ومازال الخطاب موجهاً إلى بني إسرائيل ، هاكم سنة من سنين الله الكونية التي يستوي أمامها المؤمن والكافر ، وهي أن من احسن فله إحسانه ، ومن أساء فعليه إساءته .
فهاهم اليهود لهم الغلبة بما حدث منهم من شبه استقامة على المنهج ، أو على الأقل بمقدار ما تراجع المسلمون عن منهج الله ؛ لأن هذه سنة كونية ، من استحق الغلبة فهي له ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى منزه عن الظلم ، حتى مع أعداء دينه ومنهجه . والدليل على ذلك ما أمسى فيه المسلمون بتخليهم عن منهج الله .
وقوله تعالى : { إن أحسنتم . . " 7 " } ( سورة الإسراء ) : فيه إشارة إلى أنهم في شك أن يحسنوا ، وكأن أحدهم يقول للآخر : دعك من قضية الإحسان هذه . فإذا كانت الكرة الآن لليهود ، فهل ستظل لهم على طول الطريق ؟ لا . . لن تظل لهم الغلبة ، ولن تدوم لهم الكرة على المسلمين ، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى : { فإذا جاء وعد الآخرة . . " 7 " } ( سورة الإسراء ) : أي : إذا جاء وقت الإفسادة الثانية لهم ، وقد سبق أن قال الحق سبحانه عنهم : { لتفسدن في الأرض مرتين . . " 4 " } ( سورة الإسراء ) : وبينا الإفساد الأول حينما نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة . وفي الآية بشارة لنا أننا سنعود إلى سالف عهدنا ، وستكون لنا يقظة وصحوة نعود بها إلى منهج الله وإلى طريقه المستقيم ، وعندها ستكون لنا الغلبة والقوة ، وستعود لنا الكرة على اليهود .
وقوله تعالى : { ليسوءوا وجوهكم . . " 7 " }( سورة الإسراء ) : أي : نلحق بهم من الأذى ما يظهر أثره على وجوههم ؛ لأن الوجه هو السمة المعبرة عن نوازع النفس الإنسانية ، وعليه تبدو الانفعالات والمشاعر ، وهو أشرف ما في المرء ، وإساءته أبلغ أنواع الإساءة . وقوله تعالى : { وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرةٍ . . " 7 " } ( سورة الإسراء ) : أي : أن المسلمين سيدخلون المسجد الأقصىوسينقذونه من أيدي اليهود . { دخلوه أول مرةٍ . . " 7 " }( سورة الإسراء ) : المتأمل في هذه العبارة يجد أن دخول المسلمين للمسجد الأقصى أول مرة كان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولم يكن الأقصى وقتها في أيدي اليهود ، بل كان في أيدي الرومان المسيحيين .
فدخوله الأول لم يكن إساءة لليهود ، وإنما كان إساءة للمسيحيين ، لكن هذه المرة سيكون دخول الأقصى ، وهو في حوزة اليهود ، وسيكون من ضمن الإساءة لوجوههم أن ندخل عليهم المسجد الأقصى ، ونطهره من رجسهم . ونلحظ كذلك في قوله تعالى : { كما دخلوه أول مرةٍ . . " 7 " } ( سورة الإسراء ) : أن القرآن لم يقل ذلك إلا إذا كان بين الدخولين خروج . إذن : فخروجنا الآن من المسجد الأقصى تصديق لنبوءة القرآن ، وكأن الحق سبحانه يريد أن يلفتنا : إن أردتم أن تدخلوا المسجد الأقصى مرة أخرى ، فعودوا إلى منهج ربكم وتصالحوا معه . وقوله تعالى : { فإذا جاء وعد الآخرة . . " 7 " } ( سورة الإسراء ) : كلمة الآخرة تدل على أنها المرة التي لن تتكرر ، ولكن يكون لليهود غلبة بعدها . وقوله تعالى : { وليتبروا ما علوا تتبيراً " 7 " } ( سورة الإسراء ) : يتبروا : أي : يهلكوا ويدمروا ، ويخربوا ما أقامه اليهود وما بنوه وشيدوه من مظاهر الحضارة التي نشاهدها الآن عندهم .
لكن نلاحظ أن القرآن لم يقل : ما علوتم ، إنما قال ( ما علوا )ليدل على أن ما أقاموه وما شيدوه ليس بذاتهم ، وإنما بمساعدة من وراءهم من أتباعهم وأنصارهم ، فاليهود بذاتهم ضعفاء ، لا تقوم لهم قائمة ، وهذا واضح في قوله الحق سبحانه عنهم : { ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس . . " 112 " } ( سورة آل عمران ) : فهم أذلاء أينما وجدوا ، ليس لهم ذاتية إلا بعهد يعيشون في ظله ، كما كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، أو عهد من الناس الذين يدافعون عنهم ويعاونونهم .
واليهود قوم منعزلون لهم ذاتية وهوية لا تذوب في غيرهم من الأمم ، ولا ينخرطون في البلاد التي يعيشون فيها ؛ لذلك نجد لهم في كل بلد يعيشون به حارة تسمى " حارة اليهود " ، ولم يكن لهم ميل للبناء والتشييد ؛ لأنهم كما قال تعالى عنهم : { وقطعناهم في الأرض أمماً . . " 168 " }( سورة الأعراف ) : كل جماعة منهم في أمة تعيش عيشة انعزالية ، أما الآن ، وبعد أن أصبح لهم وطن قومي في فلسطين على حد زعمهم ، فنراهم يميلون للبناء والتعمير والتشييد .
ونحن الآن ننتظر وعد الله سبحانه ، ونعيش على أمل أن تنصلح أحوالنا ، ونعود إلى ساحة ربنا ، وعندها سينجز لنا ما وعدنا من دخول المسجد الأقصى ، وتكون لنا الكرة الأخيرة عليهم ، سيتحقق لنا هذا عندما ندخل معهم معركة على أسس إسلامية وإيمانية ، لا على عروبة وعصبية سياسية ، لتعود لنا صفة العباد ، ونكون أهلاً لنصرة الله إذن : طالما أن الحق سبحانه قال : . { فإذا جاء وعد الآخرة . . 7( سورة الإسراء ) : فهو وعد آلا لاشك فيه ، بدليل أن هذه العبارة جاءت بنصها في آخر السورة في قوله تعالى : { وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا " 104 " } ( سورة الإسراء ) : والمتأمل لهذه الآية يجد بها بشارة بتحقق وعد الله ، ويجد أن ما يحدث الآن أننا قلنا لبني إسرائيل من بعد موسى : اسكنوا الأرض وإذا قال لك واحد : اسكن فلابد أن يحدد لك مكاناً من الأرض تسكن فيه فيقول لك : اسكن بورسعيد . . اسكن القاهرة . . اسكن الأردن .
أما أن يقول لك : اسكن الأرض ! ! فمعنى هذا أن الله تعالى أراد لهم أن يظلوا مبعثرين في جميع الأنحاء ، مفرقين في كل البلاد ، كما قال عنهم : { وقطعناهم في الأرض أمما . . " 168 " } ( سورة
الأعراف ) : فتجدهم منعزلين عن الناس منبوذين بينهم ، كثيراً ما تثار بسببهم المشاكل ، فيشكو الناس منهم ويقتلونهم ، وقد قال تعالى : { وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب . . " 167 " } ( سورة الأعراف ) : وهكذا سيظل اليهود خميرة عكننة ونكد بين سكان الأرض إلى يوم القيامة ، وهذه الخميرة هي في نفس الوقت عنصر إثارة وإهاجة للإيمان والخير ؛ لأن الإسلام لا يلتفت إليه أهله إلا حين يهاج الإسلام ، فساعة أن يهاج تتحرك النزعة الإيمانية وتتنبه في الناس .
إذن : فوجود اليهود كعنصر إثارة له حكمة ، وهي إثارة الحيوية الإيمانية في النفوس ، فلو لم تثر الحيوية الإيمانية لبهت الإسلام .
وهذه هي رسالة الكفر ورسالة الباطل ، فلوجودهما حكمة ؛ لأن الكفر الذي يشقي الناس به يلفت الناس إلى الإيمان ، فلا يرون راحة لهم إلا في الإيمان بالله ، ولو لم يكن الكفر الذي يؤذي الناس ويقلق حياتهم ما التفتوا إلى الإيمان . وكذلك الباطل في الكون بعض الناس ويزعجهم ، فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه .
وبعد أن أسكنهم الله الأرض وبعثرهم فيها ، أهاج قلوب أتباعهم من جنود الباطل ، فأوحوا إليهم بفكرة الوطن القومي ، وزينوا لهم أولى خطوات نهايتهم ، فكان أن اختاروا لهم فلسطين ليتخذوا منها وطناً يتجمعون فيه من شتى البلاد .
وقد يرى البعض أن في قيام دولة إسرائيل وتجمع اليهود بها نكاية في الإسلام والمسلمين ، ولكن الحقيقة غير هذا ، فالحق سبحانه وتعالى حين يريد أن نضربهم الضربة الإيمانية من جنود موصوفين بأنهم : { عباداً لنا . . " 5 " } ( سورة الإسراء ) : يلفتنا إلى أن هذه الضربة لا تكون وهم مفرقون مبعثرون في كل أنحاء العالم ، فلن نحارب في العالم كله ، ولن نرسل عليهم كتيبة إلى كل بلد لهم فيها حارة أو حي ، فكيف لنا أن نتتبعهم وهم مبعثرون ، في كل بلد شرذمة منهم ؟
إذن : ففكرة التجمع والوطن القومي التي نادى بها بلفور وأيدتها الدول الكبرى المساندة لليهود والمعادية للإسلام ، هذه الفكرة في الحقيقة تمثل خدمة لقضية الإسلام ، وتسهل علينا تتبعهم وتمكننا من القضاء عليهم ؛ لذلك يقول تعالى : { فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا " 104 " }( سورة الإسراء )
أي : أتينا بكم جميعاً ، نضم بعضكم إلى بعض ، فهذه إذن بشرى لنا معشر المسلمين بأن الكرة ستعود لنا ، وأن الغلبة ستكون في النهاية للإسلام والمسلمين ، وليس بيننا وبين هذا الوعد إلا أن نعود إلى الله ، ونتجه إليه كما قال سبحانه : { فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا . . " 43 " } ( سورة الأنعام ) .
والمراد بقوله هنا : { وعد الآخرة . . " 7 " } ( سورة الإسراء ) : هو الوعد الذي قال الله عنه : { فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرةٍ . . " 7 " }( سورة الإسراء ) .