الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي

السمين الحلبي القرن الثامن الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 1

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ١

{ بِسمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ }

مصدر بَسْمَلَ ، أي قال : بسم الله ، نحو : حَوْقَلَ وهيْلَلَ وحَمْدَلَ ، أي : قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولا إله إلا الله ، والحمد لله . وهذا شَبيه بباب النحت في النسب ، أي إنهم يأخذون اسمَيْن فَيَنْحِتون منهما لفظاً واحداً ، فينسِبون إليه كقولهم : حَضْرَميّ وعَبْقَسيّ وعَبْشَميّ نسبةً إلى حَضْرَمَوْت وعبدِ القَيْس وعبدِ شمس . قال :

وتضحَكُ مني شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّة *** كَأَنْ لم تَرَيْ قبلي أسيراً يَمانياً

وهو غيرُ مقيس ، فلا جرم أن بعضهم قال في : بَسْمل وهَيْلل إنها لغة مُوَلَّدَة ، [ قال الماوردي : يقال لمَنْ قال : بسم الله : مُبَسْمِل وهي ] لغةٌ مُوَلَّدة وقد جاءَتْ في الشعر ، قال عمر بن أبي ربيعة :

لقد بَسْمَلَتْ ليلى غداةَ لقِيتُها *** ألا حَبَّذا ذاكَ الحديثُ المُبَسْمِلُ

وغيرُه من أهلِ اللغةِ نَقَلها ولَم يقُلْ إنها مُوَلَّدَة ك ثعلب والمطرِّز .

وبِسْم : جارٌّ ومجرور ، والباء هنا للاستعانة كعَمِلت وبالقَدُوم ، لأنَّ المعنى : أقرأ مستعيناً بالله ، ولها معانٍ أُخَرُ تقدَّم الوعدُ بذكرها ، وهي : الإِلصاقُ حقيقةً أو مجازاً ، نحو : مَسَحْتُ برأسي ، مررْتُ بزيدٍ ، والسببية : [ نحو ]

{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ } [ النساء : 160 ] ، أي بسببِ ظلمهم ، والمصاحبة نحو : خرج زيدٌ بثيابه ، أي مصاحباً لها ، والبدلُ كقوله عليه السلام : " ما يَسُرُّنِي بها حُمْرُ النَّعَم " أي بدلها ، وكقول الآخر :

فليتَ لي بِهِمُ قوماً إذا ركبوا *** شَنُّوا الإِغارةَ فرساناً ورُكْبانا

أي : بَدَلَهم ، والقسم : أحلفُ باللهِ لأفعلنَّ ، والظرفية نحو : زيد بمكة أي فيها ، والتعدية نحو : { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } [ البقرة : 17 ] ، والتبعيض كقول الشاعر :

شَرِبْنَ بماءِ البحر ثم ترفَّعَتْ *** متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ

أي من مائه ، والمقابلة : " اشتريتهُ بألف " أي : قابلتُه بهذا الثمنِ ، والمجاوزة مثلُ قولِه تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ } [ الفرقان : 25 ] أي عن الغمام ، ومنهم مَنْ قال : لا تكون كذلك إلا مع السؤال خاصة نحو :

{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] أي عنه ، وقول علقمة :

فإنْ تَسْأَلوني بالنساءِ فإنني *** خبيرٌ بأَدْواءِ النساء طبيبُ

إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُه *** فليس له في وُدِّهِنَّ نَصيبُ

والاستعلاء كقوله تعالى : { مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } [ آل عمران : 75 ] . والجمهورُ يأبَوْن جَعْلها إلا للإِلصاق أو التعديةِ ، ويَرُدُّون جميعَ المواضعِ المذكورةِ إليهما ، وليس هذا موضعَ استدلال وانفصال .

وقد تُزاد مطَّردةً وغيرَ مطَّردة ، فالمطَّردةُ في فاعل " كفى " نحو :

{ وَكَفَى بِاللَّهِ } [ النساء : 6 ]/ أي : كفى اللهُ ، بدليل سقوطِها في قول الشاعر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كفى الشيبُ والإِسلامُ للمرءِ ناهياً

وفي خبرِ ليس و " ما " أختِها غيرَ موجَبٍ ب إلاَّ ، كقوله تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ [ عَبْدَهُ ] } [ الزمر : 36 ] ، { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ } [ الأنعام : 132 ] وفي : بحَسْبكِ زيدٌ . وغيرَ مطَّردةٍ في مفعولِ " كفَى " ، كقوله :

فكفى بنا فَضْلاً على مَنْ غيرُنا *** حُبُّ النبيِّ محمدٍ إيانا أي : كَفانا ، وفي البيت كلامٌ آخرُ ، وفي المبتدأ غيرَ " حَسْب " ومنه في أحدِ القولين : { بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ } [ القلم : 6 ] وقيل : المفتون مصدر كالمَعْقول والمَيْسور ، فعلى هذا ليست زائدةً ، وفي خبر " لا " أختِ ليس ، كقوله :

فكُنْ لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ *** بمُغْنٍ فتيلاً عن سَوادِ بنِ قاربِ

أي : مُغْنياً ، وفى خبرِ كان مَنْفِيَّةً نحو :

وإنْ مُدَّتِ الأيدي إلى الزادِ لم أكنْ *** بِأعجلِهم ، إذْ أَجْشَعُ القومِ أَعْجَلُ

أي : لم أكنْ أعجلَهم ، وفي الحال وثاني مفعولَيْ ظنَّ منفيَّيْنِ أيضاً كقوله :

فما رَجَعَتْ بخَائِبَةٍ رِكابٌ *** حكيمُ بنُ المُسَيَّب مُنْتَهاها

وقولِ الآخر :

دعاني أخي والخيلُ بيني وبينه *** فلمَّا دعاني لم يَجِدْني بقُعْدَدِ

أي : ما رَجَعَت رِكابُ خائبةً ، ولم يَجِدْني قُعْدَداً ، وفي خبر " إنَّ " كقول امرئ القيس :

فإنْ تَنْأَ عنها حِقْبَةً لا تُلاقِها *** فإنك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ

أي : فإنك المجرِّب ، وفي : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ } [ الأحقاف : 33 ] وشبهه .

والاسمُ لغةً : ما أبانَ عن مُسَمَّى ، واصطلاحاً : ما دلَّ على معنىً في نفسه فقط غيرَ متعرِّضٍ بِبُنْيَتِهِ لزمان ولا دالٍّ جزءٌ من أجزائه على جزءٍ من أجزاء معناه ، وبهذا القيدِ الأخيرِ خَرَجت الجملةُ الاسميةُ ، والتسميةُ : جَعْلُ ذلك اللفظِ دالاًّ على ذلك المعنى .

واختلف الناسُ : هل الاسمُ عينُ المُسَمَّى أو غيرُه ؟ وهي مسألةٌ طويلةٌ ، تكلَّم الناسُ فيها قديماً وحديثاً واستشكلوا على كونه هو المُسَمَّى إضافَتَه إليه ، فإنه يلزم منه إضافةُ الشيء إلى نفسِه ، وأجاب أبو البقاء عن ذلك بثلاثة أجوبة ، أجودُها : أنَّ الاسم هنا بمعنى التسمية ، والتسميةُ غيرُ الاسم ، لأنَّ التسمية هي اللفظُ بالاسم ، والاسمَ هو اللازمُ للمُسَمَّى فتغايرا . الثاني : أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه : باسم مُسَمَّى اللهِ . الثالث : أن لفظَ " اسم " زائدٌ كقولِه :

إلى الحَوْلِ ثم اسمُ السلامِ عليكما *** ومَنْ يَبْكِ حولاً كاملاً فقد اعتذَرْ

أي : السلام عليكما ، وقول ذي الرمة :

لاَ يَرْفَعُ الطرفَ إلاَّ ما تَخَوَّنَهُ *** داعٍ يُناديه باسمِ الماءِ مَبْغَومُ

وإليه ذهب أبو عبيدة والأخفش وقطرب .

واختلفوا في معنى الزيادة فقال الأخفش : ليخرجَ من حُكْمِ القسم إلى قَصْدِ التبرُّك " . وقال قطرب : " زيد للإِجلال والتعظيم " ، وهذان الجوابان ضعيفان لأنَّ الزيادةَ والحذفَ لا يُصار إليهما إلاَّ إذا اضطُرَّ إليهما .

ومن هذا القَبيلِ - أعني ما يُوهِمُ إضافةَ الشيءِ إلى نفسِه - إضافةُ الاسمِ إلى اللقبِ والموصوفِ إلى صفتهِ ، نحو : سعيدُ كُرزٍ وزيدُ قُفَّةٍ ومسجدُ الجامعِ وبَقْلَةُ الحمقاءِ ، ولكن النحويين أوَّلوا النوع الأول بأنْ جعلوا الاسمَ بمعنى المُسَمَّى واللقبَ بمعنى اللفظِ ، فتقديرُه : جاءني مسمَّى هذا اللفظِ ، وفي الثاني جَعَلوه على حَذْفِ مضافٍ ، فتقديرُ بقلةِ الحمقاءِ : بقلةُ الحبِّةِ الحمقاءِ ، ومسجدُ الجامعِ : مسجدُ المكانِ الجامعِ .

واختلف النحويون في اشتقاقه : فذهب أهلُ البصرة إلى أنه مشتقٌ من السُّمُوِّ وهو الارتِفاعُ ، لأنه يَدُلُّ على مُسَمَّاه فيرفعُه ويُظْهِرهُ ، وذهب الكوفيون إلى أنه مشتق من الوَسْم وهو العلامةُ لأنه علامةٌ على مُسَمَّاه ، وهذا وإنْ كان صحيحاً من حيث المعنى لكنه فاسدٌ من حيث التصريفُ .

استدلَّ البصريون على مذهبهم بتكسيرِهم له على " أَسْماء " وتصغيرهم له على سُمَيّ ، لأن التكسير والتصغير يَرُدَّان الأشياء إلى أصولها ، وتقولُ العَربُ : فلانٌ سَمِيُّك ، وسَمَّيْتُ فلاناً بكذا ، وأَسْمَيْتُه بكذا ، فهذا يَدُلُّ على اشتقاقه من السموّ ، ولو كان من الوَسْم لقيل في التكسير : أَوْسام ، وفي التصغير : وُسَيْم ، ولقالوا :

وَسِيمُك فلانٌ ووَسَمْتُ وأَوْسَمْتُ فلاناً بكذا ، فدلَّ عدمُ قولِهم ذلك أنه ليس كذلك . وأيضاً فَجَعْلُه من السموّ مُدْخِلٌ له في البابِ الأكثرِ ، وجَعْلُه من الوَسْم مُدْخِلٌ له في الباب الأقلِّ ؛ وذلك أن حَذْفَ اللام كثيرٌ وحذفَ الفاءِ قليلٌ ، وأيضاً فإنَّا عَهِدْناهم غالباً يُعَوِّضون في غير محلِّ الحَذْفَ فَجَعْلُ همزةِ الوصل عوضاً من اللام موافقٌ لهذا الأصل بخلافِ ادِّعاءِ كَوْنِها عوضاً من الفاء . فإن قيل : قولُهم " أسماء " في التكسير و " سُمَيّ " في التصغير لا دلالةَ فيه لجوازِ أن يكون الأصلُ : أَوْسَاماً ووُسَيْماً ، ثم قُلِبَتِ الكلمةُ بأَنْ أُخِّرَتْ فاؤُها بعد لامها فصار لفظُ أَوْسام : أَسْماواً ، ثم أُعِلَّ إعلالَ كساء ، وصار وُسَيْم سُمَيْوَاً ، ثم أُعِلَّ إعلالَ جُرَيّ تصغير جَرْو . فالجوابُ أنَّ ادِّعاء ذلك لا يفيدُ ، لأنَّ القَلْبَ على خلافِ القياس فلا يُصارُ إليه ما لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ . وهل لهذا الخلافِ فائدةٌ أم لا ؟ والجوابُ أن له فائدةً ، وهي أَنَّ مَنْ قال باشتقاقِه من العلوِّ يقول : إنه لم يَزَلْ موصوفاً قبل وجودِ الخلق وبعدَهم وعند فَنائِهم ، لا تأثيرَ لهم في أسمائه ولا صفاتِه وهو قول أهل السُّنَّةِ . وَمنْ قال بأنه مشتقٌّ من الوَسْم يقول : كان الله في الأزل بلا اسم ولا صفةٍ ، فلما خَلَقَ الخلق جعلوا له أسماءً وصفاتٍ وهو قول المعتزلة ، وهذا أشدُّ خطأً من قولِهم بخلق القرآن وعلى هذا الخلافِ وَقَعَ الخلافُ أيضاً في الاسم والمُسَمَّى .

وفي الاسم خمسُ لغاتٍ : " اسم " بضم الهمزة وكسرها ، و " سُِم " بكسر السين وضمها . وقال أحمد بن يحيى : " سُمٌ بضم السين أَخَذَه من سَمَوْتُ أسْمُو ، ومَنْ قاله بالكسر أخذه من سَمَيْتُ أَسْمي ، وعلى اللغتين قوله :

وعامُنا أَعْجبنا مُقَدَّمُهْ *** يُدْعى أبا السَّمْحِ وقِرضابٌ سُِمُهْ

مُبْتَرِكاً لكلِّ عَظْمٍ يَلْحُمُهْ

يُنْشَدُ بالوجهين ، وأنشدوا على الكسر :

باسمِ الذي في كلِّ سورةٍ سِمُهْ

[ فعلى هذا يكون في لام " اسم " وجهان ، أحدُهما : أنها واو ، والثاني : أنها ياء وهو غريبٌ ، ولكنَّ ] أحمد بن يحيى جليلُ القدر ثقةٌ فيما ينقل . و " سُمَىً " مثل هُدَىً . واستدلُّوا على ذلك بقول الشاعر :

واللهُ أَسْماك سُمَىً مُبارَكاً *** آثرك اللهُ به إيثارَكَا

ولا دليلَ في ذلك لجوازِ أن يكونَ من لغةِ مَنْ يجعله منقوصاً مضمومَ السين وجاء به منصوباً ، وإنما كان ينتهض دليلاً لو قيل : سُمَىً حالةَ رفعٍ أو جَرٍّ .

وهمزتُه همزةُ وصلٍ أي تُثْبَت ابتداءً وتُحْذَفُ دَرْجَاً ، وقد تُثْبَتُ ضرورةً كقوله :

وما أنا بالمَخْسوسِ في جِذْمِ مالكٍ *** ولا مَنْ تسمَّى ثم يلتزِم الإِسْما

وهو أحدُ الأسماءِ العشرةِ التي ابتُدِئ في أوائِلها بهمزةِ الوصلِ/ وهي : اسم واست وابن وابنُم وابنة وامرؤ وامرأة واثنان واثنتان وايمنُ في القسم . والأصل في هذه الهمزةِ أن تُثْبَتَ خَطَّاً كغيرِها من همزاتِ الوصل ، وإنما حَذَفوها حين يُضاف الاسمُ إلى الجلالةِ خاصةً لكثرة الاستعمال . وقيل : ليوافقَ الخطُّ اللفظَ . وقيل لا حذفَ أصلاً ، وذلك لأن الأصل : " سِمٌ " أو " سُم " بكسر السين أو ضمها فلمَّا دخلتِ الباءُ سَكَنَتِ العينُ تخفيفاً ، لأنه وقع بعد الكسرة كسرةٌ أو ضمةٌ ، [ وهذا حكاه النحاس وهو حسن ] ، فلو أضيف إلى غير الجلالة ثَبَتَتْ ، نحو : باسم الرحمن ، هذا هو المشهور ، وحُكِيَ عن الكسائي والأخفش جوازُ حََذْفِها إذا أُضيفت إلى غيرِ الجلالة من أسماء الباري تعالى نحو : بسمِ ربِّك ، بسمِ الخالق .

واعْلم أنَّ كلَّ جار ومجرور لا بُدَّ له من شيءٍ يَتَعَلَّقُ به ، فعلٍ أو ما في معناه ، إلا في ثلاثِ صور : حرفِ الجر الزائد ولعلَّ ولولا عند مَنْ يجر بهما ، وزاد الاستاذ ابن عصفور كافَ التشبيه ، وليس بشيء فإنها تتعلَّق . إذا تقرر ذلك ف " بسم الله " لا بدَّ من شيء يتعلق به ولكنه حُذِف .

واختلف النحويون في ذلك ، فذهب أهلُ البصرةِ إلى أنَّ المُتَعَلَّقَ به اسمٌ ، وذهب أهلُ الكوفة إلى أنه فِعْلٌ ، ثم اختَلَفَ كلٌ من الفريقين : فذهب بعضُ البصريين إلى أنَّ ذلك المحذوفَ مبتدأٌ حُذِفَ هو وخبرهُ وبقي معمولُه ، تقديره : ابتدائي باسم الله كائنٌ أو مستقرٌ ، أو قراءتي باسم الله كائنةٌ أو مستقرة . وفيه نظرٌ من حيث إنه يلزمُ حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معمولِه وهو ممنوعٌ ، وقد نص مكي على مَنْع هذا الوجهِ . وذهبَ بعضُهم إلى أنه خبرٌ حُذِف هو ومبتدؤه أيضاً وبقي معمولُه قائماً مَقامَه ، والتقدير : ابتدائي كائنٌ باسمِ الله ، أو قراءتي كائنةٌ باسم الله نحو : زيدٌ بمكةَ ، فهو على الأول منصوبُ المحلِّ وعلى الثاني مرفوعُه لقيامِهِ مقامَ الخبر . وذهب بعضُ الكوفيين إلى أنَّ ذلك الفعلَ المحذوفَ مقدَّرٌ قبله ، قال : لأنَّ الأصلَ التقديمُ ، والتقدير : أقرأُ باسم الله أو أبتدئُ باسم الله . ومنهم مَنْ قدَّر بعده : والتقدير : باسم الله أقرأ أو أبتدئ أو أتلو ، وإلى هذا نحا الزمخشري قال : " ليفيدَ التقديمُ الاختصاصَ لأنه وقع ردًّاً على الكفرة الذين كانوا يبدؤون بأسماءِ آلهتهم كقولهم : باسم اللات ، باسم العُزَّى " وهذا حسنٌ جداً ، ثم اعترض على نفسِه بقولِه تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } [ القلم : 1 ] ، حيث صَرَّح بهذا العامل مُقَدَّماً على معمولِه ، ثم أجاب بأنَّ تقديمَ الفعل في سورة العلق أوقعُ لأنها أولُ سورةٍ نَزَلَت فكان الأمرُ بالقراءة أهمَّ " . وأجاب غيرُه بأنَّ ب " اسم ربك " ليس متعلقاً ب " اقرأ " الذي قبله ، بل ب " اقرأ " الذي بعده ، فجاء على القاعدة المتقدمة .

وفي هذا نظرٌ لأن الظاهرَ على هذا القول أن يكون " اقرأ " الثاني توكيداً للأول فيكون قد فَصَلَ بمعمول المؤكِّد بينه وبين ما أكَّده مع الفصلِ بكلامٍ طويل .

واختلفوا أيضاً : هل ذلك الفعلُ أمرٌ أو خبرٌ ؟ فذهب الفراء أنه أَمْرٌ تقديرُه : اقرأ أنت باسم الله ، وذهب الزجاج أنه خبرٌ تقديره : اقرأ أنا أو أبتَدِئُ ونحوهُ .

و " الله " في " بسم الله " مضافٌ إليه ، وهل العاملُ في المضاف إليه المضافُ أو حرفُ الجرِّ المقدََّرِ أو معنى الإِضافة ؟ ثلاثةُ أقوال خَيْرُها أوسطُها . وهو عَلَمٌ على المعبودِ بحق ، لاَ يُطلق على غيره ، ولَم يَجْسُرْ أحدٌ من المخلوقين أن يَتَسَّمى به ، وكذلك الإِله قبل النقل والإِدغامِ لا يُطْلق إلا على المعبودِ بحقٍّ . قال الزمخشري : " كأنه صار عَلَماً بالغلَبة " ، وأمّا " إله " المجردُ من الألف واللام فيُطلق على المعبود بحقٍّ وعلى غيره ، قال تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] ، { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } [ المؤمنون : 117 ] ، { [ أَرَأَيْتَ ] مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [ الفرقان : 43 ] . واختلف الناسُ هل هو مُرْتَجَلٌ أو مشتق ؟ ، والصوابُ الأولُ ، وهو أعرفُ المعارف . يُحْكى أن سِيبوِيه رُئيَ في المنام فقيل [ له ] : ما فعلَ اللهُ بك ؟ فقال : خيراً كثيراً ، لجَعْلِي اسمَه أعرفَ المعارفِ .

ثم القائلونَ باشتقاقِه اختلفوا اختلافاً كثيراً ، فمنهم مَنْ قال : هو مشتقٌّ من لاهَ يليه أي ارتفع ، ومنه قيل للشمس : إلاَهة بكسر الهمزة وفتحها لارتفاعها ، وقيل : لاتخاذِهِم إياها معبوداً ، وعلى هذا قيل : " لَهْيَ أبوك " يريدونَ : للهِ أبوك ، فَقَلَب العينَ إلى موضع اللام . وخَفَّفه فَحَذَفَ الألفَ واللامَ وحَذَفَ حرفَ الجرِ . وأَبْعد بعضُهم فَجَعَلَ مِنْ ذلك قولَ الشاعر :

ألا ياسَنا بَرْقٍ على قُلَلِ الحِمى *** لَهِنَّكَ من برقٍ عليَّ كريمُ

قال : الأصلُ : لله إنك كريمٌ عليَّ ، فَحَذََفَ حرف الجر وحرف التعريف والألفَ التي قبل الهاء من الجلالة ، وسَكَّن الهاءَ إجراءً للوصل مُجْرى الوقف ، فصار اللفظ : لَهْ ، ثم أَلقى حركة همزة " إنَّ " على الهاء فبقي : لَهِنَّك كما ترى ، وهذا سماجَةٌ من قائلِه . وفي البيت قولان أيسرُ من هذا .

ومنهمَ مَنْ قال : " هو مشتقٌّ من لاه يَلُوه لِياهاً . أي احتجَبَ ، فالألف على هذين القولين أصليةٌ ، فحينئذ أصلُ الكلمة لاَهَ ، ثم دخل عليه حرفُ التعريف فصار اللاه ، ثم أُدْغِمت لام التعريف في اللام بعدها لاجتماعِ شروطِ الإِدغام ، وفُخِّمت لامُه . ووزنُه على القولين المتقدِّمين إمَّا : فَعَل أو فَعِل بفتح العين أو كسرِها ، وعلى كل تقدير : فتحرَّك حرفُ العلة وانفتحَ ما قبلَه فقُلِب ألفاً ، وكان الأصلَ : لَيَهاً أو لَيِهاً أو لَوَهاً أو لَوِهاً .

ومنهم مَنْ جَعَلَه مشتقاً من أَلَه ، وأَلَه لفظٌ مشترك بين معانٍ وهي : العبادةُ والسكون والتحيُّر والفزع ، فمعنى " إله " أنَّ خَلْقَه يعبدونه ويسكنون إليه ويتحيَّرون فيه ويفزعون إليه . ومنه قولُ رؤبة :

لِلَّهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّهِ *** سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألُّهي

أي : من عبادتِه ، ومنه { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } [ الأعراف : 127 ] أي عبادتك . وإلى معنى التحيُّر أشار أمير المؤمنين بقوله : " كَلَّ دون صِفاته تحبيرُ الصفات وضَلَّ هناك تصاريفُ اللغات " وذلك أن العبد إذا تفكَّر في صفاته تحيَّر ، ولهذا/ رُوي : " تفكروا في آلاء الله ، ولا تتفكروا في الله " وعلى هذا فالهمزةُ أصلية والألفُ قبل الهاء زائدةٌ ، فأصلُ الجلالة الكريمة : الإِله ، كقولِ الشاعر :

معاذَ الإِله أن تكونَ كظبيةٍ *** ولا دُمْيَةٍ ولا عَقِيْلَةٍ رَبْرَبِ

ثم حُذِفت الهمزةُ لكثرةِ الاستعمال كما حُذفت في ناس ، والأصل أُناس كقوله :

إنَّ المَنايا يَطَّلِعْ *** نَ على الأُناس الآمِنينا

فالتقى حرفُ التعريفِ مع اللامِ فأُدْغِم فيها وفُخِّم . أو نقول : إن الهمزة من الإِله حُذِفت للنقل ، بمعنى أنَّا نَقَلْنا حَرَكتَها إلى لام التعريف وحَذَفْناها بعد نقل حركتها كما هو المعروف في النقل ، ثم أُدغم لامُ التعريف كما تقدَّم ، إلا أنَّ النقلَ هنا لازِمٌ لكثرةِ الاستعمال .

ومنهم مَنْ قال : هو مشتقٌ من وَلِهَ لكونِ كلِّ مخلوقٍ والِهاً نحوَه ، وعلى ذلك قال بعض الحكماء : " الله محبوب للأشياءِ كلها ، وعلى ذلك دلَّ قوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [ الإسراء : 44 ] ، فأصله : وِلاه ثم أُبدلت الواو همزةً كما أُبدلت في إشاح وإعاء ، والأصلُ : وِشاح ووِعاء ، فصار الفظُ به : إلاهاً ، ثم فُعِل به ما تقدَّم مِنْ حَذْفِ همزتِه والإِدغام ، ويُعْزَى هذا القول للخليل ، فعلى هذين القولين وزنُ إلاه : فِعال ، وهو بمعنى مَفْعول أي : مَعْبود أو متحيِّرٌ فيه كالكِتاب بمعنى مكتوب .

وُردَّ قولُ الخليل بوجهين ، أحدهما : أنه لو كانت الهمزةُ بدلاً من واو لجاز النطق بالأصلِ ، ولم يَقُلْه أحد ، ويقولون : إشاح ووشاح وإعاء ووعاء . والثاني : أنه لو كان كذلك لجُمع على أَوْلِهة كأَوْعِية وأَوشِحَة فتُرَدُّ الهمزة إلى أَصلها ، ولم يُجْمع " إله " إلا على آلهة .

وللخليل أن ينفصِلَ عن هذين الاعتراضين بأنَّ البدلَ لزِم في هذا الاسمِ لأنه اختصَّ بأحكامٍ لم يَشْرَكَهْ فيها غيرُه ، كما ستقف عليه ، ثم جاء الجمع على التزامِ البدل .

وأمَّا الألفُ واللامُ فيترتَّب الكلامُ فيها على كونِه مشتقاً أو غيرَ مشتقٍّ ، فإنْ قيل بالأول كانَتْ في الأصل مُعَرِّفةً ، وإنْ قيل بالثاني كانت زائدةً . وقد شَذَّ حذفُ الألفِ واللامِ من الجلالة في قولهم " لاهِ أبوك " ، والأصل : للهِ أبوك كما تقدم ، قالوا : وحُذِفَت الألفُ التي قبل الهاء خَطَّاً لئلا يُشْبَّهَ بخط " اللات " اسم الصنم ، لأن بعضهم يقلبُ هذه التاء في الوقف هاءً فيكتُبها هاءً تَبَعَاً للوقف فمِنْ ثمَّ جاء الاشتباه .

وقيل : لئلا يُشَبَّه بخط " اللاه " اسمَ فاعل من لها يلهو ، وهذا إنما يَتِمُّ على لغة مَنْ يحذف ياءَ المنقوص المعرَّف وقفاً لأن الخطَّ يتبعه ، وأمَّا مَنْ يُثْبِتُها وقفاً فيثبتها خطَّاً فلا لَبْس حينئذ . وقيل : حَذْفُ الألف لغةٌ قليلة جاء الخط عليها ، والتُزمَ ذلك لكثرة استعماله ، قال الشاعر :

أقبلَ سَيْلٌ كان من أمر اللهْ *** يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّة المُغِلَّهْ

وحكمُ لامِه التفخيمُ تعظيماً ما لم يتقدَّمْه كسرٌ فترقّقُ ، وإن كان أبو القاسم الزمخشري قد أطلق التفخيمَ ، ولكنه يريد ما قلته . ونقل أبو البقاء أنَّ منهمِ مَنْ يُرَقِّقُها على كل حال . وهذا ليس بشيءٍ لأن العربَ على خِلافِه كابراً عن كابرٍ كما ذكره الزمخشري . ونقل أهلُ القراءة خلافاً فيما إذا تقدَّمَه فتحةٌ ممالةٌ أي قريبة من الكسرة : فمنهم مَنْ يُرَقِّقها ، ومنهم مَنْ يُفَخِّمُها ، وذلك كقراءة السوسي في أحدِ وَجْهَيْه : " حتى نَرَى اللهَ جَهْرةً " .

ونقل السهيلي وابن العربي فيه قولاً غريباً وهو أنَّ الألف واللام فيه أصليةٌ غيرُ زائدةٍ ، واعتذرا عن وَصْلِ الهمزةِ بكثرة الاستعمال ، كما يقول الخليل في همزةِ التعريف ، وقد رُدَّ قولهُما بأنه كان ينبغي أن يُنَوَّن لفظُ الجَلالةِ لأنَّ وزنَه حينئذ فَعَّال نحو : لآَّل وسَآَّل ، وليس فيه ما يمنعه من التنوينِ فدلَّ على أنَّ أل فيه زائدةٌ على ماهيةِ الكلمةِ .

ومن غريبِ ما نُقِل فيه أيضاً أنه ليس بعربي بل هو مُعَرَّب ، وهو سُريانيُّ الوَضْعِ وأصله : " لاها " فَعَرَّبَتْه العربُ فقالوا : الله ، واستدلُّوا على ذلك بقول الشاعر :

كحَلْفَةٍ من أبي رياحِ *** يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبارُ

فجاء به على الأصلِ قبل التعريبِ ، ونقل ذلك أبو زيد البلخي .

[ ومِنْ غريب ما نُقل فيه أيضاً أنَّ الأصل فيه الهاءُ التي هي كنايةٌ عن الغائب ] قالوا : وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في نظر عقولِهم فأشاروا إليه بالضمير ، ثم زِيدَتْ فيه لامُ المِلْك ، إذ قد عَلِموا أنه خالقُ الأشياء ومالِكُها فصار اللفظ : " لَهُ " ثم زِيدت فيه الألف واللام تعظيماً وتفخيماً ، وهذا لا يُشبه كلامَ أهل اللغة ولا النَحْويين ، وإنما يشبه كلامَ بعض المتصوفة .

ومن غريب ما نُقل فيه أيضاً أنه صفةٌ وليس باسم ، واعتلَّ هذا الذاهب إلى ذلك أنَّ الاسم يُعَرِّفَ المُسَمَّى والله تعالى لا يُدْرَكُ حِسَّاً ولا بديهةً فلا يُعَرِّفُه اسمه ، إنما تُعَرِّفه صفاتُه ، ولأن العَلَم قائمٌ مقامَ الإِشارة ، واللهُ تعالى ممتنعٌ ذلك في حقه . وقد رَدَّ الزمخشري هذا القولَ بما معناه أنك تصفه ولا تَصِفُ به ، فتقول : إله عظيم واحد ، كما تقول : شيءٌ عظيم ورجلٌ كريم ، ولا تقول : شيء إله ، كما لا تقول : شيء رجل ، ولو كان صفةً لوقع صفةً لغيره لا موصوفاً ، وأيضاً فإنَّ صفاتِه الحسنى لا بُدَّ لها من موصوف تَجْري عليه ، فلو جَعَلْتَها كلَّها صفاتٍ ، بقيت غيرَ جاريةٍ على اسمٍ موصوفٍ بها ، وليس فيما عدا الجلالة خلافٌ في كونِه صفةً فَتَعَيَّن أن تكونَ الجلالةُ اسماً لا صفةً .

والقولُ في هذا الاسم الكريمِ يحتمل الإِطالةَ أكثرَ ممَّا ذكرْتُ لك ، إنما اختصرْتُ ذلك خوفَ السآمة للناظر في هَذا الكتاب .

الرحمن الرحيم : صفتان مشتقتان من الرحمة ، وقيل : الرحمنُ ليس مشتقاً لأن العربَ لم تَعْرِفْه في قولهم : { وَمَا الرَّحْمَنُ } [ الفرقان : 60 ] وأجاب ابن العربي عنه بأنهم جَهِلوا الصفةَ دونَ الموصوفِ ، ولذلك لم يقولوا : وَمَنْ الرحمن ؟ وقد تَبِعا موصوفَهما في/ الأربعةِ من العشرة المذكورة .

وذهب الأعلمُ الشنتمريُّ إلى أن " الرحمن " بدلٌ من اسمِ الله لا نعتٌ له ، وذلك مبنيٌّ على مذهبه من أنَّ الرحمن عنده عَلَمٌ بالغلَبة . واستدَلَّ على ذلك بأنه قد جاء غيرَ تابعٍ لموصوفٍ ، كقوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ } [ الرحمن : 1-2 ] { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] . وقد رَدَّ عليه السُّهيلي بأنه لو كان بدلاً لكان مبيَّناً لِما قبله ، وما قبله - وهو الجلالة - لا يفتقرُ إلى تبيين لأنها أعرفُ الأعلامِ ، ألا تراهم قالوا :

{ وَمَا الرَّحْمَنُ } [ الفرقان : 60 ] ولم يقولوا : وما اللهُ . انتهى . أمَّا قوله : " جاء غيرَ تابع " فذلك لا يمنعُ كونَه صفةً ، لأنه إذا عُلم الموصوفُ جاز حَذْفُه وبقاءُ صفتِه ، كقولِه تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } [ فاطر : 28 ] أي نوع مختلف ، وكقول الشاعر :

كناطحٍ صخرةً يوماً لِيُوْهِنَها *** فلم يَضِرْها وأَوْهَى قرنَه الوَعِلُ

أي : كوعلٍ ناطح ، وهو كثير .

والرحمة لغةً : الرقةُ والانعطافُ ، ومنه اشتقاق الرَّحِم ، وهي الابطنُ لانعطافِها على الجنين ، فعلى هذا يكون وصفُه تعالى بالرحمة مجازاً عن إنعامِه على عبادِه كالمَلِك إذا عَطَف على رعيَّته أصابَهم خيرُه . هذا معنى قول أبي القاسم الزمخشري . ويكونُ على هذا التقدير صفةَ فعلٍ لا صفةَ ذاتٍ ، وقيل : الرحمة إرادةُ الخيرِ لمَنْْ أرادَ اللهُ به ذلك ، ووَصْفُه بها على هذا القولِ حقيقةٌ ، وهي حينئذ صفةُ ذاتٍ ، وهذا القولُ هو الظاهرُ .

وقيل : الرحمة رِقَّةٌ تقتضي الإِحسانَ إلى المرحومِ ، وقد تُستعملُ تارةً في الرقة المجردة وتارةً في الإِحسان المجرَّد ، وإذا وُصِف به الباري تعالى فليس يُراد به إلا الإِحسانُ المجردُ دونَ الرقةِ ، وعلى هذا رُوي : " الرحمةُ من الله إنعامٌ وإفضالٌ ، ومن الآدميين رقةٌ وتعطُّف " .

[ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " وهما اسمان رقيقان أحدهما أرقُّ من الآخر أي : أكثرُ رحمة " . قال الخطَّابي : وهو مُشْكِلٌ ؛ لأن الرقة ] لا مَدْخَلَ لها في صفاتهِ . وقال الحسين بن الفضل : " هذا وَهْمٌ من الراوي ، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أَرْفَقُ من الآخر والرفق من صفاته " وقال عليه الصلاة والسلام : " إن الله رفيقٌ يحبُّ الرِفقَ ، ويُعطي عليه ما لا يُعْطي على العنف " ، ويؤيِّده الحديثُ ، وأمَّا الرحيمُ فالرفيق بالمؤمنين خاصة .

واختلف أهلُ العلمِ في " الرحمن الرحيم " بالنسبة إلى كونِهما بمعنىً واحدٍ أو مختلفين .

فذهب بعضُهم إلى أنهما بمعنى واحد كَنْدمان ونَدِيم ، ثم اختلف هؤلاء على قولين ، فمنهم مَنْ قال : جُمِع بينهما تأكيداً ، ومنهم مَنْ قال : لمَّا تَسَمَّى مُسَيْلمة - لعنه الله- بالرحمن قال الله لنفسه : الرحمنُ الرحيم ، فالجمعُ بين هاتين الصفتين لله تعالى فقط . وهذا ضعيفٌ جداً ، فإنَّ تسميَته بذلك غيرُ مُعْتَدٍّ بها البتَة ، وأيضاً فإن بسم الله الرحمن الرحيم قبلَ ظهورِ أمرِ مُسَيْلَمَةَ .

ومنهم مَنْ قال : لكلِّ واحد فائدةٌ غيرُ فائدةِ الآخر ، وجَعَل ذلك بالنسبة إلى تغايُرِ متعلِّقِهما إذ يقال : " رَحْمن الدنيا ورحيمُ الآخرة " ، يُروى ذلك عن النبي صلَى الله عليه وسلم ، وذلك لأنَّ رحمته في الدنيا تَعُمُّ المؤمنَ والكافرَ ، وفي الآخرة تَخُصُّ المؤمنين فقط ، ويُروَى : رحيمُ الدنيا ورحمنُ الآخرة ، وفي المغايَرة بينهما بهذا القَدْر وحدَه نظرٌ لا يَخْفى .

وذهب بعضُهم إلى أنهما مختلفان ، ثم اختلف هؤلاء أيضاً : فمنهم مَنْ قال : الرحمن أبلغُ ، ولذلك لا يُطلق على غيرِ الباري تعالى ، واختاره الزمخشري ، وجعلَه من باب غَضْبان وسَكْران للممتلىءِ غَضَباً وسُكْراً ، ولذلك يقال : رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الآخرة فقط ، قال الزمخشري : " فكان القياسُ الترقِّيَ من الأدنى ، إلى الأعلى ، كما يُقال : شُجاع باسل ولا يقال : باسِلٌ شجاع . ثم أجاب بأنه أَرْدَفَ الرحمنَ الذي يتناول جلائلَ النِّعَمِ وأصولَها بالرحيمِ ليكونَ كالتتمَّةِ والرديف ليتناولَ ما دَقَّ منها ولَطَف .

ومنهم مََنْ عَكَس فجعلَ الرحيمَ أبلغَ ، ويؤيده روايةُ مَنْ قال : " رحيم الدنيا وحمان الآخرة " لأنه في الدنيا يَرْحم المؤمن والكافرَ ، وفي الآخرة لا يَرْحم إلا المؤمن . لكن الصحيح أنَّ الرحمنَ أبلغُ ، وأمَّا هذه الروايةُ فليس فيها دليلٌ ، بل هي دالَّةٌ على أنَّ الرحمنَ أبلغُ ، وذلك لأن القيامَة فيها الرحمةُ أكثرُ بأضعافٍ ، وأثرُها فيها أظهرُ ، على ما يُروى أنه خَبَّأ لعباده تسعاً وتسعينَ رحمةً ليوم القيامة . والظاهر أن جهةَ المبالَغَةِ فيهما مختلفةٌ ، فمبالغةُ " فَعْلان " من حيث الامتلاءُ والغَلَبَةُ ومبالغةُ " فعيل " من حيث التكرارُ والوقوع بمَحَالِّ الرحمة . وقال أبو عبيدة : " وبناء فَعْلان ليس كبناءِ فَعِيل ، فإنَّ بناء فَعْلان لا يقع إلا على مبالغةِ الفِعْل ، نحو : رجل غَضْبانُ للمتلئ غضباً ، وفعيل يكون بمعنى الفاعلِ والمفعول ، قال :

فأمَّا إذا عَضَّتْ بك الحربُ عَضَّةً *** فإنك مَعْطوفٌ عليك رحيمُ

فالرحمنُ خاصٌّ الاسمِ عامُّ الفعل . والرحيمُ عامٌّ الاسمِ خاصُّ الفعلِ ، ولذلك لا يَتَعَدَّى فَعْلان ويتعدَّى فعيل . حكى ابنُ سِيده : " زيدٌ حفيظٌ علمَك وعلمَ غيرك " .

والألفُ واللام في " الرحمن " للغلَبة كهي في " الصَّعِق " ، ولا يُطلق على غير الباري تعالى عند أكثر العلماء ، لقوله تعالى : { قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ } [ الإسراء : 110 ] ، فعادَلَ به ما لا شِرْكَةَ فيه ، بخلاف " رحيم " فإنه يُطلق على غيره تعالى ، قال [ تعالى ] في حَقَّه عليه السلام : { بالمؤمنين رؤوف رحيم } [ التوبة : 128 ] ، وأمَّا قول الشاعر في مُسَيْلَمََةَ الكذاب -لعنه الله تعالى :-32 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأنت غَيْثُ الوَرى لا زلت رَحْمانا

فلا يُلتفت إلى قوله لَفْرطَ تَعَنُّتهم ، ولا يُستعمل إلاَّ مُعَرَّفاً بالألفِ واللامِ أو مضافاً ، ولا يُلتفت لقوله : " لا زِلْتَ رَحْمانا " لشذوذه .

ومن غريب ما نُقِل فيه أنه مُعَرَّب ، ليس بعربيِّ الأصل ، وأنه بالخاء المعجمة قاله ثعلب [ والمبرد وأنشد ] :

لن تُدْرِكوا المَجْدَ أو تَشْرُوا عَباءَكُمُ *** بِالخَزِّ أو تَجْعلوا اليَنْبُوتَ ضَمْرانا

أو تَتْرُكونَ إلى القَسَّيْنِ هِجْرَتَكُمْ *** ومَسْحكم صُلبَهم رَخْمانَ قُرْبانا

وفي وصل الرحيم بالحمد ثلاثة أوجهٍ ، الذي عليه الجمهور : الرحيمِ بكسر الميم موصولةً بالحمد . وفي هذه الكسرة احتمالان : أحدهما - وهو الأصحُّ - أنها حركةُ إعرابٍ ، وقيل : يُحتمل أنَّ الميم سَكَنَت على نية الوقف ، فلمَّا وقع بعدها ساكن حُرِّكت بالكسر . والثاني من وَجْهَي الوصل : سكونُ الميمِ والوقفُ عليها ، والابتداءُ بقطع ألف " الحمد " ، رَوَتْ ذلك أم سلمة عنه عليه السلام . الثالث : حكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ : الرحيمَ الحمدُ " بفتح الميم ووصل ألف الحمد ، كأنها سكنَّت وقطعَتِ الألفَ ، ثم أَجْرت الوقف مُجرى الوصل ، فألقَتْ حركة همزة الوصل على الميم الساكنة . قال ابن عطية : " ولم تُرْوَ هذه قراءةً عن أحد [ فيما علمت ، " وهذا فيه نظرٌ يجيئ في : { الم اللَّهُ } [ آل عمران : 1-2 ] قلت : يأتي تحقيقه في آل عمران إن شاء الله تعالى ، ويحتمل هذا وجهاً آخر وهو أن تكونَ الحركةُ للنصبِ بفعل محذوفٍ على القطع ] ، وهو أَوْلى من هذا التكلُّف .

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢

الحمدُ : الثناءُ على الجميل سواءً كان نعمةً مُسْداةً إلى أحدٍ أم لا ، يقال : حَمِدْتُ الرجل على ما أنعم به عليَّ وحَمِدْته على شجاعته ، ويكون باللسان وحدَه دونَ عملِ الجَواح ، إذ لا يقال : حَمِدْت زيداً أي عَمِلْتُ له بيديَّ عملاً حسناً ، بخلافِ الشكر فإنه لا يكونُ إلاَّ نعمةً مُسْدَاةً إلى الغيرِ ، يقال : شكرتُه على ما أعطاني ، ولا يقال : شكرتُه على شجاعته ، ويكون بالقلب واللسان والجوارح ، قال تعالى : { اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [ سبأ : 13 ] ، وقال الشاعر :

أفادَتْكُمُ النَّعْماءُ مني ثلاثةً *** يدي ولساني والضميرَ المُحَجَّبا

فيكونُ بين الحمد والشكر عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ . وقيل : الحمدُ هو الشكرُ بدليل قولهم : " الحمدُ لله شكراً " . وقيل : بينهما عمومٌ/ وخصوصٌ مطلقٌ والحمدُ أعمُّ من الشكرِ ، وقيل : الحمدُ الثناءُ عليه تعالى بأوصافه ، والشكرُ الثناءُ عليه بأفعالِه ، فالحامدُ قسمان : شاكرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجميلة . وقيل : الحمدُ مقلوبٌ من المدحِ ، وليس بسديدٍ وإن كان منقولاً عن ثعلب ، لأن المقلوبَ أقلُّ استعمالاً من المقلوب منه ، وهذان مستويان في الاستعمال ، فليس ادِّعاءُ قلبِ أحدِهما من الآخر أَوْلَى من العكس ، فكانا مادتين مستقلتين ، وأيضاً فإنه يَمْتنع إطلاقُ المدحِ حيث يجوزُ إطلاقُ الحمدِ ، فإنه يقال : " حَمِدْتُ الله " ولا يقال مَدَحْته ، ولو كان مقلوباً لَما امتنع ذلك . ولقائلٍ أن يقول : مَنَعَ من ذلك مانعٌ ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك .

وقال الراغب : " الحمدُ لله الثناء [ عليه ] بالفضيلة ، وهو أخصُّ من المدحِ وأعمُّ من الشكر ، يقال فيما يكونُ من الإِنسان باختياره وبما يكونُ منه وفيه بالتسخير ، فقد يُمْدَحُ الإِنسان بطولِ قامتهِ وصَباحةِ وجههِ كما يُمْدَحُ ببذلِ مالِه وشجاعتهِ وعلمهِ ، والحمدُ يكون في الثاني دونَ الأول ، والشكرُ لا يُقال إلا في مقابلةِ نعمة ، فكلُّ شكرٍ حَمْدٌ وليس كل حمدٍ شكراً ، وكلُّ حَمْدٍ مَدْحٌ وليس كلُّ مَدْحٍ حمداً ، ويقال : فلان محمود إذا حُمِد ، ومُحْمَدٌ [ وُجد محموداً ] ومُحَمَّد كَثُرت خصالُه المحمودة ، وأحْمَدُ أي : إنه يفوق غيرَه في الحمد " .

والألفَ واللامُ في " الحَمْد " قيل : للاستغراقِ وقيل : لتعريفِ الجنسِ ، واختاره الزمخشري ، قال الشاعر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إلى الماجِدِ القَرْمِ الجَوادِ المُحَمَّدِ

وقيل : للعَهْدِ . وَمَنع الزمخشري كونَها للاستغراق ، ولم يبيِّنْ وجهَ ذلك ، ويُشْبِه أن يقال : إنَّ المطلوبَ من العبد إنشاء الحمد لا الإِخبارُ به وحينئذ يستحيلُ كونُها للاستغراقِ ، إذ لا يُمْكنُ العبدَ أن يُنْشِئَ جميعَ المحامدِ منه ومن غيرِه بخلافِ كونِها للجنسِ .

والأصلُ فيه المصدريةُ فلذلك لا يُثَنَّى ولا يُجْمع ، وحكى ابنُ الأعرابي جمعَه على أَفْعُل وأنشد :

وأَبْلَجَ محمودِ الثناء خَصَصْتُه *** بأفضلِ أقوالي وأفضلِ أَحْمُدي

وقرأ الجمهور : " الحمدُ لِلَّه " برفع الدال وكسر لام الجر ، ورفعُه على الابتداء ، والخبرُ الجار والمجرور بعده فيتعلَّقُ بمحذوف هو الخبرُ في الحقيقة .

ثم ذلك المحذوفُ إن شئتَ قدَّرْتَه اسماً وهو المختار ، وإنْ شئتَ قدَّرْتَه فِعْلاً ، أي : الحمدُ مستقرٌّ لله أو استقرَّ لله . والدليلُ على اختيار القول الأولِ أنَّ ذلك يتعيَّن في بعض الصور فلا أدلُّ من ترجيحه في غيرها ، وذلك أنك إذا قلت : " خرجت فإذا في الدار زيدٌ " ، و " أمَّا في الدار فزيدٌ " ، يتعيَّن في هاتين الصورتين تقديرُ الاسم ، لأن إذا الفجائية وأمَّا التفصيلية لا يليهما إلا المبتدأ . وقد عورض هذا اللفظُ بأنه يتعيَّن تقديرُ الفعلِ في بعضِ الصور ، وهو ما إذا ما وقع الجارُّ والمجرورُ صلةً لموصولٍ ، نحو : " الذي في الدار " فليكنْ راجحاً في غيره . والجوابُ أن ما رَجَّحْنا به هو من باب المبتدأ والخبر وليس أجنبياً فكان اعتباره أولى ، بخلاف وقوعه صلةً ، والأولُ غيرُ أجنبي .

ولا بُد من ذِكْر قاعدةٍ ههنا لعموم فائدتها ، وهي أنَّ الجارَّ والمجرورَ والظرفَ إذا وَقَعا صلة أو صفة أو حالاً أو خبراً تعلقا بمحذوفٍ ، وذلك المحذوفُ لا يجوز ظهورهُ إذا كان كوناً مطلقاً ، فأمَّا قول الشاعر :

لكَ العِزُّ إنْ مَوْلاكَ عَزَّ وإنْ يَهُنْ *** فأنت لدى بُحْبوحَةِ الهُونِ كائِنُ

فشاذٌّ لا يُلتفَتُ إليه . وأمَّا قوله تعالى : { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } [ النمل : 40 ] فلم يَقْصِدْ جَعْلَ الظرفِ ثابتاً فلذلك ذكرَ المتعلِّقَ به . ثم ذلك المحذوفُ يجوز تقديرُه باسم أو فعل إلا في الصلة فإنه يتعيَّن أن يكون فعلاً ، وإلاَّ في الصورتين المذكورتين فإنه يتعيَّنُ أَنْ يكونَ اسماً . واختلفوا : أيُّ التقديرين أولى فيما عدا الصورَ المستثناةَ ؟ فقوم رجَّحوا تقديرَ الاسمِ ، وقومٌ رجَّحوا تقديرَ الفعلِ ، وقد تقدَّم دليلُ الفريقين .

وقرئ شاذاً بنصب الدال من " الحمد " ، وفيه وجهان : أظهرهُما أنه منصوبٌ على المصدرية ، ثم حُذِف العاملُ ، وناب المصدرُ مَنَابَه ، كقولهم في الإِخبار : " حمداً وشكراً لا كُفْراً " ، والتقدير : أَحْمَدُ الله حَمْداً فهو مصدرٌ نابَ عن جملة خبرية . وقال الطبري : إن في ضمنه أمرَ عبادِه أن يُثْنوا به عليه ، فكأنه قال : قولوا الحمدَ لله ، وعلى هذا يجييء " قولوا إياك " فعلى هذه العبارة يكون من المصادر النائبة عن الطلب لا الخبر ، وهو محتملٌ للوجهين ، ولكنَّ كونَه خبرياً أَوْلَى من كونه طلبياً ؛ ولا يجوز إظهارُ هذا الناصبِ لِئلاّ يُجْمَع بين البدلِ والمُبْدلِ منه . والثاني : أَنه منصوبٌ على المفعول به أي اقرؤوا الحمدَ ، أو اتلوا الحمدَ ، كقولهم : " اللهم ضَبُعاً وذئْباً " ، أي اجمَعْ ضبُعاً ، والأولُ أحسن للدلالةِ اللفظيةِ .

وقراءةُ الرفع أَمْكَنُ وأَبْلَغُ من قراءة النصب ، لأنَّ الرفعَ في بابِ المصادر التي أصلُها النيابةُ عن أفعالها يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ بخلافِ النصب فإنه يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ بخلافِ النصب فإنه يَدُلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ ، ولذلك قال العلماء : إن جوابَ خليل الرحمن عليه السلام في قوله تعالى حكايةً عنه : { قَالَ سَلاَمٌ } [ هود : 69 ] أحسنُ مِنْ قول الملائكة " قالوا سلاماً " ، امتثالاً لقوله تعالى : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } [ النساء : 86 ] .

و " لله " على قراءة النصب يتعلَّق بمحذوفٍ لا بالمصدرِ لأنها للبيان تقديره : أَعْنِي لله ، كقولهم : سُقْياً له وَرَعْياً لك ، تقديرهُ : أعني له ولك ، ويدلُّ على أن اللام تتعلق في هذا النوع بمحذوفٍ لا بنفسِ المصدرِ أنهم لم يُعْمِلوا المصدرِ المتعدي في المجرورِ باللام فينصبوه فيقولوا : / سُقياً زيداً ولا رَعْياً عمراً ، فدلَّ على أنه ليس معمولاً للمصدرِ ، ولذلكَ غَلِظَ مَنْ جعلَ قولَه تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } [ محمد : 8 ] من باب الاشتغالِ لأنَّ " لهم " لم يتعلَّق بِتَعْساً كما مَرَّ . ويحتمل أن يقال : إنَّ اللام في " سُقياً لك " ونحوِه مقويةٌ لتعدية العاملِ لكونِه فَرْعاً فيكونُ عاملاً فيما بعدَه .

وقُرئ أيضاً بكسرِ الدال ، ووجهُه أنها حركةُ إتباعٍ لكسرةِ لامِ الجر بعدها ، وهي لغة تميم وبعض غطفان ، يُتْبِعُون الأول للثاني للتجانس ، ومنه : " اضربِ الساقَيْنُ أُمُّك هابِلُ " ، بضم نون التثنية لأجل ضمِّ الهمزة . ومثله :

وَيْلِمِّها في هواءِ الجَوِّ طالبةً *** ولا كهذا الذي في الأرض مطلوبٌ

الأصل : ويلٌ لأُِمها ، فَحَذَفَ اللامَ الأولى ، واستثقل ضمَّ الهمزةِ بعد الكسرة ، فَنَقَلها إلى اللام بعد سَلْب حركتها ، وحَذَفَ الهمزةَ ، ثم أَتْبع اللامَ الميمَ ، فصار اللفظ : وَيْلِمِّها ، ومنهم مَنْ لا يُتبع ، فيقول : وَيْلُمِّها بضم اللام ، قال :

وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دمِها *** فَجْعٌ وَوَلْعٌ [ وإخلافٌ وتَبِدِيلُ ]

ويُحتمل أن تكونَ هذه القراءة من رفعٍ وأن تكونَ مِنْ نصبٍ ، لأنَّ الإِعرابَ مقدرٌ مَنَعَ من ظهورِه حركةُ الإِتباعِ .

وقُرئ أيضاً : " لُلَّهِ " بضمِّ لامِ الجرِّ ، قالوا : وهي إتباعٌ لحركة الدالِ ، وفضَّلها الزمخشري على قراءة كسر الدال معتلاً لذلك بأنَّ إتباع حركة البناء لحركة الإِعراب أحسنُ من العكس وهي لغةُ بعضِ قيس ، يُتْبعون الثاني للأول نحو : مُنْحَدُرٌ ومُقُبلِين ، بضمِّ الدالِ والقافِ لأجلِ الميم ، وعليه قُرئ : { مُرْدِفين } [ الأنفال : 9 ] بضمِّ الراءِ إتباعاً للميمِ ، فهذه أربعُ قراءاتٍ في " الحمدُ لله " وقد تقدَّم توجيهُ كلٍّ منها .

ومعنى لام الجر هنا الاستحقاقُ ، أي الحمدُ مستحقٌ لله ، ولها معانٍ أُخَرُ ، نذكرها الآن ، وهي الملك والاستحقاق [ نحو : ] المالُ لزيد ، الجُلُّ للفرس ، والتمليك نحو : وَهَبْتُ لك وشبهِه ، نحو : { جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً }

[ النحل : 72 ] ، والنسب نحو : لزيد عَمُّ " والتعليلُ نحو : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ } [ النساء : 105 ] والتبليغ نحو : قلتُ لك ، والتعجبُ في القسم خاصة ، كقوله :

للهِ يَبْقى على الأيام ذو حِيَدٍ *** بمُشْمَخِرٍّ به الظَّيَّانُ والآسُ

والتبيين نحو : قوله تعالى : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] ، والصيرورةُ نحو قوله تعالى : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ، والظرفية : إمَّا بمعنى في ، كقوله تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ الأنبياء : 47 ] ، أو بمعنى عِنْد ، كقولهم : " كتبتُه لخمسٍ " أي عند خمس ، أو بمعنى بَعْدَ ، كقوله تعالى : { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } [ الإسراء : 78 ] أي : بعد دلوكها ، والانتهاء ، كقوله تعالى : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ } [ فاطر : 13 ] ، والاستعلاء نحو قوله تعالى : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ } [ الإسراء : 109 ] أي على الأذقان ، وقد تُزاد باطِّراد في معمول الفعل مقدَّماً عليه كقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] أو كان العاملُ فَرْعاً ، نحوُ قولِه تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] وبغيرِ اطًِّراد نحو قوله :

ولمَّا أَنْ توافَقْنا قليلاً *** أنَخْنا للكلاكِل فارتَمَيْنا

وأمَّا قوله تعالى : { قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] فقيلَ : على التضمين . وقيل هي زائدة .

قوله { رَبِّ الْعَالَمِينَ } : الربُّ لغةً : السيِّدُ والمالك والثابِت والمعبود ، ومنه :

أَرَبٌّ يبول الثُّعْلُبان برأسه *** لقد هانَ مَنْ بالَتْ عليه الثعالبُ

والمُصْلِح . وزاد بعضُهم أنه بمعنى الصاحب وأنشد :

قَدْ ناله ربُّ الكلاب بكفِّه *** بيضٌ رِهافٌ ريشُهُنَّ مُقَزَّعُ

والظاهرُ أنه هنا بمعنى المالك ، فليس هو معنى زائداً ، وقيل : يكون بمعنى الخالق .

واختلف فيه : هل هو في الأصل وصفٌ أو مصدرٌ ؟ فمنهم مَنْ قال : هو وصفٌ ثم اختلف هؤلاء في وزنه ، فقيل : هو على وزن فَعَل كقولك : نَمَّ يَنُمُّ فهو نَمٌّ ، وقيل : وزنه فاعِل ، وأصله رابٌّ ، ثم حُذفت الألف لكثرةِ الاستعمال ، كقولهم : رجل بارٌّ وبَرٌّ . ولِقائلٍ أن يقول : لا نُسَلِّم أنَّ بَرَّاً مأخوذٌ من بارّ بل هما صيغتان مستقلتان فلا ينبغي أن يُدَّعى أن ربَّاً أصله رابٌّ . ومنهم من قال : هو مصدَر ربَّهُ يَرُبُّه رَبَّاً أي مَلَكَه ، قال : " لأَنْ يَرُبَّني رجلٌ من قريش أحبُّ إليَّ أن يَرُبِّني رجلٌ من هوازن " ، فهو مصدَرٌ في معنى الفاعل ، نحو : رجل عَدْلٌ وصَوم ، ولا يُطلق على غير الباري تعالى إلا بقيدِ إضافة ، نحو قوله تعالى : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } [ يوسف : 50 ] ، ويقولون : " هو ربُّ الدار وربُّ البعير " وقد قالَتْه الجاهلية للمَلِك من الناس من غير قَيْدٍ ، قال الحارث بن حلزة :

وهو الربُّ والشهيدُ على يَوْ *** مِ الحِيَارَيْنِ والبلاءُ بلاءُ

وهذا من كفرهم .

وقراءةُ الجمهور مجروراً على النعت لله أو البدل منه ، وقُرئ منصوباً ، وفيه ثلاثةُ أوجه : إمَّا [ منصوبٌ ] بما دَلَّ عليه الحمدُ ، تقديره : أَحْمَدُ ربِّ العالمين ، أو على القطعِ من التبعِيَّة أو على النداء وهذا أضعفُها ؛ لأنه يؤدِّي إلى الفصلِ بين الصفةِ والموصوف . وقُرئ مرفوعاً على القَطْعِ من التبعيَّة فيكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ أي هو ربُّ .

وإذا قصد عُرِض ذِكْرُ القَطْعِ في التبعية فلنستطرِدْ ذكرَه لعمومِ الفائدةِ في ذلك : اعلم أن الموصوف إذا كان معلوماً بدون صفتهِ وكانَ الوصفُ مدحاً ، أو ذَمَّاً أو ترحُّماً جاز في الوصفِ [ التابع ] الإِتباعُ والقطعُ ، والقطعُّ إمَّا على النصب بإضمار فعل لائقٍ ، وإمَّا على الرفع على خبر مبتدأ محذوف ، ولا يَجُوز إظهارُ هذا الناصبِ ولا هذا المبتدأ ، نحو قَولِهم : " الحمدُ لله أهلَ الحمدِ " رُوِي بنصب " أهل " ورفعِه ، أي : أعني أهلَ أو هو أهلُ الحمد .

وإذا تكَرَّرت النعوتُ والحالةُ هذه كنتَ مخيَّراً بين ثلاثةِ أوجهٍ : إمّا إتْباعِ الجميع أو قطعِ الجميعِ أو قطعِ البعض وإتباعِ البعضِ ، إلا أنك إذا أَتْبَعْتَ البعضَ وقَطَعْتَ البعضَ وجب أن تبدأَ بالإِتباع ، ثم تأتي بالقَطْعِ من غير عكسٍ ، نحو : مَرَرْتُ بزيد الفاضلِ الكريمُ ، لئلا يلزمَ الفصلُ بين الصفة والموصوف بالجملة المقطوعة .

والعالمين : خفضٌ بالإِضافةِ ، علامةُ خفضِه الياءُ لجريانه مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ ، وهو اسمُ جمع لأن واحدَه من غير لفظِه ، ولا يجوز أن يكونَ جمعاً لعالَم ، لأنَّ الصحيحَ في " عالَم " أنه يُطلَقُ على كلِّ موجودٍ سوى الباري تعالى ، لاشتقاقِه من العَلامة بمعنى أنه دالٌّ على صانعه ، وعالَمون بصيغة الجمع لا يُطلق إلا على العقلاء دونَ غيرهم ، فاستحالَ أن يكونَ عالَمون جمع عالَم ؛ لأن الجمع لا يكون أخصَّ من المفرد ، وهذا نظيرُ ما فعله سيبويه في أنَّ " أعراباً " ليس جمعاً لِ " عَرَب " لأن عَرَباً يُطلق على البَدَويّ والقَرويّ ، وأعراباً لا يُطلق إلاَّ على البدوي دون القروي . فإنْ قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون " عالَمون " جمعاً ل " عالَم " مُراداً به العاقلُ دونَ غيره فيزولَ المحذورُ المذكورُ ؟ أُجيبَ عن هذا بأنه لو جاز ذلك لجاز أن يقال : شَيْئون جمع شَيء مراداً به العاقلُ دونَ غيره ، فدلَّ عدمُ جوازِه على عَدم ادِّعاء ذلك . وفي الجواب نظرٌ ، إذ لقائلٍ أن يقول : شَيْئون مَنَعَ مِنه مانعٌ آخرٌ وهو كونُه ليس صفةً ولا علماً ، فلا يلزم مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ " عالَمين " مراداً به العاقلُ ، ويؤيِّد هذا ما نقل الراغب عن ابن عباس أن " عالَمين " إنما جُمع هذا الجمعَ لأنَّ المرادَ به الملائِكةُ والجنُّ والإِنسُ ، وقال الراغبُ أيضاً : " إن العالَم في الأصل اسمٌ لما يُعْلَم به كالطَابَع اسمٌ لما يُطْبَعُ به ، وجُعِل بناؤه على الصيغةِ لكونِه كالآلة ، فالعالَمُ آلةٌ في الدلالة على صانعهِ " ، وقال الراغب أيضاً : " وأمَّا جَمْعُه جَمْعَ السلامةِ فلكونِ الناسِ في جملتِهم ، والإِنسانُ إذا شارك غيره في اللفظِ غَلَب حكمُه " ، وظَاهرُ هذا أن " عالَمين " يُطلَق على العُقلاءِ وغيرهم ، وهو مخالفٌ لِما تقدَّم من اختصاصِه بالعُقلاءِ ، كما زَعَم بعضُهم ، وكلامُ الراغبِ هو الأصحُّ الظاهرُ .

ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ٣

{ الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ } نعت أو بدل ، وقُرئا منصوبَيْنِ مرفوعَيْنِ ، وتوجيه ذلك ما ذكر في { رَبِّ الْعَالَمِينَ } . وتقدَّم الكلامُ في اشتقاقهِما في البسملة/ فأغنى عن إعادته .

مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ٤

يجوز أن يكونَ صفةً أيضاً أو بَدَلاً ، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً ، وهو مشتقٌّ من المَلْك بفتح الميم ، وهو الشدُّ والربط ، قال الشاعر :

مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَها *** يَرَى قائمٌ مِنْ دونِها ما وراءها

ومنه : " إملاكُ العَروسِ " ، لأنه عَقْدٌ وربط للنكاح .

وقُرئ " مالِك " بالألف ، قال الأخفش : " يقال : مَلِكٌ بَيِّنُ المُلْكِ بضم الميم ، ومالكٌ بيِِّنُ المَِلْكِ بفتح الميم وكسرها " ، ورُوِي ضَمُّها أيضاً بهذا المعنى . ورُوي عن العربِ : " لي في هذا الوادي مَلْك ومُلْك ومَلْك " مثلثةَ الفاء ، ولكنَّ المعروف الفرقُ بين الألفاظ الثلاثة ، فالمفتوحُ الشدٌّ والربطُ ، والمضمومُ هو القهرُ والتسلُّطُ على مَنْ يتأتَّى منه الطاعةُ ، ويكونُ باستحقاقٍ وغيره ، والمكسورُ هو التسلطُ على مَنْ يتأتَّى منه الطاعةُ ومَنْ لا يتأتَّى منه ، ولا يكونُ إلا باستحقاق فيكونُ بين المكسور والمضموم عمومٌ وخصوصٌ من وجه . وقال الراغب : " والمِلْك - أي بالكسر - كالجنس للمُلْك - أي بالضم - فكل مِلْك - بالكسر - مُلك ، وليس كل مُلك مِلكاً " ، فعلى هذا يكون بينهما عمومٌ وخصوصٌ مطلقٌ ، وبهذا يُعرف الفرقُ بين مَلِك ومالِك ، فإن مَلِكاً مأخوذ من المُلْك - بالضم ، ومالِكاً مأخوذ من المِلْك بالكسر . وقيل : الفرقُ بينهما أن المَلِك اسمٌ لكل مَنْ يَمْلِكُ السياسة : إمَّا في نفسِه بالتمكُّن من زمام قُواه وصَرْفِها عَنْ هواها ، وإمَّا في نفسه وفي غيره ، سواءٌ تولَّى ذلك أم لم يتولَّ .

وقد رجَّح كلٌّ فريقٍ إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحاً يكاد يُسْقِط القراءةَ الأخرى ، وهذا غير مَرْضِيٍّ ، لأنَّ كلتيهما متواترةٌ ، ويَدُلُّ على ذلك ما رُوي عن ثعلب أنه قال : [ " إذا اختلف الإِعرابُ في القرآن ] عن السبعة لم أفضِّلْ إعراباً على إعراب في القرآن ، فإذا خَرَجْتُ إلى الكلام كلامِ الناس فضَّلْتُ الأقوى " نقله أبو عمر الزاهد في " اليواقيت " . وقال الشيخ شهابُ الدين أبو شامةَ : " وقد أكثر المصنفون في القراءات والتفاسير من الترجيحِ بين هاتين القراءتين ، حتى إنَّ بعضَهُم يُبالِغُ في ذلك إلى حدٍّ يكاد يُسْقِطُ وجهَ القراءة الأخرى ، وليس هذا بمحمودٍ بعد ثبوتِ القراءتين وصحةِ اتصافِ الربِّ تعالى بهما ، ثم قال : " حتى إني أُصَلِّي بهذه في رَكْعةٍ وبهذه في رَكْعةٍ " ذكر ذلك عند قوله : " مَلِك يوم الدين ومالِك " .

وَلْنذكرْ بعضَ الوجوه المرجِّحة تنبيهاً على معنى اللفظ لا على الوجهِ الذي قَصَدوه . فمِمَّا رُجِّحَتْ به قراءةُ " مالك " أنها أمْدَحُ لعمومِ إضافتِه ، إذ يقال : " مالِكُ الجِّن والإِنس والطير " ، وأنشدوا على ذلك :

سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ الوجوهُ لوجهِه *** مَلِكِ الملوكِ ومالِكِ العَفْوِ

وقالوا : " فلانٌ مالكُ كذا " لمَنْ يملكه ، بخلاف " مِلك " فإنه يُضاف إلى غيرِ الملوك نحو : " مَلِك العرب والعجم " ، ولأنَّ الزيادةَ في البناءِ تدلُّ على الزيادةِ في المعنى كما تقدَّم في " الرحمن " ، ولأنَّ ثوابَ تالِيها أكثرُ من ثواب تالي " مَلِك " .

وممَّا رُجِّحَتْ به قراءةُ " مَلِك " ما حكاه الفارسي عن ابن السراج عن بعضِهم أنه وصَفَ نفسَه بأنه مالكُ كلِّ شيء بقوله : { رَبِّ الْعَالَمِينَ } فلا فائدةَ في قراءةِ مَنْ قَرَأَ : " مالك " لأنها تكرارٌ ، قال أبو عليّ : " ولا حُجَّة فيه لأنَّ في التنزيل مِثلَه كثيراً ، يُذْكَرُ العامُّ ثم الخاصُّ ، نحو : { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ } [ الحشر : 24 ] . وقال أبو حاتم : " مالِك " أَبْلَغُ في مدح الخالق ، و " مَلِك " أبلغُ في مدحِ المخلوقِ ، والفرقُ بينهما أن المالِكَ من المخلوقين قد يكون غيرَ مَلِك ، وإذا كان الله تعالَى مَلِكاً كان مالكاً . واختاره ابن العربي . ومنها : أنها أعمُّ إذ تضاف للمملوك وغيرِ المملوك ، بخلافِ " مالك " فإنه لا يُضاف إلاَّ للمملوك كما تقدَّم ، ولإِشعارِه بالكثرةِ ، ولأنه تمدَّح تعالَى بمالكِ المُلْك ، بقوله تعالى : " قل اللَّهُمَّ مالكَ المُلْكِ " ومَلِك مأخوذ منه كما تقدم ، ولم يتمدَّح بمالِك المِلك -بكسر الميم- الذي مالِكٌ مأخوذٌ منه .

وقُرئَ مَلْك بسكون اللام ، ومنه :

وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ *** عَصَيْنا المَلْكَ فيها أنْ نَدِينا

ومَليك . ومنه :

فاقنَعْ بما قَسَم المَليكُ فإنَّما *** قَسَم الخلائِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُها

ومَلِكي ، وتُرْوَى عن نافع .

إذا عُرف هذا فكونُ " مَلِك " نعتاً لله تعالى ظاهر ، فإنه معرفةٌ بالإِضافة ، وأمَّا " مالك " فإنْ أريد به معنى المُضِيِّ فجَعْلُه نعتاً واضحٌ أيضاً ، لأنَّ إضافته محضة فَيَتعرَّف بها ، ويؤيِّد كونَه ماضِيَ المعنى قراءةُ مَنْ قرأ : " مَلَكَ يومَ الدين " ، فجعل " مَلَك " فعلاً ماضياً ، وإن أُريد به الحالُ أو الاستقبال فَيُشْكِلُ ، لأنه : إمَّا أن يُجْعَلَ نعتاً لله ولا يجوز لأنَّ إضافةَ اسم الفاعل بمعنى الحالِ أو الاستقبال غيرُ مَحْضَةٍ فلا يُعَرَّف ، وإذا لم يتعرَّفْ فلا يكونُ نعتاً لمعرفةٍ ، لِمَا عَرَفْتَ فيما تقدَّم من اشتراطِ الموافقةِ تعريفاً وتنكيراً ، وإمَّا أن يُجْعَلَ بدلاً وهو ضعيف لأنَّ البدلَ بالمشتقات نادرٌ كما تقدَّم . والذي ينبغي أن يُقالَ : إنه نعتٌ على معنى أنَّ تقييدَه بالزمانِ غيرُ معتَبَرٍ ، لأنَّ الموصوفَ إذا عُرِّفَ بوصفٍ كان تقييدُه بزمانٍ غيرَ معتبرٍ ، فكأنَّ المعنى - والله أعلم - أنه متصفٌ بمالكِ يومِ الدينِ مطلقاً ، من غير نظرٍ إلى مضيٍّ ولا حالٍ ولا استقبالٍ ، وهذا ما مالَ إليه أبو القاسم الزمخشري .

وإضافةُ مالك ومَلِك إلى " يوم الدين " من باب الاتِّساع ، إذ متعلَّقُهما غيرُ اليوم ، والتقدير : مالكِ الأمرِ كله يومَ الدين .

ونظيرُ إضافة " مالك " إلى الظرف هنا نظيرُ إضافة " طَبَّاخ " إلى " ساعات " من قول الشاعر :

رُبَّ ابنَ عَمِّ لسُلَيْمى مُشْمَعِلّْ *** طَبَّاخِ ساعاتِ الكَرَى زادَ الكَسِلْ

إلا أنَّ المفعولَ في البيت مذكورٌ وهو " زادَ الكَسِل " ، وفي الآيةِ الكريمةِ غيرُ مذكورٍ للدلالةِ عليه . ويجوز أن يكونَ الكلامُ على ظاهرهِ من غيرِ تقديرِ حَذْفٍ .

ونسبةُ المِلْكِ والمُلْك إلى الزمانِ في حقِّ الله تعالى غيرُ مُشْكِلَةٍ ، ويؤيِّدُه ظاهرُ قراءةِ مَنْ قرأ : " مَلَكَ يومَ الدينِ " فعلاً ماضياً فإن ظاهرَها كونُ " يوم " مفعولاً به . والإضافة على معنى اللام لأنها الأصل ، ومنهم مَنْ جعلها في هذا النحو على معنى " في " مستنداً إلى ظاهر قوله تعالى : { بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [ سبأ : 33 ] ، قال : " المعنى مَكْرٌ في الليل ، إذ الليل لا يُوصَف بالمكرِ ، إنما يُوصَفُ به العقلاءُ ، فالمكرُ واقعٌ فيه " . والمشهورُ أن الإِضافةَ : إمَّا على معنى اللام وإمَّا على معنى " مَنْ " ، وكونها بمعنى " في " غيرُ صحيح . وأمَّا قولُه تعالى : { مَكْرُ الَّيْلِ }

فلا دَلالةَ فيه ، لأن هذا من باب البلاغة ، وهو التجوُّزُ في أَنْ جَعَلَ ليلَهم ونهارَهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كثرةِ وقوعِه منهم فيهما ، فهو نظيرُ قولهم : نهارُه صائمٌ وليلُه قائم ، وقولِ الشاعر :

أمَّا النهارُ ففي قَيْدٍ وسِلْسِلَةٍ *** والليلُ في قَعْرِ منحوتٍ من السَّاجِ

لمًّا كانت هذه الأشياءُ يكثرُ وقوعُها في هذه الظروفِ وَصَفُوها بها مبالغةً في ذلك ، وهو مذهبٌ حَسَنٌ مشهورٌ في كلامهم .

واليومُ لغةً : القطعةُ من الزمان أيِّ زمنٍ كانَ من ليلٍ أو نهار ، قال تعالى :

{ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } [ القيامة : 29-30 ] ، وذلك كنايةٌ عن احتضارِ الموتى ، وهو لا يختصُّ بليل ولا نهار ، وأمَّا/ في العُرْف فهو من طلوعِ الفجرِ إلى غروب الشمس . وقال الراغب : " اليومُ نعبِّر به عن وقت طلوعِ الشمس إلى غروبها " ، قلت : وهذا إنما ذكروه في النهارِ لا في اليوم ، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرت لك .

والدِّيْنِ : مضافٌ إليه أيضاً ، والمرادُ به هنا : الجزاءُ ، ومنه قول الشاعر :

ولم يَبْقَ سوى العُدْوا *** نِ دِنَّاهم كما دَانُوا

أي جازَيْناهم كما جازونا ، وقال آخر :

واعلَمْ يقيناً أنَّ مُلْكَكَ زائلٌ *** واعلَمْ بأنَّ كما تَدِينُ تُدانُ

ومثله :

إذا مل رَمَوْنا رَمَيْناهُم *** ودِنَّاهُمُ مثلَ ما يَقْرِضُونا

ومثله :

حَصادُك يوماً ما زَرَعْتَ وإنما *** يُدانُ الفتى يوماً كما هو دائِنُ

وله معانٍ أُخَرُ : العادَة ، كقوله :

كَدِينِك من أمِّ الحُوَيْرثِ قبلَها *** وجارتِها أمِّ الرَّباب بِمَأْسَلِ

أي : كعادتك : ومثلُه :

56- تقول إذا دَرَأْتُ لها وَضِيني *** أهذا دِينُه أبداً ودِينِي

ودانَ عصى وأطاع ، وذلَّ وعزَّ ، فهو من الأضداد . والقضاءُ ، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } [ النور : 2 ] أي في قضائِه وحكمه ، والحالُ ، سُئل بعضُ الأعراب فقال : " لو كنتُ على دِينٍ غيرِ هذه لأَجَبْتُكَ " أي : على حالة .

والداءُ : ومنه قول الشاعر :

يا دينَ قلبِك مِن سَلْمى وقد دِينا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويقال : دِنْتُه بفعلِه أَدِينُه دَيْناً ودِيناً - بفتح الدال وكسرها في المصدر - أي جازَيْتُه . والدِّينُ أيضاً : الطاعةُ ، ومنه : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً } [ النساء : 125 ] أي : طاعةً ، ويستعار للمِلَّة والشريعةِ أيضاً ، قال تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ } [ آل عمران : 83 ] يعني الإِسلام ، بدليل قوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] . والدِّينُ : سيرة المَلِك ، قال زهير :

لَئِنْ حَلَلْتَ بجوٍّ في بني أسَدٍ *** في دينِ عمروٍ وحالَتْ بينَنَا فَدَكُ

يقال : دِينَ فلان يُدانُ إذا حُمِل على مكروهٍ ، ومنه قيل للعبدِ ، مَدين ولِلأمَةِ مَدِينة . وقيل : هو من دِنْتُه إذا جازيته بطاعته ، وجَعَل بعضُهم المدينةَ من هذا الباب ، قاله الراغب . وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظة عند ذِكْرِها .

إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ٥

" إياك " مفعولٌ مُقدَّمٌ على " نَعْبُدُ " ، قُدِّم للاختصاصِ ، وهو واجبُ الانفصالِ . واختلفوا فيه : هل هو من قَبيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرةِ ؟ فالجمهورُ على أنه مضمرٌ ، وقال الزجاج : " هو اسم ظاهر " ، وترجيحُ القولين مذكورٌ في كتب النحو .

والقائلونَ بأنه ضميرٌ اختلفوا فيه على أربعةِ أقوال ، أحدُها : أنه كلَّه ضميرٌ . والثاني : أن : " إيَّا " وحدَه ضميرٌ وما بعده اسمٌ مضافٌ إليه يُبَيِّنُ ما يُراد به من تكلمٍ وغَيْبَةٍ وخطاب ، وثالثُها : أن " إيَّا " وحدَه ضميرٌ وما بعدَه حروفُ تُبَيِّنُ ما يُراد به . ورابعها : أنَّ " إيَّا " عمادٌ وما بعده هو الضمير ، وشَذَّت إضافتُه إلى الظاهرِ في قولهم : " إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيَّا الشَوابِّ " بإضافة " إيا " إلى الشَوابِّ ، وهذا يؤيِّد قولَ مَنْ جَعَلَ الكافَ والهاءَ والياءَ في محل جرٍّ إذا قلت : إياك إياه إياي .

وقد أَبْعَدَ بعضُ النحويين فَجَعَل له اشتقاقاً ، ثم قال : هل هو مشتقٌ من " أَوّ " كقول الشاعر :

فَأَوِّ لذِكْراها إذا ما ذَكَرْتُها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أو من " آية " كقوله :

لم يُبْقِ هذا الدهرُ من آيائِهِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهل وزنه إفْعَل أو فَعيل أو فَعُول ثم صَيَّره التصريف إلى صيغة إيَّا ؟ وهذا الذي ذكره هذا القائل لا يُجْدِي فائدةً ، مع أنَّ التصريف والاشتقاق لا يَدْخلان في المتوغِّل في البناء .

وفيه لغاتٌ : أشهرُها كسرُ الهمزةِ وتشديدُ الياءِ ، ومنها فتحُ الهمزةِ وإبدالُها هاءً مع تشديدِ الياء وتخفيفها . قال الشاعر :

فَهِيَّاك والأمرَ الذي إنْ توسَّعَتْ *** مَواردُه ضاقَتْ عليك مصادِرُهْ

[ وقال بعضهم : إياك بالتخفيف مرغوبٌ عنه ] ، لأنه يصير " شمسَك نعبد ، فإنَّ إياةَ الشمس ضَوْءُها بكسر الهمزة ، وقد تُفتح ، وقيل : هي لها بمنزلة الهالة للقمر ، فإذا حَذَفْتَ التاءَ مَدَدْتَ ، قال :

سَقَتْه إياةُ الشمسِ إلاَّ لِثاتِه *** أُسِفَّ فلم تَكْدِمْ عليه بإثْمِدِ

وقد قُرئ ببعضها شاذاً ، وللضمائر بابٌ طويلٌ وتقسيمٌ متسع لا يحتمله هذا الكتابُ ، وإنما يأتي في غضونِه ما يليقُ به .

ونعبُدُ : فعلٌ مضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم ، وقيل : لوقوعِه موقعَ الاسم ، وهذا رأيُ البصريين ، ومعنى المضارعِ المشابِهُ ، يعني أنه أشْبَه الاسمَ في حركاتِهِ وسَكَناتِهِ وعددِ حروفِهِ ، ألا ترى أنَّ ضارباً بزنة يَضْرب فيما ذَكَرْتُ لك وأنه يَشِيع ويختصُّ في الأزمان ، كما يشيعُ الاسمُ ويختصُّ في الأشخاصِ ، وفاعلُه مستترٌ وجوباً لِما مرَّ في الاستعاذة .

والعِبادة غاية التذلل ، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غايةُ الإِفضالِ وهو الباري تعالى ، فهي أبلغُ من العبودية ، لأنَّ العبوديةَ إظهارُ التذلل ، ويقال : طريق مُعَبَّد ، أي مذلَّل بالوطء ، قال طرفة :

تباري عِتاقاً ناجِياتٍ وَأَتْبَعَتْ *** وَظِيفاً وظيفاً فوقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ

ومنه : العبدُ لذلَّته ، وبعيرٌ مُعَبَّد : أي مُذَلَّل بالقَطِران .

وقيل : العبادةُ التجرُّدُ ، ويُقال : عَبَدْت الله بالتخفيف فقط ، وعَبَّدْتُ الرجلَ بالتشديد فقط : أي ذَلَّلته أو اتخذتُه عبداً .

وفي قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب ، إذ لو جَرَى الكلامُ على أصلِه لقيل : الحمد الله ، ثم قيل : إياه نعبدُ ، والالتفاتُ : نوع من البلاغة . ومن الالتفات - إلا أنه عَكْسُ هذا - قولُه تعالى : { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] ، ولم يقل : بكم . وقد التفت امرؤ القيس ثلاثةَ التفاتات في قوله :

تطاوَلَ ليلُكَ بالإِثمِدِ *** وبات الخَليُّ ولم تَرْقُدِ

وباتَ وباتَتْ له ليلَةٌ *** كليلة ذي العائِرِ الأرْمَدِ

وذلك من نبأٍ جاءني *** وخُبِّرْتُه عن أَبِي الأسودِ

وقد خَطَّأ بعضُهم الزمخشري في جَعْلِه هذا ثلاثة التفاتات ، وقال : بل هما التفاتان ، أحدهما خروجٌ من الخطابِ المفتتحِ به في قوله : " ليلُك " إلى الغيبة في قوله : " وباتَتْ له ليلةٌ " ، والثاني : الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلم في قوله : " من نبأٍ جاءني وخُبِّرْتُه " . والجواب أن قوله أولاً : " تطاول ليلُك " فيه التفاتٌ ، لأنه كان أصلُ الكلامِ أن يقولَ : تطاول ليلي ، لأنه هو المقصودُ ، فالتفت من مَقام التكلمِ إلى مقامِ الخطابِ ، ثم من الخطابِ إلى الغَيْبَةِ ، ثم من الغَيْبة إلى التكلمِ الذي هُوَ الأصلُ .

وقُرئ شاذاً : " إِيَّاكَ يُعْبَدُ " على بنائِه للمفعول الغائبِ ، ووجهُها على إشكالها : أنَّ فيها استعارةً والتفاتاً ، أمّا الاستعارةُ فإنه استُعير فيها ضميرُ النصب لضمير الرفع ، والأصل : أنت تُعْبَدُ ، وهو شائعٌ كقولهم : عساك وعساه وعساني في أحد الأقوال ، وقول الآخر :

يابنَ الزُّبير طالما عَصَيْكا *** وطالَمَا عَنِّيْتَنَا إِلَيكا

فالكاف في " عَصَيْكا " نائِبةٌ عن التاء ، والأصل : عَصَيْتَ . وأمَّا الالتفاتُ فكان من حقِّ هذا القارئ أن يقرأ : إياك تُعْبَدُ بالخطابِ ، ولكنه التفتَ من الخطاب في " إيَّاك " إلى الغيبة في " يُعْبَدُ " ، إلا أنَّ هذا التفاتٌ غريب ، لكونه في جملة واحدةٍ/ بخلاف الالتفاتِ المتقدم . ونظيرُ هذا الالتفات قوله :

أأنتَ الهلاليُّ الذي كنتَ مرةً *** سَمِعْنا به والأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ

فقال : " به " بعد قوله : " أنت وكنت " .

و " إيَّاك " واجبُ التقديمِ على عاملهِ ، لأنَّ القاعدةَ أن المفعولَ به إذا كان ضميراً -لو تأخَّر عن عاملهِ وَجَبَ اتصالُه - وَجَب تقديمُه ، وتحرَّزوا بقولهم : " لو تأخَّر عنه وَجَبَ اتصالَهُ " من نحو : " الدرهمَ إياه أعطيتُك " لأنك لو أَخَّرْتَ الضميرَ هنا فقلت : " الدرهمَ أعطيتُك إياه " لم يلزمِ الاتصالُ لِما سيأتي ، بل يجوز : أعطيتُكه .

والكلام في " إياك نَسْتعين " كالكلام في " إياك نعبدُ " والواو عاطفة ، وهي من المُشَرِّكة في الإِعراب والمعنى ، ولا تقتضي ترتيباً على قول الجمهور ، خلافاً لطائفةٍ من الكوفيين . ولها أحكامٌ تختصُّ بها تأتي إن شاء الله تعالى .

وأصل نَسْتعين : نَسْتَعْوِنُ مثل نَسْتَخْرِجُ في الصحيحِ ، لأنه من العَوْنِ ، فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو ، فنُقِلَت إلى الساكن قبلها ، فَسَكَنت الواوُ بعد النقلِ وانكسر ما قبلها فَقُلِبَتْ ياءً . وهذه قاعدةٌ مطردَة ، نحو : ميزان ومِيقات وهما من الوَزْن والوَقْت .

والسينُ فيه معناها الطلبُ ، أي : نطلب منك العَوْنَ على العبادة ، وهو أحدُ المعاني التي ل استفعل ، وله معانٍ أُخَرُ : الاتخاذُ نحو : استعْبَدَه أي : اتخذه عبداً ، والتحول نحو : استحْجَرَ الطين أي : صار حَجَراً ، ومنه قوله : " إن البُغاثَ بأرضِنا تَسْتَنْسِر " ، أي : تتحوَّل إلى صفة النسور ، ووجودُ الشيء بمعنى ما صِيغ منه ، نحو : استعظَمه أي وجدَه عظيماً ، وعدُّ الشيء كذلك وإن لم يكنْ ، نحو : استحسنه ، ومطاوعةُ أَفْعَل نحو : أَشْلاه فاستشلى ، وموافقتُه له أيضاً نحو : أَبَلَّ المريضُ واستبلَّ ، وموافقةُ تفعَّل ، نجو : استكبرَ بمعنى تكبَّر ، وموافقةُ افتَعَلَ نحو : استعصمَ بمعنى اعتصم ، والإِغناءُ عن المجردِ نحو : استكفَّ واستحيى ، لم يُلْفَظْ لهما بمجردٍ استغناءً بهما عنه ، وللإِغناءِ بِهِ عن فَعَل أي المجردِ الملفوظِ به نحو : استرجع واستعانَ ، أي : رَجَع وحَلَق عانَتَه .

وقرئ " نِسْتعين " بكسر حرفِ المضارعةِ ، وهي لغةٌ مطردةٌ في حروف المضارعة ، وذلك بشرطِ ألاَّ يكونَ حرفُ المضارعة ياء ، لثقلِ ذلك . على أن بعضهم قال : يِيجَل مضارع وَجِلَ ، وكأنه قصدَ إلى تخفيفِ الواو إلى الياء فَكَسر ما قبلها لتنقلبَ ، وقد قرئ : { فإنهم يِيْلمونَ } [ النساء : 104 ] ، وهي هادمةٌ لهذا الاستثناء ، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ، وأن يكونَ المضارعُ من ماضٍ مكسورِ العينِ نحو : تِعْلم من عَلِمَ ، أو في أوله همزة وصل نحو : نِسْتعين من استعان أو تاء مطاوعة نحو : نِتَعلَّم من تَعَلَّم ، فلا يجوز في يَضْرِبُ ويَقْتُل كسرُ حرفِ المضارعة لعدمِ الشروط المذكورة . ومن طريف ما يُحْكى أن ليلى الأخيلية من أهل هذه اللغة فدخلت ذات يومٍ على الحجَّاج وعنده النابغة الجعدي فذكرتْ شِدَّة البرد في بلادِها ، فقال لها النابغة الجعدي وَعَرَفَ أنها تقع فيما أراد : فكيف تصنعون ؟ ألا تَكْتَنُون في شدة البرد ، فقالت : بلى ، نِكْتَني ، وكَسَرتِ النونَ ، فقال : لو فَعْلْتُ ذلك لاغتسلْتُ ، فضحك الحجاج وَخَجِلت ليلى .

والاستعانة : طلبُ العَوْن ، وهو المظاهَرَةُ والنُّصْرَةُ ، وقَدَّم العبادةَ على الاستعانة لأنها وَصْلَةٌ لطلب الحاجة ، وأطلق كُلاًّ من فِعْلي العبادة والاستعانة فلم يَذْكر لهما مفعولاً ليتناولا كلَّ معبودٍ به وكلَّ مستعانٍ ، عليه ، أو يكونُ المراد وقوع الفعل من غير نظرٍ إلى مفعولٍ نحو : { كُلوا واشربوا } [ البقرة : 60 ] ، أي أَوْقِعوا هذين الفعلينِ .

ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ٦

قوله تعالى : { اهْدِنَا الصّرَاطَ } : إلى آخرها : اهْدِ : صيغةُ أمرٍ ومعناها الدعاءُ . وهذه الصيغةُ تَرِدُ لمعانٍ كثيرةٍ ذَكرها الأصوليون . وقال بعضهم : إنْ وَرَدَتْ صيغة افعَلْ من الأعلى للأَدنى قيل فيها أمرٌ ، وبالعكس دعاءٌ ، ومن المساوي التماسٌ . وفاعلُه مستترٌ وجوباً لما مَرَّ ، أي : اهدِ أنت ، ونا مفعول أول ، وهو ضميرٌ متصلٌ يكونُ للمتكلم مع غيرِه أو المعظِّم نفسَه ، ويستعملُ في موضع الرفع والنصب والجر بلفظٍ واحدٍ : نحو : قُمنَا وضرَبَنَا زيدٌ وَمَرَّ بنا ، ولا يشاركه في هذه الخصوصية غيرُه من الضمائر . وقد زعم بعض الناس أن الياء كذلك . تقول : أكرمَنَي وَمرِّ بي ، وأنت تقومين يا هند ، فالياء في المثال الأول منصوبةٌ المحلِّ ، وفي الثاني مجرورتُه ، وفي الثالث مرفوعتُه . وهذا ليس بشيء ، لأن الياءَ في حالة الرفع ليست تلك الياءَ التي في حالة النصب والجر ، لأن الأولى للمتكلمِ ، وهذه للمخاطبةِ المؤنثةِ . وقيل : بل يشاركه لفظُ " هُمْ " ، تقول : هم نائمون وضربَهم ومررت بهم ، ف " هم " مرفوعُ المحلِّ ومنصوبُه ومجرورهُ بلفظٍ واحدٍ ، وهو للغائِبِين في كل حال ، وهذا وإن كان أقربَ من الأول ، إلا أنه في حالة الرفع ضميرٌ منفصل ، وفي حالة النصب والجر ضميرٌ متصلٌ ، فافترقا ، بخلاف " نا " فإن معناها لا يختلف ، وهي ضمير متصلٌ في الأحوال الثلاثة .

والصراطَ : مفعول ثان ، والمستقيمَ : صفتُه ، وقد تَبِعه في الأربعة من العشرة المذكورة .

وأصل " هَدَى " أن يتعدى إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجر وهو إمَّا : إلى أو اللام ، كقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] { يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] ، ثم يُتَّسَعُ فيه ، فيُحذَفُ الحرفُ الحرفُ فيتَعَدَّى بنفسِه ، فأصلُ اهدِنا الصراط : اهدنا للصراط أو إلى الصراطِ ، ثم حُذِف .

والأمرُ عند البصريين مبنيٌّ وعند الكوفيين معرب ، وَيدَّعون في نحو : " اضرب " أنَّ أصله : لِتَضْرِب بلام الأمر ، ثم حُذِف الجازم وَتِبِعه حرفُ المضارعة وأُتِيَ بهمزة الوصل لأجلِ الابتداء بالساكن ، وهذا ما لا حاجة إليه ، وللردِّ عليهم موضع أَلْيَقُ به .

ووزن اهْدِ : افْعِ ، حُذِفَت لامُه وهي الياء حَمْلاً للأمر على المجزوم والمجزوم تُحذف منه لامُه إذَا كَانَتْ حرفَ علةٍ .

والهدايةُ : الإِرشادُ أو الدلالةُ أو التقدمُ ، ومنه هَوادِي الخيل لتقدُّمِها قال امرؤ القيس :

فَأَلْحَقَه بالهاديات ودونَه *** جواحِرُها في صَرَّةٍ لم تَزَيًّلِ

أو التبيينُ نحو : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] . أي بَيَّنَّا لهم ، أو الإِلهامُ ، نحو : { أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] أي ألهمه لمصالِحه ، أو الدعاءُ كقوله تعالى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] أي داعٍ . وقيل هو المَيلُ ، ومنه { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 56 ] ، والمعنى : مِلْ بقلوبنا إليك ، وهذا غَلَطٌ ، فإنَّ تَيْكَ مادة أخرى من هادَ يَهُود . وقال الراغب : " الهدايةُ دَلالةٌ بلطفٍ ومنه الهَدِيَّةُ وهوادي/ الوحش أي المتقدِّماتُ الهاديةُ لغيرها ، وخُصَّ ما كان دلالةً بَهَدَيتُ ، وما كان إعطاءً بأَهْديت .

والصراطُ : الطريقُ المُسْتَسْهَل ، وبعضُهم لا يقيِّدُه بالمستسهلِ ، قال :

فَضَلَّ عن نَهْج الصراطِ الواضِحِ

ومثله :

أميرُ المؤمنين على صِراطٍ *** إذا اعْوَجَّ المَوارِدُ مستقيمِ

وقال آخر :

شَحَنَّا أرضَهم بالخيلِ حتى *** تَرَكْناهُمْ أَذَلَّ من الصِّراطِ

أي الطريق ، وهو مشتق من السِّرْطِ ، وهو الابتلاعُ : إمَّا لأن سالكه يَسْتَرِطه أو لأنه يَسْتَرِط سالكَه ، ألا ترى إلى قولهم : " قَتَلَ أرضاً عالِمُها وقتلت أرضٌ جاهلَهَا " ، وبهذين الاعتبارين قال أبو تمام :

رَعَتْه الفيافي بعدما كان حِقْبةً *** رعاها وماءُ المُزْنِ يَنْهَلُّ ساكِبُهْ

وعلى هذا سُمِّي الطريق لَقَماً ومُلْتَقِماً لأنه يلتقِمُ سالكه أو يلتقمُه سَالِكُه .

وأصلُه السينُ ، وقد قَرَأ به قنبل حيث وَرَدَ ، وإنما أُبدلَتْ صاداً لأجل حرف الاستعلاء وإبدالُها صاداً مطردٌ عنده نحو : صَقَر في سَقَر ، وصُلْح في سُلْح ، وإصْبَع في اسبَع ، ومُصَيْطِر في مُسَيْطر ، لما بينهما من التقارب .

وقد تُشَمُّ الصادُ في الصراطِ ونحوهِ زاياً ، وقرأ به خلف حيث وَرَد ، وخلاَّد الأول فقط ، وقد تُقْرَأ زاياً مَحْضَةً ، ولم تُرْسم في المصحف إلا بالصادِ مع اختلافِ قراءاتِهم فيها كما تقدم .

والصِّراطُ يُذَكَّر ويؤنَّث ، فالتذكيرُ لغة تميم ، وبالتأنيث لغة الحجاز ، فإنْ استُعْمل مذكَّراً جُمِعَ في القلة على أَفْعِلة ، وفي الكثرة على فُعُل ، نحو : حِمار وأَحْمِرة وحُمُر ، وإن استعمل مؤنثاً فقياسُه أَن يُجْمع على أَفْعُل نحو : ذِراع وأَذْرُع . والمستقيم : اسم فاعل من استقام بمعنى المجرد ، ومعناه السويُّ من غير اعوجاج وأصله : مُسْتَقْوِم ، ثم أُعِلَّ كإعلالِ نَسْتعين ، وسيأتي الكلامُ مستوفى على مادته عند قوله تعالى : { يُقِيمُونَ الصَّلاةَ } .

صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ٧

قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ } : بدلٌ منه بدلُ كلٍ من كل ، وهو بدلُ معرفةٍ من معرفة ، والبدلُ سبعة أقسام ، على خلافٍ في بعضها ، بدلُ كلٍ من كل ، بدلُ بعض من كل ، بدلُ اشتمال ، بدل غلط ، بدل نسيان ، بدل بَداء ، بدل كل من بعض . أمّا الأقسامُ الثلاثة الأُوَلُ فلا خلافَ فيها ، وأمّا بَدَلُ البَدَاء فأثبته بعضهم مستدلاً بقوله عليه السلام : " إنَّ الرجل ليصلي الصلاةَ ، وما كُتب له نصفُها ثلثُها ربعُها إلى العُشْر " ، ولا يَرِدُ هذا في القرآن ، وأمّا الغَلطُ والنِّسيانُ فأثبتهما بعضُهم مستدلاً بقول ذي الرمة :

لَمْياءُ في شفَتْيها حُوَّةٌ لَعَسٌ *** وفي اللِّثاثِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ

قال : لأنَّ الحُوَّة السوادُ الخالص ، واللَّعَسُ سوادٌ يَشُوبه حمرة . ولا يَرِدُ هذان البدلان في كلامٍ فصيحٍ ، وأمَّا بدلُ الكلِّ من البعضِ فأثبته بعضُهم مستدلاً بظاهر قوله :

رَحِم اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوها *** بسجِسْتَان طَلْحَةَ الطَّلَحاتِ

وفي روايةِ مَنْ نَصَبَ " طلحة " قال : لأن الأعظُمَ بعضُ طلحة ، وطلحة كلٌ ، وقد أُبْدِل منها ، واستدلَّ على ذلك أيضاً بقول امرئ القيس :

كأني غداةَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلوا *** لدى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ

فغذاةَ بعضُ اليوم ، وقَد أبدل " اليومَ " منها . ولا حُجَّة في البيتين ، أمَّا الأولُ : فإن الأصل : أعظُماً دفنُوها أعظمَ طلحة ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضاف إليه مُقامه ، ويَدُلُّ على ذلك الروايةُ المشهورة وهي جر " طلحة " ، على أن الأصل : أعظُمَ طلحة ، ولم يُقِم المضافَ إليه مُقامَ المضاف ، وأمَّا الثاني فإن اليوم يُطلق على القطعة من الزمان كما تقدَّم . ولكلِّ مذهبٍ من هذه المذاهب دلائلُ وإيرادات وأجوبةٌ ، موضوعُها كتب النحو .

وقيل : إن الصراطَ الثاني غيرُ الأول والمرادُ به العِلْمُ بالله تعالى ، قاله جعفر بن محمد ، وعلى هذا فتخريجُه أن يكونَ معطوفاً حُذِف منه حرفُ العطفِ وبالجملةِ فهو مُشْكِلٌ .

والبدلُ ينقسِمُ أيضاً إلى بدلِ معرفةٍ من معرفة ونكرةٍ من نكرة ومعرفةٍ من نكرة ونكرة من معرفة ، وينقسم أيضاً إلى بدلِ ظاهرٍ من ظاهرٍ ومضمرٍ من مضمرٍ وظاهرٍ من مضمر ومضمرٍ من ظاهر . وفائدةُ البدلِ : الإِيضاحُ بعد الإِبهام ، ولأنه يُفيد تأكيداً من حيث المعنى إذ هو على نيَّةِ تكرارِ العاملِ .

و " الذين " في محلِّ جرٍّ بالإِضافة ، وهو اسمٌ موصولٌ لافتقارِه إلى صلةٍ وعائدٍ وهو جمع " الذي " في المعنى ، والمشهورُ فيه أن يكون بالياء رفعاً ونصباً وجراً ، وبعضهم يرفعه بالواو جَرْياً له مَجْرى جمعِ المذكر السالم ومنه :

نحن اللذونَ صَبَّحوا الصَّباحا *** يومَ النُّخَيْلِ غَارةً مِلْحاحَا

وقد تُحْذف نونه استطالةً بصلتِه ، كقوله :

وإنَّ الذي حَانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْ *** هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ

ولا يقع إلا على أولي العلم جَرْياً به مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ ، بخلاف مفرده ، فإنه يقع على أولي العلمِ وغيرهم .

وأَنْعَمْتَ : فعلٌ وفاعلٌ صلةُ الموصول ، والتاءُ في " أنعمتَ " ضميرُ المخاطبِ ضميرٌ مرفوعٌ متصلٌ . و " عليهم " جارٌّ ومجرور متعلقٌ بأَنْعمت ، والضميرُ هوالعائد وهو ضميرُ جمعِ المذكَّرِين العقلاءِ ، ويستوي لفظُ متصلهِ ومنفصلهِ .

والهمزة في " أَنْعمت " لجَعْلِ الشيء صاحبَ ما صيغ منه فحقُّه أن يتعدَّى بنفسه ولكنه ضُمِّن معنى تفضَّل فتعدَّى تعديَتَه . ولأفعل أربعةٌ وعشرون معنى ، تقدَّم واحدٌ ، والباقي : التعديةُ نحو : أخرجته ، والكثرة نحو : أَظْبى المكان أي كَثُر ظِباؤه ، والصيرورة نحو : أَغَدَّ البعير صار ذا غُدَّة ، والإِعانة نحو : أَحْلَبْتُ فلاناً أي أَعَنْتُه على الحَلْب ، والسَّلْب نحو : أَشْكَيْتُه أي : أَزَلْتُ شِكايته ، والتعريض نحو : أَبَعْتُ المتاعَ أي : عَرَضْتُه للبيع ، وإصابة الشيء بمعنى ما صيغ منه نحو : أَحْمدته أي وجدتُه محموداً ، وبلوغُ عدد نحو : أَعْشَرَتِ الدراهم ، أي : بَلَغَتْ عشرةً ، أو بلوغُ زمانٍ نحو أَصْبح ، أو مكان نحو : أَشْأَمَ ، وموافقهُ الثلاثي نحو : أَحَزْتُ المكانِ بمعنى حُزْته ، أو أغنى عن الثلاثي نحو : أَرْقَلَ البعير ، ومطاوعة فَعَل نحو : قَشَع الريحُ فَأقْشع السحابُ ، ومطاوعة فَعَّل نحو : قَطَّرْته فَأَقْطَرَ ، ونفي الغزيرة نحو : أَسْرع ، والتسمية نحو : أخْطَأْتُه أي سَمَّيْتُه مخطئاً ، والدعاء نحو : أَسْقيته أي قلت له : سَقاك الله ، والاستحقاق نحو : أَحْصَدَ الزرعُ أي استحق الحصاد ، والوصولُ نحو : أَعْقَلْته ، أي : وَصَّلْتُ عَقْلِي إليه ، والاستقبال نحو/ : أفَفْتُه أي استقبلته بقولي أُفّ ، والمجيء بالشيء نحو : أكثرتُ أي جئتُ بالكثير ، والفرقُ بين أَفْعَل وفَعَل نحو : أشرقت الشمس أضاءت ، وشَرَقَتْ : طَلَعت ، والهجومُ نحو : أَطْلَعْتُ على القوم أي : اطَّلَعْتُ عليهم .

و " على " حرف استعلاء حقيقةً أو مجَازاً ، نحو : عليه دَيْنٌ ، ولها معانٍ أُخَرُ ، منها : المجاوزة كقوله :

إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْر *** لَعَمْرُ الله أعجبني رضاها

أي : عني ، وبمعنى الباء : { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ } [ الأعراف : 105 ] أي بأَنْ ، وبمعنى في : { مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } [ البقرة : 102 ] أي : في ملك ، والمصاحبة نحو : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى } [ البقرة : 177 ] والتعليل نحو : { وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] ، أي : لأجل هدايته إياكم ، وبمعنى مِنْ : { حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ } [ المؤمنون : 5 - 6 ] أي : إلا من أزواجهم ، والزيادة كقوله :

أبى الله إلاَّ أنَّ سَرْحَةَ مالكٍ *** على كلِّ أَفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ

لأن " تروق " يتعدَّى بنفسه ، ولكلِّ موضعٍ من هذه المواضع مجالٌ للنظر .

وهي مترددةٌ بين الحرفية والاسمية ، فتكونُ اسماً في موضعين ، أحدُهما : أَنْ يدخلَ عليها حرفُ الجر كقوله :

غَدَتْ مِنْ عليه بعد ما تَمَّ ظِمْؤُها *** تَصِلُ وعن قَيْضٍ بزَيْزَاءَ مَجْهَلِ

ومعناها معنى فوق ، أي من فوقه ، والثاني : أن يُؤَدِّيَ جَعْلُها حرفاً إلى تعدِّي فعلِ المضمرِ المنفصل إلى ضميرِه المتصلِ في غيرِ المواضعِ الجائزِ فيها ذلك كقوله :

هَوِّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ *** بكفِّ الإِلهِ مقاديرُها

ومثلُها في هذين الحكمين : عَنْ ، وستأتي إن شاء الله تعالى .

وزعم بعضُهم أنَّ " على " مترددة بين الاسم والفعل والحرف : أمَّا الاسمُ والحرفُ فقد تقدَّما ، وأمَّا الفعلُ قال : فإنك تقول : " علا زيدٌ " أي ارتفع وفي هذا نظرٌ ، لأنَّ " على " إذا كان فعلاً مشتقٌ من العلوِّ ، وإذا كان اسماً أو حرفاً فلا اشتقاقَ له فليس هو ذاك ، إلا أنَّ هذا القائلَ يَرُدُّ هذا النظرَ بقولهم : إن خَلاَ وعدا مترددان بين الفعلية والحرفية ، ولم يلتفتوا إلى هذا النظر .

والأصل في هاء الكناية الضمُّ ، فإنْ تقدَّمها ياءٌ ساكنة أو كسرة كسرها غيرُ الحجازيين ، نحو : عَلَيْهِم وفيهم وبهم ، والمشهورُ في ميمها السكونُ قبل متحرك والكسرُ قبل ساكنٍ ، هذا إذا كَسَرْتَ الهاءَ ، أمّا إذا ضَمَمْتَ فالكسرُ ممتنعٌ إلا في ضرورة كقوله : " وفيهُمِ الحكام " بكسر الميم .

وفي " عليهم " عشر لغات قُرئ ببعضها : عليهِمْ الهاء وضمِّها مع سكون الميم ، عليهِمي ، عَلَيْهُمُ ، عليهِمُو : بكسر الهاء وضم الميم بزيادة الواو ، عليهُمي بضم الهاء وزيادة ياء بعد الميم أو بالكسر فقط ، عليِهِمُ بكسر الهاء وضم الميم ، ذكر ذلك أبو بكر ابن الأنباري .

و " غيرِ " بدلٌ من " الذين " بدلُ نكرة من معرفة ، وقيل : نعتٌ للذين وهو مشكلٌ لأن " غير " نكرةٌ و " الذين " معرفةٌ ، وأجابوا عنه بجوابين : أحدهما : أن " غير " إنما يكون نكرةً إذا لم يقع بين ضدين ، فأمَّا إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغَيْريَّةُ فيتعرَّفُ " غير " حينئذٍ بالإِضافة ، تقول : مررتُ بالحركة غير " السكون " والآيةُ من هذا القبيل ، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب ابن السراج وهو مرجوح . والثاني : أن الموصولَ أَشْبَهَ النكرات في الإِبهام الذي فيه فعومل معاملةَ النكراتِ ، وقيل : إنَّ " غير " بدلٌ من الضمير المجرور في " عليهم " ، وهذا يُشْكِلُ على قول مَنْ يرى أن البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه ، ويُنوَى بالأول الطرحُ ، إذ يلزم منه خَلوُّ الصلة من العائدِ ، ألا ترى أنَّ التقديرَ يصير : صراطَ الذين أنعمت على غيرِ المغضوبِ عليهم .

و " المغضوب " : خفضٌ بالإِضافةِ ، وهو اسمُ مفعول ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرور ، ف " عَليهم " الأولى منصوبةُ المحلِّ والثانيةُ مرفوعتُه ، وأَلْ فيه موصولةٌ والتقديرُ : غيرِ الذين غُضِبَ عليهم . والصحيحُ في ألْ الموصولة أنها اسمٌ لا حرفٌ .

واعلَمْ أنَّ لفظَ " غير " مفردٌ مذكرٌ أبداً ، إلا أنه إنْ أريد به مؤنثٌ جاز تأنيثُ فعلِه المسندِ إليه ، تقول : قامت غيرُك ، وأنت تعني امرأة ، وهي في الأصل صفةٌ بمعنى اسم الفاعل وهو مغايرٌ ، ولذلك لا يتعرَّف بالإِضافة ، وكذلك أخواتُها ، أعني نحوَ : مثل وشِبْه وشبيه وخِدْن وتِرْب ، وقد يُستثنى بها حَمْلاً على " إلاّ " ، كما يوصف بإلاّ حَمْلاً عليها ، وقد يُرَاد بها النفيُ ك لا ، فيجوز تقديمُ معمولِ معمولها عليها كما يجوز في " لا " تقول : أنا زيداً غيرُ ضاربٍ ، أي غير ضاربٍ زيداً ، ومنه قول الشاعر :

إنَّ امرأً خَصَّني عَمْداً مودَّتَه *** على التنائي لَعِنْدي غيرُ مَكْفورِ

تقديرُه : لغيرُ مكفورٍ عندي ، ولا يجوز ذلك فيها إذا كَانَتْ لغير النفي ، لو قلت : جاء القومُ زيداً غيرَ ضاربٍ ، تريد : غيرَ ضاربٍ زيداً لم يَجُزْ ، لأنها ليست بمعنى " لا " التي يجوز فيها ذلك على الصحيح من الأقوالِ في " لا " . وفيها قولٌ ثانٍ يمنعُ ذلك مطلقاً ، وقولٌ ثالثٌ : مفصِّلٌ بين أن تكونَ جوابَ قَسَمٍ فيمتنعَ فيها ذلك وبين أن لا تكونَ فيجوزَ .

وهي من الألفاظ الملازمة للإِضافة لفظاً أو تقديراً ، فإدخالُ الألفِ واللامِ عليها خطأٌ .

وقرئ " غيرَ " نصباً ، فقيل : حالٌ من " الذين " وهو ضعيفٌ لمجيئهِ من المضافِ إليه في غير المواضعِ الجائزِ فيها ذلك ، كما ستعرِفُه إن شاء الله تعالى ، وقيل : من الضمير في " عليهم " وقيل : على الاستثناءِ المنقطعِ ، ومنعه الفراء قال : لأن " لا " لا تُزاد إلا إذا تقدَّمها نفيٌ ، كقوله :

ما كان يَرْضَى رسولُ الله فِعْلَهما *** والطيبان أبو بكرٍ ولا عُمَرُ

وأجابوا بأنَّ " لا " صلةٌ زائدةٌ ، مِثْلُها في قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] وقول الشاعر :

وما ألومُ البيضَ ألاَّ تَسْخَرا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقول الآخر :

وَيلْحَيْنَني في اللهو ألاَّ أُحِبُّه *** وللَّهوِ داعٍ دائبٌ غيرُ غافلِ

وقول الآخر :

أَبَى جودُه لا البخلَ واستعجلتْ نَعَمْ *** به مِنْ فتىً لا يمنعُ الجودَ نائِلُه

ف " لا " في هذه المواضع صلةٌ . وفي هذا الجواب نظرٌ ، لأن الفراء لَمْ يَقُلْ إنها غيرُ زائدة ، فقولُهم : إن " لا " زائدةٌ في هذه الآية وتنظيرهُم لها بالمواضع المتقدمة لا يفيد/ ، وإنما تحريرُ الجواب أن يقولوا : وُجِدَتْ " لا " زائدةً من غير تقدُّم نفي كهذه المواضعِ المتقدمة . وتحتملُ أن تكونَ " لا " في قوله : " لا البخلَ " مفعولاً به ل " أبى " ، ويكونَ نصبُ " البخلَ " على أنه بدلٌ من " لا " ، أي أبى جودُه قولَ لا ، وقولُ لا هو البخلُ ، ويؤيِّدُ هذا قولُه : " واستعجَلَتْ به نَعَمْ " فَجَعَلَ " نَعَم " فاعلَ " استعجَلَتْ " ، فهو من الإِسناد اللفظي ، أي أبى جودُه هذا اللفظ ، واستعجل به هذا اللفظُ .

وقيل : إنَّ نَصْبَ " غيرَ " بإضمار أعني ، ويُحكى عن الخليل . وقدَّر بعضُهم بعد " غير " محذوفاً ، قال : التقديرُ : غيرَ صراطِ المغضوبِ ، وأَطْلَقَ هذا التقديرَ ، فلم يقيِّدْه بجرِّ " غير " ولا نصبِه ، ولا يتأتَّى إلا مع نصبها ، وتكون صفةً لقوله : { الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } ، وهذا ضعيفٌ ، لأنه متى اجتمع البدلُ والوصفُ قُدِّم الوصفُ ، فالأوْلَى أن يكون صفةً ل " صراطَ الذين " ويجوز أن تكونَ بدلاً من { الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } أو من { صِرَاطَ الَّذِينَ } إلا انه يلزم منه تكرارُ البدل ، وفي جوازِه نظرٌ ، وليس في المسألة نقلٌ ، إلا انهم قد ذكروا ذلك في بدلِ البَداء خاصة ، أو حالاً من " الصراط " الأول أو الثاني .

. . واعلم أنه حيث جَعَلْنَا " غير " صفةً فلا بد من القول بتعريف " غير " أو بإبهامِ الموصوف وجريانه مَجْرى النكرةِ ، كما تقدَّم تقريرُ ذلك في القراءة بجرِّ " غير " .

و " لا " في قوله : { وَلاَ الضَّآلِّينَ } زائدةٌ لتأكيد معنى النفي المفهومِ من " غير " لئلا يُتَوَهَّم عَطْفُ " الضالِّين " على { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ } وقال الكوفيون : هي بمعنى " غير " ، وهذا قريبٌ من كونها زائدةً ، فإنه لو صُرِّح ب " غير " كانَتْ للتأكيد أيضاً ، وقد قرأ بذلك عمر بن الخطاب .

و " الضَّالين " مجرورٌ عطفاً على " المغضوب " ، وقُرِئَ شاذاً : الضَّأَلِّين بهمز الألف ، وأنشدوا :

وللأرضِ أمَّا سُودُها فَتَجلَّلَتْ *** بياضاً وأمَّا بِيضُها فادْهََأمَّتِ

قال أبو القاسم الزمخشري : " فعلوا ذلك للجَدّ في الهرب من التقاء الساكنين " انتهى وقد فعلوا ذلك حيث لا ساكنان ، قال الشاعر :

فخِنْدِفٌ هامةُ هذا العَألَمِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بهمز " العَأْلَمِ " وقال آخر :

ولَّى نَعامُ بني صفوانَ زَوْزَأَةً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بهمز ألف " زَوْزأة " ، والظاهر أنها لغةٌ مُطَّردةٌ ، فإنهم قالوا في قراءة ابن ذكوان : " مِنْسَأْتَه " بهمزة ساكنة : إن أصلَها ألفٌ فقُلِبَتْ همزةً ساكنةً .

فإن قيل : لِمَ أتى بصلة الذين فعلاً ماضياً ؟ قيلٍ : لِيَدُلَّ ذلِك على ثبوتِ إنعام الله عليهم وتحقيقه لهم ، وأتى بصلة أل اسماً ليشمل سائرَ الأزمانِ ، وجاء به مبنياً للمفعول تَحْسِيناً للفظ ، لأنَّ مَنْ طُلِبتْ منه الهدايةُ ونُسِب الإِنعامُ إليه لا يناسِبُه نسبةُ الغضبِ إليه ، لأنه مَقامُ تلطُّفٍ وترفُّق لطلبِ الإِحسانِ فلا يُحْسُنُ مواجَهَتُه بصفةِ الانتقام .

والإِنعام : إيصالُ الإِحسان إلى الغير ، ولا يُقال إلا إذا كان الموصَلُ إليه الإِحسانُ من العقلاءِ ، فلا يقال : أَنْعم فلانٌ على فرسِه ولا حماره .

والغضبُ : ثَورَان دم القلب إرادَة الانتقامِ ، ومنه قولُه عليه السلام : " اتقوا الغضبَ فإنه جَمْرةٌ تُوقَدُ في قلب ابن آدم ، ألم تَرَوْا إلى انتفاخ أَوْداجه وحُمْرةِ عينيه " ، وإذا وُصف به الباري تعالى فالمرادُ به الانتقام لا غيره ، ويقال : فلانٌ غَضَبة " إذا كان سريعَ الغضبِ .

ويقال : غضِبت لفلانٍ [ إذا كان حَيًّا ] ، وغضبت به إذا كان ميتاً ، وقيل : الغضبُ تغيُّر القلبِ لمكروهٍ ، وقيل : إن أريدَ بالغضبِ العقوبةُ كان صفةَ فِعْلٍ ، وإنْ أريدَ به إرادةُ العقوبةِ كان صفةَ ذاتٍ .

والضَّلال : الخَفاءُ والغَيْبوبةُ ، وقيل : الهَلاك ، فمِن الأول قولُهم : ضَلَّ الماءُ في اللبن ، وقوله :

ألم تسأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيارُ *** عن الحيِّ المُضَلَّلِ أين ساروا

والضَّلْضَلَةُ : حجرٌ أملسُ يَردُّه السيلُ في الوادي . ومن الثاني :

{ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ } [ السجدة : 10 ] ، وقيل : الضلالُ : العُدول عن الطريق المستقيم ، وقد يُعَبَّر به عن النسيان كقوله تعالى : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } [ البقرة : 282 ] بدليلِ قوله : { فَتُذَكِّرَ } .

القول في " آمين " : ليست من القرآن إجماعاً ، ومعناها : استجِبْ ، فهي اسمُ فعلٍ مبنيٌ على الفتحِ ، وقيل : ليس باسم فِعْل ، بل هو من أسماءِ الباري تعالى والتقدير : يا آمين ، وضَعَّفَ أبو البقاء هذا بوجهين : أحدهما : أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يُبنى على الضم لأنه منادى مفردٌ معرفةٌ ، والثاني : أن أسماءَ الله تعالى توقيفيةٌ . ووجَّه الفارسي قولَ مَنْ جعله اسماً لله تعالى على معنى أنَّ فيه ضميراً يعودُ على اللهِ تعالى : لأنه اسمُ فعلٍ ، وهو توجيهٌ حسنٌ ، نقله صاحب " المُغْرِب " .

وفي آمين لغتان : المدُّ والقصرُ ، فمن الأول قوله :

آمينَ آمينَ لا أرضى بواحدةٍ *** حتى أُبَلِّغَهَا ألفينِ آمينا

وقال الآخر :

يا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّها أبداً *** ويَرْحمُ اللهُ عبداً قال آمينا

ومن الثاني قوله :

تباعَدَ عني فُطْحُلٌ إذ دعوتُه *** آمينَ فزاد الله ما بيننا بُعْدا

وقيل : الممدودُ اسمٌ أعجمي ، لأنه بزنة قابيل وهابيل . وهل يجوز تشديدُ الميم ؟ المشهورُ أنه خطأ نقله الجوهري ، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفَر الصادق التشديدُ ، وهو قولُ الحسين بن الفضل من أمِّ إذا قصد ، أي نحن قاصدون نحوك ، ومنه { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } [ المائدة : 2 ] .