زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة

أبو زهرة القرن الرابع عشر الهجري

صفحة 306

فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابٗا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرٗا سَوِيّٗا ١٧

وكان وراء هذا الانفراد أن اتخذت حجابا يحول بينهما .

ولذا قال تعالى : { فاتخذت من دونهم حجابا } ، والفاء للترتيب والتعقيب ، أي أنه صاحب الانتباذ أو أعقبه أن اتخذت حجابا من دونهم يحول بينهم وبينها ، فلا يرونها في عزلتها ، ولا تراهم ، وذلك إحكام للعزلة التي أرادتها بإلهام من الله تعالى ، لتكون أمّا لعيسى ، وقد كانت في هذه الخلوة الروحية على استعداد لتلقى أمر ربها ، وقد قال تعالى في الاصطفاء في السورة آل عمران مخاطبا لها بالوحي ، أو بالإلهام الروحي :{ وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاء وطهرك واصطفاك على نساء العالمين 42 يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين 43 } ( آل عمران ) .

في هذه الخلوة الروحية التي كان يتحدث فيها الملائكة ، كان لقاء جبريل الأمين لها ، ولذا قال تعالى :{ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا } ، الروح هو جبريل ، وقد عبر عنه بروح القدس ، وأضيفت الروح إلى الله ، لأنه خالقها ، ولأنه المختص برسالته إلى خلقه ، وكذلك كان التعبير في قوله تعالى : { . . .فنفخنا فيها من روحنا . . . 91 } ( الأنبياء ) ، أي جبريل الأمين ، والفاء للترتيب ، أي أنه بعد أن اتخذت حجابا بينها وبين الناس منتبذة دونهم مكانا شرقيا ، أرسلنا إليها في هذه الخلوة الروحية جبريل ، فتمثل لها بشرا سويا ، أي ظهر لها في صورة رجل سوي مستوى الخلق والتكوين حسن الصورة ، وقد جاءها كذلك ، لأن البشر لا يرون الملك من الملائكة إلا على صورة البشر ، قال تعالى : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون 9 } ( الأنعام ) ، لأن البشر بحالهم البشرية لا يستطيعون أن يروا ملكا وهو في صورته الروحية .