قوله تعالى : { واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون 103 } .
وفيه ثلاث مسائل :
[ 28 ] : المسألة الأولى : في المراد بهاروت وماروت المذكورين في الآية .
يرى ابن حزم أن " هاروت وماروت " إما أن يكونا جنيين من أحياء الجن ، وإما أن يكونا ملكين نزلا بشريعة حق ثم نسخها الله فصارت كفرا ، وهو يرد بشدة على من زعم أنهما ملكين نزلا بعلم السحر ، أو أنهما شربا الخمر ، وزنيا ، لأن في ذلك قدح بعصمة الملائكة عليهم السلام[205] .
قال ابن حزم :
[ نسب قوم ] إلى الله تعالى ما لم يأت به قط أثر يجب أن يشتغل به ، وإنما هو كذب مفترى من أنه تعالى أنزل إلى الأرض ملكين وهما هاروت وماروت وأنهما عصيا الله تعالى وشربا الخمر ، وحكما بالزور وقتلا النفس المحرمة ، وزنيا وعلما زانية اسم الله الأعظم فطارت به إلى السماء فمسخت كوكبا وهي الزهرة ، وأنهما عذبا في غار ببابل ، وأنهما يعلمان الناس السحر . . .
وحجتهم على ما في هذا الباب خبر رويناه من طريق عمير بن سعيد[206] ، وهو مجهول مرة يقال له النخعي ، ومرة يقال له الحنفي ، ما نعلم له رواية إلا هذه الكذبة ، وليست أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه أوقفها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه[207] .
وكذبة أخرى في أن حد الخمر لم يسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو شيء فعلوه ، وحاشا لهم رضي الله عنهم من هذا[208] .
قال أبو محمد : ومن البرهان على بطلان هذا كله قول الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد : { ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين8 }[209] فقطع الله عز وجل أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق وليس شرب الخمر ولا الزنا ولا قتل النفس المحرمة ، ولا تعليم العواهر أسماءه عز وجل ، والتي يرتفع بها إلى السماء ولا السحر من الحق ، بل كل ذلك من الباطل ، ونحن نشهد أن الملائكة ما نزلت بشيء من هذه الفواحش والباطل . وإذ لم تنزل به فقد بطل أن تفعله ، لأنها لو فعلته في الأرض لنزلت به ، هذا باطل ، وشهد عز وجل أنه لو أنزل علينا الملائكة لما أنظرنا ، فصح أنه لم ينزل قط ملك ظاهر إلا لنبي بالوحي فقط ، وبالله التوفيق .
قال ابن حزم : وكذلك قوله تعالى : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا }[210] .
فأبطل عز وجل أنه يمكن ظهور ملك إلى الناس وقال تعالى : { ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون }[211] .
فكذب الله عز وجل كل من قال : إن ملكا نزل قط من السماء ظاهرا إلا إلى الأنبياء بالحق ، من عند الله عز وجل فقط .
وقال عز وجل : { وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبير 21 يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا }[212] .
فرفع الله تعالى الإشكال بهذا النص في هذه المسألة ، وقرن عز وجل نزول الملائكة في الدنيا برؤيته عز وجل فيهما ، فصح ضرورة أن نزولهم في الدنيا إلى غير الأنبياء ممتنع ألبته لا يجوز .
وأن من قال ذلك فقد قال حجرا محجورا أي ممتنعا ، وظهر بها كذب من ادعى أن ملكين نزلا إلى الناس فعلماهم السحر ، وقد استعظم الله عز وجل ذلك من رغبة من رغب نزول الملائكة إلى الناس ، وسمى هذا الفعل استكبارا وعتوا ، وأخبر عز وجل أننا لا نرى الملائكة أبدا إلا يوم القيامة فقط ، وأنه لا بشرى يومئذ للمجرمين[213] .
فصح أن هاروت وماروت المذكورين في القرآن لا يخلو أمرهما من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكونا جنيين من أحياء الجن ، كما روينا عن خالد بن أبي عمران[214] ، وغيره وموضعهما حينئذ في النحو بدل من الشياطين ، كأنه قال : ولكن الشياطين كفروا هاروت وماروت . ويكون قوله : { وما أنزل على الملكين } نعتا بمعنى لم ينزل على الملكين ببابل ويتم الكلام هنا .
وإما أن يكونا ملكين أنزل الله عز وجل عليهما شريعة حق ، ثم نسخها فصارت كفرا ، كما فعل بشريعة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فتمادى الشياطين على تعليمهما وهي بعد كفر[215] كأنه قال تعالى : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت . ثم ذكر عز وجل ما كان يفعله ذلك الملكان فقال تعالى : { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق }[216] .
فقول الملكين إنما نحن فتنة فلا تكفر قول صحيح ، ونهي عن المنكر ، وأما الفتنة ، فقد تكون ضلالا ، وتكون هدى . قال الله عز وجل حاكيا عن موسى عليه السلام أنه قال لربه : { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء }[217] فصدق الله عز وجل في قوله ، وصح أنه يهدي بالفتنة من يشاء ، ويضل بها من يشاء .
وقال تعالى : { أنما أموالكم وأولادكم فتنة }[218] .
وليس كل أحد يضل بماله وولده ، فقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم أولاد ومال ، وكذلك لكثير من الرسل عليهم السلام ، وقال تعالى : { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا }[219] . وقال تعالى : { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ، لنفتنهم فيه }[220] ، فهذه سقيا الماء التي هي جزاء على الاستقامة قد سماها الله تعالى فتنة ، فصح أن من الفتنة خيرا وهدى ، ومنها ضلالا وكفرا ، والملكان المذكوران كذلك كانا فتنة يهتدي من اتبع أمرهما في أن لا يكفر ، ويضل من عصاهما في ذلك .
وقوله تعالى : { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه }[221] حق لأن أتباع رسل الله عليهم الصلاة والسلام هذه صفته ، يؤمن الزوج فيفرق إيمانه بينه وبين امرأته التي لم تؤمن ، وتؤمن هي فيفرق إيمانها بينها وبين زوجها الذي لم يؤمن في الدنيا والآخرة ، وفي الولاية .
ثم رجع تعالى إلى الخبر عن الشياطين فقال عز وجل : { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله }[222] ، وهذا حق ؛ لأن الشياطين في تعليمهم ما قد نسخه الله عز وجل وأبطله ضارون من أذن الله تعالى باستضراره به ، وهكذا إلى آخر الآية . وما قال عز وجل قط إن هاروت وماروت علما سحرا ولا كفرا ، ولا أنهما عصيا ، وإنما ذكر ذلك في خرافة موضوعة ، لا تصح عن طريق الإسناد أصلا ، ولا هي أيضا مع ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هي موقوفة على من دونه صلى الله عليه وسلم ، فسقط التعلق بها ، وصح ما قلناه ، والحمد لله رب العالمين .
وهذا التفسير الأخير ، هو نص الآية دون تكلف تأويل ، ولا تقديم ولا تأخير ، ولا زيادة في الآية ، ولا نقص منها ، بل هو ظاهرها ، والحق المقطوع به عند الله تعالى يقينا ، وبالله تعالى التوفيق[223] .
[ 29 ] المسألة الثانية : حقيقة السحر .
يرى ابن حزم أن السحر لا حقيقة له ، وهو عبارة عن حيل ، وتخييلات ، وحجته في ذلك أنه لو كان له حقيقة لكان من جنس معجزات الأنبياء ، وهذا كفر ممن يقوله ؛ لأنه لا يجوز وجود معجزة وإحالة طبيعية لغير الأنبياء أصلا ، ولأنه لو كان حقيقة لما كان هناك فرق بين النبي وغير النبي .
قال ابن حزم :
السحر تخييل وتحيل ، لا حقيقة له ، ولا يقلب عينا ، ولا يحيل طبيعة .
برهان ذلك :
1 قول الله عز وجل : { فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى 66 }[224] .
فأخبر الله تعالى أن عمل أولئك السحرة إنما كان تخييلا لا حقيقة له .
2 وقال تعالى : { إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى }[225] .
فأخبر تعالى أنه كيد لا حقيقة له .
3 حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا أحمد بن عبد البصير ، قال : ثنا قاسم بن أصبغ ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، ثنا محمد بن المثني ، ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، ثنا سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن بشير عن عمرو قال : ذكر الغيلان[226] عند عمر بن الخطاب فقالوا : إنهم يتحولون . فقال عمر : " إنه ليس أحد يتحول عن خلقه الذي خلق له ، لكن لهم سحرة كسحرتكم ، فإذا خشيتم شيئا من ذلك فأذنوا " [227] .
فهذا عمر رضي الله عنه يبطل إحالة الطبائع ، ويقول : إن السحر ليس فيه إحالة طبع . وهذا نص قولنا ، والحمد لله رب العالمين كثيرا[228] .
ولو كان السحر يحيل طبيعة ؛ لكان من جنس أعلام النبوة ، التي هي شهادة الله عز وجل للأنبياء بحقهم وصدقهم ، وهذا خروج عن الإسلام ممن ساوى بين الأمرين ، وخروج عن المعقول أيضا ، ومكابرة للضرورة ، ولا يجوز وجود معجزة ، وإحالة طبيعة لغير نبي أصلا ، ولو كان ذلك لما كان بين النبي وغير النبي فرق[229] .
فإن قيل : قد قال الله عز وجل : { سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم }[230] .
قلنا : نعم . إنها حيل عظيمة وإثم عظيم ، إذ قصدوا بها معارضة معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنهم كادوا عيون الناس ، إذ أوهموهم أن تلك الحبال والعصي تسعى ، واتفقت الآيات كلها ، والحمد لله رب العالمين .
وكان الذي قدر أن من لا يدري حيلهم من أنها تسعى ظنا أصله اليقين ، وذلك لأنهم رأوا صفات حيات رقط طوال تضطرب فسارعوا إلى الظن ، وقدروا أنها ذات حياة ، ولو أمنعوا النظر وفتشوها لوقفوا على الحيلة فيها ، وأنها ملئت زئبقا ولد فيها تلك الحركات ، كما يفعل العجائبي الذي يضرب بسكينة في جسم إنسان ، فيظن من رآه ممن لا يدري حيلة أن السكين غاصت في جسم المضروب ، وليس كذلك بل كان نصاب السكين مثقوبا فقط ، فغاصت السكين في النصاب . . . ، وكذلك سائر حيلهم ، وقد وقفنا على جميعها ؛ فهذا هو معنى قوله تعالى : { سحروا أعين الناس واسترهبوهم }[231] أي : أنهم أوهموا الناس فيما رأوه ظنونا متوهمة لا حقيقة لها ، ولو فتشوها للاح لهم الحق .
وكذلك قول الله عز وجل : { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه }[232] فهذا أمره ممكن كما يفعل النمام ، وكذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحره لبيد بن الأعصم فولد ذلك عليه مرضا حتى كان يظن أنه فعل الشيء وهو لم يفعله[233] ، فليس في هذا أيضا إحالة طبيعية ولا قلب عين ، وإنما هو تأثير بقوة لتلك الصناعة ، ونحن نجد الإنسان يسب أو يقابل بحركة يغضب منها ، فيستحيل من الحلم إلى الطيش ، وعن السكون إلى الحركة والنزق حتى يقارب حال المجانين ، وربما أمرضه ذلك ، وقد قال عليه السلام : " إن من البيان لسحرا " [234] لأن من البيان ما يؤثر في النفس ، فيثيرها أو يسكنها عن ثورتها ، ويحيلها عن عزماتها ، وعلى هذا المعنى استعملت الشعراء ذكر سحر العيون ، لاستمالتها للنفوس فقط[235] .
[ 30 ] : المسألة الثالثة : في حكم السحر ، وهل يقتل فاعله ؟
يرى ابن حزم أن السحر كبيرة من كبائر الذنوب وليس كفرا ، وإذا لم يكن كفرا فلا يحل قتل فاعله ، وقد أورد ابن حزم الخلاف في المسألة فقال :
اختلف الناس في السحر : فقالت طائفة : يقتل الساحر ولا يستتاب والسحر كفر . وهو قول مالك .
وقال أبو حنيفة : يقتل الساحر . وقال الشافعي وأصحابنا : إن كان الكلام الذي يسحر به كفرا فالساحر مرتد ، وإن كان ليس كفرا فلا يقتل لأنه ليس كافرا .
ثم ذكر ابن حزم أدلة القائلين بكفر الساحر ، فكان منها :
قوله تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر }[236] قالوا : فسمى الله تعالى السحر كفرا بقوله : { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر }[237] وقوله : { يعلمون } بدل من { كفروا } فتعليم السحر كفر .
واستدلوا أيضا بقوله تعالى : { إنما نحن فتنة فلا تكفر }[238] .
وبقوله تعالى : { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق }[239] .
وبقوله : { ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون }[240] .
وقد رد ابن حزم على استدلالهم فقال بعد سياقه للآية :
قولهم { يعلمون } بدل من { كفروا } ليس كما ظنوا بل القول الظاهر هو أن الكلام تم عند قوله تعالى : { كفروا } وكملت القصة ، وقامت بنفسها صحيحة تامة { ولكن الشياطين كفروا } .
ثم ابتدأ تعالى قصة أخرى مبتدأة ، وهو : { يعلمون الناس السحر } فيعلمون ابتداء كلام لا بدل .
ثم لو صح : أن { يعلمون } بدل من { كفروا } ولم يحتمل غير ذلك أصلا ، لما كان لهم فيه حجة ألبتة ، لأن ذلك خبر من الله تعالى عن أن ذلك كان حكم الشياطين بعد أيام سليمان عليه السلام وذلك شريعة لا تلزمنا ، وحكم الله تعالى في الشياطين حكم خارج من حكمنا ، وكل حكم لم يكن في شريعتنا فلا يلزمنا .
بل قد صح : أن حكم " الجن " اليوم في شريعتنا غير حكمنا ، كما قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح لهم الروث والعظام طعاما[241] والروث حرام عندنا وحلال لهم ، فكيف ؟ وإذا احتمل ظاهر الآية معنيين ، فلا يجوز حملها على أحدهما دون الآخر ، إلا ببرهان وقد بينا أن كلا الوجهين لا حجة لهم فيه أصلا .
وأيضا فإن نص قولهم : إن الشياطين كفروا بتعليم الناس السحر ، وهم يزعمون : أن الملكين يعلمان الناس السحر ، ولا يكفر الملكان عندهم بذلك ، فقد أقروا باختلاف حكم تعليم السحر ، وأنه يكون كفرا ، ولا يكون كفرا بذلك ، فإذ قد قالوا ذلك ، فمن أين لهم : أن حكم الساحر من الناس الكفر قياسا على الشياطين دون أن لا يكون كفرا قياسا على الملكين ؟ فكيف والقياس كله باطل .
فصح أنه لا حجة لهم في تكفير الساحر من الناس : بأن الشياطين يكفرون بتعليمه هذا لو صح لهم أن كفر الشياطين لم يكن إلا بتعليمهم الناس السحر خاصة وهذا لا يصح لهم أبدا . بل قد كفروا قبل ذلك ، فكان تعليمهم الناس السحر ضلالا زائدا ، ومعصية حادثة أخرى ، وهذا هو مقتضى ظاهر الآية الذي لا يجوز أن يحال عنه ألبتة ، إلا بالدعوى العارية من البرهان . وبالله تعالى التوفيق .
ثم صرنا إلى قول الله تعالى : { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } فوجدناهم لا حجة لهم فيه أصلا بوجه من الوجوه لأنه إنما في هذا الكلام النهي عن الكفر جملة ، ولم يقولا : فلا تكفر بتعلمك السحر ، ولا بعلمك السحر ، هذا ما لا يفهم من الآية أصلا .
وهكذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " [242]إنما هو نهي أن يكفروا ابتداء ، وعن أن يرتدوا فقط ، لا أنهم بقتل بعضهم بعضا يكونون كفارا ، وهذا بين لا خفاء به وبالله تعالى التوفيق .
وكل من أقحم في هذه الآية : أن قوله تعالى حاكيا عن القائلين : { إنما نحن فتنة فلا تكفر } أن مرادهما لا تكفر بتعلمك ما نعلمك فقد كذب ، وزاد في القرآن ما ليس فيه وما لا دليل عليه أصلا .
ثم صرنا إلى قوله تعالى : { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } فوجدنا هذا أبعد من أن يكون لهم فيه شبهة يموهون بها من كل ما سلف ، لأنه لم يختلف أحد من أهل السنة في أن من فرق بين امرأة وزوجها لا يكون كافرا بذلك .
وقد نجد النمام يفرق بين المرء وزوجه فلا يكون بذلك كافرا ، فمن أين وقع لهم أن يكفروا الساحر بذلك ؟ فبطل تعلقهم بهذا النص جملة .
وهكذا القول في قوله تعالى : { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم }
إذ ليس كل ما ضر المرء يكون به كافرا ، بل يكون عاصيا لله تعالى ، لا كافرا ولا حلال الدم .
ثم صرنا إلى قوله تعالى : { ولقد علموا لمن اشتراه } إلى قوله تعالى : { لو كانوا يعلمون } فوجدناهم لا حجة لهم في تكفير الساحر ، ولا في إباحة دمه أصلا ، لأن هذه الصفة قد تكون في مسلم بإجماعهم معنا :
كما روينا من طريق مسلم ، نا شيبان بن فروخ ، نا جرير بن حازم ، نا نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخر " [243] .
وهم لا يختلفون في أن لباس الحرير ليس كفرا ، ولا يحل قتل لابسه فبطل تعلقهم بهذه الآية ، ولله الحمد .
فنظرنا أن يكون لهم في الآية متعلق أصلا ، ولا في شيء من القرآن ، ولا من السنن الصحاح ولا في السنن الواهية ، ولا في إجماع ، ولا في قول صاحب ، ولا في قياس ، ولا نظر ، ولا رأي سديد يصح ، بل كل هذه الوجوه مبطلة لقولهم . فلما بطل قول من رأى أن يقتل الساحر جملة ، وقول من ادعى أن السحر كفر بالجملة : وجب أن ننظر في القول الثالث :
فوجدنا الله تعالى يقول : { ولا تقتلوا أنفسكم }[244] .
وقال تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } إلى قوله : { فخلوا سبيلهم }[245] .
وقال تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق }[246] .
وقال تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } الآية[247] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام " [248] .
فصح بالقرآن والسنة : أن كل مسلم فدمه حرام إلا بنص ثابت أو إجماع متيقن فنظرنا هل نجد في السحر نصا ثابتا بتبيان ما هو ؟
فوجدنا من طريق مسلم ، نا هارون بن سعيد الأيلي ، نا ابن وهب ، أخبرني سليمان بن بلال ، عن ثور بن [ زيد ] [249] ، عن أبي الغيث عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات ، قيل : يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات[250] المؤمنات " [251] .
فكان هذا بيانا جليا بأن السحر ليس من الشرك ، ولكنه معصية موبقة كقتل النفس وشبهها ، فارتفع الإشكال ولله الحمد . وصح أن السحر ليس كفرا ، وإذا لم يكن كفرا فلا يحل قتل فاعله ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنى بعد إحصان ونفس بنفس " [252] .
فالساحر ليس كافرا كما بينا ، ولا قاتلا ، ولا زانيا محصنا ، ولا جاء في قتله نص صحيح فيضاف إلى هذه الثلاث فصح تحريم دمه بيقين لا إشكال فيه . ووجدنا أيضا :
من طريق البخاري ، نا عبد الله بن محمد ، سمعت سفيان بن عيينة يقول : إن هشام بن عروة حدثهم عن أبيه ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن " قال ابن عيينة : وهذا أشد ما يكون من السحر " فقال : يا عائشة أعلمت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه ؟ أتاني رجلان ، فقعد أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، فقال الذي عند رأسي للآخر ، ما بال الرجل ؟ فقال : مطبوب ، قال ومن طبه ؟ قال : لبيد بن أعصم رجل من بني زريق حليف اليهود ، وكان منافقا قال : وفيم ؟ قال : في مشط ومشاطة ، قال : وأين ؟ قال : في جف طلعة ذكر ، تحت راعوفة في بئر ذروان ، قال : فأتى البئر حتى استخرجه ، قال : فهذه البئر التي رأيتها ، كأن ماءها نقاعة الحناء ، وكأن نخلها رؤوس الشياطين ، قال : فاستخرج ، فقلت : أفلا تنشرت ؟ قال : أما الله فقد شفاني ، وأكره أن أثير على الناس شرا " [253] فهذا خبر صحيح وقد عرف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من سحره ، فلم يقتله وبالله تعالى التوفيق[254] .