{ ربنا إني } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها { أسكنت من ذريتي } تقديره أسكنت ولدا من ذريتي فحذف المفعول ، أو المعنى أسكنت بعض ذريتي وهم إسماعيل ومن ولد منه ، فإن إسكانه متضمن لإسكانهم { بواد } هو في الأصل موضع يسيل فيه الماء فسمى بالوادي مفرج بين جبال أو تلال أو آكام ، وكان الموضع الذي هناك مكة واديا بين الجبال { غير ذي زرع } لأنها حجرية لا تنبت { عند بيتك } الذي كان قبل الطوفان { المحرم } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : ( إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه لن يحل القتال فيه لأحد ، ولا يحل لي إلا ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها ، قال العباس يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم ، فقال : إلا الإ ذخر )56 متفق عليه من حديث ابن عباس ، أخرج الواقدي وابن عساكر من طريق عامر بن سعيد عن أبيه بلفظ ( كانت سارة تحت إبراهيم عليه السلام فمكثت معه دهرا لا ترزق ولدا ، فلما رأت ذلك وهبت له هاجر أمة قبطية ، فولدت له إسماعيل فغارت من ذلك سارة ، ووجدت في نفسها وعقبت على هاجر فحلفت أن تقطع منها ثلاثة أشراف ، فقال لها إبراهيم هل لك أن تبري يمينك ؟ قالت : كيف أصنع ؟ قال : اثقبي أذنها واخفضيها ، والخفض هو الختان ، ففعلت ذلك فوضعت هاجر في أذنها قرطين ، فازدادت بهما حسنا ، فقالت : أراني إنما ازددتها جمالا ، فلم ترض على كونه معها ، ووجد بها إبراهيم وجدا شديدا فنقلها إلى مكة ، فكان يزورها في كل يوم من الشام على البراق من شغفه بها وقلة صبره عنها . وروى البخاري في الصحيح والبغوي بسنده حديث ابن عباس قال :( أو ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل عليه السلام اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم وابنها إسماعيل عليه السلام وهي ترضعه ، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جراب فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفل إبراهيم فتبعته أم إسماعيل فقالت يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيها إنس ولا شيء ، فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آالله أمرك بهذا ؟ قال : نعم قالت : إذا لا يضيعنا ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم حيث لا يرونه فاستقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال رب { إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع } حتى بلغ يشكرون ، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال يتلمظ ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل من الأرض يليها فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود ، حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينهما ، فلما أشرفت على مروة سمعت صوتا فقالت صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت : قد استمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك ، عند موضع زمزم فبحت بعقبه أو بجناحه حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو تفور بعد ما تغرف ، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم :( رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال : لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا ) قال : فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك لا تخافوا الضيعة فإن ههنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه إن الله لا يضيع أهله ، وكانت البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه و شماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم مقبلين من طريق كذا ، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا على الماء ، فقالوا : إن هذا الطائر تدور على ماء ، ولقد عهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جربا أو جربين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم بالماء ، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء ، فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عتدك قالت نعم ولا حق لكم في الماء قالوا : نعم ، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم ، حتى إذا كان بها أهل أبيات وشب الغلام وتعلم العربية منهم وكان أنفسهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع بركته )57 وقد ذكرنا بقية تلك القصة في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :{ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }58 . قوله تعالى :
{ ربنا ليقيموا الصلاة } اللام لام كي متعلقة بأسكنت ، أي ما أسكنتم بهذا الوادي البلقع من كل مرتفق ومرتزق إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم ، وتكرير النداء وتوسيطه للإشعار بأنها المقصود بالذات من إسكانهم ثمه ، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها ، وقيل لام الأمر والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من الله أن يوفقهم لهل { فاجعل أفئدة } روى عن هشام أفئيدة بياء بعد الهمزة والجمهور بغير ياء جمع فواد وهو القلب { من الناس } أي أفئدة من أفئدة الناس ومن للتبعيض ، قال مجاهد لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم فارس والروم والترك والهند ، وقال سعيد بن جبير لحجت اليهود والنصارى والمجوس ولكنه قال { أفئدة من الناس } فهم المسلمون ، أو للابتداء كقولك القلب مني سقيم أي أفئدة ناس { تهوى } أي تسرع شوقا وودادا ، قال السدي معناه تميل { إليهم } تعديته بإلي لتضمين معنى النزوع { وارزقهم من الثمرات } مع سكناهم واديا غير ذي زرع مثل ما رزقت سكان القرى ذوات الماء { لعلهم يشكرون } تلك النعمة فأجاب الله دعوته فجعله : { حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء }59 حتى يوجد هناك الفواكه الربيعية والخريفية والصيفية والشتائية في يوم واحد