الجوف : معروف ، وجمعه أجواف .
روي أنه كان في بني فهر رجل فيهم يقال له : أبو معمر جميل بن أسد ، وقيل : حميد بن معمر بن حبيب بن وهب بن حارثة بن جمح ، وفيه يقول الشاعر :
وكيف ثوائي بالمدينة بعدما *** قضى وطراً منها جميل بن معمر
يدعي أن له قلبين ، ويقال له : ذو القلبين ، وكان يقول : أنا أذكى من محمد وأفهم ؛ فلما بلغته هزيمة بدر طاش لبه وحدث أبا سفيان بن حرب بحديث كالمختل ، فنزلت .
وقال الحسن : هم جماعة ، يقول الواحد منهم : نفس تأمرني ونفس تنهاني .
وقيل : إن بعض المنافقين قال إن محمداً له قلبان ، لأنه ربما كان في شيء ، فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه ، فنفى الله ذلك عنه وعن كل أحد .
قيل : وجه نظم هذه الآية بما قبلها ، أنه تعالى لما أمر بالتقوى ، كان من حقها أن لا يكون في القلب تقوى غير الله ، فإن المرء ليس له قلبان يتقي بأحدهما الله وبالآخر غيره ، وهو لا يتقي غيره إلا بصرف القلب عن جهة الله إلى غيره ، ولا يليق ذلك بمن يتقي الله حق تقاته .
انتهى ، ملخصاً .
ولم يجعل الله للإنسان قلبين ، لأنه إما أن يفعل أحدهما مثل ما يفعل الآخر من أفعال القلوب ، فلا حاجة إلى أحدهما ، أو غيره ، فيؤدي إلى اتصاف الإنسان بكونه مريداً كارهاً عالماً ظاناً شاكاً موقناً في حال واحدة .
وذكر الجوف ، وإن كان المعلوم أن القلب لا يكون إلا بالجوف ، زيادة للتصوير والتجلى للمدلول عليه ، كما قال تعالى : { ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } فإذا سمع بذلك ، صور لنفسه جوفاً يشتمل على قلبين يسرع إلى إنكار ذلك .
{ وما جعل أزواجكم } : لم يجعل تعالى الزوجة المظاهر منها أماً ، لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل ، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوك ، وهما حالتان متنافيتان .
وقرأ قالون وقنبل : { اللائي } هنا ، وفي المجادلة والطلاق : بالهمز من غير ياء ؛ وورش : بياء مختلسة الكسرة ؛ والبزي وأبو عمرو : بياء ساكنة بدلاً من الهمزة ، وهو بدل مسموع لا مقيس ، وهي لغة قريش ؛ وباقي السبعة : بالهمز وياء بعدها .
وقرأ عاصم : { تظاهرون } بالتاء للخطاب ، وفي المجادلة : بالياء للغيبة ، مضارع ظاهر ؛ وبشد الظاء والهاء : الحرميان وأبو عمرو ؛ وبشد الظاء وألف بعدها : ابن عامر ؛ وبتخفيفها والألف : حمزة والكسائي ؛ ووافق ابن عامر الآخرين في المجادلة ؛ وباقي السبعة فيها بشدها .
وقرأ ابن وثاب ، فيما نقل ابن عطية : بضم الياء وسكون الظاء وكسر الهاء ، مضارع أظهر ؛ وفيما حكى أبو بكر الرازي عنه : بتخفيف الظاء ، لحذفهم تاء المطاوعة وشد الهاء .
وقرأ الحسن : تظهرون ، بضم التاء وتخفيف الظاء وشد الهاء ، مضارع ظهر ، مشدد الهاء .
وقرأ هارون ، عن ابي عمرو : تظهرون ، بفتح التاء والهاء وسكون الظاء ، مضارع ظهر ، مخفف الهاء ، وفي مصحف أبي : تتظهرون ، بتاءين .
فتلك تسع قراءات ، والمعنى : قال لها : أنت علي كظهر أمي .
فتلك الأفعال مأخوذة من هذا اللفظ كقوله : لبى المحرم إذا قال لبيك ، وأفف إذا قال أف .
وعدى الفعل بمن ، لأن الظهار كان طلاقاً في الجاهلية ، فيتجنبون المظاهر منها ، كما يتجنبون المطلقة ، والمعنى : أنه تباعد منها بجهة الظهار وغيره ، أي من امرأته .
لما ضمن معنى التباعد ، عدى بمن ، وكنوا عن البطن بالظهر إبعاداً لما يقارب الفرج ، ولكونهم كانوا يقولون : يحرم إتيان المرأة وظهرها للسماء ، وأهل المدينة يقولون : يجيء الولد إذ ذاك أحول ، فبالغوا في التغليظ في تحريم الزوجة ، فشبهها بالظهر ، ثم بالغ فجعلها كظهر أمه .
وروي أن زيد بن حارثة من كلب سبي صغيراً ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاء أبوه وعمه بفدائه ، وذلك قبل بعثة رسول الله ، فأعتقه ، وكانوا يقولون : زيد بن محمد ، فنزلت .
{ وما جعل أدعياءكم أبناءكم } الآية : وكانوا في الجاهلية وصدر الإسلام إذا تبنى الرجل ولد غيره صار يرثه .
وأدعياء : جمع دعي ، فعيل بمعنى مفعول ، جاء شاذاً ، وقياسه فعلى ، كجريح وجرحى ، وإنما هذا الجمع قياس فعيل المعتل اللام بمعنى فاعل ، نحو : تقي وأتقياء .
شبهوا أدعياء بتقي ، فجمعوه جمعه شذوذاً ، كما شذوا في جمع أسير وقتيل فقالوا : أسراء وقتلاء ، وقد سمع المقيس فيهما فقالوا : أسرى وقتلى .
والبنوة تقتضي التأصل في النسب ، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية ، فلا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل .
{ ذلكم } : أي دعاؤهم أبناء مجرد قول لا حقيقة لمدلوله ، إذ لا يواطىء اللفظ الاعتقاد ، إذ يعلم حقيقة أنه ليس ابنه .
{ والله يقول الحق } : أي ما يوافق ظاهراً وباطناً .
{ وهو يهدي السبيل } : أي سبيل الحق ، وهو قوله : { ادعوهم لآبائهم } ، أو سبيل الشرع والإيمان .
وقرأ الجمهور : يهدي مضارع هدى ؛ وقتادة : بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال .