تاج التفاسير لكلام الملك الكبير للميرغني

الميرغني القرن الثالث عشر الهجري

صفحة 2

الٓمٓ١

( الم ) الألف إشارة لحضرة الألوهية واللام لحضرة اللطف والميم إشارة لمحمد صلى الله عليه وسلم فيكون المقصود من الحرف الله اللطيف . ومن جليل لطفه أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ليهديهم إلى ما يوصلهم إلى جنابه العظيم ويدعوهم إلى ما يدخلهم ديوانه الأسمى ويدلهم على ما يصونهم تحت حجاب عزة الصون الأحمى .

وقال ابن عباس رضي الله عنه الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد صلى الله عليه وسلم وقال على غير ذلك وقال بعض بالوقف عن تفسير أوائل السور التي هي مثل هذه كالمر والمص والر وكهيعص وطه وطسم وطس ويس وص وحم وحم عسق وق ونون وفي الخبر قال رسول صلى الله عليه وسلم من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف

ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ٢

( ذلك ) المنزل من عند الله وهو ( الكتاب ) القرآن العزيز والإشارة إليه ( لا ريب ) لاشك ( فيه ) أنه نزل من عند الله وفيه ( هدى ) هداية ( للمتقين ) الملقين أسماعهم لمواعظه وقلوبهم لمعانيه وإفادته وفي الحديث مرفوعا من رزق تقى فقد رزق خير الدنيا والآخرة رواه أبو الشيخ

ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ٣

( الذين ) موصول وهو نعت للمتقين ( يؤمنون ) يصدقون ) ( بالغيب ) من أخبار الدار الآخرة وما أعد الله فيها للمحسنين والمسيئين ( ويقيمون ) على أكمل الوجوه ( الصلاة ) لله بالإخلاص واعتدال الأركان والحضور فيها ( ومما ) أى ومن الذي ( رزقناهم ) من الأرزاق الحسية والمعنوية ( ينفقون ) فيعطى المؤمن العامي في سبيل الله من الذهب والفضة والطعام وغير ذلك ما يقدر عليه ويعطى العارف ذلك ويزيد بإفاضة الأنوار الحقية والأسرار الفردية والعلوم اللدنية المتلقاة من الحضرة الإلهية

وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ٤

( والذين يؤمنون ) يصدقون ( بما انزل إليك ) أي القرآن ( وما ) أى والذي ( أنزل ) من عند الله ( من قبلك ) من الكتب الإلهية كعبد الله بن سلام ومن معه من مؤمني أهل الكتب ( وبالآخرة ) وما أعد الله فيها من الثواب للمطيعين للعاصين ( هم يوقنون ) ويحققون ذلك

أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ٥

( أولئك ) المؤمنون بالبعث وبما أنزل ( على ) طريق ( هدى ) أي هداية{ من ربهم{ رباهم بها ووفقهم إليها ( وأوليك ) المذكورون ( هم المفلحون ) الفائزون بالتصديق والجزاء عليه والوهب والتوفيق

صفحة 3

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ٦

( إن الذين كفروا ) كأبي جهل ومن طبع على الكفر ( سواء عليهم ) مستولديهم ( ءأنذرتهم ) خوفتهم بالله ( أم لم تنذرهم ) أم تركتهم ( لا يؤمنون ) لسبق الشقاوة لهم

خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ٧

( ختم الله ) طبع ( على قلوبهم ) واستوثق عليها فلا يدخلها الإيمان فلا يدخلها الإيمان ( وعلى سمعهم ) فلا يمتثلون أوامر الحق ( وعلى أبصارهم ) أعينهم ( غشاوة ) غطاء فلا يبصرون الحق الواضح ( ولهم ) أى للكفار ( عذاب عظيم ) متواصل قوى

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ٨

( ومن الناس ) وهم المنافقون ( ومن يقول ) بلسانه ( آمنا بالله و ) آمنا ( باليوم الآخر ) وما أعد الله فيه ( وما هم ) على الحقيقة ( بمؤمنين ) نفى الله إيمانهم لانطوائهم على النفاق

يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ٩

( يخادعون الله ) بصورة ذلك الإيمان ( والذين آمنوا ) كذلك يخادعهم المنافقون لإظهارهم خلاف ما يبطنون خشية من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على دمائهم وأموالهم وقرئ يخدعون{ وما يخدعون إلا أنفسهم{ فإن وبال ذلك عائد عليهم وقرئ وما يخادعون وقرئ يخدعون وقرئ يخدعون بضم الياء وتشديد الدال ( وما يشعرون ) أى ما يحسون بذلك لتماديهم على الغفلة

فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ١٠

( في قلوبهم مرض ) شك ونفاق ( فزادهم الله مرضا ) فشكوا في القرآن كما شكوا في الذي قبله ( ولهم ) بسبب كفرهم ( عذاب أليم ) مؤلم ( بما كانوا يكذبون ) حيث قالوا آمنا وقرئ يكذبون مشددا أى يكذبون الرسول فيما جاء به

وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ١١

( قالوا ) المنافقون ( إنما نحن ) في سعينا ( مصلحون ) ليس سعينا سعى فساد بل صلاح

أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ١٢

( ألا إنهم ) هذا رد من الله عليهم ( هم المفسدون ) في الأرض ( ولكن لا يشعرون ) بأنهم مفسدون

وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ١٣

( وإذا قيل لهم ) للمنافقين ( آمنوا ) ظاهرا وباطنا ( كما آمن الناس ) الصحابة ( قالوا ) جوابا لذلك ( أنؤمن ) أنفعل ( كما آمن ) كما فعل ( السفهاء ) وتسفيهم لهم لاعتقادهم فساد رأيهم وتحقير شأنهم فإن كثيرا من المؤمنين كانوا فقراء ( ألا إنهم ) هذا رد من الله عليهم ( هم السفهاء ) الجهلاء بما ينفعهم ( ولكن لا يعلمون ) لا يشعرون بسفاهتهم التي أوجبت لهم فساد دنياهم وآخرتهم

وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ١٤

( وإذ لقوا ) المنافقون ( الذين آمنوا ) ظاهرا وباطنا ( قالوا ) لهم ( آمنا ) وذلك حين اجتماعهم معهم ( وإذا خلوا ) من المؤمنين وعادوا ( إلى شياطينهم ) كبرائهم من الكفار ( قالوا إنا معكم ) في الاعتقاد ( إنما نحن ) فيما ترونه منا ( مستهزءون ) مظهرون خلاف ما نبطن

ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ١٥

( الله يستهزئ بهم ) يجازيهم على استهزائهم ( ويمدهم ) بأن يمهلهم ويقويهم وهم ( في طغيانهم ) تعديهم الحدود ( يعمهون ) يترددون متحيرين

أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ١٦

( أولئك الذين اشتروا ) استبدلوا ( الضلالة ) طريق الغواية ( بالهدى ) بالسبيل المستقيم واختاروها عليه ( فما ربحت تجارتهم ) بل خسرت ( وما كانوا ) في فعلهم ( مهتدين ) إلى رشدهم

صفحة 4

مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ١٧

( مثلهم ) حالهم في النفاق ( كمثل ) كحال الذي ( استوقد ) أوقد نارا ليستضئ بها ( فلما أضاءت ) النار ( ما حوله ) أى ما حول المستوقد وأبصروا ما بجانبهم من الآفات ( ذهب الله بنورهم ) بضوء المستوقدين ( وتركهم ) أى المستضيئين بالنار ( في ظلمات لا يبصرون ) لا يرون ما حولهم من المخفيات وهكذا حال المنافقين من كون إظهارهم للإيمان وقاهم في الدنيا بعض المخاوف ولكن في الآخرة سيلقون العذاب والعقاب المخيف

صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ١٨

( صم ) لعدم سماعهم للحق سماع قبول ( بكم ) لا ينطقون بالحق ( عمى ) لعدم نظرهم إلى الهداية وقرئ الثلاثة بالنصب صما بكما عميا ( فهم لا يرجعون ) لا يعودون إلى سبيل الحق

أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ١٩

( أو ) مثلهم ( كصيب ) كأصحاب مطر شديد أصابهم ( من السماء ) السحاب ( فيه ) الضمير للسحاب ( ظلمات ) ظلمته ظلمة تكاثف ( ورعد ) صوت الملك الموكل به ( وبرق ) وهو لمعان سوط الملك الموكل بالسحاب ( يجعلون أصابعهم ) أناملهم ( في آذانهم ) والضمير لأصحاب الصيب ( من الصواعق ) من شدة صوتها ( حذر الموت ) لخوفهم من الهلاك إذا سمعوه ( والله ) الذي لا يعجزه شيء ( محيط بالكافرين ) فلا يفلتون منه

يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ٢٠

( يكاد ) يقرب ( البرق ) اللامع المذكور ( يخطف أبصارهم ) ويعميهم ( كلما أضاء لهم ) أى المنافقين ( مشوا فيه ) بلا توقف ( وإذا أظلم عليهم قاموا ) في مكانهم ( ولو شاء الله ) مسخهم على مكانتهم ( لذهب بسمعهم وأبصارهم ) فلم يسمعوا ولم يبصروا ( إن الله على كل شيء قدير ) لا يعجزه شيء وفي الآيات ضرب الله مثلا وذلك أن الصيب هو الكتاب العزيز والظلمات التي فيه هي النفاق والكفر والفجر والخبث والرعد آيات التهديد والزجر والبرق لمعان براهينه الساطعة وجعل الأصابع في الآذان من الصواعق هو جعل أصابعهم في آذانهم حين سماعهم للقرآن وما فيه من الحجج والقهر والدرع الذي هو كالصواعق وكون الجعل المذكور حذر الموت أى خوفا أن يدخلهم الإيمان فيخسروا عند من هو مثلهم في زعمهم وإن ذلك بمنزلة الموت عندهم وقوله يكاد البرق هو إذا لمع برق أنوار البراهين وكانت ثم رائحة إنصاف لديهم حاضرة يخطف أبصارهم إلى رؤية الهدى وقبوله وكونه إذا أضاء لهم مشوا فيه أى إذا وقع حين إنصاف من أنفسهم لمع البرق الذي هو كناية عن سطع البرهان والحجة مشوا فيه أى جالت نفوسهم وترجح لها أن هذا هو الحق والأولى أن يتبع وكونه إذا أظلم البرق عليهم قاموا هو إذا تبرز لهم البراهين والحجج أو برزت ولم تقابل بالإنصاف وقفوا وقعدوا في العناد وعدم النظر إلى الحق وقوله ولو شاء الله إلى آخر الآية ولو أراد الله إصمامهم وإعماءهم لذهب بسمعهم وأبصارهم كما ذهب بوعيهم وبصيرتهم أو ولو شاء الله هدايتهم لذهب بسمعهم إلى قبول الحق وأبصارهم إلى شهود الهداية فقبلوا الحق واهتدوا إن الله على كل شيء قدير من قدرته هدايتهم لو شاءها