يكون له من شأن بعد أن سألوا عن الحكمة في خلقه وقد ركبت فيه الشهوة والغضب وبهما يفسد في الأرض ويسفك الدماء .

وذكرت السورة موقف إبليس وإباءه السجود والامتثال لأمر الله ، كما ذكرت قصة تأثر آدم بوسوسة الشيطان ، وإغرائه إياه بالأكل من الشجرة وكيف كانت عاقبة آدم في الهبوط من الراحة والاطمئنان إلى الكد والتعب ، وإلى مكافحة عوامل الشر التي بنيت الحياة عليها وعلى ما يقابلها من عوامل الخير ، ومطالبة الإنسان بأن يقف مع جانب العقل والرسالة الإلهية اللذين يشدان أزره في التغلب على عوامل الشر .

لقد كان آدم في نعيم الجنة يتمتع بما فيها من كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ويتنقل بين أشجارها ويتقيأ ظلالها ويتفكه بثمارها ويرتوي من عذب مياهها ، وشاركته زوجه هذه المتعة ولكن الشيطان أغراهما بالأكل من الشجرة وأقسم لهما بأنه من الناصحين ، فلما أطاعا الشيطان وأكلا من الشجرة سلب الله عنهما نعمته وحرمهما جنته :

وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين . ( الأعراف : 22 ) .

وقد ندم آدم وحواء أشد الندم وتابا إلى الله توبة نصوحا فتاب الله عليهما وأمرهما أن يهبطا إلى الأرض ؛ ليكدحا ويعملا فتعمر الأرض وتنتشر الحياة في جنباتها . وقد حذر الله آدم وذريته من الشيطان وإغرائه ، وبين سبحانه أن على المؤمن أن يلجأ إلى ربه وأن يستعين بهداه وألا يخلد إلى الهوى وألا ييأس من رحمة الله ؛ فقد فتح الله باب التوبة على مصراعيه حتى يتوب إليه التائبون ويلجأ إليه المؤمنون ، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون .

والمؤمن يتسامى بغرائزه وينتصر على شهواته وينهى نفسه عن الهوى ويحملها على طريق الفلاح والاستقامة .

قال تعالى : ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ( الشمس : 7 ، 10 )

نعمة الثياب والزينة :

تحدثت سورة الأعراف عن نعم الله تعالى على بني آدم ، ومن هذه النعم نعمة الملبس الذي يستر الناس به عورتهم ، ويحملون به أنفسهم هيأ الله لهم مادته من القطن والصوف والحرير وما إليها وألهمهم بما خلق فيهم من غرائز طرق استنباتها وطرق صناعتها بالغزل والنسيج والخياطة . ولفت أنظارهم إلى أن تقوى الله في الانتفاع بتلك النعمة ، واستخدامها في طاعة الله وشكره . وبذلك تستر الثياب العورة ، وتكون مصدر نعمة لا نقمة .

قال تعالى : يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير من آيات الله لعلهم يذكرون . ( الأعراف : 26 ) .

وفي هذا تنبيه إلى أن الحضارة الحقة ليست في كشف المفاتن ولا في إظهار العورات وإنما الحضارة الحقة في السير على سنة الله وهدي رسوله وتعاليم أنبيائه .

توسط الإسلام في شأن الزينة :

من الآيات المشهورة قوله تعالى :

يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين . ( الأعراف : 31 ) .

ومن هذه الآية نلمح سماحة الإسلام ويسره وهو يأمر بالنظافة ويدعوا إلى التجمل والتزين ويحث على التمتع بالطيبات . وفي الحديث الشريف يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم :

( إن الله نظيف يحب النظافة جميل يحب الجمال ، طيب يحب الطيبين ) .

وقد جاء الإسلام دينا وسطا فقد نهى عن التبذير والإسراف وحذر من الشح والبخل وأمر بالقصد والاعتدال قال تعالى :

قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق . ( الأعراف : 32 ) .

فهو سبحانه خلق الإنسان بيده ونفخ فيه من روحه وفضله على كثير من المخلوقات وسخر له الكون بما فيه من سماء مرفوعة وأرض مبسوطة وجبال راسية وبحار جارية وليل مظلم ونهار مضيء وأمره أن يستمتع بالطيبات وأن يبتعد عن المحرمات فهناك حدود بينها الله ؛ فالحلال بين والحرام بين وظاهر ، وبينهما أمور مشتبهات فيها شبهة وإثم فمن ابتعد عن الشبهات ؛ فقد سلم عرضه ودينه ومن وقع في الشبهات ؛ كانت طريقا إلى الحرام ، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه . وصدق الله العظيم :

قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق . ( الأعراف : 33 ) .

*** ***

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد :

آلمص .

هذه فواتح لبعض السور القرآنية ، وقد افتتح الله تعالى بعض السور بالنداء مثل : ( يا أيها المزمل ) ( يا أيها المدثر ) ( يا أيها النبي اتق الله ) ، ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله . . ) .

وبعض السور بدئت بالقسم ، مثل : ( والشمس وضحاها ) ( والضحى * والليل إذا سجى . . ) ( والتين والزيتون وطور سنين * وهذا البلد الأمين . . ) .

( والذاريات ذروا . . ) ومثل : ( والصافات صفا . . ) ( والطور ) ، ( والنجم ) ، ( والفجر ) ، ( والليل ) ، ( والعاديات ) ، ( والعصر ) وبعض السور بدئت بالثناء وإثبات الحمد لله .

كما في سورة الفاتحة ، ( الحمد لله رب العالمين ) وكما في سورة الأنعام : الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور وكما في سورة الكهف : ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب . . ) .

حروف المعجم :

افتتح الله تعالى بعض السور القرآنية بالحروف المقطعة وهي حروف المعجم .

فبعض السور بدأ بحرف واحد مثل ن ، ق ، ص .

وبعض السور بدأ بحرفين مثل : حم ، طه ، يس .

وبعض السور بدأ بثلاثة أحرف مثل : ألم ، طسم ، الر .

وبعض السور بدأ بأربعة أحرف مثل المص ، المر .

وبعض السور بدأ بخمسة أحرف مثل : حم عسق ، كهيعص .

وليس لهذه الحروف معان مستقلة في اللغة العربية فهي لا تكون جملة مفيدة مستقلة .

وقد تكلم العلماء عن معانيها في كتاب الله تعالى ، وأشهر آراء العلماء تنقسم إلى قسمين .

القسم الأول : هي حروف استأثر الله تعالى بمعرفة معناها .

القسم الثاني : هي حروف لها معنى وتعددت آراء العلماء في تحديد هذا المعنى .

فمنهم من قال هي أسماء للسورة ، ومنهم من قال : هي حروف تشير إلى أسماء الله تعالى أو صفاته .

ومنهم من قال هي دليل على انتهاء سورة وبداية أخرى ، ومنهم من قال : حروف للتحدي والإعجاز وبيان أن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل هذا القرآن مع أنه مكون من حروف عربية يتخاطبون بها ، فدل ذلك على أنه ليس من صنع بشر وإنما تنزيل من حكيم حميد وأصحاب هذا الرأي يرون أن الحروف المقطعة في فواتح السور مجموعها – بعد حذف المكرر منها – هو 14 حرفا ، ومجموع حروف المعجم في اللغة العربية هو 28 حرفا . فكأن الحق سبحانه يقول : لقد جعلت من نصف الحروف فواتح للسور في هذا الكتاب ، وتركت لكم النصف الثاني ؛ لتصنعوا منه كتابا مثله إن استطعتم .

ولاحظ أصحاب هذا الرأي أن فواتح السور حوت من كل جنس من الحروف نصفه ، فقد حوت نصف الحروف المهموسة ، ونصف الحروف المجهورة ، ونصف الشديدة ، ونصف الرخوة ، ونصف المطبقة ، ونصف المنفتحة ، وهو لون آخر من ألوان الإعجاز لهذا الكتاب الكريم .

رجوع إلى القرآن الكريم :

وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم ، وتتبعنا هذه السور الكريمة ، التي بدئت بحروف الهجاء ؛ رأينا أنها في الأعم تحدثت عن نزول القرآن الكريم وإعجازه ، فدل ذلك على أن هذه الحروف قد ذكرت في بداية هذه السور ؛ إشارة إلى التحدي والإعجاز .

اقرأ إن شئت : ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه . البقرة .

آلم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم * نزل عليك الكتاب بالحق . . . آل عمران .

آلمص * كتاب أنزل إليك . . . الأعراف .

آلر تلك آيات الكتاب الحكيم . يونس .

آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . هود .

آلر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون . يوسف .

المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق . الرعد .

الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور . . . إبراهيم .

الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين . الحجر .

طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى . طه .

طسم * تلك آيات الكتاب المبين . الشعراء .

طسم * تلك آيات الكتاب المبين * نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون . القصص .

طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين . النمل .

آلم * تلك آيات الكتاب الحكيم * هدى ورحمة للمحسنين . لقمان .

ص والقرآن ذي الذكر . ص .

حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم . غافر .

حم * تنزيل من الرحمن الرحيم . فصلت .

حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون . الزخرف .

حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . الدخان .

ق والقرآن المجيد . ق .

أسباب النزول :

وإذا نظرنا إلى الأسباب العامة لنزول هذه الآيات ، وإلى الجو الذي نزلت فيه رأينا أنها كلها سور مكية ، ما عدا البقرة وآل عمران وكلها نزلت تجادل كفار مكة وتصرفهم عن عنادهم ، وتأخذ بأيديهم وألبابهم إلى مواطن الإعجاز في هذا الكتاب الخالد الذي أنزله الله على نبيه ؛ هداية لهم ونورا لحياتهم ونظاما لسلوكهم ، ولكنهم صموا آذانهم عن سماعه وقالوا : أساطير الأولين ، وادعوا أنه حديث مفترى ، وأنهم لو شاءوا لقالوا مثله ، إلى غير ذلك مما كانوا يحاولون به صرف الناس عن القرآن والصد عنه ، فبدئت هذه السور بهذا الأسلوب ؛ تأثيرا في قلوبهم ولفتا لأنظارهم . ولا يخفى أن المفاجأة بالغريب الذي لم يؤلف ، لها في إرهاف الأسماع وتنبيه الأذهان ما لا يحتاج إلى بيان .

سر الإعجاز :

ولا يبعد أن يكون الإعجاز في هذه الحرف هو اشتمالها على جميع الوجوه التي ذكرها العلماء في معانيها .

فهي بداية للسور ، وهي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته ، وهي لون من التنبيه الذي يقرع الأذهان ويلفت الغافلين .

وهي مما أقسم الله به ؛ لبيان شرف القرآن وفضله .

وهي مما استأثر الله بحقيقة المراد منه ، فكل ما ذكره العلماء اجتهاد محمود ؛ لإدراك أسرارها أو حكمة الابتداء بها .

ولا يزال الله يتفضل على عباده صباح مساء بفهم كتابه واستنباط معانيه ، سئل الإمام على رضى الله عنه : هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشيء ؟ فقال : لا إلا فهما يعطيه الله لرجل في القرآن .

وصدق الله العظيم : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا . ( الكهف : 109 ) .

التفسير :

المص .

هذه الأحرف بداية لسورة الأعراف ، وهي مما استأثر الله تعالى بعلمه .

ويجوز أن تكون بداية للسورة ، بمثابة الجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ إلى دخول المدرسة .

أو هي حروف للتحدي والإعجاز ، أو هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته ، أو هي اسم خاص بسورة الأعراف والله تعالى أعلم .

كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيۡكَ فَلَا يَكُن فِي صَدۡرِكَ حَرَجٞ مِّنۡهُ لِتُنذِرَ بِهِۦ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ٢

المفردات :

حرج : ضيق . يقال : حرج المكان ، أو الصدر يحرج حرجا ، ضاق ، وهو كقوله تعالى : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك . ( هود : 12 ) . والحرج أيضا شدة الضيق .

كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه . . . الآية .

أي : هذا كتاب كريم أنزلناه إليك يا محمد فيه هداية الثقلين ، فبلغ تعاليمه للناس ، ولا تحزن أو تضجر إذا وجدت من بعضهم صدودا عنك ، فما عليك إلا البلاغ ، وعلى الله الحساب .

ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يتألم ويحزن ؛ لانصراف قومه عن هداية الله رغم وضوحها وبيانها ، وكان القرآن الكريم يواسيه ويحثه على الصبر والتسلية ، وعدم الحزن ، كما في قوله تعالى : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين . ( الشعراء : 3 ) .

وكما في قوله تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون .

( الحجر : 97 ) .

وكما في قوله سبحانه : ليس عليك هداهم . . . ( البقرة : 272 ) .

وكما في قوله تعالى : إن عليك إلا البلاغ . . . ( الشورى : 48 ) .

وقريب من ذلك قوله سبحانه : فلا تأس على القوم الفاسقين .

( المائدة : 26 ) .

وقوله تعالى : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون . ( فاطر : 8 ) .

وقد فسر بعض العلماء الحرج بالشك وهو معنى مجازي للحرج ، أي : لا يكن في صدرك شك ولا لبس في كون هذا القرآن كتاب الله .

قال الآلوسي :

قوله تعالى : فلا يكن في صدرك حرج منه . أي : شك ، وأصله : الضيق واستعماله في الشك مجاز علاقته اللزوم ، فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر ، كما أن المتيقن يعتريه انشراحه وانفساحه .

لتنذر به .

أي : لتنذر به قومك وسائر الناس .

وذكرى للمؤمنين .

أي : لتذكر به أهل الإيمان والطاعة ذكرى نافعة مؤثرة ؛ لأنهم هم المستعدون لذلك ، وهم المنتفعون بإرشادك ، فالكتاب يذكرهم آنا بعد آن بربهم ، وما يحق له من الطاعة .

قال تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين . ( الذاريات : 55 ) .

وقال تعالى : تبصرة وذكرى لكل عبد منيب . ( ق : 8 ) .

وقال تعالى : إنما يتذكر أولوا الألباب . ( الزمر : 9 ) .

ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۗ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ٣

المفردات :

لتنذر به : الإنذار الإخبار مع تخويف العاقبة .

وذكرى : أي : وتذكير .

أولياء : أعوان ونصراء جمع ولي .

التفسير :

اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم . . .

أي : اتبعوا القرآن العظيم ، والسنة النبوية معه ؛ لأنها تبينه وتفسره فقد قال تعالى : وما آتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا . . ( الحشر : 7 ) .

والآية الكريمة كلام مستأنف خوطب به كافة المكلفين .

قال د . محمد سيد طنطاوي :

أي : اتبعوا أيها الناس ملة الإسلام وأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وامتثلوا أوامره ، واجتنبوا نواهيه ، لأن الذي أنزل عليكم هذه الشريعة هو ربكم ، الذي هو خالقكم ومربيكم ومدبر أموركم ، والعليم بما فيه مصلحتكم .

ولا تتبعوا من دونه أولياء .

أي : أفردوا الله بالألوهية ، ولا تتجاوزونه إلا الشركاء والرؤساء فيما يحللونه ويحرمونه .

قال أبو السعود : ولا تتبعوا من دونه . . . أي : من دون ربكم الذي أنزل إليكم ما يهديكم إلى الحق .

أولياء . من الجن والإنس بأن تقبلوا منهم ما يلقونه إليكم بطريق الوسوسة والإغواء من الأباطيل ؛ ليضلوكم عن الحق ، ويحملوكم على البدع والأهواء الزائفة .

قليلا ما تذكرون .

أي : تذكروا قليلا ما تتذكرون .

قال أبو السعود : وقرئ يتذكرون على صيغة الغيبة ، وقليلا منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف أو لظرف زمان محذوف ، وما مزيدة ؛ لتأكيد القلة .

أي : تذكروا قليلا ، أو زمانا قليلا تتذكرون لا كثيرا ، حيث لا تتأثرون بذلك ، ولا تعملون بموجبه ، وتتركون دين الله تعالى وتتبعون غيره ، ويجوز أن يراد بالقلة ؛ : العدم ، كما قيل في قوله تعالى : فقليلا ما يؤمنون .

والجملة قليلا ما تذكرون . اعتراض تذييلي مسوق ؛ لتقبيح حال المخاطبين .

وقال الشوكاني : قليلا ما تذكرون أي : إن البشر يتذكرون الحق في شأن الإيمان قليلا ، وينسون ذلك أو يجهلونه كثيرا .

وَكَم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا فَجَآءَهَا بَأۡسُنَا بَيَٰتًا أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ٤

المفردات :

كم : اسم يفيد التكثير .

والقرية تطلق على الموضع الذي يجتمع فيه الناس وعلى الناس معا . وتطلق على كل منهما كما جاء في قوله تعالى : واسأل القرية أي : أهل القرية .

بأسنا : عذابنا ، بياتا مصدر وقع الحال معناه : بائتين

والبيات : الإغارة على العدو ليلا والإيقاع به على غرة .

قائلون : نائمون في وسط النهار ، والقائلة : الظهيرة والنوم في الظهيرة .

التفسير :

وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون .

قال أبو السعود :

هذا شروع في إنذارهم بما جرى على الأمم الماضية بسبب إعراضهم عن دين الله تعالى ، وإصرارهم على اتباع دين آباءهم .

والمعنى : وكثيرا من القرى الظالمة أردنا إهلاكها ، فنزل على بعضها عذابنا في وقت نوم أهلها بالليل ، كما حصل لقوم لوط ، ونزل على بعضها في وقت استراحة أهلها بالنهار كما حصل لقوم شعيب .

قال الشوكاني في فتح القدير : أو هم قائلون والقيلولة : هي نوم نصف النهار ، وقيل : هي مجرد الاستراحة في ذلك الوقت ؛ لشدة الحر من دون نوم ، وخص الوقتين ؛ لأنهما وقت السكون والدعة .

فمجيء العذاب فيهما أشد وأفظع .

وقال د . طنطاوي :

ومن العبر التي تؤخذ من هذه الآية أن العاقل هو الذي يحافظ على أداء الأوامر واجتناب النواهي ، ولا يأمن صفو الليالي ، ورخاء الأيام ، بل يعيش حياته وصلته بربه مبنية على الخوف والرجاء : فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . ( الأعراف : 99 ) .

فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ٥

المفردات :

دعواهم : الدعوى : ما يدعيه الإنسان وتطلق على القول أيضا .

التفسير :

فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين .

أي : فما كان منهم عندما باغتهم العذاب في وقت اطمئنانهم ، إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه ، وشهادتهم ببطلانه ؛ تحسرا عليه . وندامة ، وطمعا في الخلاص وهيهات ولات حين نجاة .

فَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرۡسِلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِينَ٦

المفردات :

الذين أرسل إليهم : هم المرسل إليهم أي : الأمم المرسلين : هم الرسل .

التفسير :

فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين .

والمعنى : فلنسألن المرسل إليهم عما أجابوا به رسلهم الذين جاءوا لهدايتهم .

ولنسئلن المرسلين عما أجيبوا من قومهم ، وعن تبليغهم لرسالات الله .

وسؤال المكذبين للرسل ؛ للتوبيخ والتقريع للمكذبين بهم ، وفيه بيان لعذابهم الأخروي بعد عذابهم الدنيوي .

وسؤال الرسل ؛ لتكريمهم وإظهار شرف عملهم ، وتبرئة ساحتهم حيث يقول بعض المشركين : ما جاءنا من بشير ولا نذير . . . ( المائدة : 19 ) .

قال الشوكاني في فتح القدير :

ولنسئلن المرسلين . أي : الأنبياء الذين بعثهم الله ، نسألهم عما أجاب به أممهم عليهم ، ومن أطاع منهم ومن عصى ، وكل ذلك ؛ ليكون معلوما أننا ما ظلمنا أهل تلك القرى ، عندما أهلكناهم ، بل كانوا هم الظالمين بتكذيبهم للرسل . اه .

فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيۡهِم بِعِلۡمٖۖ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ٧

المفردات :

فلنقصن : فلنحكين : يقال : قص الخبر يقصه قصا : حكاه .

التفسير :

فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين .

أي : فلنقصن على الرسل والمرسل إليهم ، كل ما وقع منهم عن علم دقيق وإحصاء شامل ؛ لأننا لا يغيب عنا شيء من أحوالهم .

قال تعالى : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب . ( المائدة : 109 ) .

والحق سبحانه وتعالى هنا يعرض الغائب حاضرا ، ويستعرض القيامة وأهوالها وأحوالها ؛ ليضع الإنسان أمام نفسه ، تبصرة وتذكرة ، وهذه من ألوان تعريف القول في القرآن الكريم فهو حينا يعرض أخبار الأمم الماضية وأحوالها ، وهو حينا يعرض مظاهر الكون وبديع صنع الله في الخلق ، وهو حينا آخر يستعرض القيامة والبعث والحشر والسؤال والصراط والميزان ، حتى يشاهد الإنسان بعينيه في الدنيا مشاهد القيامة كأنها بين يديه ؛ ليزداد عظة وعبرة .

يقول الشيخ محمود شلتوت سيخ الجامع الأزهر في تفسير العشرة أجزاء الأولى للقرآن الكريم :

والذي يهمنا هنا أن نقرر أن هذا السؤال لم يكن سؤال استفهام ولا استخبار ، وإنما هو سؤال تبكيت وتنديد ، فليس في السائل مظنة أن يجهل ، ولا في المسئول مظنة أن ينكر : وهو تصوير لما يكون من شعور المكذبين بتكذيبهم ، وشعور المرسلين بتبليغهم ، وهو نوع من تسجيل الحجة على من أنكرها ، وأعرض عنها في الوقت الذي كان يجد به الإقبال عليها والإيمان بها ، وهو نوع من زيادة الحسرة ، وقطع الآمال في النجاة ، بوضع يد المجرم على جسم جريمته ، وهو في الوقت نفسه نوع من زيادة الأمن والطمأنينة للرسل في القيام بدعوتهم ، وتبليغهم ما أمروا بتبليغه ، ولعل كل ذلك يرشد إليه قوله تعالى : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين .

وَٱلۡوَزۡنُ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡحَقُّۚ فَمَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ٨

المفردات :

والوزن يومئذ الحق : أي : الوزن الحق أي : الصحيح يكون يومئذ .

التفسير :

والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون .

أي : توزن أعمال العباد يوم القيامة بالميزان وزنا حقيقيا طبقا للعدل الذي لا ظلم فيه .

فمن ثقلت موازينه . أي : رجت أعماله الصالحة الموزونة .

فأولئك هم المفلحون . أي : الفائزون بالنجاة والثواب .

وَمَنۡ خَفَّتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَظۡلِمُونَ٩

ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون .

أي : ومن خفت موازين أعماله ، أو أعماله التي لا وزن لها ولا اعتداد بها ، وهي أعماله السيئة .

فأولئك الذين خسروا أنفسهم ، بسبب ما اقترفوا من سيئات أدت بهم إلى سوء العقاب ، فلم يعاملوا آيات الله بما تستحق من تعظيم ، فكذبوا بها وظلموا الفطرة التي فطر الله الناس عليها .

وقد اختلف العلماء في كيفية الوزن :

فقال بعضهم : إن التي توزن هي صحائف الأعمال ، التي كتبت فيها الحسنات والسيئات ؛ تأكيدا للحجة ، وإظهارا للنصفة وقطعا للمعذرة .

وقيل : إن الوزن هنا كناية عن القضاء السوي ، والعدل التام في تقدير ما يمكن به الجزاء من الأعمال ، وذكر الوزن إنما هو ضرب مثل كما تقول هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه ، أي : يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وزن .

من كلام المفسرين :

جاء في تفسير أبي السعود ما يأتي : -

( والجمهور على أن صحائف الأعمال هي التي توزن بميزان له لسان وكفتان ينظر إليه الخلائق ؛ إظهارا للمعادلة وقطعا للمعذرة ، كما يسألهم عن أعمالهم ، فتعترف بها ألسنتهم وجوارحهم ، ويشهد عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد ، وكما يثبت في صحائفهم ، فيقرءونها في موقف الحساب ، ويؤيده ما روى أن الرجل يؤتى به إلى الميزان فينشر له تسعة وتسعون سجلا مد البصر ، فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة ، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فتطيش السجلات وتثقل البطاقة .

وقيل : يوزن الأشخاص ؛ لما روى عنه عليه الصلاة والسلام : ( إنه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ) ( 28 ) .

وقيل : الوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل ، وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك ، واختاره كثير من المتأخرين : بناء على استعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريق الكناية .

وروى عن ابن عباس أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة ، وبالأعمال السيئة على صور قبيحة .

وجاء في حاشية الجمل على الجلالين ما يأتي :

فإن قلت : أليس الله تعالى يعلم مقادير أعمال العباد فما الحكمة في وزنها ؟

قلت : فيه حكم : منها : إظهار العدل ، وأن الله تعالى لا يظلم عباده ، ومنها : امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى ، ومنها : تعريف العباد بما لهم من خير أو شر ، وحسنة أو سيئة ، ومنها : إظهار علامة السعادة والشقاوة ، ونظيره أن الله سبحانه أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ، وفي صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم ، من غير جواز النسيان عليه . ا ه .

والذي علينا هو الإيمان بأن في الآخرة وزنا للأعمال ، وأنه على مقدار ما يظهر يكون الجزاء ، وأنه وزن أو ميزان يليق بما يجري في ذلك اليوم ، أما كيفية هذا الوزن وهل هو وزن للأعمال ، أو للأشخاص فمرده إلى الله ، الذي يعلم النوايا ومقدار الإخلاص والتجرد وهو نعم الحسيب المكافئ القائل في كتابه :

إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما . ( النساء : 40 ) .

وهو سبحانه القائل : وكفى بالله حسيبا . ( النساء : 6 ) .

وَلَقَدۡ مَكَّنَّـٰكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَۗ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ١٠

المفردات :

ولقد مكناكم في الأرض : أي : مكناكم من سكناها ، وزرعها ، والتصرف فيها .

التفسير :

ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون .

هذه الآية فيها بيان لنعم الله على بني آدم ؛ استمالة لقلوبهم إلى الإيمان بالله الخالق الرازق .

والمعنى : ولقد جعلنا لكم في الأرض مكانا وقرارا ، وهيئنا لكم فيها أسباب المعايش ، وأنشأنا لكم فيها أنواعا شتى من المطاعم والمشارب التي تعيشون بها عيشة راضية ، ولكن كثيرا منكم لم يقابلوا هذه النعم بالشكر ، بل قابلوها بالجحود والكفران ! .

وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ١١

المفردات :

ولقد خلقناكم ثم صورناكم : أي : خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور ؛ ثم صورناه أبدع تصوير ، بأحسن تقويم سرى إليكم .

التفسير :

ولقد خلقاكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين .

أي : ولقد خلقنا أباكم آدم من طين غير مصور ، ثم صورناه بعد ذلك وأنتم بالتبع ، وقيل : المعنى : ولقد خلقنا الأرواح أولا ، ثم صورنا الأشباح .

جاء في تفسير أبي السعود : وفي هذه الآية تذكير لنعمة عظيمة فائقة على آدم عليه السلام سارية إلى ذريته لشكرهم كافة . بالرمز إلى أن لهم حظا من خلقه وتصويره ، إذ الكل مخلوق في ضمن خلقه مصنوع على شاكلته .

أي : خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور ، ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم ساد إليكم جميعا ( 29 ) .

ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين .

أي : أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تعظيم وخضوع وتحية ، لا عبادة فامتثلوا الأمر ، وفعلوا السجود بعد الأمر ، من غير تلعثم أو تباطؤ .

إلا إبليس لم يكن من الساجدين .

أي : لكن إبليس لم يسجد وأبى السجود ؛ تكبرا .

هل كان إبليس من الملائكة ؟

للعلماء في ذلك رأيان :

أحدهما أنه كان منهم ، أو مقيما معهم فنسب إليهم .

جاء في تفسير أبي السعود : لما أنه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة متصفا بصفاتهم فغلبوا عليه في فسجدوا ثم استثنى استثناء واحد منهم ، أو لأن من الملائكة جنسا يتوالدون يقال لهم : الجن ( 20 ) .

الرأي الثاني : أن إبليس ليس من الملائكة . لقوله تعالى :

إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه . ( الكهف : 50 ) فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس ، ولأنه خلق من نار والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة .

page 152

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ١٢

المفردات :

ما منعك ألا تسجد : ما ألزمك واضطرك إلى ألا تسجد ، فالمنع مجاز عن الإلجاء والاضطرار ، والاستفهام للتوبيخ والتقريع .

التفسير :

قال ما منعك ألا تسجد . . . الآية .

أي : قال الله تعالى لإبليس : ما حملك ودعاك إلى ألا تسجد ؟ !

والسؤال لإقامة الحجة ، وللتقريع والتوبيخ ، وإلا فهو سبحانه عالم بذلك .

قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين . أي : قال إبليس أنا خير من آدم ؛ لأني مخلوق من عنصر النار الذي هو أشرف من عنصر الطين والأشراف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه ، والأعلى لا يليق به السجود للأدنى .

ولقد أورد المفسرون هنا كلاما لطيفا يفيد أن عدو الله قد أخطأ في زعمه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين .

فإن الطين من شأنه الرزانة والأناة والتثبت ، وهو محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح ، والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة .

ولهذا خان إبليس عنصره ، ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله .

جاء في تفسير أبي السعود :

ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر ، وزل عنه ما من جهة الفاعل كما أنبأ عنه قوله تعالى : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي . أي : بغير واسطة على وجه الاعتناء به .

وما من جهة الصورة كما نبه عليه بقوله تعالى : ونفخت فيه من روحي .

وما من جهة الغاية وهو ملاك الأمر فهو مؤهل للخلافة في الأرض ، وله خواص ليست لغيره ( 31 ) .

وجاء في تفسير ابن كثير :

وقول إبليس : أنا خير منه . . . إلخ من العذر الذي هو أكبر من الذنب ؛ إذ بين بأنه خير من آدم ؛ لأنه خلق من النار وآدم خلق من الطين فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم ، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ، ونفخ فيه من روحه .

وقاس قياسا فاسدا في مقابلة نص ، وهو قوله تعالى : فقعوا له ساجدين .

فشذ من بين الملائكة ؛ لترك السجود فأبعده الله عن رحمته .

وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت :

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم )( 32 ) .

قَالَ فَٱهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ١٣

المفردات :

فاهبط : أي : فانزل ، والهبوط : الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه ، أو من منزلة إلى ما دونها ، فهو إما حسي وإما معنوي .

أن تتكبر : التكبر : جعل الإنسان نفسه أكبر مما هي عليه .

من الصاغرين : أي : من الأذلاء المحقرين ، وهو جمع صاغر .

التفسير :

قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين .

أي : اهبط في السماء التي هي محل المطيعين من الملائكة ، الذين لا يعصون الله فيما أمرهم ، إلى الأرض التي هي مقر من يعصي ويطيع .

أو اهبط من الجنة بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي ، وقيل : إن الضمير يعود على روضة كانت على مرتفع في الأرض ، خلق فيها آدم .

فما يكون لك أن تتكبر فيها . فإن السماء أو إن الجنة لا تصلح لمن يستكبر ، ويعصى أم ربه مثلك .

فاخرج إنك من الصاغرين . أي : اخرج من الجنة ؛ فأنت من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه ؛ لتكبرك وغرورك .

وكل من تردى برداء الاستكبار ؛ عوقب بلبس رداء الهوان والصغار ، ومن لبس رداء التواضع ؛ رفع الله قدره .

قال تعالى : ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . . . ( الأنفال : 53 ) .

وجاء في تفسير القرآني للقرآن :

( الضمير منها يعود إلى المنزلة التي كان فيها إبليس قبل هذه المعصية والهبوط هنا : هبوط معنوي .

والمعنى : اخرج أيها الشيطان المريد من هذه النعمة التي خولتك إياها ورفعت بها منزلتك ، حتى اتخذت منها حجة على هذا العصيان لأمري ، فتأبى أن تسجد لمن دعوتك إلى السجود له . . . فما يكون لك أن تتكبر في هذه النعمة ، وتختال بها . . . وها أنت ذا قد أصبحت من الصاغرين ، قد نزع عنك ما كنت تدعيه لنفسك من منزلة تعاليت بها على هذا المخلوق الآدمي ، الذي خلق من طين . . . ! ) ( 33 ) .

قَالَ أَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ١٤

المفردات :

أنظرني : أمهلني ، يقال : أنظره إنظارا : أمهله .

التفسير :

قال أنظرني إلى يوم يبعثون .

أي : قال إبليس لله تعالى : أمهلني ولا تمتنى إلى يوم بعث آدم وذريته من القبور ، وهو وقت النفخة الثانية عند قيام الساعة .

قال تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون . ( الزمر : 68 ) .

وكأن إبليس قد طلب ألا يموت أبدا ؛ لأن يوم البعث لا موت بعده ، كما أراد بذلك أن يجد فسحة من الإغواء لبني آدم .

قَالَ إِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِينَ١٥

المفردات :

المنظرين : الممهلين المؤخرين .

التفسير :

قال إنك من المنظرين .

أي : إنك من الممهلين ، لا إلى يوم البعث ولكن إلى يوم الصعق ، قيل : الحكمة في إنظاره ؛ ابتلاء العباد ؛ ليعرف من يطيعه ممن يعصيه .

جاء في تفسير أبي السعود : ( أي : إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه الحكمة التكوينية ، إلى وقت فناء غير ما استثناه الله تعالى من الخلائق ، وهو النفخة الأولى ، لا إلى وقت البعث الذي هو المسئول ) ( 34 ) .

وقال ابن كثير : أجابه الله تعالى إلى ما سأل ، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة ، التي لا تخالف ولا تمانع ولا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب .

قَالَ فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ١٦

المفردات :

أغويتني : أي أضللتني وأوقعتني في الغواية ، وهي ضد الرشاد .

التفسير :

قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم .

أي : فبسبب إضلالك إياي – حتى تركت السجود لآدم ، فعاقبتني العقوبة المهلكة – لأترصدن لآدم وذريته على طريق الحق وسبيل النجاة ، كما يترصد قطاع الطرق السائرين فيها ، فأصدنهم عنها ، وأحاول بكل السبل إغراءهم ، وصرفهم عن صراطك المستقيم ، حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم ، ولن أتكاسل عن العمل على إفسادهم وإضلالهم .

ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَيۡمَٰنِهِمۡ وَعَن شَمَآئِلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَٰكِرِينَ١٧

ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين .

أي : سوف آتيهم من كل الجهات ، محاولا إغواءهم عن صراطك المستقيم وهو طريق الجنة ) بكل وسيلة أقدر عليها .

وقد ذكر الجهات الأربع الأصلية التي اعتاد العدو أن يهاجم عدوه منها ، وترك جهة الفوق ؛ لأن الرحمة تنزل من فوقهم .

وعن ابن عباس ( 35 ) رضي الله عنهما : من بين أيديهم من قبل الآخرة ومن خلفهم من جهة الدنيا وعن أيمانهم من جهة حسناتهم وعن شمائلهم من جهة سيئاتهم .

وقيل : من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز .

ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون .

وعن أيمانهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ، ولكن لم يفعلوا ؛ لعدم تيقظهم واحتياطهم .

وعن شمائلهم من حيث لا يتيسر لهم ذلك .

ولا تجد أكثرهم شاكرين .

أي : لن تجد أكثر البشر مطيعين مستعملين لقواهم وجوارحهم ، في طريق الطاعة والتقرب إلى الله .

وإنما قال ذلك ؛ ظنا منه بتأثير وسوسته فيهم ، وإغوائه لهم ، ورغبته في إضلالهم عن الأعمال الصالحة ، ومحاولة إفسادها .

قال تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين . ( سبأ : 20 ) .

وقد حذرنا القرآن من اتباع الشيطان فهو عدو مبين حريص على النجاح في مهمته ، ومهمته إضلال الإنسان وغوايته .

وواجب الإنسان الحذر من إضلال الشيطان والانتصار عليه .

قال تعالى : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا . ( فاطر : 6 ) .

وقال سبحانه : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون . ( الأعراف : 201 ) .

وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عبد الله ابن عمر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يترك هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي يقول :

( اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي ، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي ، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي ( 36 ) .

قَالَ ٱخۡرُجۡ مِنۡهَا مَذۡءُومٗا مَّدۡحُورٗاۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمۡ أَجۡمَعِينَ١٨

المفردات :

مذءوما : يقال : ذأمه يذأمه ذأما أي : ذمه وحقره وطرده وعابه .

مدحورا : أي : مطرودا يقال : دحره يدحره دحرا ، طرده ودحر الجند العدو أي : طردوه وأبعدوه .

لمن تبعك منهم : اللام مواطئة للقسم ، وجوابه : لأملأن جهنم .

التفسير :

قال اخرج منها مذءوما مدحورا . . . الآية .

أي : اخرج من السماء أو من الجنة مذموما مطرودا .

لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين .

في هذا قسم وإنذار من الله تعالى لمن ترك طاعة الرحمن واتبع طريق الشيطان .

والمعنى : لمن أطاعك من الجن والإنس لأملأن جهنم من كفارهم ، وقريب منه قوله تعالى : قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا . ( الإسراء : 63 ) .

وَيَـٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ فَكُلَا مِنۡ حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ١٩

التفسير :

ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين .

أي : وقلنا : يا آدم ، اسكن في الجنة سكنا أصليا ، وتسكن زوجتك معك سكنا تبعيا .

ولكما أن تأكلا أكلا هنيئا ، من جميع أشجار الجنة وثمارها .

إلا شجرة واحدة حددها الله وعينها ، ونهاهما عن الاقتراب منها بالأكل ، وبين أن الأكل منها ظلم وعدوان .

ويتعلق بتفسير هذه الآية أمور منها ما يأتي :

الجنة : هي كل بستان ذي شجر متكاثف ملتف الأغصان ، يظلل ما تحته ويستره .

ومن هذه المادة الجن ؛ لأنه مستور لا يرى ، والمجن ؛ لأنه يستر المحارب ، والجنين ؛ لأنه مستور عن العين ؛ والمجنون لأن عقله مستور محجوب ، وجن الظلام : ستر ما تحته .

2- جمهور أهل السنة على أن المراد بالجنة هنا : دار الثواب ، التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة ؛ لأن هذا هو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق .

3- جمهور أهل السنة على ان المراد بالجنة هنا : بستان بمكان مرتفع من الأرض ، خلقه الله لإسكان آدم وزوجته .

ذهب أبو حنيفة وأبو منصور الماتريدي في التأويلات إلى أن الأحوط والأسلم الكف عن تعيين المراد بالجنة وعن القطع به ، إذ ليس لهذه المسألة تأثير في العقيدة فيكفي أن يعلم المسلم أن الله أسكن آدم الجنة سواء أكان المراد بالجنة جنة الآخرة ، أم بستانا في هذه الدنيا .

قال تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة والقرب : الدنو والاقتراب من الشجرة ، والمنهى عنه هو الأكل من ثمار الشجرة والنهي عن القرب هنا قصد منه المبالغة في النهي عن الأكل ؛ إذ في النهي عن القرب من الشيء نهى عن فعله من باب أولى ، ونلمح أن القرآن عندما تحدث عن أشياء محرمة ، ذكر ذلك بصيغة التحريم مثل : حرمت عليكم الميتة والدم . . . ( المائدة : 3 ) . أو بالنهي عنها مثل : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . . . . ( الإسراء : 33 ) .

لكن عندما يكون المنهي عنه مرغوبا للنفس ، تدفع إليه الشهوة والرغبة ؛ فإنه ينهى عن الاقتراب منه مثل : ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا . ( الإسراء : 32 ) .

ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن . . . ( الإسراء : 34 ) .

يا أيها الذين آمونا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . . . . ( النساء : 43 ) .

وكقوله تعالى في هذه الآية ولا تقربا هذه الشجرة . . . . . . . . لأن في هذه الأمور رغبة نفسية أو جسدية ، فنهى القرآن عن الاقتراب منها فضلا عن فعلها ، بخلاف القتل مثلا تدفع إليه شهوة أو رغبة فقال سبحانه :

ولا تقتلوا النفس . . . وكذلك أكل الميتة قال سبحانه : حرمت عليكم الميتة . . .

فَوَسۡوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ لِيُبۡدِيَ لَهُمَا مَا وُۥرِيَ عَنۡهُمَا مِن سَوۡءَٰتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنۡ هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلَّآ أَن تَكُونَا مَلَكَيۡنِ أَوۡ تَكُونَا مِنَ ٱلۡخَٰلِدِينَ٢٠

المفردات :

فوسوس لهما : ألقى إليهما الوسوسة : يقال : وسوس له وإليه ، وهي في الأصل : الصوت الخفي المكرر ، ومنه قيل لصوت الحلى : وسوسة . وسوسة الشيطان للبشر : ما يجدونه في أنفسهم من الخواطر الرديئة التي تزين لهم ما يضرهم في أبدانهم أو أرواحهم .

ليبدي لهم : لتكون عاقبة ذلك أن يظهر لهما ما ستر عنهما من عوراتهما ، وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر .

ما وري : من المواراة وهو الستر .

سوآتهما : السوءة : العورة وسميت العورة سوأة ؛ لأن انكشافها يسوء صاحبها .

إلا أن تكونا ملكين : أي : كراهة أن تكون ملكين ، أو لئلا تكونا ملكين .

التفسير :

فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما . . . الآية .

أي : ألقى إليهما إبليس بالوسوسة والإغراء والتزيين للأكل من الشجرة حتى يسوءهما بظهور ما كان مستورا عنهما من عوراتهما .

فإنهما كانا لا يريان عورة أنفسهما ، ولا يراها أحدهما من الآخر .

ثم قد قيل : إنما بدت عوراتهما لهما لا لغيرهما .

وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين .

لقد حاول إبليس خداع آدم وحواء ، فأغواهما بالأكل من الشجرة ، وذكر لهما أنها منية النفس ، وأن الأكل منها طريق إلى الترقي من البشرية إلى الملائكية ، أو إلى الخلود في الجنة والبقاء فيها بدون موت أو طرد أو حرمان .