البحر المديد في تفسير القرآن المجيد لابن عجيبة

ابن عجيبة القرن الثالث عشر الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 1

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ١

سورة الفاتحة

مكية[1] . ولها عشرة أسماء[2] : الفاتحة[3] والوافية والكافية[4] والشافية[5] ، والسبع المثاني ؛ لأنها سبع آيات عند الشافعي منها البسملة ، وأسقطها مالك وجعل السابعة : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } [ الفاتحة : 7 ] الآية ، أو تثنى في كل صلاة ، أو لاشتمالها على الثناء على الله . وأم القرآن[6] ؛ لأنها مفتتحه ومبدؤه ، أو لأنها اشتملت على ما فيه إجمالا على ما يأتي ، وسورة الحمد والشكر ، وسورة تعليم المسألة[7] ، وسورة الصلاة لتكريرها فيها[8] ، وأساس القرآن ؛ لأنها أصله ومبدؤه ويبنى سائره عليها .

واتفقت المصاحف على افتتاحها ب { بسم الله الرحمان الرحيم ( 1 ) } [ الفاتحة : 1 ] واختلف الأئمة فيها ، فقال مالك[27] : ليست آية لا من الفاتحة ولا من غيرها إلا من النمل خاصة ، وقال الشافعي[28] : هي آية من الفاتحة فقط ، وقال ابن عباس[29] : هي آية من كل سورة .

فحجة مالك : ما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت علي سورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها ، ثم قال : { الحمد لله رب العالمين ( 2 ) } ( الفاتحة : 2 ) " [30] ولم يذكر البسملة . وكذلك ما ورد في الصحيح أيضا أن الله يقول : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين . يقول العبد : الحمد لله رب العالمين " [31] فبدأ بها دون البسملة .

وحجة الشافعي : ما ورد في الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ : { بسم الله الرحمان الرحيم ( 1 ) الحمد لله رب العالمين ( 2 ) } [ الفاتحة : 1 ، 2 ][32] . وحجة ابن عباس : ثبوت البسملة مع كل سورة في المصحف ، مع تحري الصحابة ألا يدخلوا في المصحف غير كلام الله ، وقالوا : ما بين الدفتين كلام الله[33] .

وإذا ابتدأت أول سورة بسملت إلا براءة ، وسيأتي الكلام عليها . وإذا ابتدأت جزء سورة فأنت مخير عند الجمهور . وإذا أتممت سورة وابتدأت أخرى فاختلف القراء في البسملة وتركها .

وأما حكمها في الصلاة ، فقال مالك : مكروهة في الفرض دون النفل ، وقال الشافعي : فرض تبطل الصلاة بتركها ، فيبسمل –عنده- جهرا في الجهر وسرا في السر ، عند أبي حنيفة[34] كذلك إلا أنه يسرها مطلقا ، وحجة مالك أنها ليست بآية : ما في الحديث الصحيح عن أنس[35] أنه قال : ( صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين ) لا يذكرون البسملة أصلا[36] . وحجة الشافعي أنها عنده آية : ما ورد في الحديث من قراءتها كما تقدم .

ولم تكن البسملة قبل الإسلام ، فكانوا يكتبون : باسمك اللهم ، حتى نزلت { بسم الله مجراها } [ هود : 41 ] فكتبوا { بسم الله } حتى نزل : { . . . أو ادعوا الرحمان } [ الإسراء : 110 ] فكتبوا : { بسم الله الرحمان } حتى نزل : { . . . وإنه بسم الله الرحمان الرحيم } [ النمل : 30 ] فكتبوها .

وحذفت الألف لكثرة الاستعمال ، والباء متعلقة بمحذوف ، اسم عند البصريين ، أي ابتدائي كائن بسم الله ، فموضعها رفع . وفعل عند الكوفيين ، أي : أبدأ أو أتلو . فيقدر كل واحد ما جعلت البسملة مبدأ له ، فموضعها نصب ، ويقدر مؤخرا لإفادة الحصر والاختصاص . وهو مشتق من السمو[37] عند البصريين ، فلامه محذوفة ، وعند الكوفيين من السمة[38] ، أي : العلامة ، ففاؤه محذوفة ، ودليل البصريين : التصغير والتكسير ، فقالوا : أسماء ، ولم يقولوا أوسام ، وقالوا : سمى ، ولم يقولوا : وسيم[39] .

و{ لله } علم على الذات الواجبة الوجود ، المستحق لجميع المحامد ، وهل هو مشتق أو مرتجل ؟ قولان يأتي الكلام عليهما في { الحمد لله } ؛ ، وكذلك { الرحمان الرحيم } .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 4

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢

قال الحق جل جلاله : { الحمد لله رب العالمين ( 2 ) الرحمان الرحيم ( 3 ) مالك يوم الدين ( 4 ) }

قلت : { الحمد } مبتدأ ، و{ الله } خبر ، وأصله النصب ، وقرئ به ، والأصل : أحمد الله حمداً ، وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته ، دون تجدده وحدوثه ، وفيه تعليم اللفظ مع تعريض الاستغناء . أي : الحمد لله وإن لم تحمدوه . ولو قال ( أحمد الله ) لما أفاد هذا المعنى ، وهو من المصادر التي تُنْصَب بأفعال مضمرة لا تكاد تذكر معها . والتعريف للجنس ؛ أي : للحقيقة من حيث هي ، من غير قيد شيوعها ، ومعناه : الإشارة إلى ما يَعْرِفه كل أحد أن الحمد ما هو . أو للاستغراق ؛ إذ الحمد في الحقيقة كُلُّه لله ؛ إذ ما من خير إلا وهو مُولِيهِ بواسطة وبغير واسطة . كما قال : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [ النّحل : 53 ] ، وقيل : للعهد ، والمعهودُ حمدُه تعالى نَفْسَه في أزله .

وقُرِئ { الحمد لله } بإتباع الدال للام[40] ، وبالعكس[41] ، تنزيلاً لهما من حيث إنهما يستعملان معاً منزلة كلمة واحدة .

ومعناه في اللغة : الثناءُ بالجميل على قصد التعظيم والتبجيل ، وفي العُرف : فعل يُنبئ عن تعظيم المُنعم بسبب كونه منعماً . والشكر في اللغة : فعل يُشعر بتعظيم المنعم ، فهو مرادف للحمد العرفي ، وفي العرف : صرفُ العبد جميعَ ما أنعم الله عليه من السمع والبصر إلى ما خُلِقَ لأجله وأعطاه إياه . وانظر شرحنا الكبير للفاتحة في النَّسَبِ التي بيناها نظماً ونثراً .

و{ الله } اسم مُرْتَجَلٌ جامد ، والألف واللام فيه لازمة لا للتعريف ، قال الواحدي[42] : اسم تفرِّد به الباري - سبحانه - يجري في وصفه مجرى الأسماء الأعلام ، لا يُعرف له اشتقاق[43] ، وقال الأقْلِيشي[44] : إن هذا الاسم مهما لم يكن مشتقّاً كان دليلاً على عين الذات ، دون أن يُنظر فيها إلى صفة من الصفات ، وليس باسمٍ مشتق من صفة ، كالعالِم والحق والخالق والرازق ، فالألف واللام على هذا في ( الله ) من نفس الكلمة ، كالزاي من زيد ، وذهب إلى هذا جماعة ، واختاره الغزالي[45] ، وقال : كل ما قيل في اشتقاقه فهو تعسُّف .

وقيل : مشتق من التَّأَلُّهِ وهو التعبد ، وقيل : من الوَلَهَان ، وهو الحيرة ؛ لتحيُّر العقول في شأنه . وقيل : أصله : الإلهُ ، ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى اللام ، ثم وقع الإدغام وفُخمت للتعظيم ، إلا إذا كان قبلها كسر .

و{ رب } نعت { لله } ، وهو في الأصل : مصدر بمعنى التربية ، وهو تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً ، ثم وُصف به للمبالغة كالصوم والعدل .

وقيل : هو وصفٌ من رَبِّه يَرُبُّهُ ، وأصله : رَبَبَ ثم أُدغم ، سُمي به المالكُ ؛ لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه[46] ، ولا يطلق على غيره تعالى إلا بقيد كقوله تعالى : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } [ يُوسُف : 50 ] . قال ابن جُزَيّ[47] : ومعانيه أربعة : الإله والسيد والمالك والمصلح ، وكلها تصلح في رب العالمين ، إلا أن الأرجح في معناه ، الإله ؛ لاختصاصه بالله تعالى[48] .

و{ العالمين } جمع عالَم ، والعالَمُ : اسم لما يُعْلَمُ به ، كالخاتم لما يُختم به ، والطابع لما يطبع به . غلب فيما يُعلم به الصانع . وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض ، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مُؤثِرٍ واجبٍ لذاته ، تدل على وجوده ، وإنما جُمع ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة[49] ، وغلب العقلاء منهم فجُمِعَ بالياء والنون كسائر أوصافهم ، فهو جمع[50] ، لا اسم جمع ، خلافاً لابن مالك[51] .

وقيل : اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وتناولُه لغيرهم على سبيل الاستتباع ، وقيل : عني به هنا الناس ، فإن كل واحد منهم عالَمٌ ، حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير ، ولذا سوّى بين النظر فيهما فقال : { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذّاريَات : 21 ] .

{ قلت } : وإليه يشير قول الشاعر :

يا تَائهاً في مَهْمَهٍ عَنْ سِرِّه *** انْظُرْ تجِدْ فِيكَ الوُجُودُ بأَسْره

أنْتَ الكمَالُ طَرِيقَةً وحَقِيقَةً *** يا جَامِعاً سِرَّ الإلّهِ بِأَسْرِه

يقول الحقّ جلّ جلاله : مُعلَّماً لعباده كيف يُثْنُونَ عليه ويعظمونه ثم يسألونه : يا عبادي قولوا { الحمد لله رب العالمين } أي : الثناء الجميل إنما يستحقه العظيم الجليل ، فلا يستحق الحمدَ سواه ، إذ لا منعم على الحقيقة إلا الله ، { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ }

[ النّحل : 53 ] . أو جميعُ المحامدِ كلُّها لله ، أو الحمدُ المعهودُ في الأذهان هو حمدُ الله تعالى نفسَه في أزله ، قبل أن يُوجِدَ خلقّه ، فلما أوجد خلقه قال لهم : الحمد لله ، أي : احْمَدُوني بذلك المعهود في الأزل .

وإنما استحق الحمد وحده لأنه { ربّ العالمين } ، وكأن سائلاً سأله : لم اختصصت بالحمد ؟ فقال : لأني ربُّ العالمين ، أنا أوجدتُهم برحمتي ، وأمددتهم بنعمتي ، فلا منعم غيري ، فاستحققت الحمد وحدي ، مِنِّي كان الإيجاد وعليَّ توالي الإِمْدَاد ، فأنا ربُّ العباد ، فالعوالم كلها - على تعدد أجناسها واختلاف أنواعها - في قبضتي وتحت تربيتي[52] ورعايتي .

قال بعضهم : خلق الله ثمانيةَ عَشرَ ألف عالَم ، نصفها في البر ونصفها في البحر . وقال الفخرُ الرازي[53] : رُوِيَ أن بني آدم عُشْرُ الجن ، وبنو آدم والجنُ عُشْرُ حيوانات البر ، وهؤلاء كلُّهم عشر الطيور ، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحار ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ببني آدم ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الثانية ، ثم على هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ، ثم الكلُّ في مقابلة الكرسي نَزْرٌ قليل ، ثم هؤلاء عشر ملائكة السُّرَادِق[54] الواحد من سُرادقات العرش ، التي عددُها : مائةُ ألف ، طول كل سرادق وعرضُه - إذا قُوبلتْ به السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما - يكون شيئاً يسيراً ونَزْراً قليلاً . وما من موضع شِبْرٍ ، إلا وفيه مَلَكٌ ساجد أو راكع أو قائم ، وله زَجَل[55] بالتسبيح والتهليل . ثم هؤلاء كلهم في مقابلة الذين يَجُولُون حول العرش كالقطرة في البحر ، ولا يَعلم عددّهم إلا الله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدَّثِّر : 31 ] . ه .

وقال وَهْبُ بن مُنّبِّه[56] : ( قائمُ العرش ثلاثُمائةٍ وست وستون قائمة ، وبين كل قائمة وقائمة ستون ألف صحراء ، وفي كل صحراء ستون ألف عالم ، وكل عالم قَدْرُ الثقلين ) .

فهذه العوالم كلها في قبضة الحق وتحت تربيته وحفظه ، يوصل المدد إلى كل واحد وهو في مستقرِّه ومستودعه ، إما إلى روحانيته من قوة العلوم والمعارف ، وإما إلى بشريته من قوة الأشباح ، من العرش[57] إلى الفرش[58] ، كلها مقدَّرة أرزاقها محصورة آجالُها ، محفوظة أشباحُها ، معلومات أماكنها ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 4

ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ٣

و{ الرحمن الرحيم } اسمان بُنيا للمبالغة ، من رَحِمَ ، كالغضبان من غضب ، والعليم من علم ، والرحمة في اللغة ، رَقَّةُ القلب[59] ، وانعطافٌ يقتضي التفضل والإحسان ، ومنه الرَّحِم[60] ؛ لانعطافها على ما فيها . وأسماء الله تعالى إنما تُؤخذ باعتبار الغايات ، التي هي أفعال[61] ، دون المبادئ التي هي انفعالات ، و{ الرحمان } أبلغ من { الرحيم } ؛ لأن زيادةَ المبنى تدل على زيادة المعنى[62] ، كقَطَّعَ وقَطَعَ ، وذلك إنما يُؤخذ تارة باعتبار الكمية ، وأخرى باعتباره الكيفية .

فعلى الأول : قيل : يا رحمانَ الدنيا ؛ لأنه يَعُمُّ المؤمنَ والكافر ، ورحيمَ الآخرة ؛ لأنه يختص بالمؤمن ، وعلى الثاني قيل : يا رحمان الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا ؛ لأن النعم الأخروية كلها جِسَام ، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة .

وإنما قدّم { الرحمان } - والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى - لتقدُّم رحمة الدنيا ، ولأنه صار كالعَلَم من حيث إنه لا يوصف به غيره ، لأن معناه المنعم الحقيقي البالغُ في الرحمة غايتَها ، وذلك لا يصدُق على غيره تعالى . انظر البيضاوي[63] . وسيأتي الكلام عليهما في المعنى .

ثم هذه التربية التي ربى سبحانه بها خلقه إنما هي رحمة منه وإحسان ، لا لزوم عليه وإيجاب ، ولذلك وصلَه بقوله : { الرحمان الرحيم } ، أي : الرحمان بنعمة الإيجاد ، الرحيم بنعمة الإمداد . " نعمتان ما خلا موجود عنهما ، ولا بد لكل مُكَوَّنَ منهما : نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ، أنعم أولاً بالإيجاد ، وثنى بتوالي الإمداد " . كما في ( الحِكَم ) [64] . فاسمُه { الرحمان } يقتضي إيجادَ الأشياء وإبرازها ، واسمه { الرحيم } يقتضي تربيتَها وإمدادها . ولذلك لا يجوز إطلاق اسم { الرحمان } على أحد ، ولم يَتَسَمَّ أحد به[65] ؛ إذ الإيجاد لا يصح من غيره تعالى ، بخلاف اسمه { الرحيم } فيجوز إطلاقه على غيره تعالى ؛ لمشاركة صدور الإمداد في الظاهر من بعض المخلوقات مجازاً وعاريةً[66] .

أو : الرحمان في الدنيا والآخرة ، والرحيم في الآخرة : لأن رحمة الآخرة خاصة بالمؤمنين . أو الرحمان بجلائل النعم والرحيم بدقائقها ، فجلائل النعم مثل : نعمة الإسلام والإيمان والإحسان ، والمعرفة والهداية ، وكشف الحجاب وفتح الباب والدخول مع الأحباب ، ودقائقُ النعم مثل : الصحة والعافية والمال الحلال ، وغير ذلك مما يأتي ذكره في المُنْعَم عليهم .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 4

مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ٤

و{ مَلِك } نِعت لما قبله ، قراءةُ الجماعة بغير ألف من ( المُلك ) بالضم ، وقرأ عاصم[67] والكسائي[68] بالألف ، من ( المِلك ) بالكسر ، والتقدير على هذا : مالك مجيء يوم الدين ، أو مالك الأمر يوم الدين . وقراءةُ الجماعة أرجح[69] ، لثلاثة أوجه : الأول : أن الملك أعظم من مالك ، إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله ، وأما المَلِكُ فهو سيد الناس ، والثاني : قوله : { وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ } [ الأنعَام : 73 ] ، والثالث : أنها لا تقتضي حذفاً ، والحذف خلاف الأصل[70] .

و{ يوم الدين } ظرف مضاف إلى ما قبله على طريق الاتساع ، وأُجري الظرف مجرى المفعول به ، والمعنى على الظرفية ، أي : الملك في يوم الدين ، أو ملك الأمر يوم الدين ، فيكون فيه حذف . وقد رُويت القراءتان - أي : القصر والمد - عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .

وقد قرئ { ملك } بوجوه كثيرة تركنا ذكرها لشذوذها . فإن قيل : ملك ومالك نكرة ؛ لأن إضافة اسم الفاعل لا تُخصص ، وكيف يُنعت به { الرحمان الرحيم } وهما معرفتان ؟ قلت : إنما تكون إضافةُ اسم الفاعل لا تخصص إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ؛ لأنها حينئذٍ غيرُ مَحْضَةٍ ، وأما هذا فهو مستمر دائماً ، فإضافته محضة . قاله ابن جُزَيّ .

ثم من تحقق منه الإيجادُ والإمداد استحق أن يكون ملكاً لجميع العباد ، ولذلك ذكرَهِ بِأَثَره فقال : { ملك يوم الدين } أي : المتصرف في عباده كيف شاء ، لا رادّ لما قضى ولا مانع لما أعطى ، فهو ملكُ الملوك رب الأرباب في هذه الدار وفي تلك الدار .

وإنما خصّ يوم الدين - وهو يوم الجزاء - بالملكية ؛ لأن ذلك اليوم يظهرُ فيه المُلْكُ لله عيَاناً لجميع الخلق ، فإن الله تعالى يتجلّى لفصل عباده[71] ، حتى يراه المؤمنون عياناً ، بخلاف الدنيا فإن تصرفه تعالى لا يفهمه إلا الكَمَلَةُ من المؤمنين ، ولذلك ادَّعى كثير من الجهلة الملكَ ونسبوه لأنفسهم . ويوم القيامة ينفرد الملك لله عند الخاص والعام ، قال تعالى : { لِّمَنِ الْمَلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْقَهَّارِ } [ غَافر : 16 ] .

{ الإشارة }[0] لما تلجَّى الحق سبحانه من عالَم الجبروت إلى عالم الملكوت ، أو تقول : من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، حمد نفسه بنفسه ، ومجَّد نفسه بنفسه ، ووحَّد نفسه بنفسه ، ولله دَرُّ الهَرَوِيّ ، حيث قال[1] :

ما وَحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحِدِ *** إذ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ

توحيدُ مَنْ ينطقُ عن نَعْتِهِ *** عاريةُ أَبْطَلَهَا الواحِدُ

توحيدُه إياه توحيدُه *** ونعتُ من يَنْعَتُه لاَحِدُ

فقال في توحيد نفسه بنفسه مترجماً عن نفسه بنفسه : { الحمد لله رب العالمين } ، فكأنه يقول في عنوان كتابه وسر خطابه : أنا الحامد والمحمود ، وأنا القائم بكل موجود ، أنا رب الأرباب ، وأنا مسبب الأسباب لمن فهم الخطاب ، أنا رب العالمين ، أنا قيوم السموات والأرَضين ، بل أنا المتوحِّدُ في وجودي ، والمتجلِّي لعبادي بكرمي وجودي ، فالعوالم كلها ثابتة بإثباتي ، مَمْحُوَّةٌ بأحدية ذاتي .

قال رجل بين يدي الجنيد[2] : { الحمد لله } ولم يقل : { رب العالمين } ، فقال له الجنيد : كَمِّلْهَا يا أخي ، فقال الرجل : وأيّ قَدْر للعالمين حتى تُذكر معه ؟ ! فقال الجنيد : قُلها يا أخي ؛ فإن الحادث إذا قُرن بالقديم تلاشى الحادُ وبقي القديم .

يقول سبحانه : يا مَن هو مني قريب ، تَدبر سِرِّي فإنه غريب ، أنا المحبُ ، وأنا الحبيب ، وأنا القريب ، وأنا المجيب ، أنا الرحيم الرحمان ، وأنا الملك الديّان ، أنا الرحمان بنعمة الإيجاد ، والرحيمُ بتوالي الإمداد . منِّي كان الإيجاد ، وعليَّ دوام الإمداد ، وأنا رب العباد ، أنا الملك الديَّان ، وأنا المجازي بالإحسان على الإحسان ، أنا الملك على الإطلاق ، لولا جهالة أهل العناد والشقاق ، الأمر لنا على الدوام ، لمن فهم عنا من الأنام " .

قال في الرسائل الكبرى[3] : لا عبرة بظواهر الأشياء ، وإنما العبرة بالسر المكنون ، وليس ذلك إلا بظهور أمر الحق وارتفاع غَطَائه وزوال أستاره وخفائه ، فإذا تحقق ذلك التجلّي والظهور ، واستولى على الأشياء الفناءُ والدُّثُور ، وانقشعت الظلمات بإشراق النور ، فهناك يبدو عينُ ويَحِقُّ الحق المبين ، وعند ذلك تبطل دعوى المدعين ، كما يفهم العامة بطلان ذلك في يوم الدين ، حين يكون الملك لله رب العالمين ، وليت شعري أيُّ وقت كان الملكُ لسواه حتى يقع التقييد بقوله : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الحَجّ : 56 ] ، وقوله : { وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفِطار : 19 ] ؟ ! لولا الدعاوَى العريضة من القلوب المريضة . هـ .

إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ٥

ثم تنزل لبيان العبودية : { إياك نعبد وإياك نستعين( 5 ) }

قلت : { إياك } مفعول { نعبد } ، وقُدِّم للتعظيم والاهتمام به ، والدلالِ على الحصر ، ولذلك قال ابن عباس : ( نعبُدك ولا نعبد معك غيرَك ) ، ولتقديم ما هو مقدَّمٌ في الوجود وهو الملك المعبود ، وللتنبيه على أن العابدَ ينبغي أن يكون نظرُه إلى المعبود أولاً وبالذات ، ومنه إلى العبادة ، لا من حيث إنها عبادةٌ صدَرتْ عنه ، بل من حيث إنها نِسْبَةٌ شريفة إليه ، وَوُصْلَةٌ بينه وبين الحق ، فإن العارف إنما يَحِقُّ وصوله إذا استغفر في ملاحظة جناب القدس ، وغاب عما عداه ، حتى إنه لا يلاحظ نفسَه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث إنها تَجَلٍّ من تجلياته ومظهرٌ لربوبيته ، ولذلك فُضِّلَ ما حكى اللَّهُ عن حبيبه حين قال : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [ التّوبَة : 40 ] ، على ما حكاه عن كليمه حيث قال : { إِنَّ مَعِيَ رَبِّى سَيَهْدِينِ } [ الشُّعَرَاء : 62 ] ، أي : حيث صرّح بمطلوبه ، و{ إياك } مفعول { نستعين } وقدّم أيضاً للاختصاص والاهتمام ، كما تقدم في { إياك نعبد } . وكرّر الضمير ولم يقل : إياك نعبد ونستعين ؛ لأن إظهارَه أبلغ في إظهار الاعتماد على الله ، وأقطعُ في إحضار التعلق بالله والإقبال على الله وأمدحُ ، ألا ترى أن قولك : بك أنتصر وبك أحتمي وبك أنال مطالبي - أبلغ وأمدح من قولك : بك أنتصر وأحتمي . . . الخ ؟

وَقَدَّمَ العبادة على الاستعانة ليتوافقَ رؤوسُ الآي ، وليُعلمَ منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أَدْعَى إلى الإجابة ، فإن مَنْ تَلبَّس بخدمة الملك وشرع فيها بحسب وُسْعَه ، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه ، بخلاف من كلّفه الملكُ بخدمته ، فقال : أعطني ما يعينُني عليها ، فهو سوء أدب ، وأيضاً : من استحضر الأوصافَ العِظام ما أمكنه إلا المسارعةُ إلى الخضوع والعبادة ، وأيضاً : لمّا نسبَ المتكلمُ العبادةَ إلى نفسه أوْهَمَ ذلك تبجحاً واعتداداً منه بما يصدُر عنه فعقَّبه بقوله : { وإياك نستعين } ، دفعاً لذلك التوهم .

والعبادة : أقصى غاية الخضوع والتذلل ، ومنه طريق مُعَبَّدٌ ، أي : مُذَلل ، والاستعانة ، طلب المعونة ، والمراد طلب المعونة في المُهمات كُلِّها ، أو في أداء العبادات[72] .

والضمير المستتر في الفعلين[73] للقارئ ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة ، أو له ولسائر الموجودين . أدْرَجَ عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تُقبل ببركتها ويُجاب إليها ، ولهذا شرعت الجماعة . قاله البيضاوي[74] .

يقول الحقّ جلّ جلاله ، تتميماً لتعليم عباده : فإذا أثنيتمُ عليَّ ومجدتموني وعظمتموني فأقِرُّوا لي بالربوبية ، وأظهروا من أنفسكم العبودية ، واطلبوا مني العون في كل وقت وقولوا : { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وكأنه - جلّ جلاله - لَمّا ذكر أنه مستحق للمحامد كلها قديمها وحديثها ؛ لأنه رب العوالِم وقيومها ، أصل الأصول وفروعها ، أنعم عليها أولاً بالإيجاد ، وثانياً بتوالي الإمداد ، فهو مالكها على الإطلاق ، ذكر أنه لا يستحق أن يُعبد سواه ؛ إذ لا مُنعمَ على الحقيقة إلا الله ، فهو أحقُّ أن يُعبد ، وأولى أن يفرد بالوجهة والقصد ، لأنه مُسْتَبِدٌ وغير مُسْتَمدّ ، والمادة من عَيْنِ الجود ، فإذا انقطعت المادة انعدم الوجود .

قال البيضاوي : ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، ووصف بصفات عظام تميَّز بها عن سائر الذوات ، تعلَّق العلمُ بمعلوم معين ، خوطب بذلك ، أي : يا من هذا شأنه نخصُّك بالعبادة والاستعانة ، لكون أدلّ على الاختصاص ، وللترقي من الغَيْبة إلى الشهود ، وكأن المعلومَ صار عياناً ، والمعقولَ مُشاهَداً ، والغيبة حضوراً ، بَنَى أول الكلام على ما هو مبادئ حالِ العارفِ ؛ من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه ، والنظر في آلائه ، والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه ، ثم قفَّى بما هو منتهى أمرِه ، وهو أن يخوض لُجَّةَ الوصول ، ويصير من أهل المشاهدة ، فيراه عياناً ويناجيه شِفاها ، اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون التابعين للأثر . ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول عن أسلوبٍ إلى آخر ، تَطْريَةً وتنشيطاً للسامع ، فَتَعْدِل من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم ، كقوله : { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ . . . } [ يُونس : 22 ] ، ولم يقل ( بكم ) وقوله : { أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ . . . } [ فَاطِر : 9 ] ، أي : ولم يقل : فساقه . . . انظر تمام كلامه[75] .

والالتفات هذا في قوله : { إياك نعبد } ولم يقل : إياه نعبد ؛ لأن الظاهر من قبل الغيبة ، وحسنه أن الموصوف تعيَّن وصار حاضراً .

قال الأقليشي[76] : فهذه الآية هي التي قال فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم : " فإذا قال العبد : إياك نعبد وإياك نستعين ، يقول الله تعالى : هذه بيني وبين عَبْدِي ولعَبْدِيَ مَا سَأَلَ[77] " . معناه : أيُّ عبد توجَّه إليَّ بالعبادة وسألني العون عليها فعبادته متقبلة ، والعون مني له عليها حاصل حتى يُوقعها على وجهها ، فالعبادة وصف العبد ، والعون من الله تعالى للعبد ، فلهذا قال : " فهذه بيني وبين عبدي " .

قال ابن جُزَي[78] : أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا ، وفي هذا دليل على بطلان قول القدَرية والجبرية ، وأنَّ الحق بين ذلك .

{ الإشارة } : لمّا تجلّى الحقّ جلّ جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت ، وحَمِدَ نفسه بنفسه ، تجلّى أيضاً وتنزَّل من عالم الملكوت إلى عالم المُلك بقدرته وحكمته ؛ لإظهار آثار أسمائه وصفاته ، فأظهر العبودية وأخفى الربوبية ، أظهر الحكمة وأبطن القدرة ، فجعلَ عالَم الحكمة يخاطبُ عالمَ القدرة ، ويخضع له ، ويتعبّد ويستمد ، منه الإعانة والهداية ، ويتحرز من طريق الضلالة والغواية .

فعالَمً الحكمة محلُّ التكليف ، وعالم القدرة محل التصريف ، عالم الحكمة عالم الأشباح ، وعالم القدرة عالم الأرواح ، فإياك نعبد لأهل عالم الحكمة ، وإياك نستعين لأهل عالم القدرة ، ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي[79] رضي الله عنه : { إياك نعبد } شريعة ، و{ إياك نستعين } حقيقة ، و{ إياك نعبد } إسلاماً ، و{ إياك نستعين } إحساناً ، { إياك نعبد } عبادة ، و{ إياك نستعين } عبودية ، { إياك نعبد } فَرْقٌ ، { إياك نستعين } جَمْعٌ[80] .

وإن شئت قلت : { إياك نعبد } لأهل العمل لله وهم المخلصون ، و{ إياك نستعين } لأهل العمل بالله وهم الموحِّدون ، العمل لله يوجب المثوبة ، والعمل بالله يوجب القُرْبَة ، العمل لله يوجب تحقيق العبادة ، والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة ، العمل لله نعتُ كُلِّ عابد ، والعمل بالله نعت كل قاصد ، العمل لله قيامٌ بأحكام الظواهر ، والعمل بالله قيام بإصلاح الضمائر ، قاله القشيري[81] .

ثم إنَّ الناسَ في شهود القدرة والحكمة على ثلاثة أقسام : قسم حُجبوا بالحكمة عن شهود القدرة ، وهم أهل الحجاب من أهل الغفلة ، وقفوا مع قوله : { إياك نعبد } ، وقسم حُجبوا بشهود القدرة عن الحكمة ، وهم أهل الفناء ، وقفوا مع قوله : { إياك نستعين } ، وقسم لم يحجبوا بالحكمة عن القدرة ولا بالقدرة عن الحكمة ، أَعْطَوا كُلَّ ذي حق حقَّه وَوَفَّوْا كل ذي قسط قسطه ، وهم أهل الكمال من أهل البقاء ، جمعوا بين قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وبالله التوفيق .

ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ٦

ثم بين المقصود الأعظم وما هو المطلوب الأهم ، وهو طلب الهداية والتوفيق إلى عين التحقيق ، فقال : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ( 6 ) }

قلت : الهدايةُ في الأصل : الدلالة بلطف ، ولذلك تُستعمل في الخير ، وقوله : { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [ الصَّافات : 23 ] على التهكم ، والفعل منه ( هَدَى ) بالفتح ، وأصله أن يُعدى باللام[82] ، أو " إلى[83] " ، فَعومل هنا معاملة : { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ } [ الأعرَاف : 155 ] . والصراط لغة : الطريق[84] ، مشتق من سَرَط الطعامَ إذا ابتلعه ، فكأنها تبتلع السابلةَ ؛ أي المارَّة به ، وَقُلِبَتْ السين صاداً لتطابق الطاء في الإطباق ، وقد تُشَمُّ زاياً لقرب المَخرج[85] ، و { المستقيم } : الذي لا عوج فيه ، والمراد به طريق الحق المُوصَّلة إلى الله .

يقول الحقّ جلّ جلاله : مُعلماً لعباده كيف يطلبونه ، وما ينبغي لهم أن يطلبوا ، أي : قُولوا { اهدنا } أي : أَرشِدْنا إلى الطريق المستقيم ، الموصلة إلى حضرة النعيم ، والطريقُ المستقيم هو السيرُ على الشريعة المحمدية في الظاهر ، والتبرِّي من الحول والقوة في الباطن ، أو تقول : هو أن يكون ظاهرُك شريعةً وباطنك حقيقة ، ظاهرك عبودية وباطنك حرية ، الفرق على ظاهرك موجود والجمع في باطنك مشهود ، وفي الحكم[86] : " متى جَعَلَك في الظاهر ممتثلاً لأمره وفي الباطن مستسلماً لقهره[87] ، فقد أعظم المِنَّة عليك[88] " .

فالصراط المستقيم الذي أمرَنَا الحقُّ بطلبه هو : الجمع بين الشريعة والحقيقة[89] ، والمفهوم من قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفَاتِحَة : 5 ] ، ولذلك وصلَه به ، فكأن الحق - سبحانه - يقول : يا عبادي احمدوني ومجدوني وأفردوني بالقصد وخُصُّوني بالعبادة ، وكونوا في ظاهركم مشتغلين بعبادتي ، وفي باطنكم مستعينين بحولي وقوتي ، أو كونوا في ظاهركم متأدبين بخدمتي ، وفي باطنكم مشاهدين لقدرتي وعظمة ربوبيتي .

وقال سيّدنا عليّ[90] - كَرَّمَ الله وجهه - : ( الصراط المستقيم هنا القرآن ) [91] . وقال جابر رضي الله عنه[92] : ( هو الإسلام ) [93] يعني الحنيفية السمحاء وقال سهل بن عبد الله[94] : ( هو طريق محمد صلى الله عليه وسلم ) . يعني اتباعَ ما جاء به . وحاصله ما تقدم من إصلاح الظاهر بالشريعة والباطن بالحقيقة ، فهذا هو الطريق المستقيم الذي من سلطه كان من الواصلين المقربين مع النبيين والصدِّيقين .

فإن قلت : إذا كان العبدُ ذاهباً على هذا المنهاج المستقيم ، فكيف يطلب ما هو حاصل ؟ فالجواب : أنه طلب التثبيت على ما هو حاصل ، والإرشاد إلى ما هو ليس بحاصل ، فأهل مقام الإسلام يطلبون الثبات على الإسلام ، الذي هو حاصل ، والترقي إلى مقام الإيمان الذي ليس بحاصل ، على طريق الصوفية ، الذين يخصون العمل الظاهر بمقام الإسلام ، والعمل الباطن بمقام الإيمان ، وأهلُ الإيمان يطلبون الثبات على الإيمان الذي هو حاصل ، والترقي إلى مقام الإحسان الذي ليس بحاصل ، وأهل مقام الإحسان يطلبون الثبات على الإحسان ، والترقي إلى ما لا نهاية له من كشوفات العرفان

{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَليمٌ } [ يُوسُف : 76 ] .

وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : { اهدنا الصراط المستقيم } بالتثبيت فيما هو حاصل ، والإرشاد فيما ليس بحاصل ، ثم قال : عمومُ المؤمنين يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } أي : بالتثبيت فيما هو حاصل ، والإرشاد لما ليس بحاصل ، فإنه حصل لهم التوحيد وفاتَهُم درجات الصالحين ، والصالحون يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } معناه : نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حصل لهم الصلاح وفاتهم درجات الشهداء ، والشهداءُ يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } أي بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حصلت لهم الشهادة وفاتهم درجات الصديقين ، والصديقون يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } أي : بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنهم حَصل لهم درجات الصديقين وفاتهم درجات القطب[95] ، والقطبُ يقول : { اهدنا الصراط المستقيم } بالتثبت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ما ليس بحاصل ، فإنه حصل له رتبة القطبانية ، وفاته علم ما إذا شاء الله أن يطلعه عليه أطلعه . ه .

وقال بعضهم : الهدايةُ إما للعين وإما للأثرِ الدالَّ على العين ، ولا نهاية للأولى ، قلت : فالأولى لأهل الشهود والعِيان ، والثانية لأهل الدليل والبرهان ، فالهداية للعين هي الدلالةُ على الله . والهداية للأثر هي الدلالة على العمل ، " مَنْ دَلَّكَ على الله فقد نصحك ، ومن دلَّك على العمل فقد أتعبك " . وإنما كانت الأولى لا نهاية لها ؛ لأن الترقي بعد المعرفة لا نهاية له . بخلاف الدلالة على الأثر فنهايتها الوصول إلى العين ، إن كان الدالُّ عارفاً بالطريق .

قال البيضاوي : وهداية الله تتنوَّعُ أنواعاً لا يحصيها عد { وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحصُوهَآ } [ إبراهيم : 34 ] لكنها تنحصر في أجناس مترتبة :

الأول : إِفاضَةُ القُوَى التي بها يتمكنُ المرء من الاهتداء إلى مصالحه ، كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة .

الثاني : نَصْبُ الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد ، وإليه الإشارة بقوله : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البَلَد : 10 ] ، وقال : { فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى }

[ فُصّلَت : 17 ] .

الثالث : الهدايةُ بإرسال الرسل وإنزال الكُتُب ، وإياها عني بقوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [ الأنبيَاء : 73 ] ، وقوله : { إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }

[ الإسرَاء : 9 ] .

الرابع : أن يكشف عن قلوبهم السرائر ويُرِيَهُمْ الأشياءَ كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة . وهذا يختص بِنَيْله الأنبياءُ والأولياءُ ، وإياه عني بقوله : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] ، { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العَنكبوت : 69 ] .

فالمطلوب : إما زيادةُ ما مُنحوه من الهدى والثباتُ عليه ، أو حصولُ المراتب المترتبة عليه ، فإذا قال العارفُ الواصل عَنَى بقوله : أرشدنا طريق السير فيك ، لتمحُوَ عنا ظلماتِ أحوالنا ، وتُمِيطَ غواشِيَ أبداننا ، لنستضيء بنور قدسك فنراكَ بنورك . ه .

قلت : قوله الرابع . . . الخ ، في عبارته قَلَقٌ واختصار ، والصواب أن يقول : الرابعُ - أن يكشف عن قلوبهم الظُّلَمَ والأغيار ، ويُشرق عليها الأنوار والأسرار ، ويُريهم الأشياء كما هي بالوحي والإلهام ، وباستعمال الفكرة في عظمةِ الملك العلاَّم ، حتى تستولي أنوارُ المعاني على حِسِّ الأواني ، ثم يقول : وهذا قسم يختصّ بنيله الأنبياء والأولياء .

وقوله : فإذا قال العارف . . . الخ ، الصواب أن يقول : فإذا قاله المريد السائر ؛ لأن الواصل انمحت عنه الظلماتُ كلها والغواشي وسائرُ الأكدار ؛ لأن الله تعالى غطَّى وصفه بوصفه ونعته بنعته ، فلم يَبْقَ له وصفٌ ظُلماني . وأيضاً قوله : [ أرشدنا إلى طريق السير ] إنما يناسب السائر دون الواصل ؛ لأن الواصل ما بَقِيَ له إلا الترقي ، ولا يُسمى في اصطلاح الصوفية [ السير ] إلا قبلَ الوصول . والله تعالى أعلم .

صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ٧

ثم فسر الطريق المستقيم ، فقال : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ }

قلت : { صراط } بدل من الأول - بدل الكل من الكل - وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة ، وفائدته : التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة ، على آكد وجه وأبلغه ؛ لأنه جعله كالتفسير والبيان له ، فكأنه من البيِّن الذي لا خفاء فيه ، وأن الصراط المستقيم ما يكون طريق المؤمنين ، و{ غير المغضوب عليهم } بدل من { الذين } على معنى أن المُنْعَمَ عليهم هم الذي سَلِمُوا من الغضب والضلال . أو صفة له مُبيَّنة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة ، وهي نعمة الإيمان ، وبين السلامة من الغضب والضلال ، وذلك إنما يصح بأحد تأويلين : إجراء الموصول مجرى النكرة ، إذ لم يُقصد به معهود كالمعرَّف في قوله :

ولَقَد أَمُرُ علُى اللئيم يَسُبنّي[96] *** . . .

أو يُجعل { غير } مَعْرِفةً ؛ لأنه أُضيف إلى مآلَهُ ضدٍّ واحد ، وهو المنعمُ عليه ، فيتعينُ تَعيُّن الحركة غير السكون ، وإلا لزِم عليه نعت المعرفة بالنكرة . فتأملْهُ .

والغضبُ : ثَوَرانُ النفس إرادةَ الانتقام ، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد غايته وهو العقوبة ، و{ عليهم } نائب فاعل : و{ لا } مَزيدة لتأكيد ما في { غير } من معنى النفي ، فكأنه قال : ولا المغضوب عليهم ولا الضالين ، وقرأ عمرُ رضي الله عنه[97] : { وغير الضالين }[98] ، والضلال : والعدول عن الطريق السوي عمداً أو خطأً[99] ، وله عرض عَريضٌ والتفاوت بين أدناه وأقصاه كبير . قاله البيضاوي[100] .

وإنما أَسند النعمة إلى الله والغضبَ إلى المجهول تعليماً للأدب ، { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ . . . } [ النِّساء : 79 ] الآية .

يقول الحقّ جلّ جلاله : في تفسير الطريق المستقيم : هو طريق الذين أنعمتُ عليهم بالهداية والاستقامة ، والمعرفة العامة والخاصة ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، والمُنعَم عليهم في الآية مطلق ، يصدق كل منعَم عليه بالمعرفة والاستقامة في دينه ، كالصحابة وأضرابِهِمْ ، وقيل : المراد بهم أصحاب سيدنا موسى عليه السلام قبل التحريف . وقيل : أصحاب سيدنا عيسى قبل التغيير . والتحقيق أنه عام .

قال البيضاوي[101] : ونِعَمُ الله وإن كانت لا تُحصى كما قال الله : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ } [ إبراهيم : 34 ] تنحصر في جنسين : دنيوي وأخروي .

فالأول : وهو الدنيوي - قسمان : موهبي وكَسْبِي ، والموهبي قسمان : رُوحاني ، كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوي ، كالفهم والفكر والنطق ، وجسماني : كتخليق البدن بالقوة الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء . والكسبي : كتزكية النفس عن الرذائل ، وتحليتها بالأخلاق الحسنة والملكات الفاضلة ، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحُلي المستحسنة ، وحصول الجاه والمال .

والثاني : وهو الأُخروي : أن يغفر له ما فَرَطَ منه ويرضى عنه ويُبوأهُ في أعلى علِّيين ، مع الملائكة المقربين أبد الآبدين ، والمراد القسمُ الأخير ، وما يكون وُصْلة إلى نيله من القسم الأول ، وأما ما عدا ذلك فيشترك فيه المؤمن والكافر . ه .

قال ابن جُزَيّ : النعم التي يقع عليها الشكر ثلاثة أقسام ، دنيوية : كالصحة والعافية والمال الحلال . ودينية : كالعلم والتقوى والمعرفة . وأخرويةٌ : كالثواب على العمل القليل بالعطاء الجزيل : وقال أيضاً : والناس في الشكر على مقامين : منهم مَن يشكر على النعم الواصلة إليه ، الخاصة به ، ومنهم مَن يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم . والشكر على ثلاث درجات : فدرجة العوام ، الشكر على النعم ، ودرجة الخواص : الشكر على النعم والنقم وعلى كل حال ، ودرجة خواص الخواص : أن يغيب عن رؤية النعمة بمشاهدة المُنعم . قال رجل لإبراهيم بن أدهَمَ رضي الله عنه[102] : الفقراء إذا أُعْطُوا شَكَرُوا وإذا مُنعوا صَبَروا ، فقال إبراهيم : هذه أخلاقُ الكلاب ، ولكن القومَ إذا مُنِعوا شكروا وإذا أُعْطُوا آثروا . ه . [103]

ثم احترس من الطريق غير المستقيمة ، فقال : { غير المغضوب عليهم } أي : غير طريق الذين غضبت عليهم ، فلا تهدنا إليها ولا تسلك بنا سبيلها ، بل سلَّمنَا من مواردها . والمراد بهم : اليهود ، كذا فسرها النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويَصْدُقُ بحسب العموم على كل من غضب الله عليهم ، { ولا الضالين } أي : ولا طريق الضالين ، أي : التالفين عن الحق ، وهم النصارى كما قال صلى الله عليه وسلم[104] . والتفسيران مأخوذان من كتاب الله تعالى . قال تعالى في شأن اليهود :

{ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ }

[ البَقَرَة : 90 ] [105] ، وقال في حق النصارى :

{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ }

[ المَائدة : 77 } .

واعلم أن الحق - سبحانه - قسم خلقه على ثلاثة أقسام : قسم أعدَّهم للكرم والإحسان ، ليُظْهِرَ فيهم اسم الكريم أو الرحيم ، وهو المنعم عليه بالإيمان والاستقامة . وقسم أعدَّهم للانتقام والغضب ، ليُظهر فيهم اسمه المنتقم أو القهار ، وهم المغضوب وعليهم والضالون عن طريق الحق عقلاً أو عملاً ، وهم الكفار ، وقسم أعدَّهم الله للحِلْم والعفو ، ليُظهر فيهم اسمه تعالى الحليم والعفو ، وهم أهل العصيان من المؤمنين .

فمن رَامَ أن يكونَ الوجودُ خالياً من هذه الأقسام الثلاثة ، وأن يكون الناس كلهم سواء في الهداية أو ضدها ، فهو جاهل بالله وبأسمائه ؛ إذ لا بد من ظهور آثار أسمائه في هذا الآدمي ، من كرم وقهرية وحِلْم وغير ذلك . والله تعالى أعلم .

الإشارة : الطريق المستقيم التي أمرنا الحق بطلبها هي : طريق الوصول إلى الحضرة ، التي هي العلم بالله على نعت الشهود والعيان ، وهو مقام التوحيد الخاص[106] ، الذي هو أعلى درجات أهل التوحيد ، وليس فوقه إلا مقامُ توحيد الأنبياء والرسل[107] ، ولا بد فيه من تربية على يد شيخ كامل عارف بطريق السير ، قد سلك المقامات ذوقاً وكشفاً ، وحاز مقام الفناء والبقاء[108] ، وجمع بين الجذب[109] والسلوك ؛ لأن الطريق عويص ، قليلٌ خُطَّارُهُ ، كثيرٌ قُطَّاعُه ، وشيطانُ هذا الطريق فَقِيهٌ بمقاماته ونوازِله ، فلا بد فيه من دليل ، وإلا ضلّ سالكها عن سواء السبيل ، وإلا هذا المعنى أشار ابن البنا[110] ، حيث قال :

وَإِنَّمَا القَوْمُ مُسَافِرُونَ *** لِحَضْرَةِ الْحَقِّ وَظَاعِنُونَ

فَافْتَقَرُوا فِيهِ إلَى دَلِيل *** ذِي بَصَرٍ بالسَّيْرِ وَالْمَقِيلِ

قَدْ سَلَكَ الطَّرِيقَ ثُمَّ عَادَ *** لِيُخْبِرَ الْقَوْمَ بِمَا اسْتَفَادَ

وقال في لطائف المنن[111] : ( من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع ، ويكشف له عن قلبه القناع ، فهو في هذا الشأن لَقيطٌ لا أب له ، دَعِيٍّ لا نَسَبَ له ، فإن يكن له نور فالغالب غلبة الحال عليه ، والغالب عليه وقوفه مع ما يرد من الله إليه ، لم تَرْضْهُ سياسةُ التأديب والتهذيب ، ولم يَقُدْهُ زمَامُ التربية والتدريب ) ، فهذا الطريق الذي ذكرنا هو الذي يستشعره القارئ للفاتحة عند قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } مع الترقي الذي ذكره الشيخ أو العباس المرسي رضي الله عنه المتقدم ، وإذا قرأ { صراط الذين أنعمت عليهم } استشعر ، أَيْ : أنعمتَ عليهم بالوصول والتمكين في معرفتك .

وقال الورتجبي[112] : اهدنا مُرَادَك مِنَّا ؛ لأن الصراط المستقيم ما أراد الحق من الخلق ، من الصدق والإخلاص في عبوديته وخدمته . ثم قال : وقيل : اهدنا هُدَى العِيَانِ بعد البيان ، لتستقيم لك حسب إرادتِك . وقيل : اهدنا هُدَى مَنْ يكون منك مبدؤه ليكون إليك منتهاه . ثم قال : وقال بعضهم : اهدنا ، أي : ثبِّتْنا على الطريق الذي لا اعوجاج فيه ، وهو الإسلام ، وهو طريق المستقيم والمنهاج القويم { صراط الذين أنعمت عليهم } أي : منازل الذين أنعمت عليهم بالمعرفة والمحبة وحسن الأدب في الخدمة . ثم قال : { غير المغضوب عليهم } يعني : المطرودين عن باب العبودية ، { ولا الضالين } يعني المُفْلِسين عن نفائس المعرفة . ه .

قلت : والأحسن أن يقال : { غير المغضوب عليهم } هم الذين أَوْقَفَهُمْ عن السير اتباعُ الحظوظ والشهوات ، فأوقعهم في مَهَاوِي العصيان والمخالفات ، { ولا الضالين } هم الذين حبسهم الجهل والتقليد ، فلم تنفُذْ بصائرهم إلى خالص التوحيد ، فنكصوا عن توحيد العيان إلى توحيد والبرهان ، وهو ضلال عند أهل الشهود والعِيان ، ولو بلغ في الصلاح غايةَ الإمكان .

وقال في الإحياء[113] : إذا قلت : { بسم الله الرحمان الرحيم } فافْهَمْ أن الأمور كلها بالله ، وأن المراد ها هنا المُسمَّى ، وإذا كانت الأمورُ كلها بالله فلا جرَم أنَّ الحمد كله لله ، ثم قال : وإذا قلت : { الرحمان الرحيم } فأحضرْ في قلبك أنواعَ لطفه لتتفتحَ لك رحمتُه فينبعث به رجاؤُك ، ثم استشعر من قلبك التعظيم والخوف من قولك : { يوم الدين } . ثم قال : ثم جَدَّد الإخلاص بقولك : { إياك نعبد } . وجدَّد العجز والاحتياج والتبرِّيَ من الحوْل والقوة بقولك : { وإياك نستعين } ، ثم اطلب اسم حاجتك ، وقل : { اهدنا الصراط المستقيم } الذي يسوقنا إلى جوارك ويُفضي بنا إلى مرضاتك ، وزِدْهُ شرحاً وتفصيلاً وتأكيداً ، واستشهد بالذين أفاض عليهم نعم الهداية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، دون الذين غضب عليهم من الكفار والزائغين واليهود والنصارى والصابئين . ه . ملخصاً .

وقال القشيري[114] : قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } الأمر في هذه الآية مضمر ، أي : قولوا : اهدنا[115] . والصراط المستقيم : طريق الحق ، وهو ما عليه أهل التوحيد ، أي : أرشدْنا إلى الحق لئلا نتكل على وسائط المعاملات ، فيقعَ على وجه التوحيد غُبَارُ الظنون والحسابات لتكون دليلنا عليك ، ثم قال : { صراط الذين أنعمت عليهم } أي : الواصلين بك إليك ، ثم قال : { غير المغضوب عليهم } بنسيان التوفيق والتَّعامِي عن رؤية التأييد ، { ولا الضالين } عن شهودِ سابقِ الاختيار ، وجريان تصاريف الأقدار[116] . ه .

تتمات

الأولى : هذه السورة جمعت معاني القرآن كلها ، فكأنها نسخة مختصرة منه ، ولذلك سميت أم القرآن ، فالإلهيات حاصلة من قوله : { الحمد لله رب العالمين ، الرحمان الرحيم } ، والدار الآخرة من قوله : { ملك يوم الدين } ، والعبادات كلها من الاعتقادات والأحكام الظاهرة التي تقتضيها الأوامر النواهي ، من قوله : { إياك نعبد } والمقامات وأسرار المعاملات الباطنة – تخلية وتحلية[1] - من قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } والأنبياء وغيرهم من قوله : { الذين أنعمت عليهم } وذكر طوائف الكفار من قوله : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } .

وقال الشيخ ابن أبي جمرة[2] رضي الله عنه في بيان تضمنها لكتاب الله : إن لفظ { الحمد } يتضمن كل ما في كتاب الله من الحمد والشكر ؛ لأن الحمد أعم من الشكر ؛ وأتي بالعام ليدل على الصفتين . ولفظة ( الله ) تدل على ما في الكتاب العزيز من أسماء الترفيع والتعظيم ؛ لأنه قيل : إنه اسم الله الأعظم ، ولفظ : { رب العالمين } يدل على ما فيه من أسماء الله ، سبحانه ، وعلى العوالم وعلى اختلافها وخالقها والمتصرف فيها . ولفظ : { الرحمان الرحيم } يتضمن كل ما في الكتاب من المغفرة والرحمة والإنعام والعفو والإفضال ، ولفظ { ملك يوم الدين } يدل على ما فيه من ذكر الآخرة وما فيه من الأهوال ، ولفظ { إياك نعبد } يتضمن ما فيه من التعبدات وإفراده بالألوهية ، ولفظ { إياك نستعين } يدل على ما فيه من طلب الاستعانة وذكر الاضطرار ، ولفظ { اهدنا الصراط المستقيم } يتضمن ما فيه من طلب الهداية إلى سبيل الخير ، ولفظ : { صراط الذين أنعمت عليهم } يتضمن ما فيه من ذكر الخصوص والمرضي عنهم والمعفو عنهم وأهل السعادة ، ولفظ { غير المغضوب عليهم } يتضمن ما فيه من أنواع الكفر والمخالفات ومساوئهم ومآلهم فاستحقت أن تسمى أما . ه .

وعن علي – كرم الله وجهه- قال : ( شرح موسى عليه السلام التوراة في سبعين سفرا ، ولو أذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوقرت[3] على الفاتحة سبعين بعيرا ) . قلت : قوله : ( سبعين ) تقريبا ، وإلا فهي قابلة لأكثر من ذلك ، وتفصيل ذلك يطول ، وقد ذكرنا أصول علومها في شرحنا الكبير عليها . والله تعالى أعلم .

الثانية : قال ابن جزي[4] : قولنا : { الحمد لله رب العالمين } أفضل عند المحققين من ( لا إله إلا الله ) لوجهين : أحدهما : ما خرج النسائي[5] : عند رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه من قال : لا إله إلا الله ، كتبت له عشرون حسنة ، ومن قال : { الحمد لله رب العالمين } ، كتبت له ثلاثون حسنة " . والثاني : أن التوحيد الذي تقتضيه ( لا إله إلا الله ) ، حاصل في قولك : { رب العالمين } وزادت بقولك : الحمد لله ، وفيه من المعاني ما قدمنا . وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " أفضل ما قلته أنا والنبيون من قلبي : لا إله إلا الله " [6] فإنما ذلك للتوحيد الذي تقتضيه ، وقد شاركتها { الحمد لله رب العالمين } في ذلك وزادت عليها . وهذا لمؤمن حقق إيمانه وطلب الثواب[7] ، وأما لمن دخل في الإسلام فيتعين " لا إله إلا الله " . ه .

قلت : والتحقيق أن كل ما يدل على التوحيد من الألفاظ يكفي في الدخول في الإسلام ، كما قال البناني[8] في حاشيته .

الثالثة : قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة عند مالك والشافعي خلافا لأبي حنيفة ، وقد ذكرنا في الشرح الكبير منشأ الخلاف .

الرابعة : التأمين عند ختم الفاتحة مطلوب للدعاء الذي فيها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين " [9] . رواه ابن ماجة . وقال أيضا صلى الله عليه وسلم : " إن الله أعطاني خصالا ثلاثة : أعطاني صلاة الصفوف وأعطاني التحية وإنها لتحية أهل الجنة ، وأعطاني التأمين ، ولم يعطه أحدا من النبيين قبلي ، إلا أن يكون الله أعطاه هارون ، يدعو موسى ويؤمن هارون[10] " رواه ابن خزيمة . وسمع عليه الصلاة والسلام رجلا يدعو ويلح فقال : " أوجب إن ختم " فقال بعض القوم : بأي شيء يختم ؟ فقال : " يؤمن ؛ فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب " قال أبو زهير[11]- راوي الحديث- فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة . ولعله مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو داود[12] .

ولفظ : { آمين } [ المائدة : 2 ] بالمد والقصر مخففا[13] . وتشديد الميم لغة[14] . قيل : هو اسم من أسماء الله تعالى . . . . وقيل معناه : اللهم استجب ، أو كذلك فافعل ، أو كذلك فليكن . قاله المنذري في الترغيب[15] . قال البيضاوي : بنى على الفتح كأين لالتقاء الساكنين وجاء مد ألفه وقصرها . قال[16] :

ويرحم الله عبدا قال آمينا *** . . .

وليس من القرآن اتفاقا ، ولكن يسن ختم السورة به لقوله عليه الصلاة والسلام : " علمني جبريل عليه السلام آمين عند فراعي من قراءة الفاتحة " . وقال : إنه كالختم على الكتاب[17] .

ويقوله الإمام ويجهر به في الجهرية ، لما روي عن وائل بن حجر[18] " أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ : { ولا الضالين } [ الفاتحة : 7 ] قال : آمين ، رفع بها صوته " [19] وعن أبي حنيفة – رحمه الله - أنه لا يقوله . والمشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبد الله بن مغفل[20] وأنس . قلت : ومشهور مذهب مالك أن الإمام لا يقوله في الجهرية .

ثم قال : والمأموم يؤمن معه لقوله – عليه الصلاة والسلام- : " إذا قال الإمام ولا الضالين ، فقولوا : آمين ، فإن الملائكة تقول : آمين ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " [21] . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق . وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد عين الحق والتحقيق ، وعلى آله وصحبه المطهرين بعده ، أعلام الطريق ، وسلم تسليما .