غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري

النيسابوري- الحسن بن محمد القرن التاسع الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 603

إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ١

( سورة النصر مدنية ، وقيل : مكية . حروفها تسعة وتسعون . كلمها تسع وعشرون . آياتها ثلاث ) .

التفسير : السورة المتقدمة اشتملت على نصرة الله بقوله { يا أيها الكافرون } [ الكافرون :1 ] وعلى فتح مكة القلب بعسكر التوحيد ، وعلى تسخير جميع القوى البدنية في طاعة خالقها بقوّة البراءة عن الأديان الباطلة كلها ، فقال الله سبحانه : نصرتني بلسانك فكان جزاؤه { إذا جاء نصر الله } فتح مكة في الظاهر ، وسخرت قواك لطاعتي فجازيناك بدخول الناس في دين الله أفواجاً . ثم إنه قابل هذه الخلع الثلاث بحكم تهادوا تحابوا بثلاثة أنواع العبودية ، إن نصرتك فسبح تنزيهاً لفعلي عن مشابهة المحدثات ، وتنبيهاً على أن لا يستحق أحد عليّ شيء ، وإذا فتحت مكة فاحمد ؛ لأن النعمة يجب مقابلتها بالحمد ، وإذا رأيت الناس قد أطاعوك فاستغفر لذنبك وهو الاشتغال بما عسى أن يقع من لذة الجاه والقبول وللمؤمنين والمؤمنات ؛ لأنهم كلما كانوا أكثر كانت ذنوبهم أكثر ، وكان احتياجهم إلى الاستغفار أشد . وقوله { إذا جاء نصر الله } معناه لا تذهب إلى النصر ؛ بل النصر يجيء إليك ، نظيره " زويت لي الأرض " يعني لا تذهب إلى الأرض بل تجيء الأرض إليك ، ولا ترحل إلا إلى مقام قاب قوسين { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } [ الإسراء :1 ] بل أزيد على هذا فأفضل فقراء أمتك على أغنيائهم ، ثم آمر الأغنياء بالضحايا ليتخذوها مطايا ، فإذا بقي الفقراء من غير مطية أسوق الجنة إليهم { وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد } [ ق :31 ] ، وإنما قال في السورة المتقدّمة { ما أعبد } [ الكافرون :3 ] وهاهنا قال { نصر الله } إشارة إلى أنه يجب أن لا يذكر اسمي مع الأعداء حتى لا يهينوه ، ولكن اذكر اسمي مع الأحباب حتى يكرموه . والفرق بين النصر والفتح أن النصر -أي الإعانة على تحصيل المطلوب- هو الطريق ، والفتح هو المقصود ، ولهذا قدم الأول على الثاني . وقيل : النصر كمال الدين ، والفتح الإقبال الدنيوي له ولأمته كقوله :{ أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } [ المائدة : 3 ] وقيل : النصر هو الظفر على المنى في الدنيا ، والفتح في الآخرة { وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً منصوراً بالدلائل والمعجزات إلا أن الغلبة على قريش- بل على أكثر العرب- لما حصلت في هذا التاريخ صح التقييد به . ثم إن جمهور المفسرين -ومنهم ابن عباس- ذكروا أن الفتح هو فتح مكة الذي يقال له : فتح الفتوح . يروى أن فتح مكة كان سنة ثمان ، ونزول السورة سنة عشر ، ولم يعش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها إلا سبعين يوماً ، ولذلك تسمى سورة التوديع . وقد اتفق أكثر الصحابة على أنها دلت على نعي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفهمه بعض الصحابة منها ، وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها فقال : إن عبداً خيرّه الله بين الدنيا وبين لقائه في الآخرة فاختار لقاء الله . قالوا : ومما يدل عليه أنه ذكر مقروناً بالنصرة ، وقد كان يجد النصر دون الفتح كبدر ، والفتح دون النصر كإجلاء بني النضير ، فإنه فتح البلد لكن لم يأخذ القوم . أما يوم فتح مكة فاجتمع له الأمران ، وصار الخلق له كالأرقاء حتى أعتقهم ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم وقف على باب المسجد وقال : " لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده " . ثم قال : " يا أهل مكة ، ما ترون أني فاعل بكم " ؟ فقالوا : خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " ، فسموا بذلك . وقيل : فتح خيبر . وقيل : فتح الطائف . وعن أبي مسلم : النصر على الكفار وفتح بلاد الشرك على الإطلاق . وقيل : انشراح الصدر للخيرات والأعمال الفاضلة ، والفتح انفتاح أبواب المعارف والكشوف . أما الذين قالوا : إن الفتح فتح مكة ، وكان نزول السورة قبله على ما يدل عليه ظاهر صيغة إذاً ، فالآية من جملة المعجزات ؛ لأنها إخبار بالغيب وقد وقع . واللام في الفتح بدل من الإضافة ، كأنه قيل : وفتح الله .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 3

وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا٢

قوله { ورأيت } ظاهره أنها رؤية القلب ، وجوز أن تكون رؤية البصر ، فيكون { يدخلون } حالاً . وظاهر لفظ الناس يقتضي العموم ، فيجيب أن يقدر غيرهم كالنسناس ، بدليل قوله { أولئك كالأنعام } [ الأعراف :179 ] . وسئل الحسن بن عليّ فقال : نحن الناس ، وأشياعنا أشباه الناس ، وأعداؤنا النسناس ، فقبّله عليّ بين عينيه وقال{ الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام :124 ] . قيل : إنهم لما دخلوا في الإسلام بعد مدة طويلة وتقصير كثير فكيف استحقوا المدح بأنهم الناس ؟ وأجيب بأنه إشارة إلى سعة رحمة الله ، فإن العبد بعد أن أتى بالكفر والمعصية سبعين سنة ، فإذا أتى بالإيمان في آخر عمره قبل إيمانه ، كأن الرب تعالى يقول : ربيته سبعين سنة مات على كفره ، وقع في النار وضاع إحساني إليه في سبعين سنة . ويروى أن الملائكة تقول لمثل هذا الإنسان : أتيت ، وإن كنت قد أبيت . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " الله أفرح بتوبة أحدكم من الضال الواجد ، والظمآن الوارد " ، ويجوز أن يكون المراد بالناس أهل اليمن ، على ما روي عن أبي هريرة أنه لما نزلت السورة قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر ، جاء نصر الله والفتح " . وجاء " أهل اليمن ، قوم رقيقة قلوبهم ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية " ، وقال : " إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن " . قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمين : إن إيمان المقلد صحيح ؛ لأنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج ، وجعله من أعظم المنن على نبيه . ثم إنا نعلم قطعاً أنهم ما كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدلائل ، ولا صفات الكمال ونعوت الجلال ، وكونه سبحانه متصفاً بها منزهاً عن غيرها ، ولا ثبوت المعجز التام على يد محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا وجه دلالة المعجزة على النبوة . وعن الحسن : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قالت العرب : لا يدين لنا به ، فقد ظفر بأهل مكة ، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل ، وكل من أرادهم بسوء ، فأخذوا يدخلون في الإسلام أفواجاً من غير قتال . ولا شك أن هذا القدر مما يفيد غلبة الظن فقط . والفوج الجماعة الكثيرة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها ، بعدما كانوا يدخلون فيه واحداً واحداً ، واثنين اثنين . وروي أن جابر بن عبد الله بكى ذات يوم فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " دخل الناس في دين الله أفواجاً ، وسيخرجون منه أفواجاً " .

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 3

فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا٣

ثم إنه أمره بالتسبيح ، ثم بالحمد ، ثم بالاستغفار ، فكأنه صلى الله عليه وسلم ضاق قلبه عن تأخير النصر كما قال :{ وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } [ البقرة :214 ] ، فأمر بالتسبيح تنزيهاً لله عما لا يليق بكماله ، وحكمته ، وعنايته بخلقه ، وأمر أن يكون التسبيح مقروناً بالحمد ؛ لأن المقام يستدعي تذكير النعمة ، وهي الفتح والنصر ودخول الناس في الدين من غير متاعب الجهاد ومؤن القتال ، ثم أمر بالاستغفار كفارة لما عسى أن يبدو ويدور في الخلد من ملاحظة حاله بعين الكمال ، وكما أن التسبيح المقرون بالحمد نظر من الحق إلى الخلق ، فالاستغفار عكسه ، وهو التفات عن الخلق إلى الحق . وإنما فهمت الصحابة من السورة نعي النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن كل كمال فإنه يدل على زوال ، كما قيل :

إذا تم أمر بدا نقصه *** توقع زوالاً إذا قيل تم

ويمكن أن يقال : إنه أمر بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقاً . ولا يخفى أن الاشتغال بهذه الأعمال يمنع من الاشتغال بأعباء التبليغ ، وبأداء ما كان يواظب عليه من رعاية مصالح الأمة ، فكان هذا كالتنبيه على أن أمر الرسالة قد تم وكمل بسبب الموت والإلزام العزل . روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة كان يكثر أن يقول : " سبحانك اللهم وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك " ، وفي رواية : كان يكثر أن يقول في ركوعه : " سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي " ، وفي رواية أخرى كان نبي الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ، ولا يذهب ولا يجيء ، إلا قال : " سبحان الله وبحمده " . فقلت : يا رسول الله ، إنك تكثر من قول " سبحان الله وبحمده " قال : " إني أمرت بها " وقرأ السورة . وعن ابن مسعود أنه لما نزلت هذه السورة كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : " سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي ، إنك أنت التواب الرحيم "

وفي الآية تنبيه على أن العاقل إذا قرب أجله وأنذره الشيب أقبل على التوبة والاستغفار ، وتدارك بعض ما فات في أوان الغفلة والاغترار . وفي معنى الباء في قوله { بحمد ربك } وجوه للمفسرين ، منها : أن المراد قل : سبحان الله ، والحمد لله ، تعجباً مما أراك من مقصودك . يقال : شربت اللبن بالعسل ، أي خلطتهما فشربت المخلوط . ومنها أن الباء للآلة ، أي سبحه بواسطة تحميده ؛ لأن الثناء يتضمن التنزيه عن النقائص ، والدليل عليه أنه صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة بدأ بالتحميد قائلاً : الحمد لله الذي نصر عبده . ومنها أن المراد : فسبح متلبساً بالحمدنية ؛ لأنك لا يتأتى لك الجمع بينهما لفظاً ، فاجمعهما نية . وقيل : سبحه مقروناً بحمد الله على ما هداك إلى تسبيحه ، كما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول : " الحمد لله على الحمد لله " . وقيل : الباء للبدل ، أي ائت بالتسبيح بدل الحمد الواجب عليك في مقابلة نعمة النصر والفتح ؛ لأن الحمد لا حصر له{ وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم :34 ] . وقيل : فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد لله أمر أن لا يجوز تأخير أحدهما عن الآخر ، لوجوب الإتيان بكل منهما على الفور ، كما لو ثبت له حق الشفعة ، وحق الرد بالعيب ، وجب أن يقول : اخترت الشفعة بردّي ذلك المبيع . وقيل : الباء صلة ، أي طهر محامد ربك عن النقائض والرياء . وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن التربية هي الموجبة للحمد ، أما الاستغفار فإن كان لأجل الأمة فلا إشكال ، وإن كان لأجل نفسه فإما للاقتداء ، وإما لترك الأولى والأفضل ، وإما بالنظر إلى المرتبة المتجاوز عنها ، فإن السالك يلزمه عند الارتقاء في كل درجة يصل إليها أن يستغفر عما يخلفها . وفي قوله { تواباً } دون أن يقول : " غفاراً " -كما في سورة نوح- إشارة إلى أن هذا النبي صلى الله عليه وسلم ؛ بل هذه الأمة ، امتثلوا فاستغفروا وتابوا ، فوجب على فضل الله قبول توبتهم ، بخلاف قوم نوح .

الوقوف : { والفتح } ه { أفواجاً } ه لا { واستغفره } ط { تواباً } ه .