سورة المطففين
في السورة تنديد بالغشاشين في الكيل والميزان وإنذار بحساب الله . واستطراد إلى ذكر مصير المكذبين والمؤمنين يوم القيامة . وحكاية لسخرية الكفار بالمؤمنين في الدنيا وانقلاب الحال في الآخرة . وآيات السورة متوازنة منسجمة مما يسوغ القول : إنها نزلت دفعة واحدة .
والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه السورة آخر السور المكية نزولا . ومعظم روايات ترتيب النزول تذكر أنها من السور المتأخرة في النزول كذلك ، ومنها ما يتفق مع المصحف بأنها الآخر نزولا . غير أن مضمونها وأسلوبها يثيران في النفس شكا في ذلك ويسوغان الظن بأنها من السورة المبكرة في النزول . مثل السور القصيرة المسجّعة .
بسم الله الرحمان الرحيم
1 التطفيف : البخس في الوزن والكيل .
{ ويل للمطففين1 ( 1 ) الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ( 2 ) وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ( 3 ) ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ( 4 ) ليوم عظيم( 5 ) يوم يقوم الناس لرب العالمين ( 6 ) } [ 1-6 ] .
احتوت الآيات :
1- تقريعا للذين إذا اشتروا لأنفسهم كالوا ما اشتروه أو وزنوه أو أخذوه وافيا ، وإذا باعوا للغير طففوا وكالوا ووزنوا ناقصا ليضمنوا لأنفسهم الربح في الحالتين على حساب ضرر الآخرين .
2- وتساؤلا في معرض الإنذار عما إذا كانوا حينما يفعلون ذلك لا يعرفون أنهم مبعوثون بعد الموت لليوم العظيم الذي يقف الناس فيه بين يدي الله رب العالمين ليقدموا الحساب عن أعمالهم .
وهذه ثانية سورتين ابتدأتا بكلمة ( الويل ) التقريعية . والآيات تنطوي على صورة من صور أخلاق بعض التجار في مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر . وهي في الوقت نفسه عامة تظهر في كل زمان ومكان . والمتبادر أن إطلاق التقريع والإنذار في الآيات هو بسبب ذلك ليكون فيها تلقين مستمر المدى في تقبيح بخس الناس وغشهم وسلب أموالهم بطريق الحيلة والخداع .
ولقد احتوت سورتا الإسراء والأنعام آيات فيها أمر بوفاء الكيل والميزان والوزن بالموازين المستقيمة حيث ينطوي في هذا تقرير كون هذا الأمر من الأخلاق الهامة التي عنى القرآن بإيجابها لما له من صلة بجميع الناس تتكرر في كل وقت . والإنذار والتقريع في الآيات هما توكيد لما احتوته آيات السورتين بأسلوب آخر .
والتساؤل ينطوي على تقرير ما فتئ القرآن يقرره ، وهو أن جرأة كثير من الناس على الآثام تأتي من عدم مراقبتهم الله وحسبانهم حساب الآخرة . وهذا من دون ريب متصل بحكمة الله فيما يقرره القرآن من حقيقة البعث والجزاء الأخرويين .
وقد روى المفسرون [0] عن ابن عباس أن أهل المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا وأنه كان فيها رجل يقال له : أبو جهينة معه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله الآيات . ومقتضى هذا أن تكون الآيات مدنية . ولا تفهم حكمة لوضع آيات مدنية في رأس سورة تجمع الروايات على سلكها في عداد السور المكية . ويؤيد ذلك مضمونها وأسلوبها . وموضوعها من المواضيع التي ذكرت في سور مكية على ما ذكرناه آنفا . والذي يتبادر لنا أن الآيات تليت في موقف ما في المدينة على سبيل الإنذار والتقريع ، فأدى ذلك إلى الالتباس . وهو ما نرجحه في كثير من الآيات التي يروى أنها مدنية ووردت في سور مكية .
ولقد روى البخاري والترمذي في سياق آية { يوم يقوم الناس لرب العالمين } حديثا عن ابن عمر قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه )[1] . وهناك حديث آخر رواه البغوي بطرقه فيه توضيح لتعبير ( رشحه ) عن المقداد قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين فتصهرهم فيكونون في العرق بقدر أعمالهم ، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من يأخذه إلى حقويه ومنهم من يلجمه إلجاما ) . وفي الحديثين تنبيه إنذاري متساوق مع التنبيه القرآني كما هو واضح .