تفسير الشعراوي

الشعراوي القرن الخامس عشر الهجري

صفحة 283

وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِنۢ بَعۡدِ نُوحٖۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا ١٧

فأين عاد وثمود وقوم لوط وقوم صالح ؟ إذن : فالآية قضية قولية ، لها من الواقع ما يصدقها . وقوله :

{ من بعد نوح . . " 17 " }( سورة الإسراء ) : دل على أن هذا الأخذ وهذا العذاب لم يحدث فيما قبل نوح ؛ لأن الناس كانوا قريبي عهد بخلق الله لآدم عليه السلام كما أنه كان يلقنهم معرفة الله وما يضمن لهم سلامة الحياة ، أما بعد نوح فقد ظهر الفساد والكفر والجحود ، فنزل بهم العذاب . الذي لم يسبق له مثيل . قال تعالى : { والفجر " 1 " وليال عشر " 2 " والشفع والوتر " 3 " والليل إذا يسر " 4 " هل في ذلك قسم لذي حجر " 5 " ألم تر كيف فعل ربك بعاد " 6 " إرم ذات العماد " 7 " التي لم يخلق مثلها في البلاد " 8 " وثمود الذين جابوا الصخر بالواد " 9 " وفرعون ذي الأوتاد " 10 " الذين طغوا في البلاد " 11 " فأكثروا فيها الفساد " 12 " فصب عليهم ربك سوط عذاب " 13 " إن ربك لبالمرصاد " 14 " }

( سورة الفجر ) : ولنا وقفة سريعة مع هذه الآيات من سورة الفجر ، فقد خاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد " 6 " } ( سورة الفجر ) : و( ألم تر )بمعنى : ألم تعلم ؛ لأن النبي لم ير ما فعله الله بعاد ، فلماذا عدل السياق القرآني عن : تعلم إلى تر ؟

قالوا : لأن إعلام الله لرسوله أصدق من عينه ورؤيته ، ومثلها قوله تعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " 1 " } ( سورة الفيل ) : حيث ولد رسول الله في عام الفيل ، ولم يكن رأى شيئاً . وفي آيات سورة ( الفجر )ما يدلنا على أن حضارة عاد التي لا نكاد نعرف عنها شيئاً كانت أعظم من حضارة الفراعنة التي لفتت أنظار العالم كله ؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى قال عن عاد : { التي لم يخلق مثلها في البلاد " 8 " }( سورة الفجر ) : أي : لا مثيل لها في كل حضارات العالم ، في حين قال عن حضارة الفراعنة : { وفرعون ذي الأوتاد " 10 " } ( سورة الفجر ) : مجرد هذا الوصف فقط . وقوله تعالى : { وكم أهلكنا من القرون . . " 17 " } ( سورة الإسراء ) : كم : تدل على كثرة العدد .

والقرون : جمع قرن ، وهو في الاصطلاح الزمني مائة عام ، ويطلق على القوم المقترنين معاً في الحياة ، ولو على مبدأ من المبادئ ، وتوارثه الناس فيما بينهم .

وقد يطلق القرن على أكثر من مائة عام كما نقول : قرن نوح ، قرن هود ، قرن فرعون . أي : الفترة التي عاشرها . وقوله : { وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً " 17 " } ( سورة الإسراء ) : أي : أنه سبحانه غني عن إخبار أحد بذنوب عباده ، فهو أعلم بها ، لأنه سبحانه لا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء : { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " 19 " } ( سورة غافر ) : فلا يحتاج لمن يخبره ؛ لأنه خبير وبصير ، هكذا بصيغة المبالغة . وهنا قد يقول قائل : طالما أن الله تعالى يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية ، فلماذا يسأل الناس يوم القيامة عن أعمالهم ؟

نقول : لأن السؤال يرد لإحدى فائدتين :

الأولى : كأن يسأل الطالب أستاذه عن شيء لا يعلمه ، فالهدف أن يعلم ما جهل .

والأخرى : كأن يسأل الأستاذ تلميذه في الامتحان ، لا ليعلم منه ، ولكن ليقرره بما علم . وهكذا الحق سبحانه ولله المثل الأعلى يسأل عبده يوم القيامة عن أعماله ليقرره بها ، وليجعله شاهداً على نفسه ، كما قال : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً " 14 " }( سورة الإسراء ) .

وقوله تعالى : { وكفى بربك . . " 17 " }( سورة الإسراء ) : كما تقول : كفى بفلان كذا ، أي : أنك ترتضيه وتثق به ، فالمعنى : يكفيك ربك فلا تحتاج لغيره ، وقد سبق أن أوضحنا أن الله تعالى في يده كل السلطات حينما يقضي : السلطة التشريعية ، والسلطة القضائية ، والسلطة التنفيذية ، وهو سبحانه غني عن الشهود والبينة والدليل .

إذن : كفى به سبحانه حاكماً وقاضياً وشاهداً . ولأن الحق سبحانه خبير بصير بذنوب عباده ، فعقابه عدل لا ظلم فيه .