وقوله سبحانه : { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٌ } الآية : هذه الآية والتي بعدها نزلت في خُلُقِ أهل الجاهلية ؛ وذلك أَنَّهم كانوا يجرون مع شهواتِ نفوسهم ، لم يقومهم أمر من اللَّه ولا نهي ، فكان الرجل يسخر ، ويلمز ، وينبز بالألقاب ، ويَظُنُّ الظنونَ ، ويتكلم بها ، ويغتاب ، ويفتخر بنسبه ، إلى غير ذلك من أخلاق النفوس البطَّالة ، فنزلت هذه الآية ؛ تأديباً لهذه الأُمَّةِ ، وروى البخاريُّ ومسلم والترمذيُّ واللفظ له عن أبي هريرة قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ ، لاَ يَخُونُهُ وَلاَ يَكْذِبُهُ ، وَلاَ يَخْذُلُهُ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ : عِرْضُهُ ، وَمَالُهُ ، وَدَمُهُ ، التَّقْوَى هاهنا ، بِحَسْبِ امرئ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ " انتهى . ( ويسخر ) معناه : يستهزئ ، وقد يكون ذلك المُسْتَهْزَأُ به خيراً من الساخر ، والقوم في كلام العرب واقع على الذُّكْرَان ، وهو من أسماء الجَمْع ؛ ومن هذا قول زُهَيْر :
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ أخَالُ أَدْرِي *** أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
وهذه الآية أيضاً تقتضي اختصاص القوم بالذكران ، وقد يكون مع الذكران نساء ، فيقال لهم قوم ؛ على تغليب حال الذكر ، و{ تَلْمِزُواْ } معناه : يطعن بعضُكم على بعض بذكر النقائص ونحوه ، وقد يكون اللَّمْزُ بالقول وبالإشارة ونحوه مِمَّا يفهمه آخر ، والهَمْزُ لا يكون إلاَّ باللسان ، وحكى الثعلبيُّ أَنَّ اللمز ما كان في المشهد ، والهَمْزَ ما كان في المغيب ، وحكى الزهراويُّ عكس ذلك .
وقوله تعالى : { أَنفُسَكُمْ } معناه : بعضكم بعضاً ؛ كما قال تعالى : { أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ } [ النساء : 66 ] كأنَّ المؤمنين كنفس واحدة ، إذ هم إخوة ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : " كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذَا اشتكى مِنْهُ عُضْوٌ تداعى سَائِرُهُ بِالسَّهَرِ والحمى " ، وهم كما قال أيضاً : " كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً " ، والتنابز : التَّلَقُّبُ ، والتَّنَبزُ واللقب واحدٌ ، واللقب يعني المذكور في الآية هو : ما يُعْرَفُ به الإنسان من الأسماء التي يَكْرَهُ سماعَهَا ، وليس من هذا قول المُحَدِّثِينَ : سليمان الأعمش ، وواصل الأحدب ونحوه مِمَّا تدعو الضرورة إليه ، وليس فيه قصد استخفاف وأذى ، وقال ابن زيد : معنى : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب } أي : لا يَقُلْ أحد لأحد : يا يهوديُّ ، بعد إسلامه ، ولا : يا فاسقُ ، بعد توبته ، ونحو هذا .
وقوله سبحانه : { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } يحتمل معنيين :
أحدهما : بئس اسم تكتسبونه بعصيانكم ونبزكم بالألقاب فتكونون فُسَّاقاً بالمعصية بعد إيمانكم .
والثاني : بئس قول الرجل لأخيه : يا فاسق بعد إيمانه ؛ وعن حذيفةَ رضي اللَّه عنه قال : " شَكَوْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَرَبَ لِسَانِي ، فَقَالَ : ( أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الاِسْتِغْفَارِ ؟ ! إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ ) رواه النسائي واللفظ له ، وابن ماجه ، والحاكم في «المُسْتَدْرَكِ » ، وقال : صحيحٌ على شرط مسلم ، وفي رواية للنسائي : " إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في الْيَوْمِ وَأَتُوبُ إلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ " ، والذَّرَبُ بفتح الذال والراء هو الفُحْشُ ، انتهى من «السلاح » ، ومنه عن ابن عمر : «إنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في المَجْلِسِ الوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ : رَبِّ اغفر لِي ، وَتُبْ عَلَيَّ ، إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمِ » رَوَاه أبو داود ، وهذا لفظه ، والترمذي والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان في «صحيحه » ، وقال الترمذيُّ : حسن صحيح غريب ، انتهى .