تفسير الشعراوي

الشعراوي القرن الخامس عشر الهجري

صفحة 282

ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَمۡدَدۡنَٰكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ أَكۡثَرَ نَفِيرًا ٦

الخطاب في هذه الآية موجه لبني إسرائيل ، والآية تمثل نقطة تحول وانقلاب للأوضاع ، فبعد أن تحدثنا عنه من غلبة المسلمين ، وأن الله سلطهم لتأديب بني إسرائيل ، نرى هنا أن هذا الوضع لم يستمر ؛ لأن المسلمين تخلوا عن منهج الله الذي ارتفعوا به ، وتنصلوا من كونهم عباداً لله ، فدارت عليهم الدائرة ، وتسلط عليهم اليهود ، وتبادلوا الدور معهم ؛ لأن اليهود أفاقوا لأنفسهم بعد أن أدبهم رسول الله والمسلمون في المدينة ، فأخذوا ينظرون في حالهم وما وقعوا فيه من مخالفات .

ولابد أنه قد حدث منهم شبه استقامة على منهج الله ، أو على الأقل حدث من المسلمين انصراف عن المنهج وتنكب للطريق المستقيم ، فانحلت الأمور الإيمانية في نفوس المسلمين ، وانقسموا دولاً ، لكل منها جغرافياً ، ولكل منها نظام حاكم ينتسب إلى الإسلام ، فانحلت عنهم صفة عباد الله .

فبعد قوتهم واستقامتهم على منهج الله ، وبعد أن استحقوا أن يكونوا عباداً لله بحق تراجعت كفتهم وتخلوا عن منهج ربهم ، وتحاكموا إلى قوانين وضعية ، فسلط عليهم عدوهم ليؤدبهم ، فأصبحت الغلبة لليهود ؛ لذلك يقول تعالى : { ثم رددنا لكم الكرة عليهم . . " 6 " } ( سورة الإسراء ) : و( ثم )حرف عطف يفيد الترتيب مع التراخي ، على خلاف الفاء مثلاً التي تفيد الترتيب مع التعقيب ، ومن ذلك قوله تعالى : { ثم أماته فأقبره " 21 " ثم إذا شاء أنشره " 22 " } ( سورة عبس ) : فلم يقل الحق سبحانه : فرددنا ، بل ( ثم رددنا ) . ذلك لأن بين الكرة الأولى التي كانت للمسلمين في عهد رسول الله ، وبين هذه الكرة التي كانت لليهود وقتاً طويلاً .

فلم يحدث بيننا وبينهم حروب لعدة قرون ، منذ عصر الرسول إلى أن حدث وعد بلفور ، الذي أعطى لهم الحق في قيام دولتهم في فلسطين ، وكانت الكرة لهم علينا في عام 1967 ، فناسب العطف ب " ثم " التي تفيد التراخي . والحق سبحانه يقول : { ثم رددنا لكم الكرة . . " 6 " } ( سورة الإسراء ) : أي : جعلنا لبني إسرائيل الغلبة والقوة والنصر على المسلمين وسلطناهم عليهم ؛ لأنهم تخلوا عن منهج ربهم ، وتنازلوا عن الشروط التي جعلتهم عباداً لله .

و( الكرة )أي : الغلبة من الكر والفر الذي يقوم به الجندي في القتال ، حيث يقدم مرة ، ويتراجع أخرى . وقوله تعالى : { وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً " 6 " }( سورة الإسراء ) : وفعلاً أمدهم الله بالمال حتى أصبحوا أصحاب رأس المال في العالم كله ، وأمدهم بالبنين الذين يعلمونهم ويثقفونهم على أعلى المستويات ، وفي كل المجالات .

ولكن هذا كله لا يعطيهم القدرة على أن تكون لهم كرة على المسلمين ، فهم في ذاتهم ضعفاء رغم ما في أيديهم من المال والبنين ، ولابد لهم لكي تقوم لهم قائمة من مساندة أنصارهم وأتباعهم من الدول الأخرى ، وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان منذ الخطوات الأولى لقيام دولتهم ووطنهم القومي المزعوم في فلسطين ، وهذا معنى قوله تعالى : { وجعلناكم أكثر نفيراً " 6 " } ( سورة الإسراء ) : فالنفير من يستنفره الإنسان لينصره ، والمراد هنا الدول الكبرى التي ساندت اليهود وصادمت المسلمين .