الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب

مكي ابن أبي طالب القرن الخامس الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 1

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ١

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الحمد

سورة الحمد مكية في قول ابن عباس( [1] ) .

وقيل : بل هي مدنية . وهو قول مجاهد( [2] ) .

واستدل من قال : إنها مكية ، أن بمكة فرضت الصلوات بإجماع ، ومحال أن تفرض الصلوات( [3] ) ، ولا ينزل ما هو تمامها وبه قوامها( [4] ) . وهي سورة الحمد ، لقول النبي [ عليه السلام( [5] ) ]/ من الخبر الثابت : " كُلُّ صَلاةٍ لا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ " . قالها ثلاثاً( [6] ) . والخَدْج( [7] ) النقص .

فغير جائز أن تفرض علينا الصلوات ، ولا ينزل ما يزيل( [8] ) عنها النقص . ويدل على ذلك أيضاً ما ذكر( [9] ) أهل التاريخ في حديث طويل لخديجة( [10] ) زوج النبي صلى الله عليه وسلم مع ورقة بن نوفل( [11] ) أن جبريل عليه السلام قال للنبي( [12] ) صلى الله عليه وسلم أول ما خاطبه( [13] ) بالوحي :

" قل : بسم الله الرحمن الرحيم ، ثم قال له : قل : الحمد لله رب العالمين ، حتى انتهى إلى آخرها ، ثم قال له : قل آمين . فقالها( [14] ) النبي صلى الله عليه وسلم( [15] ) .

فهذا يدل على نزولها بمكة . وهو( [16] ) قول سعيد بن جبير( [17] ) أيضاً وعطاء( [18] ) .

وقال مجاهد : " نزلت الحمد بالمدينة( [19] ) " ، وقال : " لما نزلت رن إبليس اللعين( [20] ) " .

يريد رن من عظيم ثوابها وجلالة قدر ما( [21] ) خص الله به أمة صلى الله عليه وسلم من إنزالها على نبيهم صلى الله عليه وسلم .

وقد اختلف عن ابن/ عباس في نزولها ؛ فروي عنه بالمدينة ، وروي عنه بمكة . وحديث ورقة يدل( [22] ) على أنها أول ما نزل من القرآن .

وأكثر المفسرين على أن أول ما نزل من القرآن : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ )( [23] ) إلى قوله تعالى : ( مَا لَمْ يَعْلَمْ )( [24] )( [25] ) .

وقيل : أول ما نزل المدثر ، والله أعلم بأي ذلك كان .

وسورة الحمد تسمى فاتحة الكتاب( [26] ) لأن بها تستفتح الصلاة ، وتستفتح المصاحف ، وبها يستفتح المبتدئ بعد ختمه( [27] ) القرآن( [28] ) .

وتسمى أيضاً أم القرآن( [29] ) لأنها ابتداء القرآن ، وأم كل شيء ابتداؤه وأصله .

ولذلك قيل لمكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها( [30] ) .

وقيل : إنما سميت الحمد أم القرآن لتضمنها معاني القرآن مجملاً ، لأن فيها الثناء على الله جل ذكره( [31] ) ، والإقرار له بالربوبية وذكر يوم القيامة ، والإقرار له بالعبادة( [32] ) ، وأن المعونة من عنده ، والقدرة له . وفيها الدعاء والرغبة إليه في الهداية إلى الإسلام والثبات عليه . وفيها ذكر النبيين الذين أنعم الله عليهم بالهداية والإسلام . وفيها ذكر من غضب الله عليهم –وهم اليهود- ، وذكر من ضل عن الدين وهم النصارى ، وفيها من( [33] ) مفهوم الإشارة إلى أمور/ الديانة( [34] ) والقدرة والتذلل والخضوع لله والتسليم لأمره ، والرجوع إليه ما( [35] ) يكثر ذكره ويطول شرحه( [36] ) .

وكتاب الله كله إنما نزل( [37] ) ، في هذه المعاني التي ذكرنا أنها موجودة في الحمد .

لكن ذلك في الحمد مشار إليه( [38] ) مجمل يفهمه من وفقه الله وشرح له( [39] ) /صدره ، وهو كله مشروح مبين مكرر مبسوط في سائر القرآن ، فالحمد لله أصل مجمل وباقي القرآن مفسر لما أجمل في الحمد ، فهي على هذا المعنى أم القرآن ، أي أصله .

/وتسمى الحمد السبع المثاني ، وهو مروي عن النبي [ عليه السلام( [40] ) ] .

ومعناه( [41] ) السبع الآيات من المثاني( [42] ) أي من القرآن .

والمثاني هو القرآن ؛ يسمى بذلك ، لأن القصص تثنى فيه وتكرر للإفهام وتسمى الحمد أيضاً السبع المثاني ؛ سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة ، أي تعاد( [43] ) .

وقال ابن جبير عن ابن عباس : " إنما سميت الحمد السبع المثاني [ لأن الله ]( [44] ) استثناها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لم يعطها( [45] ) أحد قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم " .

وقد قيل : إن " مِنْ " زائدة ، في القول الأول فيكون معناه كمعنى هذا القول( [46] ) .

وعن النبي [ عليه السلام ] أنه قال لأُبَيِّ بن كعب( [47] ) : إنَّهَا السَّبْعُ المَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ " ( [48] ) . فهي على هذا الحديث السبع المثاني وهي القرآن العظيم ، أي هي( [49] ) أصله على ما ذكرنا .

وروي( [50] ) عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم قسموا فصول القرآن إلى خمسة فصول : الأول : السبع الطوال . والثاني : المثين( [51] ) . والثالث : المثاني . والرابع : آل حميم . والخامس : المفصل .

وتفسير ذلك أن السبع الطوال من البقرة إلى براءة ، كانوا يرون براءة والأنفال سورة [ واحدة ، لأنهما نزلتا في مغازي( [52] ) ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك لم يفصل بينهما في المصاحف ب " بسم( [53] ) الله الرحمن الرحيم " .

والسور( [54] ) التي تقرب من الطوال تسمى المثين( [55] ) ؛ وهي من يونس فما بعدها مما هو مائة آية فأكثر ، وما( [56] ) يقرب من المائة( [57] ) . والذي يلي المثين( [58] ) من السور /يسمى المثاني( [59] ) ، سميت بذلك لأنها ثانية للمثين( [60] ) .

فكأن المثين مبادئ( [61] ) وما يليها مثاني .

وقولهم : " آل حاميم( [62] ) " : يروى أن : حاميم( [63] ) اسم من أسماء/ الله جل ذكره أضيفت [ إليه هذه السور( [64] ) ] ، فكأنه في المعنى سور لله( [65] ) تعالى ذكره وهي ديباج القرآن( [66] ) .

وسمي ما بعد ذلك مفصلاً( [67] ) لكثرة فصوله( [68] ) ب " بسم( [69] ) الله الرحمن الرحيم( [70] ) .

وليست " بسم الله الرحمن الرحيم " بآية من الحمد عند أهل المدينة ، وأهل العراق( [126] ) .

ويدل على ذلك من الخبر الثابت الذي لا( [127] ) مدفع لأحد فيه أن أنساً( [128] ) قال( [129] ) :

" صليت خلف النبي صلى عليه السلام وخلف أبي بكر( [130] ) وخلف عمر( [131] ) ، فكلهم يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين( [132] ) " .

ومن الخبر الصحيح أن عائشة( [133] ) رضي الله عنها وأنساً( [134] ) قالا : " كان النبي [ عليه السلام ]( [135] ) يفتتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين( [136] ) " .

وزاد فيه أنس : - " وأبو بكر وعمر وعثمان( [137] ) " ( [138] ) ، يعني في خلافتهم .

وقال جبير( [139] ) عن أنس : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فما سمعت أحداً منهم يقرأ في صلاته ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ) " ( [140] ) .

/وجاء من الخبر الثابت الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب : " لأُعَلِمَنَّك سُورَةً [ ما أُنْزِلَ ]( [141] ) فِي التَّوْرَاةِ ولا فِي الإنْجِيلِ وَلاَ فِي الزَّبُورِ مثْلُهَا . فلمَّا دَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ المَسْجِدِ : قَالَ لَهُ أُبَيٌّ : يَا رَسُولَ الله [ السُّورَةُ ]( [142] ) التي تُعَلِمُنِي ؟ . قالَ : كَيْفَ تَقْرَأ أمِّ الكتابِ( [143] ) ؟ قلتُ : ( الحَمْدُ لِلهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ) حَتَّى خَتَمْتُها ، فَقَال( [144] ) صلى الله عليه وسلم : هيَ هَذِهِ( [145] ) ، وَهيَ السَّبْعُ المَثَاني وَالقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُ( [146] ) " .

ويدل على ذلك أيضاً ما لا مدفع لأحد فيه أن أهل المدينة بأسرهم/ نقلوا عن آبائهم التابعين عن الصحابة المرضيين استفتاح الصلاة بالحمد رب العالمين دون تسمية ؛ نقل كافة عن كافة لا يجوز عليهم الخطأ فيما نقلوه ولا التواطؤ على الكذب فيما رووه واستعملوه .

ويدل على ذلك أيضاً من الخبر الصحيح ما روى أبو هريرة( [147] ) أن النبي صلى الله عليه وسلم( [148] ) قال :

" يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : قَسَمْتُ الصَّلاَة( [149] ) بيْني وَبَينَ عَبْدِي( [150] ) شَطْرَيْنِ( [151] ) وَلِعَبْدِي مَا سَأَل " .

فَإذا قالَ الْعَبْدُ ( الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) . . الحديث( [152] ) " فلو كانت ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ) آية من الحمد لابتدأ بها . وفي( [153] ) قوله : " قَسَمْتُ " وعَدُّه لآياتها( [154] ) ولم يذكرها دليل واضح على أن ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ) ليست منها( [155] ) .

ويدل على ذلك أيضاً من طريق النظر الذي لا مدفع لأحد فيه أن القرآن لا يثبت بخبر الآحاد ، إنما يثبت بالإجماع( [156] ) ، أو ربما يقطع على مغيبه من أخبار التواتر( [157] ) . ولا إجماع نعلمه ولا تواتر نعقله في أن ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ) آية من الحمد ، وإذا لم يصح/ إجماع ولا ثبت تواتر في أن ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ) آية من الحمد( [158] ) لم ذلك إذ فيما ذكرناه( [159] ) لمن أنصف( [160] ) .

قال أبو محمد : نذكر في هذا الموضع جملة من علل النحويين في ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ) ، ونستقصي إن شاء الله ذلك في سورة النمل إذ هي بعض آية( [161] ) هناك بإجماع .

فمن ذلك أن في كسر الباء قولين( [162] ) :

-أحدهما : إنها كسرت لتكون حركتها مشبهة لعملها( [163] ) .

القول الثاني( [164] ) : إنها كسرت ليفرق بين ما( [165] ) لا يكون( [166] ) إلا " [ حرفاً وبين ما ]( [167] ) قد يكون اسماً نحو الكاف ، وكذلك لام الجر .

وأصل الحروف التي تدخل للمعاني أن تكون مفتوحة لخفة الفتحة نحو حروف العطف وألف( [168] ) الاستفهام وشبهه .

ولكن خرجت( [169] ) الباء واللام عن الأصل للعلة التي ذكرنا .

وقيل : إنما( [170] ) كسرت لام الجر للفرق بينها( [171] ) ، وبين لام التأكيد في قولك : " إن هذا لزيد " إذا أردت أن/ المشار إليه هو زيد ، وإذا أردت أن المشار إليه في/ ملك زيد كسرت اللام .

ويدل على أن أصلها الفتح أنها تفتح مع المضمر( [172] ) إذ قد أمن اللبس لأن علامة المجرور خلاف علامة( [173] ) المرفوع . تقول : " هذا له وهذا لك " ، وأيضاً فإن الإضمار يرد( [174] ) الأشياء إلى أصولها . هذا أصل مجمع عليه في كلام العرب ، وسترى( [175] ) منه أشياء( [176] ) فيما بعد إن شاء الله .

ومن ذلك أن " اسما " فيه أربع( [177] ) لغات : " اسم " بكسر الألف وبضمها ، و " سِم( [178] ) " بضم السين وبكسرها . فَمن ضَم الألف في الابتداء جعله من " سما يسمو " إذا ارتفع " كدعا يدعو " . ومَن كسرها جعله من [ سَميَ يَسْمَى ]( [179] ) " كَرَضِيَ يَرْضَى " .

قال ابن كيسان( [180] ) : " يقال : " سموت وسميت كعلوت وعليت ، وأصله سُمْوٌ أو سِمْوٌ على [ وزن ]( [181] ) فُعْلٌ أو فِعْلٌ ، ثم حذفت الواو استخفافاً لكثرة( [182] ) الاستعمال( [183] ) .

فلما تغير آخره( [184] ) غير( [185] ) أوله بالسكون ، فاحتيج إلى ألف وصل ليوصل بها إلى النطق بالساكن وهو السين المغيرة إلى السكون " .

واختلف في كسر الألف المجتلبة( [186] ) . فقيل : اجتلبت ساكنة وبعدها ساكن فكسرت لالتقاء الساكنين .

وقيل : بل اجتلبت مكسورة ، وإنما ضمت( [187] ) إذا كان الثالث من الفعل مضموماً لاستثقال الخروج( [188] ) من كسر إلى ضم/ ، وضمت الألف إذا كان الثالث من الفعل مضموماً( [189] ) ليخرج الناطق من ضم إلى ضم ، نحو : " أُقْتل ، أُخْرج " ، فذلك أسهل من الخروج من كسر إلى ضم .

وقيل : بل أصلها السكون( [190] ) لكن لابد من حركتها إذ لا يبدأ بساكن فأتبعت ثالث الفعل ، فكسرت إذا كان الثالث مكسوراً نحو " إضرب( [191] ) " . وضمت إذا كان الثالث مضموماً نحو " أُقْتُل " . ولم تفتح إذا كان الثالث مفتوحاً لئلا تشبه( [192] ) ألف المتكلم فكسرت ، وكان( [193] ) الكسر أولى بها/ والثالث مفتوح لأن الخفض والنصب أخوان ، وذلك نحو : " اصنع " .

و " اسم " عند البصريين مشتق من السمو ؛ يدل على ذلك قولهم في التصغير " سمي( [194] ) " . فرجعت اللام المحذوفة إلى أصلها ، ورجعت السين إلى أصلها ، ورجعت السين إلى حركتها لأن التصغير والجمع يردان( [195] ) الأشياء إلى أصولها( [196] ) .

وقال( [197] ) الكوفيون : " هو مشتق من السمة وهي العلامة لأن صاحبه يعرف به ، وليس يسمو به ، كما ذكر البصريون أن اشتقاقه من السمو وهو العلو " .

قال أبو محمد : وقول( [198] ) الكوفيين( [199] ) قول يساعده( [200] ) المعنى ويبطله التصريف لأنهم يلزمهم أن يقولوا في التصغير " وُسَيْمٌ " ، لأن فاء الفعل واو محذوفة فيجب( [201] ) ردها في التصغير ، وذلك لا يقوله أحد . وقد شرحنا هذه المسألة بأشبه من هذا في غير هذا الكتاب( [202] ) .

/والباء من ( بِسْمِ اللَّهِ ) متعلقة بمحذوف . ذلك المحذوف خبر ابتداء( [203] ) مضمر قامت الباء وما اتصل بها مقامه ، وما بعدها في موضع رفع إذ سدت مسد الخير( [204] ) للابتداء( [205] ) المحذوف ، تقديره : " ابتدائي( [206] ) ثابت بسم الله " أو " مستقر بسم الله " ، ثم حذف( [207] ) الخبر وقامت الباء وما بعدها مقامه( [208] ) ، وهذا مذهب البصريين( [209] ) .

وقال الكوفيون : " الباء متعلقة بفعل محذوف ، وهي وما بعدها في موضع نصب بذلك الفعل " ، تقديره عندهم : " ابتدأت بسم الله " ( [210] ) .

والاسم هو المسمى عند أهل السنة . قال أبو/ عبيدة( [211] ) : " معنى باسم الله : بالله " ( [212] ) .

/ وقال : " اسم الشيء هو الشيء( [213] ) " .

ودل على ذلك قوله " ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ )( [214] ) أي سبح ربك( [215] ) ، أي نزه ربك .

واختلف النحويون في علة حذف الألف من الخط في ( بِسْمِ اللَّهِ ) ؛ فقال الكسائي( [216] ) والفراء : " حذفت لكثرة الاستعمال " ( [217] ) .

وقال الأخفش( [218] ) " حذفت لعدمها من اللفظ( [219] ) . ويلزمه ذلك في كل ألف وصل لأنها معدومة أبداً في اللفظ الوصل ، لكنه قال : " مع كثرة الاستعمال بجعل حذفها لاجتماع العلتين " .

وقيل [ بل( [220] ) ] حذفت لأن الباء دخلت على سين مكسورة أو مضمومة .

حكى ابن( [221] ) زيد أنه يقال : " سِمٌ( [222] ) " و " سُمٌ " ، ثم أسكنت السين إذ ليس( [223] ) في الكلام فعل على مذهب من ضم السين وأسكنت على مذهب مَن كسر السين استخفافاً .

وقيل( [224] ) : حذفت الألف للزوم الباء هذا الاسم في الابتداء ، فإن كتبت " بسم الرحمن " أو " بسم( [225] ) الخالق " و( اقْرَأْ( [226] ) بِاسْمِ رَبِّكَ )( [227] ) ، فالأخفش والكسائي يكتبان هذا وما أشبهه بغير ألف( [228] ) " كبسم الله( [229] ) " . والفراء( [230] ) يكتبه( [231] ) بألف إذ( [232] ) لم يكثر استعماله ، ككثرة استعمال " بسم الله " . ولا يحسن الحذف للألف من الخط عند جميعهم إلا مع الباء . لو قلت : " لاسم الله حلاوة " أو قلت : " ليس اسم كاسم الله " ، لم يجز( [233] ) حذف الألف مع غير الباء من حروف الجر ، إلا من قول مَن قال : " سِمُ( [234] ) " أو " سُمُ " فأما مَن قال " اسم " بألف في الابتداء بكسر الألف أو بضمها فلا يجوز حذف الألف من الخط مع غير الباء عند أحد من النحويين إذ لم يكثر استعماله .

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢

والحمد لله معناه الثناء الكامل . والشكر( [235] ) الشامل لله يكون لأفعاله الحسنة وفضائله الكاملة ، والحمد أعم من الشكر وأمدح . ورفعه بالابتداء ، " وَلِلَّهِ " في موضع الخبر تقديره : " الحمد ثابت لله " أو " مستقر لله " . فاللام متعلقة بهذا المحذوف الذي قامت اللام وما بعدها مقامه( [236] ) .

والنصب( [237] ) جائز في الحمد في الكلام على المصدر ، لكن الرفع فيه أعم لأن معناه إذا رفعتَه جميع " الحمد مني ومن جميع الخلق لله " وإذا نصبت فمعناه : " أحمد الله حمداً " ، فإنما هو حمد منك لله لا غير( [238] ) . فالرفع يدل على أن الحمد منك ومن غيرك لله ، فهو أعم وأكمل ، فلذلك أجمع القراء على رفعه في جميع ما وقع في القرآن من لفظ ( الْحَمْدُ لِلهِ ) ، إذ لم يكن/ قبله عامل( [239] ) فإذا كان " الحمد " مبتدأ ، و " لله " خبر ، وهو في اللفظ بمنزلة قولك : " المال لزيد " في حكم الإعراب ، وليس مثله في المعنى لأنك إذا قلت : " الحمد لله " أخبرت بهذا ، وأنت معتمد أن تكون حامداً لله داخلاً في جملة الحامدين طالباً للأجر على قولك ، مقراً إذا رفعته أن جميع الحمد منك ومن غيرك لله متقرباً بذلك إلى الله ، متعرضاً لعفوه مظهراً( [240] ) ما في قلبك بلسانك ، شاهداً بذلك للهز ولست تخبر أحداً بشيء يجهله ، فأنت غير مخبر على الحقيقة بشيء استقر علمه عندك ، وليس ذلك العلم عند غيرك . وإذا قلت : " المال لزيد " ، فأنت مخبر بما استقر علمه عندك مما ليس علمه عند غيرك . فاعرف الفرق بينهما .

فأما علة حذف الألف الثانية/ من " الله " في الخط ففيها أيضاً اختلاف .

قال قطرب( [241] ) : " حذف استخفافاً إذ( [242] ) كان طرحها من الخط لا يلبس .

وقيل : إنما حذفت الألف على لغة مَن يقول قال : " الله/ بغير مد ، كقول الشاعر :

أَقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ الله( [243] ) .

وقيل : حذفت الثانية لأن الأولى( [244] ) تكتفي( [245] ) عنها ، وتدل عليها( [246] ) .

وقيل : إنما حذفت لئلا يشبه خط " اللات " في قول من وقف عليه( [247] ) بالهاء .

فأما حذف ألف( [248] ) ( الرَّحْمَنِ ) من الخط( [249] ) فلكثرة الاستعمال والاستخفاف ، ولأن المعنى لا يشكل بغيره( [250] ) .

وقدم ( الرَّحْمَانِ ) على ( الرَّحِيمِ ) لأن " الرحمن " اسم شريف مبني للمبالغة لا يتسمى به غير الله جل ذكره ، والرحيم قد يوصف به الخلق فأخر لذلك .

وقيل : الرحيم ، ولم يقل : الراحم ، لأن فعيلا فيه مبالغة أيضاً تقارب مبالغة الرحمن( [251] ) ، فقرن بالرحمن دون الراحم( [252] ) إذ الراحم لا مبالغة في بنيته لأنه يوصف بالراحم مَن رحم مرة( [253] ) في عمره ، ولا يوصف بالرحيم إلا مَن تكررت منه الرحمة .

وقيل : إنما قدم الرحمن على الرحيم لأن النبي عليه السلام كان يكتب في كتبه( [254] ) " باسمك اللهم " حتى نزل( [255] ) : ( بِسْمِ اللَّهِ مُجْرَاهَا )( [256] ) فكتب ( بِسْمِ اللَّهِ ) ، حتى نزل : ( قُلُ ادْعُوا اللَّهَ أَوُ ادْعُوا الرَّحْمَنَ )( [257] ) ، فكتب ( بِسْمِ اللَّهِ ) ، فسبق نزول الرحمن . ثم نزل : ( وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )( [258] )( [259] ) . فكتب ذلك على ترتيب ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم( [260] ) .

وقال ابن مسعود( [261] )/ " كنا نكتب زماناً باسمك اللهم " حتى نزلت : ( أَوُ ادْعُوا الرَّحْمَنَ ) ، فكتبنا " بسم الله الرحمن " / فلما نزلت " التي في النمل كتبناها( [262] ) " .

ومعنى ( الرَّحْمَنِ ) : الرفيق بخلقه ، ومعنى : ( الرَّحِيمِ )( [263] ) العاطف على خلقه بالرزق وغيره( [264] ) .

وقيل : إنما جيء بالرحيم( [265] ) ليعلم الخلق أن ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) على اجتماعهما لم يتسم( [266] ) بهما غير الله جل ذكره ، لأن الرحمن على انفراده قد تسمى به مسيلمة( [267] ) الكذاب لعنه الله( [268] ) ، و( الرَّحِيمِ ) على انفراده( [269] ) قد يوصف به المخلوق . فكرر الرحيم بعد الرحمن( [270] ) ، وهما صفتان لله أو اسمان ، ليعلم الخلق ما( [271] ) انفرد به الله تعالى ذكره( [272] ) من اجتماعهما له ، وما ادعى بعضه بعض خلقه( [273] ) .

وهذا القول هو معنى قول عطاء( [274] ) لأنه قال : " لما اختُزِلَ( [275] ) الرحمن من أسمائه( [276] ) –أي تسمى به غيره- ، صار لله الرحمن الرحيم " ( [277] ) .

والألف واللام في ( الرَّحِيمِ ) للتعريف ، وإنما اختيرا( [278] ) للتعريف ، لأن الهمزة تختل بالتسهيل والحذف والبدل وبإلقاء حركتها على ما قبلها ، واللام تدغم في أكثر الحروف وكلاهما من الحروف الزوائد .

وفي وصل ( الرَّحِيمِ ) ب( الْحَمْدُ ) ، عند النحويين ثلاثة أوجه :

-أحدها( [279] ) : أن تقول " الرَّحِيمُ . الحَمْدُ لله " ( [280] ) فتكسر( [281] ) الميم وتقف عليها وتقطع ألف الحمد . وهذا مستعمل عند القراء حسن ، وهو مروي( [282] ) عن النبي صلى الله عليه وسلم روته أم سلمة( [283] ) .

- والثاني( [284] ) : أن تقول : " الرَّحِيمِ الحَمْدُ لله " ، فتَصِل الألف وتعرب الرحيم بحقه من الإعراب فتكون الكسرة خفضاً ، وإن شئت/ قدرت أنك وقفت على الرحيم بالإسكان ، ثم وصلت فكسرت( [285] ) الميم لسكونها وسكون لام الحمد بعدها ، ولا يعتد بألف الوصل لسقوطها في درج الكلام .

وهذان الوجهان حسنان مستعملان في القراءة .

- والوجه الثالث : حكاه الكسائي سماعاً من العرب ، أن تقول : " الرَّحِيمَِ الحَمْدُ " فتح الميم ووصل الألف وذلك أنك تقدر( [286] ) أنك أسكنت الميم للوقف عليها وقطعت ألف الحمد للابتداء/ بها ، ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفتها فانفتحت الميم . ولا يقرأ بهذا( [287] ) .

وقد ذكر الفراء( [288] ) هذا التقدير في قوله تعالى : ( أَلَمِّ اللَّهُ )( [289] ) وذكره غيره( [290] ) . وستراه إن شاء الله ومثله قياس وصل " نَسْتَعِينُ " ب " اهْدِنَا( [291] ) " .

والألف الأول من اسم " الله " تحذف من الخط مع اللام ، تقول : " لله الحجة ، ولله الأمر " ، فإن قلت : " بالله أتق " ، و " ليس كالله أحد " ؛ لم يجز حذف الألف من الخط ، وعلة حذفها من الخط مع اللام ، دون سائر حروف الجر ، أنَّ اللام مع الألف يصيران حرفاً( [292] ) واحداً في رأي العين . والألف مع اللام الثانية( [293] ) بمنزلة " قَدْ " لأنهما زيدا معاً للتعريف لا يفترقان . فلو أثبتت( [294] ) الألف مع اللام الأولى( [295] ) ، كنت قد فصلتها( [296] ) مع اللام الأولى( [297] ) من اللام الثانية .

/وقيل : إنما حذفت الألف من الخط مع اللام( [298] ) ، لئلا تصير " لا " فتشبه النفي . فإن كانت( [299] ) الألف مقطوعة لم تحذف الألف مع اللام ، ولا مع غيرها من حروف( [300] ) الجر في الخط نحو قولك : " لألواحك حُسْنٌ ، ولألواحِك بياض " ، وإنما ذلك ، لأن الألف في هذا ليست مع اللام للتعريف إذ اللام أصلية فجاز انفصالها من اللام الثانية مع اللام الأولى .

قوله : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ )[ 1 ] .

الرب( [301] ) المالك . فمعناه : مالك( [302] ) العالمين .

وقيل : الرب السيد( [303] ) .

وقيل : المصلح( [304] ) ، يقال : " رَبَّه يَرُبُّه رَبّاً " إذا أصلحه . ويقال على التكثير : رَبَّتَهُ ورَبَّاهُ ورَبَّبَهُ( [305] ) .

/فالذين يقولون : " رَبَّتَه " بالتاء ، أصله عندهم رَبَّبَهُ( [306] ) ثم أبدلوا( [307] ) من الباء الثالثة " ياء " ، كما يقال( [308] ) ، " تَقَضَّيْتُ " في " تَقَضَّضْتُ( [309] ) " ثم أبدلوا من الياء تاء . كما أبدلوا من الواو تاء في " تُراتِ " ، و " تُجاهٍ " ، و " تولج " وأصله " وولج( [310] ) " على " فوعل( [311] ) ، من " ولجت " . وبدل( [312] ) التاء من الياء قليل شاذ ، وهو في الواو كثير .

و( الْعَالَمِينَ ) جمع عالم . والعالم هو جميع الخلق الموجود في كل زمان . وروى عبد الوهاب بن مجاهد( [313] ) عن أبيه في قول الله :

( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) . قال : " العالمون ثمانية عشر ألف ملك في نواحي( [314] ) الأرض الأربع ، في كل ناحية أربعة آلاف ملك( [315] ) وخمسمائة( [316] ) ملك مع كل ملك منهم عدد الجن والإنس ، فبهم يدفع( [317] ) الله العذاب عن أهل الأرض " .

ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ٣

قوله : ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )[ 2 ] .

قد تقدم الكلام عليه في التسمية . وإنما كرر ، وقد تقدم ذكره في التسمية ، لأن الأول ليس بآية من الحمد ، وهذا آية ، فلذلك وقع التكرير في آيتين متجاورتين . وهذا مما يدل على أن ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ليس بآية من الحمد ، إذ لو كانت آية كما يقول المخالف لكنا قد أتينا بآيتين متجاورتين متكررتين بمعنى ، وهذا لا يوجد في كتاب الله جل ذكره إلا بفصول تفصل( [318] ) بين الأولى والثانية ، أو بكلام يعترض( [319] ) بين الأولى والثانية( [320] ) .

- فإن قيل : قد فصل في هذا ب( الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ ) .

- فالجواب إن " الرحمن الرحيم " في الحمد مؤخر يراد به التقديم ، وإنما تقديره : " الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين " ، فلا فاصل بين " الرحمن الرحيم " الأول( [321] ) والثاني . فإن كان ذلك كذلك ، دل على أن التسمية ليست بآية من الحمد إذ لا نظير لها في كتاب الله جل ذكره ، وإنما حكمنا على أن المراد " بالرحمن الرحيم " / في " الحمد " التقديم( [322] ) ، لأن قوله : ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) مثل قوله : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) في المعنى ، لأن معناه أنه إخبار من الله/ أنه يملك/ يوم الدين ، و( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) هو إخبار من الله أنه( [323] ) يملك العالمين فاتصال الملك بالملك أولى( [324] ) في الحكمة ومجاورة صفته بالرحمة صفته بالحمد والثناء أولى . فكل واحد مرتبط إلى نظيره في المعنى فدل على أن ( الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ ) في " الحمد لله " متصل به ، يراد به التقديم . و( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) متصل ب( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) إذ هو نظيره في المعنى ، وذلك أبلغ في الحكمة . والتقديم والتأخير كثير في القرآن( [325] ) .

مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ٤

قوله : ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ )[ 3 ] .

الدين الجزاء في هذا الموضع( [326] ) .

وقد يكون الدين( [327] ) التوحيد ، نحو قوله : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاِسْلاَمُ )( [328] ) .

ويكون الدين الحكم ، نحو قوله : ( رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ )( [329] ) أي في حكمه . ويكون الدين الإسلام نحو قوله : ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ )( [330] ) ، و( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الاِسْلاَمُ )( [331] ) .

وقال مجاهد ، " الدين الحساب " ، كما قال : ( غَيْرَ مَدِينِينَ ) [ الواقعة : 89 ] . أي غير محاسبين( [332] ) .

ويكون الدين العادة ، ولم يقع في القرآن .

وقد روى الزهري( [333] ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ( مالك )( [334] ) بألف . وأبو بكر( [335] ) ، وعمر ، وعثمان ، كذلك قرأوها( [336] ) وبذلك قرأ علي( [337] ) ، وابن مسعود وأُبي ، ومعاذ( [338] ) بن جبل وطلحة( [339] ) ، والزبير( [340] ) .

وبذلك قرأ عاصم( [341] ) والكسائي( [342] ) .

وقد بَيَّننا كشف وجوه القراءات في كتاب : " الكشف عن وجوه القراءات " ( [343] ) ، فأغنانا ذلك عن الكلام فيها في هذا الكتاب .

فأما من قرأ ، ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، فهم الأكثر من القراء وشاهده إجماعهم على ( مَلِكِ النَّاسِ )( [344] ) [ الناس : 2 ] بغير ألف( [345] ) .

إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ٥

قوله : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين )( [346] ) .

اختلف النحويون في " إياك وإياه وإياي " ؛ فللبصريين فيها قولان( [347] ) :

- أحدهما : أن " إيا " اسم مضمر أضيف إلى ما بعده للبيان لا للتعريف . ولا يعرف في كلام العرب اسم مضمر مضاف إلى ما بعده غير هذا .

وحكى الخليل( [348] ) عن العرب : " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب( [349] ) " . فأضاف " إيا " إلى الشواب للبيان .

- والقول الثاني : مروي عن المبرد( [350] ) قال : " إن " إيا " اسم( [351] ) مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف ، ولا يعرف في كلام( [352] ) العرب اسم مبهم أضيف إلى ما بعده غير هذا " .

وللكوفيين في هذا أيضاً ثلاثة( [353] ) أقوال( [354] ) .

- حكى ابن( [355] ) كيسان وغيره . عنهم أن " إياك " بكماله اسم مضمر ، ولا يعرف اسم مضمر يتغير( [356] ) آخره غيره ، فتقول : " إياه وإياك وإياي " .

- والقول الثاني : إن الكاف والهاء والياء( [357] ) ، هن الاسم المضمر في " إياك وإياه وإياي( [358] ) " ، لكنه اسم لا يقوم بنفسه ولا ينفرد ولا يكون إلا متصلاً بما قبله من الأفعال ، فلما( [359] ) تقدم على الفعل لم يقم بنفسه فجعل " إيا " عماداً له ليتصل به( [360] ) ، ولو( [361] ) أخرت لا تصل المضمر بالفعل واستغنيت عن " إيا " فقلت : " نعبده " و " نعبدك " ( [362] ) . وهو اختيار ابن كيسان .

- والقول الثالث : حكاه أيضاً ابن( [363] ) كيسان ؛ وهو أن " إيا " اسم مبهم يكنى به/ عن المنصوب وزيدت إليه الكاف والهاء والياء في : " إياك وإياه وإياي " . " ليعلم المخاطب/ من الغائب من المُخْبِر عن نفسه ولا موضع للكاف والهاء والياء من الإعراب ، فهي كالكاف( [364] ) في " ذلك " وأرأيتك زيداً ما صنع " . ذكر معنى جميع ذلك ابن كيسان في كتابه في تفسير القرآن وإعرابه ومعانيه .

والعبادة في اللغة التذلل بالطاعة والخضوع .

فمعنى ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) : نذل لك ونخضع بالعبادة( [365] ) لك ونستعين بك على ذلك( [366] ) .

وإنما قدم ( نَعْبُدُ ) على ( نَسْتَعِينُ ) وقد علم أن الاستعانة قبل العبادة ، والعمل لا يقوم إلا بعون الله ، لأن العبادة لا سبيل إليها إلا بالمعونة ، والمعان على العبادة لا يكون إلا عابداً . فكل واحد مرتبط بالآخر : لا عمل إلا بمعونة ولا معونة إلا( [367] ) تتبعها عبادة ، فلم يكن أحدهما أولى بالتقديم( [368] ) من الآخر( [369] ) ، وأيضاً فإن الواو لا توجب ترتيباً عند أكثر النحويين .

وأما علة تكرير ( إِيَّاكَ ) فمن أجل اختلاف( [370] ) الفعلين إذ أحدهما عبادة والآخر استعانة .

/ وقيل : كرر للتأكيد كما تقول : " المال بين زيد وعمرو ، بين زيد وبين عمرو " ( [371] ) ، فتعيد( [372] ) " بين( [373] ) " للتأكيد .

قوله : ( نَسْتَعِينُ ) [ 5 ] .

أصله " نَسْتَعْوِنُ " على وزن " نَسْتَفْعِلُ " من العون . والمصدر منه استعانة ، وأصله استعواناً ، فقلبت حركة الواو على العين( [374] ) ، فلما انفتح ما قبل الواو –وهي في نية حركة- انقلبت ألفاً ، فالتقى ألفان ، فحذفت إحداهما لالتقاء( [375] ) الساكنين( [376] ) . فقيل : المحذوفة الثانية لأنها زائدة ، والأولى أصلية . وقيل : بل المحذوفة الأولى لأن الثانية تدل على معنى ولزمته الهاء عوضاً من الألف المحذوفة( [377] ) .

والنون الأولى في ( نَسْتَعِينُ ) يجوز فيها الكسر لغة( [378] ) مشهورة وكذلك التاء والهمزة في قولك : " أَنْتَ نَسْتَعين( [379] ) وأنا أستَعينُ " . وإنما ذلك في كل فعل سمي فاعله فيه زوائد( [380] ) أو مما يأتي من الثلاثي على " فَعِلَ ، يَفْعَلُ " بفتح العين في المستقبل ، وكسرها في الماضي نحو : " أنت تعلم وأنا أعلم " .

ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ٦

قوله : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ )[ 5 ] .

معناه ثبتنا ، لأنهم( [381] ) كانوا مهتدين ، وإنما هو رغبة إلى الله أن يثبتنا على ذلك حتى يأتي الموت ونحن عليه .

وقيل : معناه/ ألهمنا الثبات على الصراط المستقيم ، وهو دين الإسلام ، وهو مروي عن ابن عباس( [382] ) .

و " هَدَى " يكون بمعنى : " أَرْشَد( [383] ) " ، نحو قوله : ( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ )( [384] ) ، أي أرشدنا .

ويكون بمعنى " بَيَّنَ " كقوله : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ )( [385] ) ، أي بينّا لهم الصواب من الخطأ ، فاستحبوا( [386] ) الخطأ .

ويكون بمعنى " أَلْهَمَ " كقوله : ( ثُمَّ هَدَى )( [387] ) ، / أي ألهم الذَّكَر( [388] ) من الحيوان إلى إتيان الأنثى .

وقيل : معناه ألهم المصلحة ويكون هدى( [389] ) بمعنى " وَفَّقَ " كما قال " ( لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )( [390] ) أي لا يوفقهم .

والصراط المستقيم كتاب الله . وهو مروي عن النبي [ عليه السلام ]( [391] ) .

وقال ابن عباس : " هو الطريق إلى الله عز وجل " ( [392] ) .

وعن جماعة من الصحابة( [393] ) أنه الإسلام( [394] ) .

وقال جابر بن عبد الله( [395] ) : " هو الإسلام وهو أوسع مما( [396] ) بين السماء والأرض " ( [397] ) .

وعن أبي العالية( [398] ) أنه : " رسول الله صلى الله عليه وسلم/ وصاحباه( [399] ) أبو بكر وعمر( [400] ) " .

وهو قول الحسن( [401] ) .

وأصله الطريق الواضح( [402] ) .

وقال ابن الحنفية( [403] ) : " هو دين الله تعالى " ( [404] ) .

وسمي مستقيماً لأنه لا عوج فيه ولا خطأ .

وقيل : سمي بذلك لاستقامته بأهله إلى الجنة( [405] ) .

وأصل ( الْمُسْتَقِيمَ ) : " المُسْتَقْوِم " ( [406] ) ، فألقيت حركة الواو على القاف وبقيت الواو ساكنة فقلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها . كما قالوا ميزان ، وهو من الوزن . وأصله " مِوْزَان " ، ثم قلبت الواو ياء لانكسار( [407] ) ما قبلها . وكذلك يقلبون الياء واواً إذا انضم ما قبلها نحو " مُوقِنٍ " و " موسِرٍ( [408] ) " لأنه من اليقين واليسار( [409] ) .

صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ٧

قوله : ( صِرَاطَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) [ 6 ] .

صراط بدل( [410] ) من الأول( [411] ) .

والذين أنعم عليهم هم الأنبياء صلوات الله عليهم والصدِّيقون والصالحون بدلالة قوله : ( فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيئينَ( [412] ) وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ )( [413] )( [414] ) .

وقيل : هم أصحاب النبي [ عليه السلام ]( [415] ) ، قاله الحسن .

وقيل( [416] ) : هم المؤمنون من بني إسرائيل الذين لم يغيروا ولا بدلوا ، بدليل قوله : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ التِّي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ )( [417] ) . فلذلك قال هنا : ( صِرَاطَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) .

وقيل : هم المسلمون( [418] ) .

وقال أبو العالية : " هم محمد [ عليه السلام ]( [419] ) وأبو بكر وعمر( [420] ) " .

وقال قتادة( [421] ) : " هم الأنبياء خاصة( [422] ) " .

وقال ابن عباس : " هم أصحاب موسى قبل أن يبدلوا( [423] ) " .

وهذا دعاء أمر الله عز وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوا به وألا يكونوا( [424] ) مثل المغضوب/ عليهم –وهم اليهود- ، ولا مثل الضالين –وهم النصارى- ، ولا على صراطهم( [425] ) .

ودخلت " لا " في قوله : ( وَلاَ الضَّالِّينَ ) لئلا يتوهم أن ( الضَّالِّينَ ) عطف على ( الذِينَ ) في قوله : ( صِرَاطَ الذِينَ )( [426] ) . فبدخول " لا " ( [427] ) امتنع أن يتوهم متوهم ذلك إذ لا تقع " لا " إلا بعد نفي أو ما هو في معنى النفي .

وقيل : " لا " زائدة( [428] ) .

وقيل : هي تأكيد بمعنى( [429] ) : " غير( [430] ) " .

ولم يجمع ( الْمَغْضُوبِ ) ، لأنه في معنى الذين غضب عليهم/ فلا ضمير فيه إذ لا يتعدى( [431] ) إلا بحرف جر . فلو قدرت فيه ضميراً ، كنت قد عديته إلى مفعولين أحدهما بحرف جر/ وهذا ليس يحسن فيه . إنما تقول : " غضبت على زيد " و " غضب على زيد " . فالمخفوض يقوم مقام الفاعل . وكذلك ( عَلَيْهِمْ ) ، في موضع رفع يقوم مقام المفعول الذي لم يسم فاعله . والهاء والميم( [432] ) يعودان( [433] ) على الألف واللام .

والغضب من الله البعد من رحمته . والضلال الحيرة .

" و( غَيْرِ المَغْضُوبِ ) " خفض على النعت " للذين " ( [434] ) من قوله ( صِرَاطَ الذِينَ ) ، وحَسَنٌ ذلك لأنه شائع لا يراد به جمع بعينه فصار كالنكرة ، فجاز نعته " بغير " ، و " غير " نكرة وإن أضيفت( [435] ) إلى معرفة . ويجوز أن تخفض " غير " على البدل( [436] ) من [ الذين . وقد قرئ ]( [437] ) بالنصب على الحال أو على الاستثناء ، وقد شرحت هذا في كتاب : " مشكل الإعراب( [438] ) " بأشبع من هذا .

ويقول المأموم إذا سمع ( وَلاَ الضَّالِّينَ ) : آمين . ويقولها( [439] ) وحده . واختلف في قول الإمام إياها عن مالك( [440] ) .

و( آمين ) ، قيل : هو اسم من أسماء الله تعالى( [441] ) .

وقيل : هو دعاء بمعنى : " اللّهم استجب( [442] ) " .

وقال ابن عباس والحسن : " معنى " آمين " : كذلك يكون " . وهي تمد وتقصر( [443] ) لغتان( [444] ) .

والمؤمن داع . فقد قال الله لموسى وهارون : ( قَدُ اجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا )( [445] ) . وموسى كان( [446] ) هو الداعي ، وهارون يؤمن ، والمؤمن إذا قال : " اللهم استجب " فهو داع بالإجابة ، وهو مبني( [447] ) لوقوع موقع الدعاء/ وبني على حركة لالتقاء الساكنين وكان/ الفتح أولى به( [448] ) لأن قبل آخره ياء( [449] ) .

وروى أبو هريرة( [450] ) عن النبي [ عليه السلام ]( [451] ) قال : " إِذَا قَالَ الإمَامُ ( غَيْرِ( [452] ) المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ( [453] ) وَلاَ الضَّالِّينَ ) ، فَقُولُوا : آمِينَ ، فإنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " ( [454] ) ، أي من وافقه في الإجابة .