تفسير الشعراوي

الشعراوي القرن الخامس عشر الهجري

صفحة 284

وَمَنۡ أَرَادَ ٱلۡأٓخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡيَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ سَعۡيُهُم مَّشۡكُورٗا ١٩

المتأمل في أسلوب القرآن الكريم يجده عادة يعطي الصورة ومقابلها ؛ لأن الشيء يزداد وضوحاً بمقابله ، والضد يظهر حسنه الضد ، ونرى هذه المقابلات في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى كما في : { إن الأبرار لفي نعيم " 13 " وإن الفجار لفي جحيم " 14 " } ( سورة الانفطار ) .

وهنا يقول تعالى : { ومن أراد الآخرة . . " 19 " }( سورة الإسراء ) ، في مقابل : { من كان يريد العاجلة . . " 18 " } ( سورة الإسراء ) .

قوله تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها . . " 19 " } ( سورة الإسراء ) : أي : أراد ثوابها وعمل لها : { وهو مؤمن . . " 19 " } ( سورة الإسراء ) : لأن الإيمان شرط في قبول العمل ، وكل سعي للإنسان في حركة الحياة لابد فيه من الإيمان ومراعاة الله تعالى لكي يقبل العمل ، ويأخذ صاحبه الأجر يوم القيامة ، فالعامل يأخذ أجره ممن عمل له .

فالكفار الذين خدموا البشرية باختراعاتهم واكتشافاتهم ، حينما قدموا هذا الإنجازات لم يكن في بالهم أبداً العمل لله ، بل للبشرية وتقدمها ؛ لذلك أخذوا حقهم من البشرية تكريماً وشهرة ، فأقاموا لهم التماثيل ، وألفوا فيها الكتب . . الخ .

إذن : انتهت المسألة : عملوا وأخذوا الأجر ممن عملوا لهم .

وكذلك الذي يقوم ببناء مسجد مثلاً ، وهذا عمل عظيم يمكن أن يدخل صاحبه الجنة إذا توافر فيه الإيمان والإخلاص لله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من بني لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بني الله له بيتاً في الجنة " .

ولكن سرعان ما نقرأ على باب المسجد لافتة عريضة تقول : أنشأه فلان ، وافتتحه فلان . . الخ مع أنه قد يكون من أموال الزكاة ! ! وهكذا يفسد الإنسان على نفسه العمل ، ويقدم بنفسه ما يحبطه ، إذن : فقد فعل ليقال وقد قيل . وانتهت القضية .

وقوله تعالى : { فأولئك كان سعيهم مشكوراً " 19 " }( سورة الإسراء ) : وهذا جزاء أهل الآخرة الذين يعملون لها ، ومعلوم أن الشكر يكون لله استدراراً لمزيد نعمه ، كما قال تعالى : { لئن شكرتم لأزيدنكم . . " 7 " } ( سورة الإسراء ) : فما بالك إن كان الشاكر هو الله تعالى ، يشكر عبده على طاعته ؟

وهذا يدل على أن العمل الإيماني يصادف شكراً حتى من المخالف له ، فاللص مثلاً إن كان لديه شيء نفيس يخاف عليه ، فهل يضعه أمانة عند لص مثله ، أم عند الأمين الذي يحفظه ؟ فاللص لا يحترم اللص ، ولا يثق فيه ، في حين يحترم الأمين مع أنه مخالف له ، وكذلك الكذاب يحترم الصادق ، والخائن يحترم الأمين .

ومن هنا كان كفار مكة رغم عدائهم للنبي صلى الله عليه وسلم وكفرهم بما جاء به إلا أنهم كانوا يأتمنونه على الغالي والنفيس عندهم ؛ لأنهم واثقون من أمانته ، ويلقبونه " بالأمين " ، رغم ما بينهما من خلاف عقدي جوهري ، فهم فعلاً يكذبونه ، أما عند حفظ الأمانات فلن يغشوا أنفسهم ، لأن الأحفظ لأماناتهم محمد صلى الله عليه وسلم .

وقد ضربنا لذلك مثلاً بشاهد الزور الذي تستعين بشهادته ليخرجك من ورطة ، أو قضية ، فرغم أنه قضى لك حاجتك وأخرجك من ورطتك ، إلا أنه قد سقط من نظرك ، ولم يعد أهلاً لثقتك فيما بعد .

لذلك قالوا : من استعان بك في نقيصة فقد سقطت من نظره ، وإن أعنته على أمره كشاهد الزور ترتفع الرأس على الخصم بشهادته وتدوس القدم على كرامته .