سورة الإسراء مكية ، وآياتها111 .
هذه السورة الكريمة التي نفتتح بها حديث اليوم سورة مكية ، وهي من سور القرآن " العتاق الأول " كما وصفها عبد الله بن مسعود ، أحد كبار كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حسبما روى ذلك البخاري في الصحيح . وسميت " سورة الإسراء " أخذا من قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } |الآية : 1| . وأول جزء منها يتحدث بإيجاز عن انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بواسطة البراق ، وهو ما عبر عنه كتاب الله " بالإسراء " ، ثم عن الانتقال من المسجد الأقصى في بيت المقدس إلى السماوات العلى حتى سدرة المنتهى ، وهو " العروج " الذي تم بواسطة " المعراج " .
قال القاضي عبد الجبار في كتابه " تنزيه القرآن عن المطاعن " : [ ربما قيل : كيف يصح قطع هذه المسافة في هذه الأوقات القصيرة ؟ وجوابنا أن ذلك من معجزاته صلى الله عليه وسلم ، كما جعل الله تعالى معجزة سليمان " الريح " بقوله تعالى : { ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر } |سبأ : 12| . وقد وردت في شأن الإسراء والمعراج عدة أحاديث ، تشتمل على تفاصيل دقيقة لم يتعرض لها كتاب الله ، ومن أحسن من جمعها بطرقها المتعددة على اختلاف درجاتها الحافظ ابن كثير ، وبعدما أورد نصوصها في عشرين صفحة من تفسيره الشهير ، أتى بخلاصة وافية نقتطف منها العناصر الأساسية في الموضوع . وفيما يلي خلاصة الخلاصة لما قاله ابن كثير . قال رحمه الله : " وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها يحصل مضمون ما اتفقت عليه ، وأنه وقع مرة واحدة ، والحق أنه عليه السلام أسري به يقظة لا مناما ، من مكة إلى بيت المقدس ، راكبا البراق ، وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان ، فلما انتهى إلى المسجد الأقصى دخله ، فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين ، ثم أتي بالمعراج ، وهو كالسلم ، ذو درج يرقى فيها ، فصعد فيه إلى السماء الدنيا ، ثم إلى بقية السماوات السبع ، فتلقاه من كل سماء مقربوها ، وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم ، حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام أي أقلام القدر بما هو كائن ، ورأى سدرة المنتهى ، ورأى البيت المعمور ، والجنة والنار ، وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ، ثم خففها إلى خمس ، رحمة منه ولطفا بعباده ، وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها ، ثم هبط إلى بيت المقدس ، وهبط معه الأنبياء ، فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة ، ثم خرج من بيت المقدس ، فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس ، وكان الإسراء قبل الهجرة بسنة " . ثم قال ابن كثير : " والأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا مناما ، ولا ينكرون أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى الإسراء قبل ذلك مناما ، ثم رآه بعده يقظة ، لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح " . انتهى ما اقتطفناه من كلام ابن كثير .
وعلى القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الإسراء رؤيا منام ، ثم رآه رؤية يقظة ، يكون الأمر فيه مشابها لبدء نزول الوحي من قبل ، فقد كان الملَك جاءه في المنام أولا ، ثم جاءه بعد ذلك في اليقظة . وشرح القاضي أبو بكر { ابن العربي } الحكمة في هذا التدرج فقال : " وكانت الحكمة في ذلك أن أراه الله في المنام ما أراه ، توطيدا وتثبيتا لنفسه ، حتى لا يأتيه الحال فجأة ، فتقاسي نفسه الكريمة من ذلك شدة ، لعجز القوى الآدمية عن مباشرة الهيئة الملكية " .
الربع الأول من الحزب التاسع والعشرين في المصحف الكريم
واقتصر كتاب الله من قصة الإسراء على بيان وقته ، وبيان المكان الذي أسري منه ، وبيان الحكمة المقصودة من الإسراء فقال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا ، إنه هو السميع البصير } .
وقوله تعالى : { سبحان } علم للتسبيح ، ومعناه براءة الله من السوء ، وتنزيه مقامه عنه . قال ابن كثير : " والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام ، فلو كان الإسراء مناما –لا يقظة- لم يكن فيه كبير شيء ، ولم يكن مستعظما " ، إذ " لا فضيلة للحالم ، ولا مزية للنائم " ، كما قال النسفي ، ولما بادر كفار قريش إلى تكذيبه ، ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم ، مما يشير إليه قوله تعالى في مكان آخر من هذه السورة : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك } أي رؤيا عين كما قال ابن عباس { إلا فتنة للناس } |الآية : 60| .
ومما يستلفت النظر أن هذا التسبيح الوارد في مطلع السورة يتكرر أثناءها عدة مرات ، فمرة يأتي تعقيبا على ما قال به المشركون في حق الله جل وعلا ، وذلك قوله تعالى : { سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، يسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم } ، ومرة أخرى يأتي التسبيح تعقيبا على التحديات التي وجهها المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك في قوله تعالى : { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا } ، ومرة ثالثة يأتي التسبيح في سياق الحديث عن الذين آمنوا بالله ورسوله ودخلوا في الإسلام من أهل الكتاب ، وذلك قوله تعالى : { إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ، ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا } .
ومن لطائف التفسير التي يحسن نقلها في هذا المقام ما ذكره جمال الإسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري عند تحليله لقوله تعالى : { الذي أسرى بعبده } إذ قال : " لما رفعه إلى حضرته السنية ، وأٍرقاه فوق الكواكب العلوية ، ألزمه اسم العبودية تواضعا للألوهية " ، وذلك حتى لا يلتبس أحد المقامين بالآخر ، كما التبسا في المعتقدات المسيحية .
وقوله تعالى : { لنريه من آياتنا } بيان لحكمة الله في إسرائه بخاتم أنبيائه ورسله ، وقد أعاد كتاب الله الحديث عن هذه الحكمة في سورة النجم فقال تعالى : { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } |الآية : 18| وكم في السماوات وحدها من عجائب وآيات . قال زميلنا المرحوم المفسر الشهيد : " والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير ، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى ، من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى محمد خاتم النبيئين صلى الله عليه وسلم ، وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا ، وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير ، لمقدسات الرسل قبله ، والإشارة إلى اشتمال رسالته على هذه المقدسات ، وارتباط رسالته بها جميعا ، فهي ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان ، وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان ، وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تنكشف عنها للنظرة الأولى " .