[ 9 ] { وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين 9 } .
{ وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين } .
في الآية فوائد :
الأولى - قال ابن كثير : لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية ، / نبه على الطرق المعنوية الدينية ، وكثيرا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية الدينية . كقوله تعالى[5229] : { وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى } وقال تعالى[5230] : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ، ولباس التقوى ذلك خير } .
ولما ذكر تعالى ، في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها ، التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم ، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة ، شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه . فبين أن الحق منها مواصلة إليه . فقال : { وعلى الله قصد السبيل } . كقوله تعالى[5231] : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وقال[5232] : { هذا صراط علي مستقيم } انتهى . وقوله سبحانه : { إن علينا للهدى } .
الثانية - قال أبو السعود : ( القصد ) مصدر بمعنى الفاعل . يقال سبيل قصد وقاصد . أي مستقيم . على طريقة الاستعارة أو على نهج إسناد حال سالكه إليه ، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه . أي : حق عليه سبحانه وتعالى ، بموجب رحمته ووعده المحتوم ، بيان الطريق المستقيم الموصل لمن يسلكه إلى الحق ، الذي هو التوحيد . بنصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه .
أو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل . قاله أبو البقاء . أي عليه ، عز وجل ، تقويمها وتعديلها . أي : جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق . لكن لا بعدما كانت في نفسها منحرفة عنه ، بل إبداعها ابتداء كذلك على نهج " سبحان من صغّر البعوض . وكبر الفيل " ، وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة . وقد فعل ذلك حيث أبدع هذه البدائع التي كل واحد منها لا حب يهتدى بمناره . وعلم يستضاء بناره . وأرسل / رسلا مبشرين ومنذرين . وأنزل عليهم كتبا من جملتها هذا الوحي الناطق بحقيقة الحق . الفاحص عن كل ما جل من الأسرار ودق . الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك الأدلة المفضية إلى معالم الهدى . المنحية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى .
الثالثة - الضمير في { ومنها جائر } للسبيل . فإنها تؤنث . أي : وبعض السبيل مائل عن الحق ، منحرف عنه ، لا يوصل سالكه إليه . وهو طرق الضلالة التي لا يكاد يحصى عددها ، المندرج كلها تحت الجائز . كقوله تعالى[5233] : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } .
قال أبو السعود : بعدما تقدم ، أي : وعلى الله تعالى بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق وتعديله ، بما ذكر من نصب الأدلة ليسلكه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصد وهذا هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب . لا الهداية المستلزمة للاهتداء البتة . فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى . لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته . بل هو مخلّ بحكمته ، حيث يستدعي تسوية المحسن والمسيء ، والمطيع والعاصي ، بحسب الاستعداد . وإليه أشير بقوله تعالى : { ولو شاء لهداكم أجمعين } أي لو شاء أن يهديكم إلى ما ذكر من التوحيد ، هداية موصلة إليه البتة ، مستلزمة لاهتدائكم أجمعين ، لفعل ذلك . ولكن لم يشأه . لأن مشيئته تابعة للحكمة الداعية إليها . ولا حكمة في تلك المشيئة . لما أن الذي عليه يدور فلك التكليف ، وإليه ينسحب الثواب والعقاب ، إنما هو الاختيار ، الذي عليه يترتب الأعمال ، التي بها نيط الجزاء .