تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين

ابن عثيمين القرن الخامس عشر الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 586

إِذَا ٱلشَّمۡسُ كُوِّرَتۡ١

{ إذا الشمس كورت } هذا يكون يوم القيامة ، والتكوير : جمع الشيء بعضه إلى بعض ولفّه كما تكوّر العمامة على الرأس ، والشمس كتلة عظيمة كبيرة واسعة في يوم القيامة يكورها الله عز وجل فيلفها جميعاً ويطوي بعضها على بعض فيذهب نورها ، ويلقيها في النار عز وجل إغاظة للذين يعبدونها من دون الله ، قال الله تبارك وتعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } أي تحصبون في جهنم { أنتم لها واردون } [ الأنبياء : 98 ] . ويستثني من ذلك من عُبد من دون الله من أولياء الله فإنه لا يلقى في النار كما قال الله تعالى بعد هذه الاية { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون . لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون } [ الأنبياء : 101 ، 102 ] .

وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتۡ٢

{ وإذا النجوم انكدرت } انكدرت يعني تساقطت كما تفسره الاية الثانية . { وإذا الكواكب انتثرت } [ الانفطار : 2 ] . فالنجوم يوم القيامة تتناثر وتزول عن أماكنها

وَإِذَا ٱلۡجِبَالُ سُيِّرَتۡ٣

{ وإذا الجبال سُيرت } هذه الجبال العظيمة الصلبة العالية الرفيعة تكون هباءً يوم القيامة وتسيّر كما قال الله تعالى : { وسيّرت الجبال فكانت سراباً } [ النبأ : 20 ] .

وَإِذَا ٱلۡعِشَارُ عُطِّلَتۡ٤

{ وإذا العشار عُطلت } العشار جمع عشراء ، وهي الناقة الحامل التي تم لحملها عشرة أشهر وهي من أنفس الأموال عند العرب ، وتجد صاحبها يرقبها ويلاحظها ، ويعتني بها ويأوي إليها ويحف بها في الدنيا ، لكن في الاخرة تعطل ولا يلتفت إليها ؛ لأن الإنسان في شأن عظيم مزعج ينسيه كل شيء كما قال الله تبارك وتعالى : { يوم يفر المرء من أخيه . وأمه وأبيه . وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه } [ عبس : 34 37 ] .

وَإِذَا ٱلۡوُحُوشُ حُشِرَتۡ٥

{ وإذا الوحوش حشرت } الوحوش جمع وحش ، والمراد بها جميع الدواب ، لقول الله تعالى : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أُمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } [ الأنعام : 38 ] . تحشر الدواب يوم القيامة ويشاهدها الناس ويُقتص لبعضها من بعض ، حتى إنه يقتص للبهيمة الجلحاء التي ليس لها قرن من البهيمة القرناء ، فإذا اقتص من بعض هذه الوحوش لبعض أمرها الله تعالى فكانت تراباً ، وإنما يفعل ذلك سبحانه وتعالى لإظهار عدله بين خلقه

وَإِذَا ٱلۡبِحَارُ سُجِّرَتۡ٦

{ وإذا البحار سُجّرت } البحار جمع بحر وجمعت لعظمتها وكثرتها ، فإنها تمثل ثلاثة أرباع الأرض تقريباً أو أكثر . هذه البحار العظيمة إذا كان يوم القيامة فإنها تُسجر ، أي توقد ناراً ، تشتعل ناراً عظيمة وحينئذ تيبس الأرض ولا يبق فيها ماء ؛ لأن بحارها المياه العظيمة تسجّر حتى تكون ناراً

وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتۡ٧

{ وإذا النفوس زوجت } النفوس جمع نفس ، والمراد بها الإنسان كله ، فتزوّج النفوس يعني يُضم كل صنف إلى صنفه ؛ لأن الزوج يراد به الصنف كما قال الله تعالى : { وكنتم أزواجاً ثلاثة } [ الواقعة : 7 ] . أي أصنافاً ثلاثة وقال تعالى : { وآخر من شكله أزواج } [ ص : 58 ] . أي أصناف ، وقال تعالى : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } [ الصافات : 22 ] . أي أصنافهم وأشكالهم فيوم القيامة يضم كل شكل إلى مثله ، أهل الخير إلى أهل الخير ، وأهل الشر إلى أهل الشر ، وهذه الأمة يضم بعضها إلى بعض { وترى كل أمة جاثية } لوحدها { كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون } [ الجاثية 28 ] . إذاً { وإذا النفوس زوجت } يعني شكّلت وضُم بعضها إلى بعض كل صنف إلى صنفه ، كل أمة إلى أمتها

وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُئِلَتۡ٨

{ وإذا الموؤدة سُئلت بأي ذنب قُتلت } الموؤدة هي الأنثى تدفن حية ، وذلك أنه في الجاهلية لجهلهم وسوء ظنهم بالله ، وعدم تحملهم يعيّر بعضهم بعضاً إذا أتته الأنثى ، فإذا بُشِّر أحدهم بالأثنى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم ، ممتلىء هًّما وغمًّا { يتوارى من القوم } يعني يختفي منهم { من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب } [ النحل 59 ] . يعني إذا قيل لأحدهم نبشرك أن الله جاء لك بأنثى ببنت اغتم واهتم ، وامتلأ من الغم والهم ، وصار يفكر هل يبقي هذه الأنثى على هون وذل ؟ أو يدسها في التراب ويستريح منها ؟ فكان بعضهم هكذا ، وبعضهم هكذا . فمنهم من يدفن البنت وهي حية ، إما قبل أن تميز أو بعد أن تميز ، حتى إن بعضهم كان يحفر الحفرة لبنته فإذا أصاب لحيته شيء من التراب نفضته عن لحيته وهو يحفر لها ليدفنها ولا يكون في قلبه لها رحمة ، وهذا يدلك على أن الجاهلية أمرها سفال ، فإن الوحوش تحنو على أولادها وهي وحوش ، وهؤلاء لا يحنون على أولادهم ، يقول عز وجل : { وإذا المؤودة سئلت } تسأل يوم القيامة { بأي ذنب قتلت } هل أذنبت ؟ فإذا قال قائل : كيف تُسأل وهي المظلومة . . . هي المدفونة ، ثم هي قد تدفن وهي لا تميز ، ولم يجر عليها قلم التكليف ، فكيف تسأل ؟ قيل : إنها تُسأل توبيخاً للذي وأدها ، لأنها تُسأل أمامه فيقال : بأي ذنب قُتِلْتِ أو قُتِلَتْ ؟ نظير ذلك لو أن شخصاً اعتدى على آخر في الدنيا فأتوا إلى السلطان إلى الأمير فقال للمظلوم : بأي ذنب ضربك هذا الرجل ؟ وهو يعرف أنه معتداً عليه ليس له ذنب . لكن من أجل التوبيخ للظالم ، فالموؤدة تُسأل بأي ذنب قتلت توبيخاً لظالمها وقاتلها ودافنها نسأل الله العافية .

بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ٩

{ وإذا الموؤدة سُئلت بأي ذنب قُتلت } الموؤدة هي الأنثى تدفن حية ، وذلك أنه في الجاهلية لجهلهم وسوء ظنهم بالله ، وعدم تحملهم يعيّر بعضهم بعضاً إذا أتته الأنثى ، فإذا بُشِّر أحدهم بالأثنى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم ، ممتلىء هًّما وغمًّا { يتوارى من القوم } يعني يختفي منهم { من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب } [ النحل 59 ] . يعني إذا قيل لأحدهم نبشرك أن الله جاء لك بأنثى ببنت اغتم واهتم ، وامتلأ من الغم والهم ، وصار يفكر هل يبقي هذه الأنثى على هون وذل ؟ أو يدسها في التراب ويستريح منها ؟ فكان بعضهم هكذا ، وبعضهم هكذا . فمنهم من يدفن البنت وهي حية ، إما قبل أن تميز أو بعد أن تميز ، حتى إن بعضهم كان يحفر الحفرة لبنته فإذا أصاب لحيته شيء من التراب نفضته عن لحيته وهو يحفر لها ليدفنها ولا يكون في قلبه لها رحمة ، وهذا يدلك على أن الجاهلية أمرها سفال ، فإن الوحوش تحنو على أولادها وهي وحوش ، وهؤلاء لا يحنون على أولادهم ، يقول عز وجل : { وإذا المؤودة سئلت } تسأل يوم القيامة { بأي ذنب قتلت } هل أذنبت ؟ فإذا قال قائل : كيف تُسأل وهي المظلومة . . . هي المدفونة ، ثم هي قد تدفن وهي لا تميز ، ولم يجر عليها قلم التكليف ، فكيف تسأل ؟ قيل : إنها تُسأل توبيخاً للذي وأدها ، لأنها تُسأل أمامه فيقال : بأي ذنب قُتِلْتِ أو قُتِلَتْ ؟ نظير ذلك لو أن شخصاً اعتدى على آخر في الدنيا فأتوا إلى السلطان إلى الأمير فقال للمظلوم : بأي ذنب ضربك هذا الرجل ؟ وهو يعرف أنه معتداً عليه ليس له ذنب . لكن من أجل التوبيخ للظالم ، فالموؤدة تُسأل بأي ذنب قتلت توبيخاً لظالمها وقاتلها ودافنها نسأل الله العافية .

وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتۡ١٠

{ وإذا الصحف نشرت } الصحف جمع صحيفة ، وهي ما يكتب فيها الأعمال . واعلم أيها الإنسان أن كل عمل تعمله من قول أو فعل فإنه يكتب ويسجل بصحائف على يد أمناء كرام كاتبين يعلمون ما تفعلون ، يسجل كل شيء تعمله فإذا كان يوم القيامة فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه : { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } يعني عمله في عنقه { ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً } مفتوحاً { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [ الإسراء 14 ] ، كلامنا الان ونحن نتكلم يكتب ، كلام بعضكم مع بعض يكتب ، كل كلام يكتب { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } [ ق : 18 ] . ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » ، وقال : «من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليقل خيراً أو ليصمت » ، لأن كل شيء سيكتب عليه ، ومن كثُر كلمُه كثُر سقطه ، يعني الذي يُكثر الكلام يكثر منه السقط والزلات ، فاحفظ لسانك فإن الصحف سوف يكتب فيها كل ما تقول وسوف تنشر لك يوم القيامة .

وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتۡ١١

{ وإذا السماء كشطت } السماء فوقنا الان سقف محفوظ قوي شديد . قال تعالى : { والسماء بنيناها بأيد } [ الذاريات : : 47 ] . أي بقوة . وقال تعالى : { وبنينا فوقكم سبعاً شداداً } [ النبأ : 12 ] . أي قوية . في يوم القيامة تكشط يعني تُزال عن مكانها كما يكشط الجلد عند سلخ البعير عن اللحم يكشطها الله عز وجل ثم يطويها جل وعلا بيمينه كما قال تعالى : { والسموات مطويات بيمينه } [ الزمر : 67 ] . { كطي السجل للكتب } [ الأنبياء : 104 ] . يعني كما يطوي السجل الكتب ، يعني الكاتب إذا فرغ من كتابته طوى الورقة حفظاً لها عن التمزق وعن المحي ، فالسماء تكشط يوم القيامة ويبقى الأمر فضاء إلا أن الله تعالى يقول : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } [ الحاقة : 17 ] . يكون بدل السماء التي فوقنا الان يكون الذي فوقنا هو العرش ؛ لأن السماء تطوى بيمين الله عز وجل يطويها بيمينه ويهزها وكذلك يقبض الأرض ويقول : «أنا الملك ، أين ملوك الأرض » ،

وَإِذَا ٱلۡجَحِيمُ سُعِّرَتۡ١٢

{ وإذا الجحيم سعرت } الجحيم هي النار ، وسميت بذلك لبعد قعرها وظلمة مرءاها . تُسعر أي توقد . وما وقودها الذي توقد به ؟ وقودها الذي وقد به قال الله عنه : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة } [ التحريم : 6 ] . بدل ما توقد بالحطب والورق يكون الوقود الناس يعني الكفار . والحجارة حجارة من نارٍ عظيمة شديدة الاشتعال شديدة الحرارة ، هذا تسعير جهنم

وَإِذَا ٱلۡجَنَّةُ أُزۡلِفَتۡ١٣

{ وإذا الجنة أزلفت } الجنة دار المتقين فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر { أزلفت } يعني قُرِّبت وزُيِّنت للمؤمنين ، وانظر الفرق بين هذا وذاك . دار الكفار تسعّر ، توقد ، ودار المؤمنين تزيّن وتقرّب { وإذا الجنة أزلفت } كل هذا يكون يوم القيامة ، إذا قرأنا هذه الايات : { إذا الشمس كورت . وإذا النجوم انكدرت . وإذا الجبال سيرت . وإذا العشار عطلت .

عَلِمَتۡ نَفۡسٞ مَّآ أَحۡضَرَتۡ١٤

وإذا الوحوش حشرت . وإذا البحار سجرت . وإذا النفوس زوجت . وإذا الموؤدة سئلت . بأي ذنب قتلت . وإذا الصحف نشرت . وإذا الشماء كشطت . وإذا الجحيم سعرت . وإذا الجنة أزلفت } هذه اثنتا عشرة جملة إلى الان لم يأت بالجواب . لأن كلها في ضمن الشرط { إذا الشمس كورت } فالجواب لم يأت بعد ماذا يكون إذا كانت هذه الأشياء ؟ قال الله تعالى : { علمت نفس ما أحضرت } أي ما قدمته من خير وشر { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء } [ آل عمران : 30 ] . يعني يكون محضراً أيضاً { تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه } [ آل عمران : 30 ] . فتعلم في ذلك اليوم كل نفس ما أحضرت من خير أو شر ، في الدنيا نعلم ما نعمل من خير وشر لكن سرعان ما ننسى . نسينا الشيء الكثير لا من الطاعات ولا من المعاصي ، ولكن هذا لن يذهب سدى كما نسيناه ؟ بل والله هو باق ، فإذا كان يوم القيامة أحضرته أنت بإقرارك على نفسك بأنك عملته ، ولهذا قال تعالى : { علمت نفس ما أحضرت } فينبغي بل يجب على الإنسان أن يتأمل في هذه الايات العظيمة وأن يتعظ بما فيها من المواعظ ، وأن يؤمن بها كأنه يراها رأي عين ؛ لأن ما أخبر الله به وعلمنا مدلوله فإنه أشد يقيناً عندنا مما شاهدناه بأعيننا أو سمعناه بأذاننا ؛ لأن خبر الله لا يكذب ، صدق ، لكن ما نراه أو نسمعه كثيراً ما يقع فيه الوهم . قد ترى

فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلۡخُنَّسِ١٥

{ فلا أقسم بالخنس } قوله تعالى : { فلا أقسم } قد يظن بعض الناس أن { لا } نافية وليس كذلك ، بل هي مثبتة للقسم ويؤتى بها بمثل هذا التركيب للتأكيد . فالمعنى { أقسم بالخنس } والخنس جمع خانسة ، وهي النجوم التي تخنس ، أي ترجع فبينما تراها في أعلى الأفق إذا بها راجعة إلى آخر الأفق ، وذلك والله أعلم لارتفاعها وبُعدها فيكون ما تحتها من النجوم أسرع منها في الجري بحسب رؤية العين ،

ٱلۡجَوَارِ ٱلۡكُنَّسِ١٦

{ الجوار } أصلها ( الجواري ) بالياء لكن حذفت الياء للتخفيف و{ الكنس } هي التي تكنس أي تدخل في مغيبها . فأقسم الله بهذه النجوم .

وَٱلَّيۡلِ إِذَا عَسۡعَسَ١٧

ثم أقسم بالليل والنهار فقال : { والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس } معنى قوله : { عسعس } يعني أقبل ، وقيل : معناه أدبر ، وذلك أن الكلمة { عسعس } في اللغة العربية تصلح لهذا وهذا . لكن الذي يظهر أن معناها «أقبل » ليوافق أو ليطابق ما بعده من القسم . وهو قوله : { والصبح إذا تنفس } فيكون الله أقسم بالليل حال إقباله ، وبالنهار حال إقباله . وإنما أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات لعظمها وكونها من آياته الكبرى ، فمن يستطيع أن يأتي بالنهار إذا كان الليل ، ومن يستطيع أن يأتي بالليل إذا كان النهار ، قال الله عز وجل : { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون . قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون } . [ القصص : 71 ] . { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } [ القصص : 73 ] . فهذه المخلوقات العظيمة يقسم الله بها لعظم المقسم عليه وهو قوله : { إنه لقول رسول كريم }

وَٱلصُّبۡحِ إِذَا تَنَفَّسَ١٨

ثم أقسم بالليل والنهار فقال : { والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس } معنى قوله : { عسعس } يعني أقبل ، وقيل : معناه أدبر ، وذلك أن الكلمة { عسعس } في اللغة العربية تصلح لهذا وهذا . لكن الذي يظهر أن معناها «أقبل » ليوافق أو ليطابق ما بعده من القسم . وهو قوله : { والصبح إذا تنفس } فيكون الله أقسم بالليل حال إقباله ، وبالنهار حال إقباله . وإنما أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات لعظمها وكونها من آياته الكبرى ، فمن يستطيع أن يأتي بالنهار إذا كان الليل ، ومن يستطيع أن يأتي بالليل إذا كان النهار ، قال الله عز وجل : { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون . قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون } . [ القصص : 71 ] . { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } [ القصص : 73 ] . فهذه المخلوقات العظيمة يقسم الله بها لعظم المقسم عليه وهو قوله : { إنه لقول رسول كريم }

إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيمٖ١٩

فهذه المخلوقات العظيمة يقسم الله بها لعظم المقسم عليه وهو قوله : { إنه لقول رسول كريم } { إنه } أي القرآن { لقول رسول كريم } هو جبريل عليه الصلاة والسلام ، فإنه رسول الله إلى الرسل بالوحي الذي ينزله عليهم . ووصفه الله بالكرم لحسن منظره كما قال تعالى في آية أخرى : { ذو مرة فاستوى } [ النجم : 6 ] . { ذو مرة } قال العلماء : المرة : الخلق الحسن والهيئة الجميلة ، فكان جبريل عليه الصلاة والسلام موصوفاً بهذا الوصف : { كريم }

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 21

ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلۡعَرۡشِ مَكِينٖ٢٠

{ ذي قوة عند ذي العرش مكين } { ذي قوة } وصفه الله تعالى بالقوة العظيمة ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلّم رآه على صورته التي خلقه الله عليها له ست مئة جناح قد سدّ الأفق كله من عظمته عليه الصلاة والسلام ، وقوله : { عند ذي العرش } أي عند صاحب العرش وهو الله جل وعلا ، والعرش فوق كل شيء ، وفوق العرش رب العالمين عز وجل . قال الله تعالى : { رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } [ غافر : 15 ] . فذو العرش هو الله . وقوله : { مكين } أي ذو مكانة ، أي أن جبريل عند الله ذو مكانة وشرف ، ولهذا خصه الله بأكبر النعم التي أنزلها الله على عباده ، وهو الوحي فإن النعم لو نظرنا إليها لوجدنا أنها قسمان : نِعَم يستوي فيها البهائم والإنسان ، وهي متعة البدن الأكل والشرب ، والنكاح والسكن ، هذه النعم يستوي فيها الإنسان والحيوان ، فالإنسان يتمتع بما يأكل ، وبما يشرب ، وبما ينكح ، وبما يسكن ، والبهائم كذلك . ونِعمٌ أخرى يختص بها الإنسان ، وهي الشرائع التي أنزلها الله على الرسل لتستقيم حياة الخلق ، لأنه لا يمكن أن تستقيم حياة الخلق أو تطيب حياة الخلق إلا بالشرائع { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] . المؤمن العامل بالصالحات هو الذي له الحياة الطيبة في الدنيا والثواب الجزيل في الاخرة . والله لو فتشت الملوك وأبناء الملوك ، والوزراء وأبناء الوزراء ، والأمراء وأبناء الأمراء ، والأغنياء وأبناء الأغنياء ، لو فتشتهم وفتشت من آمن وعمل صالحاً لوجدت الثاني أطيب عيشة ، وأنعم بالاً ، وأشرح صدراً ، لأن الله عز وجل الذي بيده مقاليد السموات والأرض تكفل . قال : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } تجد المؤمن العامل للصالحات مسرور القلب ، منشرح الصدر ، راضياً بقضاء الله وقدره ، إن أصابه خير شكر الله على ذلك ، وإن أصابه ضده صبر على ذلك واعتذر إلى الله مما صنع ، وعلم أنه إنما أصابه بذنوبه فرجع إلى الله عز وجل ، قال النبي عليه الصلاة والسلام : «عجباً للمؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سَّراء شكر ، فكان خيراً له ، وإن أصابته ضَّراء صبر فكان خيراً له » ، وصدق النبي عليه الصلاة والسلام ، إذن أكبر نعمة أنزلها الله على الخلق هي نعمة الدين الذي به قوام حياة الإنسان في الدنيا والاخرة ، والحياة الحقيقية هي حياة الاخرة ، والدليل قوله تعالى في سورة الفجر : { يقول يا ليتني قدمت لحياتي } [ الفجر : 24 ] . فالدنيا ليست بشيء . الحياة حقيقة حياة الاخرة ، والذي يعمل للاخرة يحيا حياة طيبة في الدنيا ، فالمؤمن العامل للصالحات هو الذي كسب الحياتين : حياة الدنيا ، وحياة الاخرة . والكافر هو الذي خسر الدنيا والاخرة { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين } [ الزمر : 15 ] .