تفسير القرآن للمراغي

المراغي القرن الرابع عشر الهجري
Add Enterpreta Add Translation

صفحة 103

وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِيحَ عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَۢا ١٥٧

كلام للمؤلف في آيات المقطع له صلة: الآية 153

{ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } أي وبسبب قولهم هذا القول المؤذن بالجرأة على الباطل والاستهزاء بآيات الله .

وذكروه بوصف الرسالة تهكما واستهزاء بدعوته ، بناء على أنه إنما ادعى النبوة والرسالة فيهم لا الألوهية كما ادعت النصارى إذ جاء في إنجيل يوحنا ( وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ) .

{ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } أي والحال أنهم ما قتلوه كما ادعوا ، وما صلبوه كما زعموا وشاع بين الناس ، ولكن وقع الشبه فظنوا أنهم صلبوا عيسى وهم إنما صلبوا غيره ، مثل هذا الشبه يحدث كثيرا في كل زمان وتحكي عنه نوادر وحوادث غاية في الغرابة لكنها قد وقعت فعلا .

فقد ذكر بعض المؤلفين في الطب الشرعي من الإنجليز حادثة وقعت سنة 1539 في فرنسا استحضر فيها 150 شخص لمعرفة شخص يدعى ( مارتين جير ) جزم أربعون منهم بأنه هو وقال خمسون أنه غيره والباقون ترددوا ولم يمكنهم أن يبدوا رأيا ثم اتضح من التحقيق أن هذا الشخص كان غير مارتين جير وانخدع به هؤلاء الشهود المثبتون وعاش مع زوجته مارتين محوطا بأقاربه وأصحابه ومعارفه ثلاث سنوات وكلهم مصدق أنه مارتين ، ولما حكمت المحكمة عليه بظهور كذبه بالدلائل القاطعة استأنف الحكم في محكمة أخرى فأحظر ثلاثون شاهدا أقسم عشرة منهم بأنه هو مارتين ، وقال سبعة إنه غيره وتردد الباقون .

على أن هذا الحادث من خوارق العادات التي أيد الله بها نبيه عيسى ابن مريم وأنقذه من أعدائه فألقى شبهه على غيره وغير شكله فخرج من بينهم وهم لا يشعرون وفي أناجيلهم وكتبهم نصوص متفرقة تؤيد هذا الوجه وإذا قال قائل : وإذا كان المسيح قد نجا من أعدائه فأين ذهب ؟ والجواب أن إذا قلنا إنه رفع بروحه وجسده إلى السماء فلا ترد هذه الشبهة وإذا قلنا إن الله توفاه في الدنيا ثم رفعه إليه كما رفع إدريس عليهما السلام فلا غرابة في ذلك فإن أخاه موسى عليه السلام قد انفرد عن قومه في مكان لم يعرفه أحد منهم وكانوا ألوفا عدة خاضعين لأمره ونهيه فكيف يستغرب أن يفر عيسى عليه السلام من قوم هم أعداء له لا ولي له فيهم ولا نصير إلا أفراد من الضعفاء قد انفضوا من حوله وقت الشدة وقد أنكره أمثلهم بطرس الحواري ثلاث مرات ؟ .

{ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } قال في لسان العرب : الشك ضد اليقين فالشك في صلب المسيح هو التردد فيه أهو المصلوب أم غيره ؟ .

و المعنى : وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب لفي تردد من حقيقة أمره إذ ليس لهم به من علم قطعي الثبوت وإنما هم يتبعون الظن والقرائن التي ترجح بعض الآراء على بعض وقد جاء في بعض الأناجيل التي يعولون عليها أنه قال لتلاميذه ( ككلم تشكون في هذه الليلة ) أي الليلة التي يطلب فيها للقتل ( إنجيل متى من 26-31 ومرقس من 14-27 ) .

و إذا كانت أناجيلهم تنطق بأنه أخبر تلاميذه أو عرف الناس له بأنهم سيشكون فيه في ذلك الوقت وخبره صادق قطعا فهل من العجيب اشتباه غيرهم وشك من دونهم في أمره ؟ .

{ وما قتلوه يقينا } أي وما قتلوا عيسى ابن مريم وهم متيقنون أنه هو بعينه إذ هم لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة والأناجيل التي يعول عليها صريحة في أن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الاسخريوطي وقد جعل لهم علامة أن من قبله يكون هو المسيح فلما قبله قبضوا عليه وإنجيل برنابا يصرح بان الجنود أخذوا يهوذا الاسخريوطي نفسه ظنا أنه هو المسيح لأنه ألقى عليه شبهه ومن هذا تعلم أن الجند ما كانوا يعرفون شخص المسيح معرفة يقينية .

و الخلاصة : إن روايات المسلمين جميعا متفقة على أن عيسى عليه السلام نجا من أعدائه ومريدي قتله فقتلوا آخر ظنا منهم أنه هو .