النكت و العيون للماوردي

الماوردي القرن الخامس الهجري

صفحة 603

إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ١

سورة النصر

مدنية

بسم الله الرحمان الرحيم

قوله تعالى { إذا جاءَ نَصْرُ اللهِ والفتحُ } أما النصر فهو المعونة ، مأخوذ من قولهم : قد نصر الغيث الأرض إذا أعان على نباتها ، ومنع من قحطها ، قال الشاعر[3359] :

إذا انسلَخَ الشهرُ الحرامُ فَودِّعي *** بلادَ تميمٍ وانْصُري أرضَ عامِرِ

وفي المعنيّ بهذا النصر قولان :

أحدهما : نصر الرسول على قريش ، قاله الطبري .

الثاني : نصره على كل من قاتله من أعدائه ، فإن عاقبة النصر كانت له .

وقيل : إذا جاء نصره بإظهاره إياك على أعدائك ، والفتح : فتحه مكة ، وقيل : المراد حين نصر الله المؤمنين وفتح مكة وسائر البلاد عليهم .

وإنما عبر عن الحصول بالمجيء تجوزاً للإشعار بأن المقدرات متوجهة حين الأزل إلى أوقاتها المعينة لها ، فتعرف منها شيئاً فشيئاً ، وقد قرب النصر من قوته فكان مترقباً لوروده ، مستعداً لشكره .

وفي هذا الفتح قولان :

أحدهما : فتح مكة ، قاله الحسن ومجاهد .

الثاني : فتح المدائن والقصور ، قاله ابن عباس وابن جبير .

وقيل : ما فتحه عليه من العلوم .

وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا٢

{ ورأيْتَ الناسَ يَدْخُلون في دِيْنِ اللهِ أَفْواجاً } فيهم قولان :

أحدهما : أنهم أهل اليمن ، وروى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدين يمانٍ ، والفقه يمانٍ ، والحكمة يمانية " ، وروي عنه عليه السلام أنه قال : " إني لأجد نَفَس ربكم مِن قِبل اليمن " وفيه تأويلان :

أحدهما : أنه الفرج ، لتتابع إسلامهم أفواجاً .

الثاني : معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه بأهل اليمن ، وهم الأنصار .

القول الثاني : أنهم سائر الأمم الذين دخلوا في الإسلام ، قاله محمد بن كعب .

وقال الحسن : لما فتح الله على رسوله مكة ، قالت العرب بعضهم لبعض : أيها القوم ليس لكم به ولا بالقوم يد ، فجعلوا يدخلون في دين الله أفواجاً ، أمة أمة .

قال الضحاك : والأمة أربعون رجلاً ، وقال ابن عباس : الأفواج " الزمر " ، وقال الكلبي : الأفواج القبائل .

وروى جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنّ الناس دخلوا في دين الله أفواجاً ، وسيخرجون أفواجاً[3360] " .

" أفواجاً " جماعات كثيفة ، كأهل مكة ، والطائف ، واليمن ، وهوازن ، وقبائل سائر العرب .

" يدخلون " حال ، على أن " رأيت " بمعنى أبصرت ، أو مفعول ثان على أن رأيت بمعنى علمت[3361] .

فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا٣

{ فسبّحْ بحْمد ربِّك واسْتَغْفِره إنه كان توّاباً } في أمره بهذا التسبيح والاستغفار وجهان : أحدهما : أنه أراد بالتسبيح الصلاة ، قاله ابن عباس .

وبالاستغفار مداومة الذكر .

الثاني : أنه أراد صريح التسبيح ، الذي هو التنزيه والاستغفار من الذنوب .

روت عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يكثر أن يقول : " سبحانك اللهم وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك " ، فقلت : يا رسول الله ، ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها ؟ فقال : " جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها[3362] "

وفي قوله { إنه كان توّاباً } وجهان :

أحدهما : قابل التوبة .

والثاني : متجاوز عن الصغائر .

وفي أمره بهذا بعد النصر والفتح وجهان :

أحدهما : ليكون ذلك منه شكراً لله تعالى على نعمه ؛ لأن تجديد النعم يوجب تجديد الشكر .

الثاني : أنه نعى إليه نفسه ، ليجد في عمله .

قال ابن عباس : وداعٌ من الله ، ووداعٌ من الدنيا ، فلم يعش بعدها إلا سنتين مستديماً التسبيح والاستغفار كما أُمِرَ ، وكان قد لبث أربعين سنة لم يوح إليه ، ورأى رؤيا النبوة سنتين ، ومات في شهر ربيع الأول ، وفيه هاجر .

وقال مقاتل : نزلت هذه السورة بعد فتح الطائف ، والفتح فتح مكة ، والناس أهل اليمن ، وهي آية موت النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما نزلت قرأها على أبي بكر وعمر ففرحا بالنصر وبدخول الناس أفواجاً في دين الله عز وجل ، وسمعها العباس فبكى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك يا عم ؟ " فقال : نعيت إليك نفسك ، قال : " إنه لكما تقول " .

وهذه السورة تسمى التوديع ، عاش النبي بعدها حولاً على قول مقاتل ، وحولين[3363] على قول ابن عباس ، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قابل ، فنزل { اليوم أكملت لكم دينكم } الآية ، فعاش بعدها ثمانين يوماً ، ثم نزلت { لقد جاءكم رسول } فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً ، ثم نزلت { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } فعاش بعدها واحداً وعشرين يوماً .

وقال مقاتل : عاش بعدها سبعة أيام ، والله أعلم ، وصلوات الله عليه متتابعة لا تنقطع على مر الأزمان وكر الأوان ، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين .