الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب

مكي ابن أبي طالب القرن الخامس الهجري

صفحة 453

صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ١

بسم الله الرحمن الرحيم[1]

سورة ص

مكية[2]

قوله تعالى ذكره : { ص والقرآن ذي الذكر } – إلى قوله - { إن هذا لشيء عجاب }[ 1-4 ] .

روي أن ابن المسيب[57974] كان لا يدع كل ليلة قراءة صاد[57975] . وسئل ولده[57976] عن ذلك فقال : بلغني : أنه ما من عبد يقرأها كل ليلة إلا اهتز العرش لها .

وقرأ الحسن[57977] بكسر الدال[57978] لالتقاء الساكنين على نية الوصل[57979] .

وقيل : هو فعل للأمر[57980] من صادى يصادي إذا عارض ، ومنه .

{ فأنت له تصدى }[57981] والمعنى : صاد[57982] القرآن بعملك ، أي : قابله به[57983] .

وقد روي هذا التفسير عن الحسن أنه فسر قراءته به .

وقرأ عيسى بن عمر[57984] بفتح الدال على معنى : اتل صاد[57985] . فنصب بالإغراء[57986] ولم ينصرف لأنه[57987] اسم للسورة . وكل مؤنث سميته بمذكر – قلت حروفه أو كثرت – لا ينصرف[57988] .

ويجوز أن يكون فُتح لالتقاء الساكنين على نية الوصل ، واختار[57989] الفتح للإتباع[57990] .

ويجوز أن يكون منصوبا على القسم ، إذ قد حذف[57991] حرف الجر ، كما تقول : الله لأفعلن[57992] .

وقرأ ابن أبي إسحاق[57993] بالخفض والتنوين على إضمار حرف القسم ، وإعماله على مذهب سيبويه[57994] .

وقيل : إنه كسر لالتقاء الساكنين ، وشبهه بما[57995] لا يتمكن من الأصوات فَنَوَّنَهُ[57996] .

قال ابن عباس : ص قسم أقسم الله جل ذكره به ، وهو من أسماء الله عز وجل[57997] .

فعلى هذا القول يكون ، والقرآن عطف على صاد ، أي : اقسم بصاد ، وبالقرآن .

وقال قتادة[57998] : هو اسم من أسماء القرآن أقسم به[57999] . وقال الضحاك[58000] : صاد[58001] : ( صدق الله سبحانه[58002] ) .

وعن ابن عباس أيضا : صاد صدق محمد[58003] صلى الله عليه وسلم والقرآن ذي الذكر . فتكون[58004] صاد : جواب القسم قبله ، أقسم الله جل ذكره أن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم[58005] صدق من عنده[58006] .

وقوله : { ذي الذكر } أي : ( ذي الشرف ) قاله[58007] ابن عباس وابن جبير[58008] والسدي[58009] .

( وقيل معناه : ذي التذكير لكم . وهو اختيار الطبري )[58010] .

وقيل : معناه : ذكركم الله فيه ، مثل قوله : ( فيه ذكرهم )[58011] .

وقيل : ذي الذكر : فيه ذكر الأمم[58012] وغيرها .

بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٖ وَشِقَاقٖ٢

ثم قال تعالى : { بل الذين كفروا في عزة وشقاق } ، أي : في تكبر وامتناع عن قبول الحق ، مثل/ قوله : { وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم }[58013] .

ومعنى : ( وشقاق ) : ومخالفة ، كأنهم في شق والمسلمون في شق . وجواب القسم : ( بل الذين كفروا ) ، قاله قتادة[58014] .

فعلى هذا القول يكون : والقرآن عطف على صاد ، أي : اقسم بصاد وبالقرآن وقال قتادة[58015] : هو اسم من أسماء القرآن أقسم به[58016] وقال الضحاك[58017] : صاد[58018] صدق الله سبحانه[58019] .

عن ابن عباس أيضا : صاد صدق محمد[58020] صلى الله عليه وسلم والقرآن ذي الذكر فتكون[58021] صاد جواب القسم قبله ، أقسم الله جل ذكره أن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم[58022] صدق من عنده[58023] .

صدق الله والقرآن ، وهو قول الضحاك[58024] .

وقيل : الجواب محذوف ، والتقدير : صاد والقرآن ذي الذكر ، ما الأمر كما يقول هؤلاء الكفار ، ودل عليه قوله : { بل الذين كفروا في عزة وشقاق } . وهذا اختيار الطبري[58025] وهو مستخرج من قول قتادة[58026] .

كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ فَنَادَواْ وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٖ٣

ثم قال : { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } ، أي كثير من القرون أهلكنا قبل هؤلاء المشركين الذين كذبوا رسلهم .

{ فنادوا } ، أي : فضجوا إلى ربهم وَعَجُّوا واستغاثوا بالتوبة حين نزل بهم العذاب .

{ ولات حين مناص } ، أي : وليس ذلك الوقت حين فرار ولا هرب من العذاب بالتوبة لأنه أوان لا تنفع فيه التوبة .

( ولات ) حرف مشبه بليس ، والاسم[58027] في الجملة مضمر . ( أي : ليس )[58028] حينكم حين مناص . هذا مذهب سيبويه[58029] . والتاء دخلت لتأنيث الكلمة ، وحكُي أن من العرب من يرفع بها . وهو قليل على حذف الخبر[58030] .

والوقف عليها عند سيبويه والفراء وابن كيسان[58031] وأبي إسحاق بالتاء لشبهها بليس ، ولأنها كذلك في المصاحف ، وهو مذهب الفراء[58032] .

والوقف عليها عند الكسائي والمبرد[58033] بالهاء كرُبَّه وثَمه[58034] .

ومناص : مَفْعَلٌ من ناص ينصوص إذا تأخر . فالنوص التأخر ، والبوص التقدم[58035] .

وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ٤

ثم قال تعالى ذكره : { وعجبوا أن جاءهم منذر منهم } أي : عجب مشركو قريش أن جاءهم منذر منهم ينذرهم بأس الله على كفرهم ولم يأتهم ملكه .

ثم قال : { وقال الكافرون } ، أي : المنكرون توحيد الله عز وجل { وهذا ساحر كذاب } . ( هذا ) إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

أَجَعَلَ ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عُجَابٞ٥

ثم قال تعالى عنهم : إنهم قالوا : { أجعل الآلهة إلها واحدا } أي : أجعل محمد المعبود معبودا واحدا ؟ !

{ إن هذا لشيء عجاب } ، أي : عجيب .

قال قتادة : عجب المشركون أن دُعُوا إلى الله وحده وقالوا : يسمع لحاجاتنا[58036] جميعا إله واحد ، ما سمعنا بهذا ( في الملة الآخرة )[58037] .

رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمشركين : " أسألكم أن تجيبوني إلى واحدة تدين بها لكم العرب ، وتعطيكم بها الخرج العجم . فقالوا : ما هي ؟ ! قال : تقولون لا إله إلا الله . فعند ذلك قالوا : أجعل الآلهة إلها[58038] واحدا ، تعجبا من ذلك " .

وذكر ابن عباس أنه لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل ، فقالوا إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ، ويقول ويقول ، فلو بعثت إليه فنهيته . فبعث إليه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل ، فخشي أبو جهل إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له[58039] عليه ، فوثب فجلس إلى جنب أبي طالب . فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب . أي ابن أخي ، ما بال قومك يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول . قال : فأكثروا عليه القول . وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عمي[58040] إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب ، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية " . ففزعوا لكلمته ولقوله . وقال القوم كلمة واحدة : نعم ، وأبيك عشرا ، قالوا : فما هي ؟ ! قال أبو طالب : أي كلمة هي يا ابن أخي ؟ قال : لا إله إلا الله . قال : فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } . فنزلت هذه الآية إلى قوله : { لما يذوقوا العذاب }[58041] .

وفرق الخليل[58042] بين العجيب والعجاب ، فالعجيب ، والعَجَب ، والعُجاب : الذي قد تجاوز حد العَجَب ، وكذلك عنده الطَّويل الذي فيه طول ، والطُّوال الذي قد تجاوز حد الطول[58043] .

وقيل : هما بمعنى ، يقول : طَويل وطُوال ، وجَسِيم وجُسام ، وخَفيف وخُفاف ، وسَريع[58044] وسُراع[58045] ، ورَقيق ورُقاق ، بمعنى[58046] .

وَٱنطَلَقَ ٱلۡمَلَأُ مِنۡهُمۡ أَنِ ٱمۡشُواْ وَٱصۡبِرُواْ عَلَىٰٓ ءَالِهَتِكُمۡۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٞ يُرَادُ٦

قوله تعالى ذكره : { وانطلق الملأ منهم أن إمشوا } – إلى قوله – { قبل يوم الحساب }[ 5-16 ] .

أي : وانطلق الأشراف من مشركي قريش القائلين : { اجعل الآلهة إلها واحدا } ، يقولون للعوام : أمشوا واصبروا على عبادة آلهتكم ، أي : اصبروا على دين آبائكم .

وكان لهم يومئذ ثلاث مائة صنم وستون صنما/ يعبدونها من دون الله سبحانه وروي أن قائل ذلك كان عاقبة بن أبي معيط[58047] .

وقوله : { أن إمشوا } معناه : تناسلوا ، كأنه دعا لهم بالنماء وهو من[58048] قول العرب : مشى الرجل وأمشى إذا كثرت ماشيته ، وأمشت المرأة : كَثُر ولدها .

قال الشاعر :

. . . . *** والشاة لا تمشى على الهمَلَّعِ[58049]

أي : لا تنهى على الذنب . ( والهملع : الذئب )[58050] .

ثم قال عنهم إنهم قالوا : { إن هذا لشيء يراد } ، أي : لشيء يريد بنا[58051] محمد – صلى الله عليه وسلم – يطلب علينا الاستعلاء به ، وأن يكون له فينا اتباع .

مَا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِي ٱلۡمِلَّةِ ٱلۡأٓخِرَةِ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا ٱخۡتِلَٰقٌ٧

ثم قالوا : { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة } .

قال ابن عباس : يعنون النصرانية دين عيسى . أي : لم نسمع في دين عيسى صلى الله عليه وسلم أن محمدا يبعث رسولا إلينا ولا يأتينا بكتاب[58052] .

{ إن هذا إلا اختلاق } ، أي : ما هذا إلا كذب .

وعن ابن عباس أن المعنى : لو كان هذا القرآن حقا لأخبرنا به النصارى[58053] .

وقال مجاهد[58054] : معناه ملة قريش[58055] .

وقال قتادة : معناه في زماننا وديننا[58056] .

قال أبو إسحاق : { في الملة الآخرة } في النصرانية ولا في اليهودية ولا فيما أدركنا عليه آباءنا[58057] .

ثم قال : { إن هذا إلا اختلاق } ، أي : ما هذا الذي أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم إلا كذب اختلقه وتخرصه وابتدعه حسدا منهم لمحمد صلى الله عليه وسلم ،

أَءُنزِلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَيۡنِنَاۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّن ذِكۡرِيۚ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ٨

ودل على أنه حسد منهم قوله عنهم : { أأنزل عليه الذكر من بيننا } ، أي : كيف خص محمد بنزول القرآن عليه من بيننا .

وهذا كقولهم : { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم }[58058] أي : من إحدى القريتين ، يعنون : مكة والطائف ، يعنون : الوليد بن المغيرة المخزومي[58059] من أهل مكة ، وعروة بن مسعود الثقفي[58060] من أهل الطائف .

والمعنى : على أحد رجلين من إحدى القريتين .

ثم قال تعالى : { بل هم في شك من ذكري } أي : في شك من القرآن .

{ بل لما يذوقوا عذاب } أي : لم يذوقوا العذاب ، ولو ذاقوه لأيقنوا حقيقة ما هم فيه وعلموا أن الذين كذبوا به حق .

أَمۡ عِندَهُمۡ خَزَآئِنُ رَحۡمَةِ رَبِّكَ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡوَهَّابِ٩

ثم قال : { أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب } أي : أم عند هؤلاء المكذبين مفاتح ربك وعطاياه ، فَيَخُصُّوا من شاءوا بالرسالة . العزيز في سلطانه ، الوهاب لمن يشاء من خلقه ما يشاء من رسالته وكرامته .

أَمۡ لَهُم مُّلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ فَلۡيَرۡتَقُواْ فِي ٱلۡأَسۡبَٰبِ١٠

ثم قال جل ذكره : { أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب } أي : إن كان لهم ملك ذلك فليصعدوا في أبواب السماء أو طرفيها ، لأن من كان له ملك ذلك لم يتعذر عليه الصعود فيه ، هذا معنى قول مجاهد وقتادة وابن زيد[58061] وقال الضحاك : فليرتقوا إلى السماء السابعة[58062] .

وقال الربيع بن أنس[58063] : الأسباب أَرَقُّ من الشعر وأشَدُّ[58064] من الحديد ، وهو مكان[58065] ولكن لا يُرى[58066] .

والسبب هو : كل شيء يوصل[58067] به إلى المطلوب من حبل أو جبل أو ستر أو رحم أو قرابة أو طريق أو باب . يقال : رَقِيَ يَرْقَى رَقْياً[58068] إذا صعد ، كرَضِيَ يرضى . ومثله : ارتقى يرتقى إذا صعد ويقال : رقى يرقِي رقياً من الرقية مثل : رمى يرمي رميا .

جُندٞ مَّا هُنَالِكَ مَهۡزُومٞ مِّنَ ٱلۡأَحۡزَابِ١١

ثم قال : { جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب } .

يعني بقوله : { جند ما هنالك } : الذين قال فيهم : { بل لما يذوقوا عذاب[58069] } وهم أشراف قريش الذين هُزِموا وقُتلوا يوم بدر[58070] .

والتقدير : هم جند مهزوم هنالك .

ومعنى : { من الأحزاب } : من القرون الماضية .

قال قتادة : وعد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة أنه سيهزم جندا من المشركين ، فجاء يوم بدر تأويلها[58071] .

وقال الفراء : معناه : هم جند مغلوب أن يصعد السماء[58072] .

وقيل : هم الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى المدينة فهزمهم الله عز وجل بالريح والخوف . فأعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين أنه سيتحزب[58073] عليهم المشركون ، وأنهم سيُهزمون . فكان في ذلك أبين دلالة لهم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه في جميع ما يعدهم به ، ولذلك قال تعالى : { ولما رأى المومنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله } الآية[58074] لأنه أخبرهم بذلك وهم في مكة ثم جاءهم ما أخبرهم به وهم في المدينة .

كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَعَادٞ وَفِرۡعَوۡنُ ذُو ٱلۡأَوۡتَادِ١٢

ثم قال تعالى ذكره : { كذبت قبلهم قوم نوح } أي : قبل[58075] قريش ، وكذلك عاد[58076] { وفرعون والأوتاد } .

فرعون[58077] هو : الوليد بن مصعب[58078] .

وقيل : هو مصعب بن الديان[58079] .

وقيل : كان يسمى كل مَلَكَ مصر فرعون ، كما يسمى كلُّ من[58080] ملك اليمين تُبّعاً ، ومن مَلَكَ فارس كسرى ، ومن مَلَكَ الروم قيصر وهرقل[58081] .

قال المبرد : كَسرى بالفتح . وقال غيره : بالكسر[58082] .

وإنما نُعِتَ فرعون بالأوتاد لأنه كانت له أوتاد يلعب له عليها ، قاله ابن عباس وقتادة وابن جبير[58083] .

وقال السدي[58084] : كان يُعذَّب الناس بالأوتاد ، يعذبهم بأربعة أوتاد ، ثم يرفع ( الصخر تمد بالحبال )[58085] ثم تُلقى عليه فتشدخه[58086] .

وقال الضحاك : { ذو الأوتاد } : ذو البُنيان[58087] .

وَثَمُودُ وَقَوۡمُ لُوطٖ وَأَصۡحَٰبُ لۡـَٔيۡكَةِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلۡأَحۡزَابُ١٣

وقد تقدم ذكر الأيكة في الشعراء[58088] .

وقوله : { أولئك الأحزاب } ، أي : الجماعة المتحزبة على معاصي الله تعالى والكفر به سبحانه وتعالى .

إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ١٤

ثم قال : { إن كل إلا كذب الرسل } أي : ما كل هؤلاء الأمم إلا كذب الرسل فيما جاؤوهم به .

{ فحق عقاب } أي : وجب عليهم عقاب الله تعالى ثم قال تعالى : { وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق } أي : وما ينتظر هؤلاء المشركون بالله سبحانه إلا صيحة واحدة – وهي النفخة الأولى في الصور – ما لها من فتور ولا انقطاع .

وروى أبو هريرة[58089] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما فرغ الله من خلق السماوات والأرض خلق الصور وأعطاه إسرافيل . فهو واضعُه على فيه ، شاخص بصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر " . قال[58090] أبو هريرة : يا رسول الله ، وما الصور ؟ قال : قَرْنٌ . قال : وكيف هو ؟ قال : قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، فيفزع أهل السماوات ، وأهل الأرض إلا من شاء الله . ويأمره الله فيديمها ويطوِّلها فلا تفتر .

وَمَا يَنظُرُ هَـٰٓؤُلَآءِ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ مَّا لَهَا مِن فَوَاقٖ١٥

وهي التي يقول الله جل وعز : { وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق }[58091] .

وقال ابن عباس : { فواق } ترداد[58092] . وعنه : من رجعة[58093] وقال مجاهد : ( من رجوع )[58094] .

وقال قتادة : من مثنوية ولا رجوع ( ولا ارتداد )[58095] .

وقال السدي : معناه : ما لهؤلاء المشركين بعد ذلك من إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا .

وقال ابن زيد معناه[58096] : ما ينتظر هؤلاء المشركون إلا عذابا يهلكهم[58097] .

فالصيحة عنده : العذاب .

{ ما لها من فواق } أي لا يفيقون منها كما يفيق الذي يُغشى عليه[58098] .

وأصل هذا من فواق الناقة ، وهو ما بين الحلبتين من الراحة . فالمعنى : ما لها من راحة ، أي : لا يروحون حتى يتوبوا ويرجعوا عن كفرهم .

وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبۡلَ يَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ١٦

ثم قال تعالى : { وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب } أي : وقال هؤلاء المشركون من قريش : عجل لنا كتابنا قبل يوم القيامة .

والقط في كلام العرب : الصحيفة المكتوبة .

فإنما سألوا تعجيل حظهم من العذاب ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة[58099] . فهو مثل قولهم : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الآية[58100] .

وقال السدي : إنما سألوا تعجيل رؤية حظهم من الجنة ورؤية منازلهم ليعلموا حقيقة ما يعدهم به محمد صلى الله عليه وسلم[58101] .

وقال ابن جبير : سألوا تعجيل حظهم من الجنة يتنعمون به في الدنيا[58102] .

وقيل : إنما سألوا تعجيل رزقهم قبل وقته[58103] .

وقيل : إنما سألوا تعجيل كتبهم[58104] التي تؤخذ بالإيمان والشمائل ، لينظروا أبأيمانهم يعطونها أم بشمائلهم ، فيعلمون أمن أهل الجنة هم أم من أهل النار ، استهزاء منهم بالقرآن وبوعد الله جل ذكره[58105] .

صفحة 454

ٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَا دَاوُۥدَ ذَا ٱلۡأَيۡدِۖ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ١٧

هذا قوله تعالى ذكره : { إصبر على ما يقولون } – إلى قوله – { وقليل ما هم[58106] } منسوخ بالأمر بالقتال ، أمر الله جل ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على قول المشركين والاحتمال منهم ، وقد علم تعالى أنه سيأمره بقتالهم في وقت آخر ، فينسخ الآخر الأول[58107] .

ثم قال : { واذكر عبدنا داوود ذا الأيد } أي : ذا[58108] القوة والبطش الشديد في ذات الله عز وجل والصبر على طاعته[58109] .

يقال : أيد وآد للقوة ، كما يقال : العيب والعاب[58110] .

قال قتادة : أعطي داود قوة في العبادة وفقها في الإسلام ، وذُكر أنه كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر[58111] .

وقوله : { إنه أواب } ، أي : رَجَّاعٌ عما يكره الله عز وجل إلى ما يرضاه[58112] أواب[58113] وهو فعَّال للتكثير من آب يئوب إذا رجع .

قال مجاهد : أواب : رجاع عن الذنوب[58114] .

قال قتادة : كان مطيعا لله عز وجل كثير الصلاة[58115] .

وقال السدي : الأوَّاب : المسبح[58116] .

ويروى أنه قام ليلة إلى الصباح فكأنه أعجب بذلك فقيل[58117] لضفدع كلميه في أصل محرابه ، فقالت له : يا داود ، تعجب لقيام[58118] ليلة ! هذا مقامي منذ عشرين سنة شكرا لله عز وجل حين سلم/ بيضي .

قال وهب[58119] : كان داود قد قسم الدهر أثلاثا ، فيصير : يوم للعبادة ، ويوما للقضاء بين الناس ، ويوما لقضاء حوائج أهله[58120] .

إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ١٨

ثم قال تعالى : { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق } ، أي : يسبحن مع داود من وقت العصر إلى الليل ، ومن صلاة الصبح إلى وقت صلاة الضحى .

يقال : أشرقت الشمس : إذا أضاءت وصفت ، وشرقت إذا طلعت[58121] .

قال قتادة : كان داود إذا سبح سبحت الجبال معه[58122] .

واستدل ابن عباس على نص صلاة الضحى في القرآن بهذه الآية { بالعشي والإشراق } ، لأنه من أشرقت الشمس إذا صفت وأضاءت[58123] . فإذا صلى داود العصر وسبح سبحت الجبال معه ، وإذا صلى الضحى ( سبح[58124] وسبحت ) الجبال معه .

وَٱلطَّيۡرَ مَحۡشُورَةٗۖ كُلّٞ لَّهُۥٓ أَوَّابٞ١٩

ثم قال : { والطير محشورة } ، أي ، وسخرنا الطير مجموعة تسبح معه[58125] .

{ كل له أواب } أي : رجاع لأمره ومطيع له . فالهاء لداود وقيل : إلهاء لله عز وجل . والمعنى : كل لله[58126] مطيع ، مسبح له . فكل ( في القول الأولى للطير ، وفي هذا الثاني : يجوز أن يكون للطير ، ويجوز أن يكون لداود والجبال والطير .

وروي أنه كان إذا سبح أجابته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه[58127] .

وقال قتادة : محشورة : مسخرة[58128] .

وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُۥ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ٢٠

ثم قال : { وشددنا ملكه } .

قال السدي : كان حرسه في كل يوم وليلة أربعة آلاف[58129] .

وذكر ابن عباس أن الله جل ذكره شدد ملكه[58130] هيبة لقضية قضاها في بني إسرائيل وذلك أن رجلا استعدى على رجل من عظمائهم فاجتمعا عند داود ، فقال المُسْتَعْدَى : إن هذا غصبني بقرا لي . فسأل الرجل عند ذلك فجحده ، فسأل الآخر البينة فلم تكن له بينة ، فقال لهما : قوما حتى أنظر في أمركما فقاما . فأوحى الله عز وجل إلى داود في منامه أن يقتل الرجل الذي ستعدي عليه . فقال : هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت ، فأوحى إليه مرة أخرى أن يقتله ، وأوحى إليه ثالثة ( أن يقتله )[58131] أو تأتيه العقوبة من الله عز وجل ، فأرسل داود إلى الرجل أن الله قد أوحى إليّ أن أقتلك ، فقال الرجل : تقتلني بغير بينة ولا تثبيت ! فقال له داود : نعم ، والله لأنفِّذن أمر الله عز وجل فيك . فلما عرف الرجل أنه قاتله قال له : لا تعجل علي حتى أخبرك ، إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت ولد[58132] هذا[58133] فقتلته فبذلك قُتِلتُ . فأمر به داود[58134] فَقُتِلَ . فاشتدت هيبته في بني إٍسرائيل لذلك وشد الله به ملكه[58135] .

ثم قال تعالى : { وآيتيناه الحكمة } .

قال السدي : هي النبوة[58136] .

وقال قتادة : الحكمة : السنة[58137] .

وقوله : { وفصل الخطاب } .

قال ابن عباس ومجاهد والسدي : فصل الخطاب : الفهم في علم القضاء[58138] .

وقال ابن زيد : أعطي فصل ما يتخاطب الناس به بين يديه في الخصومات[58139] .

وقال شريح[58140] : فصل الخطاب : الشاهدان على المدعي ، واليمين على المنكر ، وهو قول قتادة[58141] .

وقال الشعبي[58142] : يمين وشاهد[58143] ، وعن الشعبي : هو : أما بعد[58144] .