تفسير الشعراوي

الشعراوي القرن الخامس عشر الهجري

صفحة 282

ذُرِّيَّةَ مَنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٍۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَبۡدٗا شَكُورٗا ٣

( ذرية )منصوبة هنا على الاختصاص لقصد المدح ، فالمعنى : أخصكم أنتم يا ذرية نوح ، ولكن لماذا ذرية نوح بالذات ؟

ذلك لأننا نجينا الذين آمنوا معه من الطوفان والغرق ، وحافظنا على حياتهم ، وأنتم ذريتهم ، فلابد لكم أن تذكروا هذه النعمة لله تعالى ، أن أبقاكم الآن من بقاء آبائكم .

فكأن الحق سبحانه يمتن عليهم بأن نجى إبراهيم مع نوح ، فليستمعوا إلى منهج الله الذي جربه آباؤهم ، ووجدوا أن من يؤمن بالله تكون له النجاة والأمن من عذاب الله . ويقول تعالى : { إنه كان عبدا شكورا " 3 " } ( سورة الإسراء ) : أي : أن الحق سبحانه أكرم ذريته ؛ لأنه كان عبداً شكوراً ، والعمل الصالح ينفع ذرية صاحبه ؛ ولذلك سنلاحظ ذرية نوح بعنايتنا ، ولن نتركهم يتخبطون في متاهات الحياة ، وسنرسل لهم الهدى الذي يرسم لهم الطريق القويم ، ويجنبهم الزلل والانحراف .

ودائماً ما ينشغل الآباء بالأبناء ، فإذا ما توفر للإنسان قوت يومه تطلع إلى قوت العام كله ، فإذا توفر له قوت عامه قال : أعمل لأولادي ، فترى خير أولاده أكثر من خيره ، وتراه ينشغل بهم ، ويؤثرهم على نفسه ، ويترقى في طلب الخير لهم ، ويود لو حمل عنهم كل تعب الحياة ومشاقها .

ومع ذلك ، فالإنسان عرضة للأغيار ، وقد يأتيه أجله فيترك وراءه كل شيء ؛ ولذلك فالحق سبحانه يدلنا على وجه الصواب الذي ينفع الأولاد ، فيقول تعالى : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا " 9 " }( سورة النساء ) : والحق تبارك وتعالى حينما يعلمنا أن تقوى الله تتعدى بركتها إلى أولادك من بعدك ، يعطينا مثلاً واقعياً في قصة موسى والخضر عليهما السلام التي حكاها لنا القرآن الكريم .

والشاهد فيها أنهما حينما مرا على قرية ، واستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما ، وسؤال الطعام يدل على صدق الحاجة ، فلو طلب منك السائل مالاً فقد تتهمه بكنزه ، أما إذا طلب منك رغيفاً يأكله فلاشك أنه صادق في سؤاله ، فهذا دليل على أنها قرية لئام لا يقومون بواجب الضيافة ، ولا يقدرون حاجة السائل . ومن هنا تعجب موسى عليه السلام من مبادرة الخضر إلى بناء الجدار الذي أوشك على السقوط دون أن يأخذ أجره من هؤلاء اللئام : { فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا " 77 " }( سورة الكهف ) : وهنا يكشف الخضر لموسى حقيقة الأمر ، ويظهر له ما أطلعه الله عليه من بواطن الأمور التي لا يدركها موسى عليه السلام ، فيقول : { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك . . " 82 " } ( سورة الكهف ) : فالجدار ملك لغلامين صغيرين لا يقدران على حماية مالهما من هؤلاء اللئام ، ولأن أباهما كان صالحاً سخر الله لهما من يخدمهما ، ويحافظ على مالهما .

إذن : فعلة هذا العمل أن أباهما كان صالحاً ، فأكرمهم الله من أجله ، وجعلهما في حيازته وحفظه . وهنا قد يسأل سائل : ومن أين للغلامين أن يعلما بأمر هذا الكنز عند بلوغهما ؟

والظاهر أن الخضر بما أعطاه الله من الحكمة بنى هذا الجدار بناءً موقوتاً ، بحيث ينهدم بعد بلوغ الغلامين ، فيكونان قادرين على حمايته والدفاع عنه . والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا هذه القضية في آية أخرى فيقول سبحانه : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء " 21 " }( سورة الطور ) : فكرامة للآباء نلحظ بهم الأبناء ، حتى وإن قصروا في العمل عن آبائهم ، فنزيد في أجر الأبناء ، ولا ننقص من أجر الآباء . وقوله :

{ إنه كان عبدا شكورا " 3 " } ( سورة الإسراء ) .