تفسير القرآن للسمعاني

السمعاني القرن الخامس الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 1

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ١

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، والصلاة على رسوله محمد وآله أجمعين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، اللهم بارك ووفق .

القول في تفسير فاتحة الكتاب :

قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد جمال الأئمة ، أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني رحمه الله تعالى : اعلم أن لهذه السورة أربعة أسامي : فاتحة الكتاب ، وأم القرآن ، والسبع المثاني ، والسبع من المثاني ، برواية عبد خير ، عن علي رضى الله عنه .

أما فاتحة الكتاب فلأن بها افتتح الكتاب وهو القرآن .

وأما أم القرآن لأنها أصل القرآن ، منها بدئ القرآن . وأم الشيء : أصله ، ومنه يقال لمكة : أم القرى ؛ لأنه أصل البلاد .

وأما السبع المثاني لأنها سبع آيات باتفاق الأئمة ؛ إلا في رواية شاذة أنها ثمان آيات . وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة .

وقال مجاهد : إنما سميت مثاني ؛ لأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة ، كأنه أوحى بها لهم ، ولم يعطها أحدا من الأمم .

وأما السبع من المثاني ففيه قولان : أحدهما : أنها سبع آيات مخصوصة من المثاني وهو القرآن ، قال الله تعالى : ( كتابا متشابها مثاني( [1] ) .

وإنما سمى القرآن مثاني ؛ لاشتماله على علوم مثناة من الوعد والوعيد ، والأمر والنهى ، ونحوها .

والثاني : أن السبع من المثاني هو السبع المثاني ؛ و " من " فيه للصلة ، وإنما نشأ هذا الخلاف من قوله تعالى : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني ) ( [2] ) .

ثم اعلم أن هذه السورة مكية على قول ابن عباس ، وقال مجاهد : هي مدنية .

وقيل : نزلت مرتين مرة بمكة ، ومرة بالمدينة ؛ ولذلك سميت مثاني ؛ لأنها ثنيت في التنزيل ، وهذه رواية غريبة .

قوله : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) آية من الفاتحة على قول بعض العلماء ، وهو مروى عن ابن عباس وأم سلمة .

وليس بآية منها على قول البعض . وهذا مذكور بدليله في الفقه . ثم اعلم أن الباء في قوله : ( بسم الله ) أداة يخفض ما بعدها من الكلام ، مثل : من ، عن ، وفي ، وعلى ، وأمثالها .

والمعنى المتعلق بالباء لدلالة الكلام عليه ، وتقديره : " أبدأ بسم الله " ، أو : " بدأت بسم الله " .

وقوله : ( بسم الله ) أصله باسم الله ، كقوله : ( اقرأ باسم ربك ) ( [13] ) ، وإنما حذف الألف في الكتابة ؛ لأنه ( لا يظهر ) ( [14] ) في اللفظ .

وقيل : إنما حذفت لكثرة الاستعمال تخفيفا ؛ ولأنه كثر استعمالها ؛ فاستخفوا حذفها ، بخلاف قوله : ( اقرأ باسم ربك ) ( [13] ) ، ونظائره لأن هناك لم يكثر الاستعمال .

ثم اختلفوا في اشتقاق الاسم .

قال المبرد وجماعة البصريين : الاسم مشتق من السمو ، وهو العلو والظهور ، فكأنه ظهر على معناه وعلا عليه ، وصار معناه تحته .

وقال ثعلب من الكوفيين : هو مشتق من الوسم والسمة ، فكأنه علامة لمعناه . والأول أولى ؛ لأن الاسم يصغر على المسمى . ولو كان مشتقا من السعة ، لكان يصغر على الوسم ، كما يقال في الوصل : وُصَيْل ، وفي الوعد : وُعَيْد .

وأما قوله( [14] ) : ( الله ) تعالى فقد اختلفوا فيه ، فقال الخليل ، وابن كيسان هو اسم علم خاص لله تعالى لا اشتقاق له ، وهو كأسماء الأعلام للعباد ، مثل زيد ، وعمرو ، ونحوه . وهو اختيار القفال الشاشي ، وجماعة من أهل العلم .

وقال الباقون : هو اسم مشتق ، [ و ] ( [13] ) في موضع الاشتقاق قولان : أحدهما : أنه مشتق من قولهم : أله إلاهة ، أي : عبد عبادة . وقرأ ابن عباس : " ويذرك وإلاهتك " ( [14] ) أي : عبادتك .

ويقال للناسك المتعبد مثأله ، ومنه قول القائل :

سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَألّه( [13] )

أي : تعبد ، فيكون معناه أنه المستحق للعبادة ، إليه توجه كل العبادات ، وأنه المعبود فلا يعبد غيره .

وقيل : الإله من يكون خالقا للخلق ، رازقا لهم ، مدبرا لأمورهم ، مقتدرا عليهم .

والثاني : أن " الله " أصله إله ، وأصل الإله : وِلاَه ؛ إلا أن الواو أبدلت بالهمزة . كقولهم : وشاح وإشاح .

واشتقاقه من الوله ، وكأن العباد يولهون الله ، ويفزعون إليه ويتضرعون ويلجأون إليه في الشدائد .

وأما قوله : ( الرحمن الرحيم ) قال ابن عباس : هما اسمان رقيقان ، أحدهما أرق من الآخر .

وحكى عنه أيضا أنه قال : " الرحمن " : الرفيق بالعباد ، و " الرحيم " العاطف عليهم . ثم اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : " الرحمن " غير " الرحيم " ولكل واحد منهما معنى غير معنى صاحبه . وقال بعضهم : هما واحد .

فأما من قال : " الرحمن " غير " الرحيم " ، قال : للرحمن معنى العموم ، وللرحيم معنى الخصوص ، فعلى هذا " الرحمن " بمعنى الرازق في الدنيا ، والرزق على العموم للكافر والمؤمن ، و " الرحيم " بمعنى العافي في الآخرة ، والعفو في الآخرة على الخصوص للمؤمنين دون الكافرين . ولذلك قيل في الدعاء : «يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة »( [14] ) . " فالرحمن " من تصل رحمته( [13] ) إلى الخلق على العموم ، و " الرحيم " من تصل رحمته إلى الخلق على الخصوص ؛ ولذلك يدعى غير الله رحيما ، ولا يدعى رحمانا ؛ لأن الله تعالى هو الذي تصل رحمته إلى الخلق ، كأنه كما قال تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) ( [14] ) .

وأما غير الله قد يخص شيئا بالرحمة ؛ فيكون بذلك رحيما .

وأما من قال : إن معناهما واحد ؛ فقد قال قطرب : هما اسمان ، ذكر أحدهما تأكيدا للآخر ، مثل : لهفان ، ولهيف ، وندمان ، ونديم .

وقال المبرد : ( هذا تمام بعد إتمام ) ( [13] ) ، وتفضل بعد تفضل ، وتطميع لقلوب الراغبين ، ووعد لا يخيب آمله ، ومعناه : ذو الرحمة ، والرحمة [ هي ] ( [14] ) الإنعام والتفضل .

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢

قوله : ( الحمد لله ) اعلم أن الحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة ، ويكون بمعنى التحميد والثناء على الأوصاف المحمودة . يقال : حمدت فلانا على ما أسدى إلي من النعمة . ويقال : حمدت فلانا على شجاعته وعلمه . وأما الشكر لا يكون إلا على النعمة ؛ فللحمد معنى عام ، وللشكر معنى خاص . فكل حامد شاكر ، وليس كل شاكر حامدا .

يقال : حمدت فلانا على شجاعته . ولا يقال : شكرت فلانا على شجاعته .

ثم أعلم أن حمد الله تعالى لنفسه حسن لا كحمد المخلوقين لأنفسهم ؛ لأن [ حمد ] ( [15] ) المخلوقين لا يخلو عن نقص ؛ فلا يخلو مدحه نفسه عن كذب ؛ فيقبح منه أن يمدح نفسه . وأما الله - جل جلاله - بريء عن النقص والعيب ؛ فكان مدحه نفسه حسنا .

وقوله : ( الحمد لله ) هاهنا يحتمل معنيين : الإخبار ، والتعليم . أما الإخبار كأنه يخبر أن المستوجب للحمد هو الله ، وأن المحامد كلها لله تعالى .

وأما التعليم كأنه حمد نفسه وعلم العباد حمده ، وتقديره : " قولوا : الحمد لله " .

وقوله : ( لله ) فاللام تكون للإضافة ، وتكون للاستحقاق ، يقال : أكل للدابة ، والدار لزيد ، فاللام هاهنا بمعنى الاستحقاق ، كأنه يقول : المستحق للحمد هو الله تعالى ، وقد فرغنا عن تفسير قوله : ( لله ) .

( رب العالمين ) وأما الرب يكون بمعنى التربية والإصلاح ، ويكون بمعنى المالك . يقال : رب الضيعة يربيها ، أي : أتمها وأصلحها . ويقال : رب الدار لمالك الدار . فالرب هاهنا يحمل كلا المعنيين ؛ لأن الله تعالى مربى العالمين ، ومالك العالمين .

وأما ( العالمون ) قال ابن عباس : هم الجن والأنس . وقال الحسن وقتادة ، وأبو عبيدة : هم جميع المخلوقين . وقيل : الأول أولى ؛ لأن الخطاب مع المكلفين الذين هم المقصودون بالخليفة وهم الجن والإنس . وقيل الإنس عالم ، والجن عالم . والله تعالى وراءه أربع زوايا ، في كل زاوية ألف وخمسمائة عالم( [16] ) .

ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ٣

وقد فرغنا عن تفسير ( الرحمن الرحيم ) وإنما ذكره ثانيا لفائدة التوكيد .

مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ٤

قوله : ( مالك يوم الدين ) يقرأ بقراءتين : " مَالِك ، وملك " . قال أبو حاتم السجستاني : " مالك " بالألف أولى ؛ لأنه أوسع وأجمع ، يقال : مالك الدار ، ومالك الطير ، ومالك العبد ، ولا يستعمل منها اسم الملك .

وقال أبوعبيد ، والمبرد : " ومَلِك " ، أولى ؛ لأنه أتم ، فإن " الملِك " ( [17] ) يجمع معنى " المالك " ، والمالك لا يجمع معنى الملك ، فإن كل ملك مالك ، وليس كل مالك ملكا ، ولأنه أوفق لألفاظ القرآن ، مثل قوله - تعالى- : ( فتعالى الله الملك الحق ) ( [18] ) ، وقوله : ( لمن الملك اليوم ) ( [19] ) ونحو ذلك فمالك : من المِلْك والملكة ، ومَلك من المُلك والملكة ، والله - تعالى - مالك ، وملك .

وأما ( اليوم ) اسم لزمان معلوم ، والمراد بيوم الدين : يوم القيامة ، ومعناه : يوم الحساب ، ويوم الجزاء . وقد يكون الدين بمعنى الطاعة وبمعانشتي ، ولكنه هاهنا على أحد المعنيين . فإن قال قائل : لم خص يوم الدين بالذكر ، والله - تعالى - مالك الأيام كلها ؟ يقال : إنما خصه لأن الأمر في القيامة يخلص له ، كما قال : ( والأمر يومئذ لله ) . وأما في الدنيا للملوك أمر ، وللمسلمين أمر ، وللأنبياء أمر .

إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ٥

قوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ، قوله : ( إياك نعبد ) بمعنى نحن نعبدك ، والعبادة : هي الطاعة مع التذلل والخضوع ، يقال : طريق معبد : أي مذلل ، ومعناه : نعبدك خاضعين .

( وإياك نستعين ) أي : نطلب منك المعونة ، فإن قيل : لم قدم ذكر العبادة على الاستعانة ؛ تكون قبل العبادة ؟ ولم ذكر قوله : إياك مرتين ، وكان يكفى أن يقول : إياك نعبد ونستعين ؛ فإنه أوجز وألخص ؟ يقال : أما الأول فإنما يلزم من يجعل الاستطاعة قبل الفعل ، ونحن بحمد الله نجعل الاستعانة والتوفيق مع الفعل ، سواء قرنه به أم أخره جاز .

أو يقال : لأن الاستعانة نوع تَعَبُّدٍ ، فكأنه ذكر جملة العبادة ، ثم ذكر ما هو من تفاصيلها .

وأما قوله : ( وإياك نستعين ) إنما كرره لأنه لو اقتصر على قوله : إياك نعبد ونستعين ؛ ليعلم أنه المعبود ، وأنه المستعان ، وعلى أن العرب قد تتكلم بمثل هذا ، قد يدخل الكلام تجريدا أو تفخيما وتعظيما . ولا يعد ذلك عيبا ، كما تقول العرب : " هذا المالك بين زيد ، وبين عمرو " ، وإن كان يفيد قولهم : " المال بين زيد ، وعمرو " . ما يفيد الأول ، ولا يعد ذلك عيبا في الكلام ؛ بل عد تفخيما وتجزيلا في الكلام .

ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ٦

قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) يعنى : أرشدنا ، وثبتنا .

والهداية في القرآن على معان ، فتكون الهداية بمعنى الإلهام ، وتكون بمعنى الإرشاد ، وتكون بمعنى البيان ، وتكون بمعنى الدعاء .

أما الإلهام ، قال الله تعالى : ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) ( [20] ) أي : ألهم .

وأما الإرشاد ، قوله تعالى : ( واهدنا إلى سواء الصراط ) ( [21] ) .

وأما البيان قوله : ( وأما ثمود فهديناهم ) ( [22] ) أي : بينا لهم .

وأما الدعاء ، مثل قوله تعالى : ( ولكل قوم هاد ) ( [23] ) أي : داع فهو بمعنى الاسترشاد هاهنا . فإن قال قائل : أي معنى للاسترشاد ، وكل مؤمن مهتد ، فما معنى قوله( اهدنا ) ؟ قلنا : هذا سؤال من يقول بتناهي الألطاف من الله تعالى . ومذهب أهل السنة أن الألطاف والهدايات من الله تعالى لا تتناهى ، فيكون ذلك بمعنى طلب مزيد الهداية ، ويكون بمعنى سؤال للتثبيت ، اهدنا بمعنى ثبتنا ، كما يقال للقائم : " قم حتى أعود إليك " . أي : أثبت قائما .

وأما ( الصراط المستقيم ) قال علي ، وابن مسعود : هو الإسلام . وقال جابر : هو القرآن وأصله في اللغة : هو الطريق الواضح ، والإسلام طريق واضح ، والقرآن طريق واضح .

وقد قال القائل :

أميرُ المؤمنينَ على صراطٍ *** إذا اعْوُجَّ المواردُ مستقيمُ

صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ٧

قوله ( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) ، قد قرأ عمر رضي الله عنه : «صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين » ولكنه في الشواذ ، والمعروف هو القراءة المعهودة .

وقيل : " الذين أنعمت عليهم " هم الأنبياء . وقيل : كل من ثبته الله على الإيمان من النبيين والمؤمنين كافة . وقال أبو العالية الرياحي : هم الرسول ، وأبو بكر ، وعمر .

وأما قوله : ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) . آمين . فالمغضوب عليهم هم اليهود ، والضالون هم النصارى .

وروى عن عدي بن حاتم أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم ، وقال : «يا رسول الله ، من المغضوب عليهم ؟ فقال : اليهود . وقال : فمن الضالون ؟ فقال النصارى . قال عدي : أشهد أني حنيف مسلم . قال عدي : فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل ، ويبتسم ؛ فرحا بإسلامي »( [24] ) .

وأما " آمين " فليس من القرآن . والسنة للقارىء أن يقف وقفة ، ثم يقول : آمين .

وفيه لغتان : آمين بالمد ، وأمين بالقصر . ومعناه : اللهم استجب . وقيل : إنه طابع الدعاء .