{ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
لم يذكر لحمده هنا ظرفًا مكانيًا ولا زمانيًا . وذكر في سورة الروم أن من ظروفه المكانية : السماوات والأرض في قوله : { وَلَهُ الْحَمْدُ في السَّمَاوَاتِ والأرض } ، وذكر في سورة القصص أن من ظروفه الزمانية : الدنيا والآخرة في قوله : { وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ في الأولى والآخرة } ، وقال في أول سورة سبأ : { وَلَهُ الْحَمْدُ في الآخرة وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } والألف واللام في { الْحَمْدُ } لاستغراق جميع المحامد . وهو ثناء أثنى به تعالى على نفسه وفي ضمْنه أمَرَ عباده أن يثنوا عليه به .
وقوله تعالى : { رَبّ الْعَالَمِينَ } لم يبين هنا ما العالمون ، وبين ذلك في موضع آخر بقوله : { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ 23 قَالَ رَبّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } .
قال بعض العلماء : اشتقاق العالم من العلامة ، لأن وجود العالم علامة لا شك فيها على وجود خالقه متصفًا بصفات الكمال والجلال ، قال تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافِ الليل وَالنَّهَارِ لآيات لأولي الألباب } ، والآية في اللغة : العلامة .
قوله تعالى : { الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ }
هما وصفان للَّه تعالى ، واسمان من أسمائه الحسنى ، مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ، والرحمان أشد مبالغة من الرحيم ، لأن الرحمان هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا ، وللمؤمنين في الآخرة ، و الرحيم ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة . وعلى هذا أكثر العلماء . وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا . وفي تفسير بعض السلف ما يدل عليه ، كما قاله ابن كثير ، ويدل له الأثر المروي عن عيسى كما ذكره ابن كثير وغيره أنه قال عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام : { الرَّحْمانِ } رحمان الدنيا والآخرة و{ الرَّحِيم } رحيم الآخرة . وقد أشار تعالى إلى هذا الذي ذكرنا حيث قال : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ } ، وقال : { الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ، فذكر الاستواء باسمه الرحمان ليعم جميع خلقه برحمته . قاله ابن كثير . ومثله قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَانُ } ؛ أي : ومن رحمانيته : لطفه بالطير ، وإمساكه إياها صافات وقابضات في جو السماء . ومن أظهر الأدلة في ذلك قوله تعالى : { الرَّحْمَانُ 1 عَلَّمَ الْقُرْآنَ } إلى قوله : { فَبِأَيّ آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } ، وقال : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } فخصهم باسمه الرحيم . فإن قيل : كيف يمكن الجمع بين ما قررتم ، وبين ما جاء في الدعاء المأثور من قوله صلى الله عليه وسلم : « رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما » . فالظاهر في الجواب والله أعلم أن الرحيم خاص بالمؤمنين كما ذكرنا ، لكنه لا يختص بهم في الآخرة ، بل يشمل رحمتهم في الدنيا أيضا ، فيكون معنى رحيمهما رحمته بالمؤمنين فيهما .
والدليل على أنه رحيم بالمؤمنين في الدنيا أيضا أن ذلك هو ظاهر قوله تعالى : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما 43 } ، لأن صلاته عليهم وصلاة ملائكته وإخراجه إياهم من الظلمات إلى النور رحمة بهم في الدنيا ، وإن كانت سبب الرحمة في الآخرة أيضا . وكذلك قوله تعالى : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم 117 } ، فإنه جاء فيه بالباء المتعلقة بالرحيم الجارة للضمير الواقع على النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار ، وتوبته عليهم رحمة في الدنيا وإن كانت سبب رحمة الآخرة أيضا . والعلم عند الله .
وقوله تعالى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ 4 }
لم يبينه هنا - وبينه في قوله : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ 17 ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ 18 يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } .
والمراد بالدين في الآية الجزاء . ومنه قوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ } ، أي جزاء أعمالهم بالعدل .
قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }
أشار في هذه الآية الكريمة إلى تحقيق معنى لا إله إلا اللَّه : لأن معناها مركب من أمرين : نفي وإثبات . فالنفي : خلع جميع المعبودات غير اللَّه تعالى في جميع أنواع العبادات ، والإثبات : إفراد ربّ السماوات والأرض وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع . وقد أشار إلى النفي من لا إله إلا اللَّه بتقديم المعمول الذي هو { إِيَّاكَ } . وقد تقرر في الأصول ، في مبحث دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة . وفي المعاني في مبحث القصر : أن تقديم المعمول من صيغ الحصر . وأشار إلى الإثبات منها بقوله : { نَعْبُدُ } . وقد بيّن معناها المشار إليه هنا مفصلاً في آيات أُخر كقوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ } الآية - فصرح بالإثبات منها بقوله : { اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } ، وصرح بالنفي منها في آخر الآية الكريمة بقوله : { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } ، وكقوله : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ } ، فصرح بالإثبات بقوله : { أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ } وبالنفي بقوله : { وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ } ، وكقوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } ، فصرح بالنفي منها بقوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ } ، وبالإثبات بقوله : { وَيُؤْمِن بِاللَّهِ } ؛ وكقوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لأبيه وَقَوْمِهِ إنني بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ 26 إِلاَّ الذي فطرني } ، وكقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ 25 } ، وقوله : { وَسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ 45 } ؛ إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 5 }
أي لا نطلب العون إلا منك وحدك ؛ لأن الأمر كله بيدك وحدك لا يملك أحد منه معك مثقال ذرة . وإتيانه بقوله : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 5 } ، بعد قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة ؛ لأن غيره ليس بيده الأمر . وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبينًا واضحًا في آيات أُخر كقوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } الآية - وقوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حسبي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } الآية ، وقوله : { رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً 9 } ، وقوله : { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } ، وإلى غير ذلك من الآيات .
وقوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }
لم يبين هنا من هؤلاء الذين أنعم عليهم . وبين ذلك في موضع آخر بقوله : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً 69 } .
تنبيهان :
الأول : يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر الصدّيق رضي اللَّه عنه ؛ لأنَّه داخل فيمن أمرنا اللَّه في السبع المثاني والقرءان العظيم . أعني الفاتحة بأن نسأله أن يهدينا صراطهم . فدلّ ذلك على أن صراطهم هو الصراط المستقيم .
وذلك في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ 6 صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، وقد بيّن الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين . وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين ، فاتضح أنه داخل في الذين أنعم اللَّه عليهم . . الذين أمرنا اللَّه أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق رضي اللَّه عنه على الصراط المستقيم ، وأن إمامته حق .
الثاني : قد علمت أن الصديقين من الذين أنعم اللَّه عليهم . وقد صرح تعالى بأن مريم ابنة عمران صدّيقة في قوله : { وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ } الآية وإذن فهل تدخل مريم في قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، أو لا ؟
الجواب : أن دخولها فيهم يتفرع على قاعدة أصولية مختلف فيها معروفة ، وهي : هل ما في القرءان العظيم والسنة من الجموع الصحيحة المذكرة ونحوها مما يختص بجماعة الذكور تدخل فيه الإناث أو لا يدخلن فيه إلا بدليل منفصل ؟ فذهب قوم إلى أنهن يدخلن في ذلك ، وعليه : فمريم داخلة في الآية واحتج أهل هذا القول بأمرين :
الأول : إجماع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجمع .
والثاني : ورود آيات تدل على دخولهن في الجموع الصحيحة المذكرة ونحوها ، كقوله تعالى في مريم نفسها : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ 12 } ، وقوله في امرأة العزيز : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ 29 } ، وقوله في بلقيس : { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ 43 } ، وقوله فيما كالجمع المذكر السالم : { قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا } الآية فإنه تدخل فيه حواء إجماعًا . وذهب كثير إلى أنهن لا يدخلن في ذلك إلا بدليل منفصل . واستدلوا على ذلك بآيات كقوله : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } إلى قوله : { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً 35 } ، وقوله تعالى : { قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذالِكَ أَزْكَى لَهُمْ } ، ثم قال : { وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } الآية فعطفهن عليهم يدل على عدم دخولهن . وأجابوا عن حجة أهل القول الأول بأن تغليب الذكور على الإناث في الجمع ليس محل نزاع . وإنما النزاع في الذي يتبادر من الجمع المذكر ونحوه عند الإطلاق . وعقن الآيات بأن دخول الإناث فيها . إنما علم من قرينة السياق ودلالة اللفظ ، ودخولهن في حالة الاقتران بما يدل على ذلك لا نزاع فيه .
وعلى هذا القول : فمريم غير داخلة في الآية وإلى هذا الخلاف أشار في « مراقي السعود » بقوله :
وما شمول من للأنثى جنف *** وفي شبيه المسلمين اختلفوا
وقوله : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين 7 }
قال جماهير من علماء التفسير : { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ، اليهود و{ الضالون 7 } النصارى . وقد جاء الخبر بذلك عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من حديث عدي بن حاتم رضي اللَّه عنه . واليهود والنصارى وإن كانوا ضالين جميعًا مغضوبًا عليهم جميعًا ، فإن الغضب إِنما خص به اليهود ، وإن شاركهم النصارى فيه ، لأنهم يعرفون الحق وينكرونه ويأتون الباطل عمدًا ، فكان الغضب أخص صفاتهم . والنصارى جهلة لا يعرفون الحق ، فكان الضلال أخص صفاتهم .
وعلى هذا فقد يبين أن { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } اليهود . قوله تعالى فيهم : { فَبَاءو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } الآية وقوله فيهم أيضا : { هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } الآية وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ } الآية وقد يبين أن الضالين النصارى ، قوله تعالى : { تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ 77 } .