قوله : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين )( [346] ) .
اختلف النحويون في " إياك وإياه وإياي " ؛ فللبصريين فيها قولان( [347] ) :
- أحدهما : أن " إيا " اسم مضمر أضيف إلى ما بعده للبيان لا للتعريف . ولا يعرف في كلام العرب اسم مضمر مضاف إلى ما بعده غير هذا .
وحكى الخليل( [348] ) عن العرب : " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب( [349] ) " . فأضاف " إيا " إلى الشواب للبيان .
- والقول الثاني : مروي عن المبرد( [350] ) قال : " إن " إيا " اسم( [351] ) مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف ، ولا يعرف في كلام( [352] ) العرب اسم مبهم أضيف إلى ما بعده غير هذا " .
وللكوفيين في هذا أيضاً ثلاثة( [353] ) أقوال( [354] ) .
- حكى ابن( [355] ) كيسان وغيره . عنهم أن " إياك " بكماله اسم مضمر ، ولا يعرف اسم مضمر يتغير( [356] ) آخره غيره ، فتقول : " إياه وإياك وإياي " .
- والقول الثاني : إن الكاف والهاء والياء( [357] ) ، هن الاسم المضمر في " إياك وإياه وإياي( [358] ) " ، لكنه اسم لا يقوم بنفسه ولا ينفرد ولا يكون إلا متصلاً بما قبله من الأفعال ، فلما( [359] ) تقدم على الفعل لم يقم بنفسه فجعل " إيا " عماداً له ليتصل به( [360] ) ، ولو( [361] ) أخرت لا تصل المضمر بالفعل واستغنيت عن " إيا " فقلت : " نعبده " و " نعبدك " ( [362] ) . وهو اختيار ابن كيسان .
- والقول الثالث : حكاه أيضاً ابن( [363] ) كيسان ؛ وهو أن " إيا " اسم مبهم يكنى به/ عن المنصوب وزيدت إليه الكاف والهاء والياء في : " إياك وإياه وإياي " . " ليعلم المخاطب/ من الغائب من المُخْبِر عن نفسه ولا موضع للكاف والهاء والياء من الإعراب ، فهي كالكاف( [364] ) في " ذلك " وأرأيتك زيداً ما صنع " . ذكر معنى جميع ذلك ابن كيسان في كتابه في تفسير القرآن وإعرابه ومعانيه .
والعبادة في اللغة التذلل بالطاعة والخضوع .
فمعنى ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) : نذل لك ونخضع بالعبادة( [365] ) لك ونستعين بك على ذلك( [366] ) .
وإنما قدم ( نَعْبُدُ ) على ( نَسْتَعِينُ ) وقد علم أن الاستعانة قبل العبادة ، والعمل لا يقوم إلا بعون الله ، لأن العبادة لا سبيل إليها إلا بالمعونة ، والمعان على العبادة لا يكون إلا عابداً . فكل واحد مرتبط بالآخر : لا عمل إلا بمعونة ولا معونة إلا( [367] ) تتبعها عبادة ، فلم يكن أحدهما أولى بالتقديم( [368] ) من الآخر( [369] ) ، وأيضاً فإن الواو لا توجب ترتيباً عند أكثر النحويين .
وأما علة تكرير ( إِيَّاكَ ) فمن أجل اختلاف( [370] ) الفعلين إذ أحدهما عبادة والآخر استعانة .
/ وقيل : كرر للتأكيد كما تقول : " المال بين زيد وعمرو ، بين زيد وبين عمرو " ( [371] ) ، فتعيد( [372] ) " بين( [373] ) " للتأكيد .
قوله : ( نَسْتَعِينُ ) [ 5 ] .
أصله " نَسْتَعْوِنُ " على وزن " نَسْتَفْعِلُ " من العون . والمصدر منه استعانة ، وأصله استعواناً ، فقلبت حركة الواو على العين( [374] ) ، فلما انفتح ما قبل الواو –وهي في نية حركة- انقلبت ألفاً ، فالتقى ألفان ، فحذفت إحداهما لالتقاء( [375] ) الساكنين( [376] ) . فقيل : المحذوفة الثانية لأنها زائدة ، والأولى أصلية . وقيل : بل المحذوفة الأولى لأن الثانية تدل على معنى ولزمته الهاء عوضاً من الألف المحذوفة( [377] ) .
والنون الأولى في ( نَسْتَعِينُ ) يجوز فيها الكسر لغة( [378] ) مشهورة وكذلك التاء والهمزة في قولك : " أَنْتَ نَسْتَعين( [379] ) وأنا أستَعينُ " . وإنما ذلك في كل فعل سمي فاعله فيه زوائد( [380] ) أو مما يأتي من الثلاثي على " فَعِلَ ، يَفْعَلُ " بفتح العين في المستقبل ، وكسرها في الماضي نحو : " أنت تعلم وأنا أعلم " .