جهود الإمام الغزالي في التفسير

أبو حامد الغزالي القرن السادس الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 1

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ١

1- التعوذ ( م )[1] بعده[2] ، من غير جهر ، مستحب[3] . [ الوجيز في فقه الإمام الشافعي : 42 ] .

سورة الفاتحة[4]

2- إن هذه السورة ، فاتحة الكتاب ومفتاح الجنة ، وإنما كانت مفتاحا لأن أبواب الجنة ثمانية ، ومعاني الفاتحة ترجع إلى ثمانية ، فاعلم قطعا أن كل قسم منها مفتاح باب من أبواب الجنة ، تشهد به الأخبار . فإن كنت لا تصادف في قلبك الإيمان والتصديق به ، وطلبت فيه المناسبة فدع عنك ما فهمته من ظاهر الجنة ، فلا يخف عليك أن كل قسم يفتح باب بستان من بساتين المعرفة ، كما أشرنا إليها في آثار رحمة الله تعالى وعجائب صنعه وغيرها[5] . [ جواهر القرآن ودرره : 56 ] .

3- قال صلى الله عليه وسلم : ( فاتحة الكتاب أفضل القرآن )[6] . [ نفسه : 48 ] .

4- السر في هذا التخصيص أن الجامع بين فنون الفضل وأنواعها الكثيرة يسمى فاضلا ، فالذي يجمع أنواعا أكثر يسمى أفضل ، فإن الفضل هو الزيادة ، فالأفضل هو الأزيد ، وأما السؤدد : فهو عبارة عن رسوخ معنى الشرف الذي يقتضي الاستتباع ويأبى التبعية ، وإذا راجعت المعاني التي ذكرناها في السورتين[7] علمت أن الفاتحة تتضمن التنبيه على معاني كثيرة ومعان مختلفة ، فكانت أفضل . [ نفسه : 64 ] .

{ بسم الله الرحمان الرحيم }

- 5آية [ ح . م ][15] منها[16] ، وهي آية من كل سورة ، إما مع الآية الأولى أو مستقلة بنفسها على أحد القولين . [ الوجيز في فقه الإمام الشافعي : 42 ] .

6- عندنا : آية من كل سورة كتبت فيها ، ولكنها آية مستقلة أم هي مع أول سورة آية ؟ في قولان ، وذكر الصيدلاني[10] القولين في أنه هل هي من القرآن في أول سورة – سورة الفاتحة - ؟ والمشهور هو الأول . [ الوسيط في المذهب : 2/ 610 ] .

7 - وميل الشافعي رحمه الله إلى أنها آية من كل سورة ، " الحمد " وسائر السور . لكنها في أول كل سورة آية برأسها ، أو هي مع أول آية في سائر السور آية ؟ هذا مما نقل عن الشافعي رحمه الله فيه تردد ، وهذا أصح من قول من حمل تردد قول الشافعي على أنها هل هي من القرآن في أول كل سورة ؟ بل الذي يصح أنها حيث كتبت مع القرآن بخط القرآن فهي من القرآن .

فإن قيل : القرآن لا يثبت إلا بطريق قاطع متواتر ، فإن كان هذا قاطعا فكيف اختلفوا فيه ؟ وإن كان مظنونا فكيف يثبت القرآن بالظن ، ولو جاز هذا لجاز إيجاب التتابع في صوم كفارة اليمين لقول ابن مسعود ، ولجاز للروافض[11] أن يقولوا : قد ثبتت إمامة علي رضي الله عنه بنص القرآن ، ونزلت فيه آيات أخفاها الصحابة بالتعصب ، وإنما طريقنا في الرد عليهم أنا نقول :

نزل القرآن معجزة للرسول عليه السلام ، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإظهاره مع قوم تقوم الحجة بقولهم ، وهم أهل التواتر ، فلا يظن بهم التطابق على الإخفاء ولا مناجاة الآحاد به حتى لا يتحدث أحد بالإنكار ، فكانوا يبالغون في حفظ القرآن حتى كانوا يضايقون في الحروف ويمنعون من كتبة[12] أسامي الصور مع القرآن ، ومن التعاشير[13] والنقط كيلا يختلط بالقرآن غيره ، فالعادة تحيل الإخفاء .

فيجب أن يكون طريق ثبوت القرآن القطع ، وعن هذا المعنى قطع القاضي[14] رحمه الله بخطإ من جعل البسملة من القرآن إلا في سورة " النمل " ، فقال : لو كانت من القرآن لوجب على رسول الله عليه السلام أن يبين أنها من القرآن بيانا قاطعا للشك والاحتمال . إلا أنه قال : أخطئ القائل به ولأكفره لأن نفيها من القرآن لم يثبت أيضا بنص صريح متواتر ، فصاحبه مخطئ ، وليس بكافر . واعترف بأن البسملة منزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة ، وأنها كتبت مع القرآن بخط القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينزل عليه جبريل ببسم الله الرحمان الرحيم " [15] .

لكنه لا يستحيل أن ينزل عليه ما ليس بقرآن وأنكر قول من نسب عثمان رضي الله عنه إلى البدعة في كتبه : { بسم الله الرحمان الرحيم } في أول كل سورة ، وقال : لو أبدع لاستحال في العادة سكوت أهل الدين عنه ، مع تصلبهم في الدين ، كيف وقد أنكروا على من أثبت أسامي السور والنقط والتعشير ؟ فما بالهم لم يجيبوا بأنا أبدعنا ذلك كما أبدع عثمان رضي الله عنه كتبة البسملة ، لاسيما واسم السور يكتب بخط آخر متميز عن القرآن ، والبسملة مكتوبة بخط القرآن متصلة به بحيث لا تتميز عنه ، فتحيل العادة السكوت على من يبدعها لولا أنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والجواب أنا نقول : لا وجه لقطع القاضي بتخطئة الشافعي رحمه الله ، لأن إلحاق ما ليس بقرآن بالقرآن كفر ، كما أنه من أحلق القنوت أو التشهد أو التعوذ بالقرآن فقد كفر ، فمن ألحق البسملة لم لا يكفر ؟ ولا سبب له إلا أنه يقال : لم يثبت انتفاؤه من القرآن بنص متواتر . فنقول : لو لم يكن من القرآن لوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم التصريح بأنه ليس من القرآن ، وإشاعة ذلك على وجه يقطع الشك كما في التعوذ والتشهد . فإن قيل : ما ليس من القرآن لا حصر له حتى ينفي ، إنما الذي يجب التنصيص عليه ما هو من القرآن . قلنا : هذا صحيح لو لم تكتب البسملة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القرآن بخط القرآن ولو لم يكن منزلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة ، وذلك يوهم قطعا أنه من القرآن ، ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة ، وذلك يوهم قطعا أنه من القرآن ، ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يعرف كونه موهما ولا جواز السكوت عن نفيه مع توهم إلحاقه .

فإذا القاضي رحمه الله يقول : لو كان من القرآن لقطع الشك بنص متواتر تقوم الحجة به ، ونحن نقول : لو لم يكن من القرآن لوجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم التصريح بأنه ليس من القرآن وإشاعته ، ولنفاه بنص متواتر بعد أن أمر بكتبه بخط القرآن ، إذ لا عذر في السكوت عن قطع هذا التوهم . فأما عدم التصريح بأنه من القرآن ، فإنه كان اعتمادا على قرائن الأحوال ؛ إذ كان يملي على الكاتب مع القرآن ، وكان الرسول عليه السلام في أثناء إملائه لا يكرر مع كل كلمة وآية أنها من القرآن بل كان جلوسه له ، وقرائن أحواله ، تدل عليه ، وكان يعرف كل ذلك قطعا .

ثم لما كانت البسملة أمر بها في أول كل أمر ذي بال ، ووجد ذلك في أوائل السور ، ظن قوم أنه كتب على سبيل التبرك ، وهذا الظن خطأ ، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : تسرق الشياطين من الناس آية من القرآن . لما ترك بعضهم قراءة البسملة في أول السورة ، فقطع بأنها آية ولم ينكر عليه ، كما ينكر على من ألحق التعوذ والتشهد بالقرآن . فدل على أن ذلك كان مقطوعا به وحدث الوهم بعده .

فإن قيل : بعد حدوث الوهم والظن صارت " البسملة " اجتهادية وخرجت عن مظنة القطع ، فكيف يثبت القرآن بالاجتهاد ؟ ! قلنا : جوز القاضي رحمه الله الخلاف في عدد الآيات ومقاديرها ، وأقر بأن ذلك منوط باجتهاد القراء وأنه لم يبين بيانا شافيا قاطعا للشك .

" والبسملة " من القرآن في سورة " النمل " ، فهي مقطوع بكونها من القرآن . وإنما الخلاف في أنها من القرآن مرة واحدة أو مرات كما كتبت ؟ . فهذا يجوز أن يقع الشك فيه ويعلم بالاجتهاد ، لأنه نظر في تعيين موضع الآية بعد كونها مكتوبة بخط القرآن . فهذا جائز وقوعه ، والدليل على إمكان الوقوع وأن الاجتهاد قد تطرق إليه أن النافي لم يكفر الملحق ، والملحق لم يكفر النافي ، بخلاف القنوت والتشهد . فصارت البسملة نظرية ، وكتبها بخط القرآن مع القرآن مع صلابة الصحابة وتشددهم في حفظ القرآن عن الزيادة قاطع ، أو كالقاطع في أنها من القرآن . فإن قيل : فالمسألة صارت نظرية وخرجت من أن تكون معلومة بالتواتر علما ضروريا فهي قطعية أو ظنية . قلنا الإنصاف أنها ليس قطعية بل هي اجتهادية ، ودليل جواز الاجتهاد فيها وقوع الخلاف في زمن الصحابة رضي الله عنهم ، حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما : تسرق الشياطين من الناس آية . ولم يكفر بإلحاقها بالقرآن ولا أنكر عليه ، ونعلم أنه لو نقل الصديق رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " البسملة من سورة " الحمد " وأوائل السور المكتوبة معها " ، لقبل ذلك بسبب كونها مكتوبة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو نقل : " أن القنوت من القرآن " لعلم بطلان ذلك بطريق قاطع لا يشك فيه .

وعلى الجملة ، إذا أنصفنا وجدنا أنفسنا شاكين في مسألة البسملة قاطعين في مسألة التعوذ والقنوت ، وإذا نظرنا في كتبها مع القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سكوته عن التصريح بنفي كونها من القرآن بعد تحقق سبب الوهم كان ذلك دليلا ظاهرا كالقطع في كونها من القرآن ، فدل أن الاجتهاد لا يتطرق إلى أصل القرآن ، أما ما هو من القرآن وهو مكتوب بخطه فالاجتهاد فيه يتطرق إلى تعيين موضعه ، وأنه من القرآن مرة أو مرات ، وقد أوردنا ذلك في كتاب " حقيقة القرآن " [16] وتأويل ما طعن به على الشافعي رحمه الله في ترديده القول في هذه المسألة .

فإن قيل : قد أوجبتم قراءة البسملة في الصلاة وهو مبني على كونها قرآنا ، وكونه قرآنا لا يثبت بالظن ، فإن الظن علامة وجوب العمل في المجتهدات ، وإلا فهو جهل أي ليس بعلم ، فليكن كالتتابع في قراءة ابن مسعود .

قلنا : وردت أخبار صحيحة في وجوب قراءة البسملة وكونها قرآنا متواترا معلوما ، وإنما المشكوك فيه ، أنها قرآن مرة في سورة " النمل " أو مرات كثيرة في أول كل سورة ؟ فكيف تساوي قراءة ابن مسعود ؟ ولا يثبت بها القرآن ولا هي خبر ، وههنا صحت أخبار في وجوب البسملة ، وصح التواتر أنها من القرآن .

وعلى الجملة فالفرق بين المسألتين ظاهر .

8- قوله تعالى : { بسم الله الرحمن الرحيم } نبأ عن الذات ، وقوله : { الرحمان الرحيم } نبأ عن صفة من صفات خاصة ، وخاصيتها أنها تستدعي سائر الصفات من العلم والقدرة وغيرهما ثم تتعلق بالخلق- وهم المرحومون- تعلقا يؤنسهم به ، ويشوقهم إليه ويرغبهم في طاعته ، لا كوصف الغضب لو ذكره بدلا عن الرحمة ، فإن ذلك يحزن ويخوف ويقبض القلب ولا يشرحه . [ جواهر القرآن ودرره : 49 ]

9- المراد بالاسم ههنا هو المسمى . [ الإحياء : 1/197 ] .

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢

{ الحمد لله رب العالمين }[17]

10- { الحمد لله } ومعناه : أن الشكر لله ، إذ النعم من الله . ومن يرى من غير الله نعمة أو يقصد غير الله سبحانه بشكر- لا من حيث إنه مسخر من الله عز وجل- ففي تسميته وتحميده نقصان بقدر التفاته إلى غير الله تعالى . [ نفسه : 1/197 ] .

11- وهي مشتملة على إثبات ضروب الكمال لذاته وصفاته سبحانه وتعالى ، فما كان من أسماءه متضمنا الإثبات كالعليم والقدير والسميع والبصير فهو مندرج تحتها ، فنفينا بسبحان الله كل عيب عقلناه وكل نقص فهمناه ، وأثبتنا بالحمد لله كل كمال عرفناه ، وكل جلال أدركناه ، وراء ما نفيناه وأثبتناه شأن عظيم ، قد غاب عنا وجهلناه ، فنحققه من جهة الإجمال بقولنا الله أكبر . [ روضة الطالبين وعمدة السالكين ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي رقم2 ص : 66-67 ] .

12- لو أدرجت الباقيات الصالحات[18] في كلمة على سبيل الإجمال وهي : { الحمد لله } لاندرجت فيها ، كما قال السيد الجليل والإمام الحفيل[19] علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " لو شئت أن أوقر بعيرا من قول { الحمد لله } لفعلت " فإن { الحمد لله } : هو الثناء ، والثناء يكون بإثبات الكمال تارة وسلب النقص أخرى ، وتارة بالاعتراف بالعجز عن إدراك الإدراك ، وتارة بإثبات التفرد بالكمال ، والتفرد والكمال من أعلى مراتب المدح والكمال . [ نفسه : 67-68 ] .

وقد اشتملت هذه الكلمة على ما ذكرناه في الباقيات الصالحات لأن الألف واللام فيها لاستغراق جنس المدح ، والحمد ما علمناه وجهلناه ، ولا خروج للمدح عن شيء مما ذكرناه ، ولا يستحق الإلهية إلا من اتصف بجميع ما ذكرناه ، ولا يخرج عن هذا الاعتقاد ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا أحد من أهل الملك ، إلا من خذله الله واتبع هواه وكان أمره فرطا ، وعصا مولاه أولائك قوم قد غمرهم ذل الحجاب وطردوا عن الباب ، وأبعدوا عن ذلك الجناب ، وحق لمن حجب في الدنيا عن إجلاله ومعرفته أن يحجب في الآخرة عن إكرامه ورؤيته .

13- وقوله : { الحمد لله رب العالمين } يشتمل على شيئين :

أحدهما : أصل الحمد وهو الشكر ، وذلك أول الصراط المستقيم ، وكأنه شطره . فإن الإيمان العملي نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر ، كما تعرف حقيقية ذلك إن أردت معرفة ذلك باليقين من كتاب " إحياء علوم الدين " ، لاسيما من كتاب " الشكر " و " الصبر " منه[20] . وفضل الشكر على الصبر ، كفضل الرحمة على الغضب ، فإن هذا يصدر عن الارتياح وهزة الشوق وروح المحبة ، وأما الصبر على قضاء الله فيصدر عن الخوف والرهبة ، ولا يخلو عن الكرب والضيق . وسلوك الصراط المستقيم إلى الله تعالى بطريق المحبة وأعمالها أفضل كثيرا من سلوك طريق الخوف ، وإنما يعلم سر ذلك من كتاب " المحبة والشوق " [21] من جملة كتاب " الإحياء " ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول ما يدعى إلى الجنة الحمادون لله على كل حال " [22] .

والثاني : قوله تعالى : { رب العالمين } إشارة إلى الأفعال كلها ، وإضافتها إليها بأوجز لفظ وأئمة إحاطة بأصناف الأفعال لفظ { رب العالمين } . وأفضل النسبة من الفعل إليه نسبة الربوبية ، فإن ذلك أتم وأكمل في التعظيم من قولك : " أعلى العالمين " " وخالق العالمين " .

ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ٣

{ الرحمان الرحيم }[23]

إشارة إلى الصفة مرة أخرى ، ولا تظن أنه مكرر ، فلا تكرر في القرآن ، إذ حد المكرر ما لا ينطوي على مزيد فائدة . وذكر الرحمة بعد ذكر العالمين وقبل ذكر { ملك يوم الدين } ينطوي على فائدتين عظمتين في تفصيل مجاري الرحمة :

إحداهما : تلتفت إلى خلق رب العالمين : فإنه خلق كل واحد منهم على أكمل أنواعه وأفضلها ، وآتاه كل ما يحتاج إليه . فأحد العوالم التي خلقها عالم البهائم ، وأصغرها البعوض والذباب والعنكبوت والنحل .

فانظر إلى البعوض : كيف خلق أعضاءها ، فقد خلق عليها كل عضو خلقه على الفيل ، حتى خلق له خرطوما مستطيلا حاد الرأس ثم هداه إلى غذائه إلى أني مص دم الآدمي ، فتراه يغرز فيه خرطومه ويمص من ذلك التجويف غذاء ، وخلق له جناحين ليكون له آلة الهرب إذا قصد دفعه .

وانظر إلى الذباب كيف خلق أعضاءه ، وخلق حدقتيه مكشوفتين بلا أجفان ، إذ لا يحتمل رأسه الصغير الأجفان ، والأجفان يحتاج إليها لتصقيل الحدقة مما يلحقها من الأقذاء والغبار ، وانظر كيف خلق له بدلا عن الأجفان يدين زائدتين ، فله سوى الأرجل الأربع يدان زائدتان ، تراه إذا وقع على الأرض لا يزال يمسح حدقتيه بيديه يصقلها عن الغبار .

وانظر إلى العنكبوت : كيف خلق أطرافها وعلمها حيلة النسج ، وكيف علمها حيلة الصيد بغير جناحين ، إذ خلق لها لعابا لزجا تعلق نفسها به في زاوية ، وتترصد طيران الذباب بالقرب منها ، فترمي إليه نفسها فتأخذ وتقيده بخيطها الممدود من لعابها ، فتعجزه عن الإفلات حتى تأكله أو تدخره .

وانظر إلى نسج العنكبوت لبيتها ، كيف هداها الله نسجه على التناسب الهندسي في ترتيب السدي واللحمة .

وانظر إلى النحل وعجائبها التي لا تحصى ؛ في جمع الشهد والشمع ، وننبهك على هندستها في بناء بيتها فإنها تبني على شكل المسدس ، كي لا يضيق المكان على رفقائها ، لأنها تزدحم في موضع واحد على كثرتها ، ولو بنت البيوت مستديرة لبقي خارج المستديرات فرج ضائعة ، فإن الدوائر لا تراص ، وكذلك سائر الأشكال ، وأما المربعات فتراص ، ولكن شكل النحل يميل إلى الاستدارة فيبقى داخل البيت زوايا ضائعة ، كما يبقى في المستدير خارج البيت فرج ضائعة ، فلا شكل من الأشكال يقرب من المستدير في التراص غير المسدس ، وذلك يعرف بالبرهان الهندسي .

فانظر كيف هداه الله خاصية هذا الشكل ، وهذا أنموذج من عجائب صنع الله ولطفه ورحمته بخلقه ، فإن الأدنى ينبه على الأعلى ، وهذه الغرائب لا يمكن أن تستقصي في أعمار طويلة ، أعني : ما انكشف للآدميين منها ، وأنه ليسير بالإضافة إلى ما لا ينكشف ، أو استأثر هو والملائكة بعلمه ، وربما تجد تلويحات من هذا الجنس في كتاب " الشكر " وكتاب " المحبة " فاطلبه إن كنت له أهلا ، وإلا فغض بصرك عن آثار رحمة الله ولا تنظر إليها ، ولا تسرح في ميدان معرفة الصنع ولا تتفرج فيه ، واشتغل بأشعار المتنبي وغرائب النحو لسيبويه وفروع ابن الحداد[24] في نوادر الطلاق وحيل المجادلة في الكلام ، فذلك أليق بك ، فإن قيمتك على قدر همتك { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم }[25] و{ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده }[26] . ولنرجع إلى الغرض ، والمقصود التنبيه على أنموذج من رحمة الله في خلق العالمين .

وثانيهما : تعلقها بقول : { ملك يوم الدين }[27] فيشير إلى الرحمة في المعاد يوم الجزاء عند الإنعام بالملك المؤبد في مقابلة كلمة وعبادة ، وشرح ذلك يطول .

والمقصود : أنه لا مكرر في القرآن ، فإن رأيت شيئا مكررا من حيث الظاهر ، فانظر في سوابقه ولواحقه لينكشف لك مزيد في إعادته .

14- الرحمة ترجع إلى الإرادة مضافة إلى قضاء حاجة المحتاج الضعيف . [ روضة الطالبين ضمن المجموعة رقم 2 ص : 66 ] .

مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ٤

{ ملك يوم الدين }[28]

15- الملك : هو الذات التي لا تحتاج إلى شيء ، ويحتاج إليها كل شيء . [ نفسه : 65 ]

16 – أما قوله : { ملك يوم الدين } فإشارة إلى الآخر في المعاد ، وهو أحد الأقسام من الأصول[29] ، مع الإشارة إلى معنى المُلك والمَِلك وذلك من صفات الجلال . [ جواهر القرآن ودرره : 53 - 54 ]

17- استثر[30] من قلبك التعظيم والخوف بقولك : { ملك يوم الدين } ، أما العظمة : فلأن لا ملك إلا له ، وأما الخوف : فلهول يوم الجزاء والحساب الذي هو مالكه . [ الإحياء : 1/197-198 ] .

إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ٥

{ إياك نعبد وإياك نستعين }[31]

18- يشتمل على ركنين عظيمين :

أحدهما : العبادة مع الإخلاص بالإضافة إليه خاصة ، وذلك هو روح الصراط المستقيم كما تعرفه في كتاب " الصدق والإخلاص " [32] وكتاب " ذم الجاه والرياء " [33] من كتاب " الإحياء " .

والثاني : اعتقاد أنه لا يستحق العبادة سواه ، وهو لباب عقيدة التوحيد وذلك بالتبري عن الحول والقوة ، ومعرفة أن الله منفرد بالأفعال كلها ، وأن العبد لا يستقل بنفسه دون معونته .

فقوله : { إياك نعبد } إشارة إلى تحلية النفس بالعبادة والإخلاص ، وقوله : { وإياك نستعين } إشارة إلى تزكيتها عن الشرك والالتفات إلى الحول والقوة .

وقد ذكرنا أن مدار سلوك الصراط المستقيم على قسمين :

أحدهما : التزكية بنفي ما ينبغي .

والثاني : التحلية بتحصيل ما لا ينبغي ، وقد اشتمل عليهما كلمتان من جملة الفاتحة .

ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ٦

{ اهدنا الصراط المستقيم }

19- أول دعاء علمه رب العالمين عباده المسلمين الذين اصطفاهم الله من بين خلقه : هذا الدعاء ، قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } أي ثبتنا عليه وأدمه لنا [ منهاج العابدين : 336 ]

20- { اهدنا الصراط المستقيم } سؤال ودعاء ، وهو مخ العبادة كما تعرفه من الأذكار والدعوات[34] من كتب " الإحياء : وهو تنبيه على حاجة الإنسان إلى التضرع والابتهال إلى الله تعالى ، وهو روح العبودية ، وتنبيه على أن أهم حاجة الهداية إلى الصراط المستقيم ، إذ به السلوك إلى الله تعالى كما سبق ذكره . [ جواهر القرآن ودرره : 54 ] .

21- قال عليه السلام : ( شيبتني هود وأخواتها )[35] وأراد به قوله تعالى : { فاستقم كما أمرت }[36] ، فإن الامتداد على الصراط المستقيم في طلب الوسط بين هذه الأطراف شديد ، وهو أدق من الشعر وأحد من السيف كما وصف من حال الصراط في الدار الآخرة ، بل يكون في الآخرة مستقيما ، إذ يموت المرء على ما عاش عليه ، ويحشر على ما مات عليه ، ولذلك يجب في كل ركعة من الصلاة سورة " الفاتحة " المشتملة على قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } فإنه أعز الأمور وأعصاها على الطالب ، ولو كلف ذلك في خلق واحد لطال العناء فيه ، فكيف وقد كلفنا ذلك في جميع الأخلاق مع خروجها عن الحصر . . . ولا مخلص من هذه المخاطرات إلا بتوفيق الله ورحمته [ معارج القدس : 88 وميزان العمل : 268 ] .

22- الصراط المستقيم : عبارة عن الوسط الحقيقي بين الأخلاق المتضادة ، لذلك قد بين الله بهذا الدعاء في سورة " الفاتحة " حيث قال : { اهدنا الصراط المستقيم } . . . مثال ذلك : السخاوة بين التبذير والبخل ، والشجاعة بين التهور والجبن ، والاقتصاد بين الإسراف والإقتار ، والتواضع بين التكبر والدناءة ، والعفة بين الشهوة والخمود . فهذه الأخلاق لها طرف إفراط وطرف تقصير ، فهو على غاية البعد من كل طرف ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : «خير الأمور أوساطها »[37] . . .

الصراط المستقيم هو الوسط الحق بين الطرفين الذين لا ميل له إلى أحد الجانبين وهو أدق من الشعر ، فالذي يطلب غاية البعد من الطرفين يكون على الوسط ، ولو فرضنا حلقة حديد محماة بالنار وقعت نملة فيها وهي تهرب بطبعها من الحرارة فلا تموت إلا على المركز ، لأنه الوسط الذي هو غاية البعد من المحيط المحرق ، وتلك النقطة لا عرض لها .

فإن الصراط المستقيم هو الوسط بين الطرفين ولا عرض له ، فهو أدق من الشعر .

ولذلك خرج عن القدرة البشرية الوقوف عليه ، فلا جرم يورد أمثالنا النار بقدر ميله عنه ، كما قال تعالى : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا }[38] . [ المضنون به على غير أهله ضمن مجموع رسائل الإمام الغزالي رقم 4 ص : 157-158 ] .

23- لأجل الاستقامة ، وجب على كل عبد أن يدعو الله تعالى في كل يوم سبع عشرة مرة في قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } إذ وجب قراءة الفاتحة في كل ركعة .

صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ٧

{ صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } [ الإحياء : 3/69 ] .

24- { صراط الذين أنعمت عليهم } إلى آخر السورة : فهو تذكير بنعمته على أوليائه ، ونقمت وغضبه على أعدائه ، لستثير الرغبة والرهبة من صميم الفؤاد .

وقد ذكرنا أن ذكر قصص الأنبياء والأعداء قسمان من أقسم القرآن عظيمان[39] . [ جواهر القرآن ودرره : 54 ] .

25- إذا فرغت من التعوذ ومن قولك { بسم الله الرحمان الرحيم } ، ومن التحميد ، ومن إظهار الحاجة إلى الإعانة مطلقا ، فعين سؤالك ولا تطلب إلا أهم حاجاتك ، وقل : { اهدنا الصراط المستقيم }[40] الذي يسوقنا إلى جوارك ويفضي بنا إلى مراضاتك ، وزده شرحا وتفصيلا وتأكيدا واستشهادا بالذين أفاض عليهم نعمة الهداية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، دون الذين غضب عليهم من الكفار والزائغين من اليهود والنصارى والصائبين ، ثم التمس الإجابة وقل { آمين } .

فإذا تلوت الفاتحة كذلك ، فتشبه أن تكون من الذين قال الله تعالى فيهم فيما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم : «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل »[1] يقول العبد : { الحمد لله رب العالمين } فيقول الله عز وجل : حمدني عبدي وأثنى علي ، وهو معنى قوله : " سمع الله لمن حمده " . . الحديث الخ . فلو لم يكن لك من صلاتك حظ سوى ذكر الله لك في جلاله وعظمته ، فناهيك بذلك غنيمة ، فكيف بما ترجوه من ثواب وفضله ؟ [ الإحياء : 1/198 ] .

26- اشتملت الفاتحة من الأقسام العشرة[2] على ثمانية أقسام : الذات والصفات والأفعال وذكر المعاد والصراط المستقيم بجميع طرفيه- أعني التزكية والتحلية- وذكر نعمة الأولياء وغضب الأعداء وذكر المعاد ، ولم يخرج منه إلا قسمان : محاجة الكفار ، وأحكام الفقهاء ، وهم الفنان اللذان يتشعب منهما علم الكلام وعلم الفقه[3] ، وبهذا يتبين أنهما واقعان في الصنف الأخير من مراتب علوم الدين ، وإنما قدمهما حب المال والجاه وفقط . [ جواهر القرآن ودرره : 54-55 ]

27- الفاتحة بعده[4] متعينة ( ح ) لا يقوم ( ح ) ترجمتها مقامها ويستوي فيه الإمام والمأموم ( ح ) في السرية والجهرية ( ح ) إلا في ركعتي المسبوق ، ونقل المزني[5] سقوطها عن المأموم في الجهرية . [ الوجيز : 42 ] .

28- بعد الفاتحة سنتان :

إحداهما : التأمين مع تخفيف الميم ممدودة أو مقصورة ، وفي جهر الإمام به خلاف ، والأظهر الجهر ، وليؤمن المأموم مع تأمين الإمام لا قبله ولا بعده .

الثانية : السورة وهي مستحبة للإمام والمنفرد في ركعتين الأولين من غيرهما . [ الوجيز : 43 ] .

29- النظر في الفاتحة وسوابقها ولواحقها[6] :

أما السوابق : فدعاء الاستفتاح عقب التكبير ، وهو مشهور ، والتعوذ بعده من غيره جهر إلا في قول قديم . وأما استحباب التعوذ في كل ركعة فوجهان من حيث إن الصلاة في حكم شيء واحد ، ولكن كل ركعة كالمنقطعة عما قبلها .

أما الفاتحة ، فالنظر في القادر والعاجز . أما القادر فتلزمه أمور خمسة :

الأول : أن أصل الفتاحة متعين على الإمام والمأموم في الصلاة السرية والجهرية ، إلا في ركعة المسبوق .

وقال أبو حنيفة : تقوم ترجمتها وغيرها من السور مقامها ، وخالف قوله عليه الصلاة والسلام : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب »[7] .

وقال : لا تجب القراءة على المأموم أصلا . وهو الذي نقله المزني ، ولكن في الصلاة الجهرية .

الثاني : تجب قراءة { بسم الله الرحمان الرحيم } إذ روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم عد الفاتحة سبع آيات وعد بسم الله الرحمن الرحيم ، آية منها[8] .

الثالث : كل حرف من الفاتحة ركن ، فلو ترك تشديدا فهو ترك حرفا ، ولو أبدل حرفا ، ولو أبدل حرفا بحرف لم يجزه ، ولو أبدل الضاد بالظاء ففيه تردد لقرب المخرج وعسر التمييز .

الرابع : رعاية الترتيب فيها شرط ، فلو قرأ النصف الأخير أولا ، لم يجزه ؛ لأن الترتيب ركن في الإعجاز ، فأما التشهد إذا قدم المؤخر منه ولم يغير المعنى فهو قريب من قوله : " عليكم السلام " .

الخامس : الموالاة شرط بين كلماتها ، فلو قطعها بسكوت طويل وجب الاستئناف إلا على وجه بعيد ذكره العراقيون ، ولو تخللها تسبيح يسير انقطعت الموالاة ، بخلاف ما لو كرر كلمة من نفس الفاتحة ، فإن ذلك لا يعد انتقالا إلى غيرها ، ولذلك لو قرأ الفاتحة مرات لم يضر ، بخلاف تكرير الركوع ، وفيه وجه ضعيف أنه كالركوع .

فرعان :

لو قال الإمام : { ولا الضالين } قال المأموم " أمين " لا تنقطع به الفاتحة إذا كان في أثنائها ، ومنه وجه آخر أنها تنقطع ، والأول أظهر ، لأنه إذا جرى له سبب لم يعد انتقالا ، وهذا الخلاف يجري فيما إذا سأل أو استعاذ عند قراءة الإمام : آية رحمة أو عقاب ، أو سجد مع الإمام عند قراءة الإمام آية سجدة ، فإن هذه الأسباب متقاضية .

الثاني : لو ترك الموالاة ناسيا ، نقل العراقيون : أنه لا يضر ، وللشافعي رضي الله عنه قول في القديم : أنه لو ترك الفاتحة ناسيا لم يضر ، لأن النسيان عذر كالسبق ، ولكن ليس هذا تفريعا عليه ، إذ فرق بينه وبين ترك ترتيبها ناسيا ، ويتأيد ذلك بأنه لو طول ركنا قصيرا ناسيا لم يضر ، وإن انقطعت به موالاة الأركان .

أما العاجز وهو الأمي ففيه أربع مسائل :

الأول : أنه لا تجزيه ترجمته ، بل إن قدر فيأتي بسبع آيات من القرآن متوالية لا تنقص حروفها عن حروف الفاتحة ، فإن نقصت الحروف دون عدد الآيات ففيه وجهان ، فإن عجز عن آيات متوالية فتجزئه آيات متفرقة ، فإن لم يكن آحادها مفهمة كقوله تعالى : { ثم نظر }[9] لم يبعد أن يرد إلى الأذكار ، فإن لم يحسن إلا آية واحدة ، فيأتي بها وبالأذكار بدلا عن البقية . وقيل : إنه يكرر الآية سبعا فيكفيه ، فإن لم يحسن من القرآن شيئا فيأتي بتسبيح وتهليل كقوله : سبحانه الله ، والحمد لله ، وما فيه ثناء على الله ، ويراعي مساواته في الحروف . وفي الدعاء المحض اختلاف في : هل يقوم مقام التسبيح ؟

الثانية : إذا لم يحسن النصف الأول من الفاتحة ، فيأتي أولا بالذكر بدلا عنه ثم يأتي بما يحسن منها .

الثالثة : إذا تعلم الفاتحة في أثناء الصلاة قبل قراءة البدل لزمته ، وإن كان بعد الركوع لم تلزمه ، وإن قبل الركوع وبعد الفراغ فوجهان ، ووجه الوجوه بقاء مظنة القراءة ، ولو كان أثناء البدل لزمه ما بقي من البدل . وفي لزومه الاستئناف خلاف ، والأصح أنه يجب .

الرابعة : إذا قرأ الأمي دعاء الاستفتاح ، وقصد به بدل الفاتحة جاز ، وإن قصد الاستفتاح لم تسقط به القراءة فعليه الإعادة ، ولو أطلق ، ففي سائر الأذكار تردد ، ذكره صاحب التقريب[10] في أنه هل يشترط قصد البدلية ؟ واشتراطه في دعاء الاستفتاح أوجه ، لأن قرينة الحال تصرفه إلى الاستفتاح .

أما لواحق الفاتحة فشيئان :

الأول : التأمين ، فهو مستحب عقب الفراغ للمأموم المنفرد ، وفيه لغتان : القصر والمد ، والميم مخففة على اللغتين وهو صيغة وضعت لتحقيق الدعاء ، ومعناه : ليكن كذلك ، كقولهم : " صه " للأمر بالسكوت .

ثم اختلف نص الشافعي رضي الله عنه في جهر المأموم به ، فقيل : إن كان في القوم كثرة جهروا ليبلغ الصوت ، وإلا فلا . وقيل : فيه قولان :

أحدهما : بنعم ، لما روى أبو هريرة : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمن أمن من خلفه حتى كان للمسجد ضجة »[11] .

والثاني : لا ، كسائر الأذكار .

وأما الضجة فهي هيمنة حصلت من همس القوم عند كثرتهم .

وقيل : إن لم يجهر الإمام جهر المأموم ، وإن جهر الإمام ففي المأموم قولان .

ثم المستحب أن يؤمن مع تأمين الإمام لا قبله ولا بعده ، لأنه يؤمن لقرائته لا لتأمينه .

وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «إذا قال الإمام { ولا الضالين } فقولوا : آمين ، فإن الملائكة تؤمن عند ذلك ، فمن وافق تأمينه الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر » [12] .

30- لا يصل آمنين " بقوله : { ولا الضالين } وصلا . [ الإحياء : 1/182 ] .

31- آمين : سنة مؤكدة . [ نفسه : 1/186 ] .