محاسن التأويل للقاسمي

القاسمي القرن الرابع عشر الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 440

يسٓ١

بسم الله الرحمان الرحيم

36 - سورة يس

هي مكية . واستثنى منها بعضهم قوله تعالى : [1] { إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم } الآية لما أخرجه الترمذي[2] والحاكم عن أبي سعيد قال : ( كانت بنو سلمة في ناحية المدينة . فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية ) . ولا حاجة لدعوى الاستثناء فيها وفي نظائرها . لأن ذلك مبني على أن المراد بالنزول أن الواقعة كانت سببا لنزولها ، مع أن النزول في الآثار يشمل ذلك ، وكل ما تصدق عليه الآية ، كما بيناه مرارا . لاسيما في المقدمة . يؤيده أنه جاء في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم قرأ لهم هذه الآية . كما في رواية ( الصحيحين ) . [3] وهكذا يقال فيما روي أن آية[4] { وإذ قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } من هذه السورة نزلت في المنافقين . فإن المراد ما ذكرناه . ولم يهتد لهذا التحقيق أرباب الحواشي هنا ، فاحفظه . وآيها ثلاث وثمانون آية . ومما روي في فضلها ما أخرجه[5] الترمذي عن أنس رفعه : ( إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس ) ، وفي إسناده ضعف .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ يس } .

{ يس } تقدم الكلام في مثل هذه الفواتح مرارا . وحاصله - كما قاله أبو السعود - أنها إما مسرودة على نمط التعديد ، فلا حظ لها من الإعراب ، أو اسم للسورة كما نص عليه الخليل وسيبويه . وعليه الأكثر . فمحله الرفع على أنه خبر لمحذوف . أو النصب ، مفعولا لمحذوف ، وعليهما مدار قراءة { يس } بالرفع والنصب .

وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡحَكِيمِ٢

{ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } أي ذي الحكمة أو الناطق بالحكمة ، ولما كانت منزلة الحكمة من المعارف ، منزلة الرأس وكانت أخص أوصاف التنزيل ، أوثرت في القسم به دون بقية صفاته ، لذلك .

إِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ٣

{ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو الموصل إلى المطلوب بدون لغوب . والتنكير للتفخيم والتعظيم .

عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ٤
تَنزِيلَ ٱلۡعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ٥

{ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } بالنصب على إضمار فعله ، وبالرفع خبر لمحذوف . أو خبر ل { يس } إن كان اسما للسورة . أو مؤولا بها ، والجملة القسمية معترضة . والقسم لتأكيد المقسم عليه والمقسم به ، اهتماما .

لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمۡ فَهُمۡ غَٰفِلُونَ٦

{ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } أي برسول ولا كتاب { فهم غافلون } أي عن أمر حق الخالق والمخلوق ، بالكفر والفساد ونكران البعث والمعاد .

لَقَدۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ عَلَىٰٓ أَكۡثَرِهِمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ٧

{ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ } أي استؤهلوا لأن ينزل بهم العذاب وينتقم منهم أشد الانتقام { فهم لا يؤمنون } أي لا يريدون أن يؤمنون ويهتدوا ، كفرا وكبرا وعنادا . وبغيا في الأرض بغير الحق .

إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ٨

{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ } أي اللحى . أي واصلة إليها وملزوزة إليها { فهم مقمحون } أي ناصبو رؤوسهم ، غاضّو أبصارهم . يقال : أقمح الرجل ، رفع رأسه وغض بصره . وأقحم الغل الأسير ، إذا ترك رأسه مرفوعا لضيقه ، فهو مقمح . وذلك إذا لم يتركه عمود الغل الذي ينخس ذقنه ، أن يطأطئ رأسه . قال ابن الأثير : هي في / قوله تعالى : { فهي إلى الأذقان } كناية عن الأيدي لا عن الأعناق . لأن الغل يجعل اليد تلي الذقن والعنق ، وهو مقارب للذقن وقال الأزهري : أراد عز زجل أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم ، رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا ، كالإبل الرافعة رؤوسها . وهذا معنى قول ابن كثير : اكتفى بذكر الغل في العنق ، عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين ، لما دل السياق عليه . فإن الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين من العنق .

وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ٩

{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } قال الزمخشريّ : مثل تصميمهم على الكفر ، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم ، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين ، في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رؤوسهم له . وكالحاصلين بين سدّين . لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم ، في أن لا تأمل لهم ولا تبصر . وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله . انتهى . أي فالمجموع استعارة تمثيلية . وفي ( الانتصاف ) للناصر : إذا فرقت هذا التشبيه ، كان تصميمهم على الكفر مشبهها بالأغلال . وكان استكبارهم عن قبول الحق وعن الخضوع والتواضع لاستماعه ، مشبها بالأقماح . لأن المقمح لا يطأطئ رأسه . وقوله : { فهي إلى الأذقان } تتمة للزوم الإقماح لهم . وكان عدم الفكر في القرون الخالية مشبها بسد من خلفهم ، وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبها بسد من قدامهم انتهى . فيكون فيه تشبيه متعدد . قال الشهاب : والتمثيل أحسن منه . انتهى .

ثم قال الناصر : يحتمل أن تكون الفاء في { فهم مقمحون } للتعقيب ، كالفاء الأولى . أو للتسبب . ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في الغلّ يوجب الإقماح . فإن اليد ، والعياذ بالله ، تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن ، دافعة بها ومانعة من وطأتها . ويكون التشبيه أتم على هذا التفسير . فإن / اليد متى كانت مرسلة مخلاة ، كان للمغلول بعض الفرج بإطلاقها . ولعله يتحيل بها على فكاك الغلّ ، ولا كذلك إذا كانت مغلولة . فيضاف إلى ما ذكرناه من التشبيهات المفرقة ، أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والانخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم ، مشبها بغل الأيدي . فإن اليد آلة الحيلة إلى الخلاص . انتهى .

وإنما اختير هذا ، لأن ما قبلهم وما بعده في ذكر أحوالهم في الدنيا . وجعله أبو حيان لبيان أحوالهم في الآخرة ، على أنه حقيقة لا تمثيل فيه . فورد عليه أن يكون أجنبيا في البين . وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله : [6320] { حق القول على أكثرهم } والأول أدق ، وبالقبول أحق .

وَسَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ١٠

{ وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } أي خوفتهم بالقرآن { أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي لا يريدون أن يؤمنوا . لما صدقت الآية على مثل أبي جهل وأصحابه من كفرة قريش ، الذين هلكوا في بدر ، وكانوا طواغيت الكفر ، أشار بعضهم إلى أن الآية نزلت في ذلك .

إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكۡرَ وَخَشِيَ ٱلرَّحۡمَٰنَ بِٱلۡغَيۡبِۖ فَبَشِّرۡهُ بِمَغۡفِرَةٖ وَأَجۡرٖ كَرِيمٍ١١

{ إنما تنذر } أي الإنذار المترتب عليه النفع { من اتبع الذكر } أي القرآن بالتأمل فيه والعمل به { وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ } أي عمل الصالحات لوجهه ، وإن كان لا يراه { فبشره بمغفرة } أي لذنوبه في الدنيا { وأجر كريم } أي ثواب حسن في الجنة .

إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ١٢

{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى } أي للبعث { ونكتب ما قدموا } أي نحفظ عليه ما أسلفوا من الخير والشر { وآثارهم } أي ما تركوه من سنة صالحة ، فعمل بها بعد موتهم . أو سنة سيئة فعمل بها بعدهم { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين } أي في اللوح المحفوظ ، أو العلم الأزليّ .

page 441

وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلًا أَصۡحَٰبَ ٱلۡقَرۡيَةِ إِذۡ جَآءَهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ١٣

{ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ } .

{ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً } أي مثل لأهل مكة مثلا { أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ } أي اذكر لهم قصة عجيبة ، قصة أصحاب القرية { إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ } أي الدعاة إلى الحق ورفض عبادة الأوثان .

إِذۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱثۡنَيۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثٖ فَقَالُوٓاْ إِنَّآ إِلَيۡكُم مُّرۡسَلُونَ١٤

{ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } أي فقويناهما برسالة ثالث { فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ } .

قَالُواْ مَآ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا وَمَآ أَنزَلَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مِن شَيۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَكۡذِبُونَ١٥
قَالُواْ رَبُّنَا يَعۡلَمُ إِنَّآ إِلَيۡكُمۡ لَمُرۡسَلُونَ١٦
وَمَا عَلَيۡنَآ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ١٧

أي التبليغ عن الله ظاهرا بينا لا سترة فيه ، وقد خرجنا من عهدته .

قَالُوٓاْ إِنَّا تَطَيَّرۡنَا بِكُمۡۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهُواْ لَنَرۡجُمَنَّكُمۡ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٞ١٨

{ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } أي تشاءمنا بكم . فكان إذا حدث في البلد ما يسيء من حريق أو بلاء ، نسبوه إليهم . وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم . وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه ، وآثروه وقبلته طباعهم . ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه . فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا ببركة هذا وبشؤم هذا . كما حكى الله عن القبط[6321] { وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } وعن مشركي مكة[6322] { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } أفاده الزمحشري { لئن لم تنتهوا } أي عن دعوتكم إلى التوحيد { لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

قَالُواْ طَـٰٓئِرُكُم مَّعَكُمۡ أَئِن ذُكِّرۡتُمۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ مُّسۡرِفُونَ١٩

{ قالوا } أي الرسل { طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } أي سبب شؤمكم معكم ، وهو الكفر والمعاصي { أَئِن ذُكِّرْتُم } أي وعظتم بما فيه سعادتكم . وجواب الشرط محذوف ، ثقة بدلالة ما قبله عليه . أي تطيرتم وتوعدتم بالرجم والتعذيب { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } أي في الشؤم والعدوان .

وَجَآءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ رَجُلٞ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ٢٠

{ وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى } أي يسرع في المشي ، حيث سمع بالرسل { قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ } أي بالإيمان بالله وحده .