تفسير المنار لرشيد رضا

رشيد رضا القرن الرابع عشر الهجري
Add Enterpreta Add Translation

صفحة 1

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ١

سورة الفاتحة

هذه السورة مكية وآياتها سبع . والفرق بين السور المكية والمدنية : هو أن المكية أكثر إيجازا لأن المخاطبين بها هم أبلغ العرب وأفصحهم ، وعلى الإيجاز مدار البلاغة عندهم ، ثم إن معظمها تنبيهات وزواجر وبيان لأصول الدين بالإجمال . وقد قلت في مقدمة الطبعة الثانية لمجلد المنار الأول في أسلوب السور المكية ما نصه : إن أكثر السور المكية لاسيما المنزلة في أوائل البعثة قوارع تصخ الجنان ، وتصدع الوجدان وتفزع القلوب إلى استشعار الخوف ، وتدعّ العقول إلى إطالة الفكر ، في الخطبين الغائب والعتيد ، والخطرين القريب والبعيد ، وهما عذاب الدنيا بالإبادة والاستئصال ، أو الفتح الذاهب بالاستقلال ، وعذاب الآخرة وهو أشد وأقوى ، وأنكى وأخزى . بكل من هذا وذاك أنذرت السور المكية أولئك المخاطبين إذا أصروا على شركهم ، ولم يرجعوا بدعوة الإسلام عن ضلالهم وإفكهم ، ويأخذوا بتلك الأصول المجملة ، التي هي الحنيفية السمحة السهلة ، وليست بالشيء الذي ينكره العقل ، أو يستثقله الطبع ، وإنما ذلك تقليد الآباء والأجداد ، يصرف الناس عن سبيل الهدى والرشاد .

راجع تلك السور العزيزة ، ولاسيما قصار المفصل منها . كالحاقة ما الحاقة ، والقارعة ما القارعة ، وإذا وقعت الواقعة ، وإذا الشمس كورت ، وإذا السماء انفطرت ، وإذا السماء انشقت ، وإذا زلزلت الأرض زلزالها ، والذاريات ذروا ، والمرسلات عرفا ، والنازعات غرقا .

تلك السور التي كانت بنذرها ، وفهم القوم لبلاغتها وعبرها ، تفزعهم من سماع القرآن ، حتى يفروا من الداعي ( ص ) من مكان إلى مكان ( 74 : 50 كأنهم حمر مستنفرة 51 فرت من قسورة ) – ( 11 : 5 ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ، ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ) . ثم إلى السور المكية الطوال ، فلا نجدها تخرج في الأوامر والنواهي عن حد الإجمال ، كقوله عز وجل ( 17 : 23 وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) – إلى 37 منها ، وقوله بعد إباحة الزينة وإنكار تحريم الطيبات من الرزق ( 7 : 32 قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) .

وأما السور المدنية ففي أسلوبها شيء من الإسهاب ، ولا سيما في مخاطبة أهل الكتاب ، لأنهم أقل بلاغة وفهما من العرب الأصلاء ، ولا سيما قريش ، وما فيها من الكلام في أصول الدين أكثره محاجة لهم – لأهل الكتاب – ونعيٌ عليهم ، وإثبات لتحريفهم ما نزل إليهم ، وابتداعهم فيه وإعراضهم عن هدايته ، ونسيانهم حظا مما ذكروا به ، ودعوة لهم إلى التوحيد الخالص توحيد الألوهية والربوبية ، وبيان لكون الإسلام الذي جاء به القرآن ، هو دين جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

وفي هذه السور المدنية أيضا بيان لا بد منه من الأحكام العملية في العبادات والمعاملات ، الشخصية والمدنية والسياسية والحربية ، ولأصول الحكومة الإسلامية والتشريع فيها ، كما تراه في طوال المفصل منها ، كالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة .

وقد اختلف العلماء في المكي والمدني من السور . فقيل : المكي ما نزل في شأن أهل مكة ، وإن نزوله في أهل المدينة . والمدني غيره ، وقيل المكي : ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة ، كالذي نزل في عام الفتح وفي حجة الوداع . والصحيح الذي عليه الجمهور : أن المكي ما نزل قبل الهجرة ، والمدني ما نزل بعدها ، سواء نزل بالمدينة نفسها أو ضواحيها أو في مكة عام الفتح وعام حجة الوداع ، أو في غزوة من الغزوات . فالسور المكية : هي التي نزلت في أول الإسلام لأجل الدعوة إليه ، ولبيان أساس الدين وكلياته ، من الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، ومن ترك الشرور والمعاصي والمنكرات المعروفة للناس بعقولهم وفطرتهم ، وفعل الخيرات والمعروف بحسب الرأي والاجتهاد الموكول إلى القلوب والضمائر . والسور المدنية هي التي نزلت بعد الهجرة وكثرة المسلمين وتكون جماعتهم ببيان الأحكام التفصيلية كما قلنا آنفا ، وسترى ذلك مفصلا في القسمين تفصيلا .

والسور : طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات فأكثر ، لها اسم معروف بالتوقيف والرواية الثابتة بالأحاديث والآثار ، قيل إن اسمها مشتق من السور الذي يحيط بالبلد . وقيل : من السور المهموز ، ومعناه البقية ، وبقية كل شيء جزء منه فالمراد بها جزء معين من القرآن . وقيل : من التسور ، وهو العلو والارتفاع .

وقد رويت أسماء السور عن الصحابة مرفوعة وموقوفة ، ولكنهم لم يكتبوها في مصاحفهم لأنهم لم يكتبوا فيها إلا ألفاظ التنزيل ، لئلا يتوهم أحد من الناس إذا هم زادوا شيئا – كأسماء السور أو لفظ { آمين } بعد الفاتحة – أنه من التنزيل .

هذا ولفظ { الفاتحة } صفة مؤنث الفاتح . قال الأستاذ الإمام : سميت الفاتحة فاتحة لأنها أول القرآن في هذا الترتيب ( وتكلم عن لفظ الفاتحة وعن التاء فيه ) وتسمى أم الكتاب . وقالوا إن حديث النهي عن تسميتها هذا الاسم موضوع .

ثم قال : يتكلمون عند الكلام عن السور على المكي والمدني ، وهو يفيد في معرفة الناسخ والمنسوخ ، وهي مكية خلافا لمجاهد ، فالإجماع على أن الصلاة كانت بالفاتحة لأول فرضيتها . ولا ريب أن ذلك كان في مكة ، وقالوا هي المراد بالسبع المثاني في قوله تعالى ( 15 : 87 ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ) وهو مكي بالنص . وقال بعضهم : إنها نزلت مرتين ، مرة بمكة عند فرضية الصلاة ، وأخرى بالمدينة حين حولت القبلة ، وكأن صاحب هذا القول أراد الجمع بين قولين . وليس بشيء . وقال كثيرون إنها أول سورة أنزلت بتمامها .

أقول الآن : ذكر الحافظ السيوطي في الإتقان أربعة أقوال في أول ما أنزل ( أحدهما ) { 96 اقرأ باسم ربك } رواه الشيخان وغيرهما من حديث عائشة ( ثانيها ) { 74 يا أيها المدثر } رواه الشيخان عن سلمة بن عبد الرحمان عن جابر بن عبد الله . وجمعوا بين القولين بأن الأول هو أول ما نزل على الإطلاق ، وهو صدر سورة اقرأ . والثاني أول سورة نزلت بتمامها أو الثاني أول ما نزل بعد فترة الوحي آمرا بتبليغ الرسالة . وقيل في الجمع غير ذلك كما في الإتقان ( ثالثها ) سورة الفاتحة قال في الكشاف : ذهب ابن عباس ومجاهد إلى أن أول سورة نزلت ( اقرأ ) وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب . ( قال السيوطي ) : وقال ابن حجر : والذي ذهب إليه أكثر الأئمة هو الأول . وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول . وحجته ما أخرجه البيهقي في الدلائل والواحدي من طريق يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة : " إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء ، فقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا . فقالت : معاذ الله ، ما كان الله ليفعل بك ، فو الله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث " – وفي الحديث أنه أخبر ورقة بذلك ، وأن ورقة أشار عليه بأن يثبت ويسمع النداء وأنه صلى الله عليه وسلم لما خلا ناداه – أي الملك – " يا محمد قل : بسم الله الرحمان الرحيم ، الحمد لله رب العالمين – حتى بلغ – ولا الضالين " قال السيوطي في الحديث : هذا مرسل رجاله ثقات ، ونقل عن البيهقي احتمال أن هذا بعد نزول صدر { اقرأ باسم ربك } .

هذا – وأما الأستاذ الإمام فقد رجح أنها أول ما نزل على الإطلاق ، ولم يستثن قوله تعالى { اقرأ باسم ربك } ونزع في الاستدلال على ذلك منزعا غريبا في حكمة القرآن وفقه الدين فقال ما مثاله :

ومن آية ذلك : أن السنة الإلهية في هذا الكون – سواء كان كون إيجاد أو كون تشريع – أن يظهر سبحانه الشيء مجملا ثم يتبعه التفصيل بعد ذلك تدريجيا ، وما مثل الهدايات الإلهية إلا مثل البذرة والشجرة العظيمة ، فهي في بدايتها مادة حياة تحتوي على جميع أصولها ثم تنمو بالتدريج حتى تبسق فروعها بعد أن تعظم دوحتها ثم تجود عليك بثمرها . والفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن ، وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها . ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف ، كقولهم إن أسرار القرآن في الفاتحة ، وأسرار الفاتحة في البسملة ، وأسرار البسملة في الباء وأسرار الباء في نقطتها . فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليهم الرضوان ولا هو معقول في نفسه وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلو إلى سلب القرآن خاصته وهي البيان .

( قال ) وبيان ما أريد هو أن ما نزل القرآن لأجله أمور ( أحدها ) التوحيد لأن الناس كانوا كلهم وثنيين وإن كان بعضهم يدعي التوحيد ( ثانيها ) وعد من أخذ به وتبشيره بحسن المثوبة ووعيد من لم يأخذ به وإنذاره بسوء العقوبة . والوعد يشمل ما للأمة وما للإفراد فيعم نعم الدنيا والآخرة وسعادتهما والوعيد كذلك يشمل نقمهما وشقاءهما . فقد وعد الله المؤمنين بالاستخلاف في الأرض والعزة والسلطان والسيادة وأوعد المخالفين بالخزي والشقاء في الدنيا كما وعد بالجنة والنعيم وأوعد بنار الجحيم في الآخرة ( ثالثها ) العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس ( رابعها ) بيان سبيل السعادة وكيفية السير فيه الموصل إلى نعم الدنيا والآخرة ( خامسها ) قصص من وقف عند حدود الله تعالى وأخذ بأحكام دينه وأخبار الذين تعدوا حدوده ونبذوا أحكام دينه ظهريا لأجل الاعتبار واختيار طريق المحسنين ومعرفة سنن الله في البشر .

هذه هي الأمور التي احتوى عليها القرآن وفيها حياة الناس وسعادتهم الدنيوية والأخروية والفاتحة مشتملة عليها إجمالا بغير ما شك ولا ريب فأما التوحيد ففي قوله تعالى { الحمد لله رب العالمين } لأنه ناطق بأن كل حمد وثناء يصدر عن نعمة ما فهو له تعالى ولا يصح ذلك إلا إذا كان سبحانه مصدر كل نعمة في الكون تستوجب الحمد ومنها نعمة الخلق والإيجاد والتربية والتنمية ولم يكتف باستلزام العبارة لهذا المعنى فصرح به بقوله { رب العالمين } ولفظ ( رب ) ليس معناه المالك والسيد فقط بل فيه معنى التربية والإنماء وهو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في نفسه وفي الآفاق منه عز وجل فليس في الكون متصرف بالإيجاد ولا بالاشقاء والإسعاد سواه .

التوحيد أهم ما جاء لأجله الدين ولذلك لم يكتف في الفاتحة بمجرد الإشارة إليه بل استكمله بقوله { إياك نعبد وإياك نستعين } فاجتث بذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم وهي اتخاذ أولياء من دون الله تعتقد لهم السلطة الغيبية ويدعون لذلك من دون الله ويستعان بهم على قضاء الحوائج في الدنيا ويقترب بهم إلى الله زلفى وجميع ما في القرآن من آيات التوحيد ومقارعة المشركين هو تفصيل لهذا الإجمال .

وأما الوعد والوعيد : فالأول منهما مطوى في { بسم الله الرحمان الرحيم } فذكر الرحمة في أول الكتاب – وهي التي وسعت كل شيء – وعد بالإحسان . وقد كررها مرة ثانية تنبيها لنا على أمره إيانا بتوحيده وعبادته رحمة منه سبحانه بنا لأنه لمصلحتنا ومنفعتنا . وقوله تعالى { مالك يوم الدين } يتضمن الوعد والوعيد معا لأن معنى الدين الخضوع أي أن له تعالى في ذلك اليوم السلطان المطلق والسيادة التي لا نزاع فيها لا حقيقة ولا ادعاء وأن العالم كله يكون فيه خاضعا لعظمته ظاهرا وباطنا ، يرجو رحمته ويخشى عذابه ، وهذا يتضمن الوعد والوعيد . أو معنى الدين الجزاء وهو إما ثواب للمحسن وإما عقاب للمسئ وذلك وعد ووعيد .

وزد على ذلك أنه ذكر بعد ذلك { الصراط المستقيم } وهو الذي من سلكه فاز ومن تنكبه هلك وذلك يستلزم الوعد والوعيد .

وأما العبادة فبعد أن ذكرت في مقام التوحيد بقوله { إياك نعبد وإياك نستعين } أوضح معناها بعض الإيضاح في بيان الأمر الرابع الذي يشملها ويشمل أحكام المعاملات وسياسة الأمة بقوله تعالى { اهدنا الصراط المستقيم } أي أنه قد وضع لنا صراطا سيبينه ويحدده وتكون السعادة في الاستقامة عليه ، والشقاوة في الانحراف عنه ، وهذه الاستقامة عليه هي روح العبادة ويشبه هذا قوله تعالى { والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } فالتواصي بالحق والصبر هو كمال العبادة بعد التوحيد . والفاتحة بجملتها تنفخ روح العبادة في المتدبر لها . وروح العبادة هي إشراب القلوب خشية الله وهيبته والرجاء لفضله ، لا الأعمال المعروفة من فعل وكفّ وحركات اللسان والأعضاء ، فقد ذكرت العبادة في الفاتحة قبل ذكر الصلاة وأحكامها والصيام وأيامه ، وكانت هذه الروح في المسلمين قبل أن يكلفوا هذه الأعمال البدنية ، وقبل نزول أحكامها التي فصلت في القرآن تفصيلا ما . وإنما الحركات والأعمال مما يتوسل به إلى حقيقة العبادة ، ومخ العبادة الفكر والعبرة .

وأما الأخبار والقصص ففي قوله تعالى { صراط الذين أنعمت عليهم } تصريح بأن هناك قوما تقدموا وقد شرع الله شرائع لهدايتهم . وصائح يصيح ألا فانظروا في الشئون العامة التي كانوا عليها واعتبروا بها . كما قال تعالى لنبيه يدعو إلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } حيث بين أن القصص إنما هي للعظة والاعتبار . وفي قوله تعالى { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } تصريح بأن غير المنعم عليهم فريقان فريق ضل عن صراط الله وفريق جاحده وعاند من يدعو إليه فكان محفوفا بالغضب الإلهي والخزي في هذه الحياة الدنيا . وباقي القرآن يفصل لنا في أخبار الأمم هذا الإجمال على الوجه الذي يفيد العبرة فيشرح حال الظالمين الذين قاوموا الحق عنادا ، والذين ضلوا فيه ضلالا ، وحال الذين حافظوا عليه وصبروا على ما أصابهم في سبيله .

فتبين من مجموع ما تقدم أن الفاتحة قد اشتملت إجمالا على الأصول التي يفصلها القرآن تفصيلا فكان إنزالها أولا موافقا لسنة الله تعالى في الإبداع . وعلى هذا تكون الفاتحة جديرة بأن تسمى ( أم الكتاب ) كما نقول إن النواة أم النخلة ؛ فإن النواة مشتملة على شجرة النخلة كلها حقيقة ، لا كما قال بعضهم : إن المعنى في ذلك أن الأم تكون أولا ويأتي بعدها الأولاد .

وأقول الآن : هذا ما قاله الأستاذ الإمام مبسوطا موضحا . ويمكن أن يقال : إن نزول أول سورة العلق قبل الفاتحة لا ينافي هذه الحكم التي بينها لأنه تمهيد للوحي المجمل والمفصل خاص بحال النبي صلى الله عليه وسلم وإعلام له بأنه يكون وهو أمي قارئا بعناية الله تعالى ومخرجا للأميين من أميتهم إلى العلم بالقلم أي الكتابة وفي ذلك استجابة لدعوة إبراهيم ( 2 : 128 ) { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم } فسر الأستاذ الإمام الكتاب بالكتابة ثم كانت الفاتحة أول سورة نزلت كاملة وأمر النبي بجعلها أول القرآن وانعقد على ذلك الإجماع .

( استدراكات وبيان لأغلاط معنوية في هذا الجزء )

تكرر في هذا الجزء ويتكرر في سائر الأجزاء الكلام في جعل الدين عصبية جنسية ورابطة من الروابط السياسية ، وأن اليهود والنصارى قد فعلوا هذا من قبل فاتبع المسلمون سنتهم فيه . وأن هذا لا ينفع أصحابه في الآخرة وقد يضرهم إذا خالفوا الحق أو اتبعوا الباطل المحض العصبية وإنما ينفعهم هنالك الإيمان الصحيح والعمل الصالح ويزيد على ذلك : أن الجمع بين هذا وبين التمسك بالجنسية الدينية بالحق لا بالعصبية الجاهلية مما تتم به قوة الحق والدين . والله يتولى المتقين .

{ بسم الله الرحمان الرحيم }

لا أذكر ما قاله الأستاذ الإمام في البسملة من حيث لفظها وإعرابها وهل هي آية أو جزء آية من الفاتحة أو ليست منها ، فإن الخلاف في ذلك مشهور . وقد اختصر الأستاذ القول فيه اختصارا وقال : إنها على كل حال من القرآن فنتكلم عليها كسائر الآيات .

وأقول الآن : أجمع المسلمون على أن البسملة من القرآن وأنها جزء آية من سورة النمل . واختلفوا في مكانها من سائر السور فذهب إلى أنها آية من كل سورة علماء السلف من أهل مكة فقهائهم وقرائهم ومنهم ابن كثير : وأهل الكوفة منهم عاصم والكسائي من القراء ، وبعض الصحابة والتابعين من أهل المدينة والشافعي في الجديد وأتباعه والثوري وأحمد في أحد قوله والإمامية . ومن المروي عنهم ذلك من علماء الصحابة علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة ، ومن علماء التابعين سعيد بن جبير وعطاء والزهري وابن المبارك ، وأقوى حججهم في ذلك إجماع الصحابة ومن بعدهم على إثباتها في المصحف أول كل سورة سوى سورة براءة ( التوبة ) ، مع الأمر بتجريد القرآن عن كل ما ليس منه ، ولذلك لم يكتبوا ( آمين ) في آخر الفاتحة ، وأحاديث منها ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أنزلت علي آنفا سورة فقرآ : بسم الله الرحمان الرحيم } ، وروى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة – وفي رواية انقضاء السورة – حتى ينزل عليه بسم الله الرحمان الرحيم . وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين . وروى الدارقطني من حديث أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأتم الحمد لله ( أي سورة الحمد لله ) فاقرؤا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها أم القرآن والسبع المثاني وبسم الله الرحمان الرحيم إحدى آياتها " . وذهب مالك وغيره من علماء المدينة والأوزاعي وغيره من علماء الشام وأبو عمرو ويعقوب من قراء البصرة إلى أنها آية مفردة أنزلت لبيان رؤوس السور والفصل بينها ، وعليه الحنفية ، وقال حمزة من قراء الكوفة وروى عن أحمد أنها آية من الفاتحة دون غيرها ، وثمة أقوال أخرى شاذة .

هذا- وقد قال الأستاذ الإمام : القرآن إمامنا وقدوتنا فافتتاحه بهذه الكلمة إرشاد لنا بأن نفتتح أعمالنا بها ، فما معنى هذا ؟ ليس معناه أن نفتتح أعمالنا باسم من أسماء الله تعالى بأن نذكره على سبيل التبرك أو الاستعانة به بل أن نقول هذه العبارة { بسم الله الرحمان الرحيم } فأنها مطلوبة لذاتها .

أقول الآن : الاسم هو اللفظ الذي يدل على ذات من الذوات كحجر وخشب أو زيد أو معنى من المعاني كالعلم والفرح . وقال ابن سيده هو اللفظ الموضوع على الجوهر أو العرض . وقال الراغب الاسم ما يعرف به ذات الشيء وأصله . وقال كثيرون أنه مشتق من السمو وأن أصله سمو لأن تصغيره سمي وجمعه أسماء .

والسمو العلو كأن الإسم يعلو مسماه بكونه عنوانا له ودليلا عليه . وقال آخرون إنه من السمة وهي العلامة وأصله وسم . وقال بعض الباحثين في الكلام والفلسفة إن الإسم يطلق على نفس الذات والحقيقة والوجود والعين وهي عندهم أسماء مترادفة . وهذا القول ليس من اللغة في شيء ولا هو من الفلسفة النافعة بل من الفلسفة الضارة وإن قال الألوسي بعد نقله عن ابن فورك والسهلي " وهما ممن يعض عليه بالنواجذ " . بل لا ينبغي أن يذكر مثل هذا القول إلا لأجل النهي عن إضاعة الوقت في قراءة ما بنى من السفسطة في إثبات قول القائلين إن الاسم عين المسمى ، وقد كتبوا لغوا كثيرا في هذه المسألة ، وقلما ترى أحدا رضي كلام غيره فيها ، ولكن قد يرضيه كلام نفسه الذي يؤيد به ما لم يفهمه من كلام غيره .

والحق أن الاسم هو اللفظ الذي ينطق به لسانك ويكتبه قلمك ، كقولك : الشمس أوزيد أو مكة . والمسمى هو الكوكب المعروف أو الشخص المعين أو البلد المحدد ، وقد يكون بعيدا عنك عند إطلاق الاسم . ولفظ " اسم " اسم لهذا النوع من اللفظ الذي يدل على الجواهر والأعراض دون الأحداث التي تسمى في النحو أفعالا . ومدلوله مثل مدلول لفظ إنسان : يطلق على أفراد كثيرة كلفظ " الشمس " الذي تنطق به وتكتبه ، ولفظ " زيد " ولفظ " مكة " وغير ذلك من أسماء الموجودات . فالاسم غير المسمى في اللغة . وقد أخطأ من نسب إلى سيبويه غير هذا ، كما قال ابن القيم ، بل قال في كتابه ( بدائع الفوائد ) : ما قال نحوي قط ولا عربي إن الاسم عين المسمى ، وذكر بعض من قال باتحاد الاسم والمسمى بالتسمية ، وبين الخطأ في ذلك ، وأن معنى { سبح اسم ربك الأعلى } سبح ربك ذاكرا اسمه الأعلى ، ومعنى { سبح باسم ربك } سبحه ناطقا باسمه العظيم .

ومنشأ الاشتباه عند بعضهم أن الله تعالى أمرنا بذكره وتسبيحه في آيات وبذكر اسمه وتسبيح اسمه في آيات أخرى ، فقال تعالى ( 8 :73 ) : { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } ( 76 : 23 ) { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا } ( 22 : 40 ) { ومساجد يذك فيها اسم الله كثيرا } ( ( 6 : 118 ) { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مومنين } ( 119 ) { وما لكم ألا تاكلوا مما ذكر اسم الله عليه } ( 22 : 36 ) { فاذكروا اسم الله عليها صواف } أي البدن عند نحرها . وقال تعالى : ( 33 : 40 ) { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ( 41 ) وسبحوه بكرة وأصيلا } ( 2 : 127 ) { فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا } ( 3 : 190 ) { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأر } ( 4 : 102 ) { فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم } وقال تعالى في التسبيح : ( 7 : 205 ) { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون } أي يسبحون ربك فعدى التسبيح بنفسه إلى ضمير الرب كما عدّاه بنفسه إلى اسم الرب في قوله تعالى ( 87 : 1 ) { سبح اسم ربك الأعلى } وبالياء في قوله ( 59 : 96 ) { فسبح باسم ربك العظيم } وقال ( 57 : 1 ) { سبح لله ما في السموات والأرض } ومثله كثير . وقال تعالى { فتبارك الله * 25 : 1 تبارك الذي نزل الفرقان } كما قال ( 55 : 78 ) { تبارك اسم ربك } .

رأى بعضهم أن يجمع بين هذه الآيات بجعل الاسم عين المسمى ، وأن ذكر الله وذكر اسمه وتسبيحه وتسبيح اسمه واحد ، لأن اسمه عين ذاته ، وأن هذا خير من القول بأن لفظ " اسم " مقحم زائد . والصواب أن الذكر في اللغة ضد النسيان وهو ذكر القلب ولذلك قرنه بالتفكر في سورة آل عمران ( 3 : 190 ) وهما عبادتان قلبيتان ، وقال { 18 : 24 واذكر ربك إذا نسيت } ويطلق الذكر أيضا على النطق باللسان لأنه دليل على ذكر القلب وعنوان وسبب له ، وإنما يذكر اللسان اسم الله تعالى كما يذكر من كل الأشياء أسماءها ، دون ذوات مسمياتها ؛ فإذا قال نار لا يقع جسم النار على لسانه فيحرقه ، وإذا قال الظمآن " ماء " لا يحصل مسمى هذا اللفظ في فيه فينقع غلته ، فذكر الله تعالى في القلب هو تذكر عظمته وجلاله وجماله ونعمه ، وورد التصريح بالأمر بذكر نعمة الله وآلاء الله . وذكره باللسان هو ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر والثناء إليه ، وكذلك تسبيحه تعالى ، فالقلب يسبح باعتقاد كماله وتذكر تنزيهه عما لا يليق به ، واللسان يسبحه بإضافة التسبيح إلى أسمائه من غير ذكر للفظ الاسم . روى أحمد وأبو داود ابن ماجة والحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه عن عقبة بن عامر قال : لما نزلت { فسبح اسم ربك العظيم } قال لنا رسول صلى الله صلى الله عليه وسلم " اجعلوها في ركوعكم " فلما نزلت { سبح اسم ربك الأعلى } قال : " اجعلوها في سجودكم " والمراد أن يقولوا { سبحان ربي العظيم } " لا سبحان اسم ربي العظيم " فقد روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي عن حذيفة قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه " سبحان ربي العظيم " وفي سجوده " سبحان ربي الأعلى " . ولهذا ورد في الكلام عن الذبائح ذكر اسم الله عليها { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } وتقدم آنفا ذكر عدة آيات في هذا – فعلم من هذا التحقيق أن الاسم غير المسمى وأن ذكر الاسم مشروع ، وذكر المسمى مشروع ، والفرق بينهما ظاهر كالصبح ، وكذلك التسبيح والتبارك ، فكما يعظم الله يعظم اسمه الكريم ، فيذكر مقرونا بالحمد والشكر والثناء والتقديس . وقد صرحوا بأن تعمد إهانة أسماء الله تعالى في اللفظ والكتابة كفر لأنه لا يمكن أن يأتي من مؤمن . ا ه ما زدته الآن .

وقال الأستاذ الإمام ما معناه : عندما تقول إنني أذكر اسم الله تعالى كالعزيز الحكيم لا تعني أنك تذكر لفظ " اسم " فلو كان قولهم إن المراد من الابتداء بالكلمة " بسم الله " التبرك باسم الله : هو الصواب لكان ينبغي أن يكون قولك " بالله الرحمان الرحيم " مثل { بسم الله الرحمان الرحيم } وقوله تعالى { باسم الله مجراها ومرساها } وقد قال بعضهم إن الإضافة ههنا للبيان أي أفتتح كلامي بسم الله ، ولكن يقتضي أن يكون لفظ { الرحمان الرحيم } واردا على اللفظ وهو غير صحيح . وإرادة أن الأسماء الثلاثة هي المبينة للفظ الاسم تمحل ظاهر ، فما المقصود إذا من هذا التعبير ؟

مثل هذا التعبير مألوف عند جميع الأمم ومنهم العرب وهو أن الواحد منهم إذا أراد أن يفعل أمرا ما لأجل أمير أو عظيم بحيث يكون متجردا من نسبته إليه ومنسلخا عنه ، يقول أعمله باسم فلان ويذكر ذلك الأمير أو السلطان لأن اسم الشيء دليل وعنوان عليه ، فإذا كنت أعمل عملا لا يكون له وجود ولا أثر ، لولا السلطان الذي به أمر ، أقول إن عملي هذا باسم السلطان ، أي إنه معنون باسمه ولولاه لما عملته . فمعنى ابتدئ عملي { بسم الله الرحمان الرحيم } أنني أعمله بأمره وله لا لي ولا أعمله باسمي مستقلا به على أنني فلان . فكأني أقول إن هذا العمل لله لا لحظ نفسي . وفيه وجه آخر وهو أن القدرة التي أنشأت بها العمل هي من الله تعالى فلولا ما منحني منها لم أعمل شيئا ، فلم يصدر عني هذا العمل إلا باسم الله ولم يكن باسمي إذ لولا ما آتاني من القوة عليه لم أستطع أن آتيه . وقد تم هذا المعنى بلفظ { الرحمان الرحيم } كما هو ظاهر .

وحاصل المعنى أنني أعمل عملي متبرئا من أن يكون باسمي بل هو باسمه تعالى لأنني أستمد القوة والعناية منه وأرجو إحسانه عليه ، فلولاه لم أقدره عليه ولم أعمله ، بل وما كنت عاملا له على تقدير القدرة عليه لولا أمره ورجاء فضله فلفظ الإسم معناه مراد ، ومعنى لفظ الجلالة مراد أيضا ، وكذلك كل من لفظ الرحمان الرحيم . وهذا الاستعمال معروف مألوف في كل اللغات . وأقربه إليكم اليوم ما ترونه في المحاكم النظامية حيث يبتدئون الأحكام قولا وكتابة باسم السلطان فلان أو الخديو فلان .

ومعنى البسملة في الفاتحة أن جميع ما يقرر في القرآن من الأحكام والآيات وغيرها هو لله ومنه ليس لأحد غير الله فيه شيء . ا ه .

أقول هذا صفوة ما قرره في متعلق { باسم الله } ومعناها . وهاهنا نظر آخر فيه ، وهو أن القرآن كان وحيا يلقيه الروح الأمين في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وكل سورة منه مبتدأة ببسملة ، فمتعلق البسملة من ملك الوحي تعلم من أول آية نزل بها وهي قوله تعالى { اقرأ باسم ربك } . فمعنى البسملة الذي كان يفهمه النبي صلى الله عليه وسلم من روح الوحي : إقرأ يا محمد هذه السورة باسم الله الرحمان الرحيم على عباده ، أي اقرأها على أنها منه تعالى لا منك فإنه برحمته بهم أنزلها عليك لتهديهم بها إلى ما فيه الخير لهم في الدنيا والآخرة ، وعلى هذا كان يقصد النبي صلى الله عليه وسلم من متعلق البسملة إنني أقرأ السورة عليكم أيها الناس باسم الله لا باسمي وعلى أنها منه لا مني فإنما أنا مبلغ عنه عز وجل { 28 : 91 وأمرت أن أكون أول المسلمين 92 وأن أتلو القرآن } الخ .

اختصر الأستاذ الإمام في الكلام على لفظ اسم ولفظ الجلالة لأن الكلام فيهما مشهور . وقد تكلمنا على اللفظ الأول وهاك جملة صالحة في اللفظ الآخر العظيم :

لفظ الجلالة ( الله ) علم على ذات واجب الوجوب قال : ابن مالك وضع معرفا وقيل أصله " إله " فحذفت همزته وأدخلت عليه الألف واللام ، وقيل أصله الإله ، والإله في اللغة يطلق على كل معبود ولذلك جمعوه على آلهة وما كل معبود سموه إلها يطلقون عليه اسم ( الله ) فإن هذا الاسم الكريم كان خاصا في لغتهم بخالق السموات والأرض وكل شيء . فالتعريف فيه خصصه بالواحد الفرد الكامل كما جعلوا لفظ " النجم " بالتعريف خاصا بالثريا ، فكان العربي في الجاهلية إذا سئل من خلقك أو من خلق السموات والأرض ؟ يقول " الله " وإذا سئل عن بعض آلهتهم : هل خلقت اللات أو العزى شيئا من هذه الموجودات ؟ يقول " لا " وقد احتج القرآن عليهم باعتقادهم هذا كما يأتي في محله . وإنما كانوا يتوسلون بها إلى الله ويعتقدون شفاعتها عنده .

قال بعض العلماء إن لفظ " إله " من أله بمعنى عبد فهو بمعنى معبود ككتاب بمعنى مكتوب ، يقال أله يأله إلاهة وألوهة وألوهية كما يقال عبد يعبد عبادة وعبودة وعبودية فهو صفة بمعنى اسم المفعول ، وقيل هو من أله بمعنى تحير وقيل من وله بمعنى تحير . وهو إذا استشكل من جهة اللفظ لأنه تعالى منزه عن الحيرة يصح أن يقال من جهة المعنى ، والمراد أنه سبب الحيرة . لأن الناظرين إذا ارتقوا في سلم أسباب التكوين ينتهون عند درجة الحيرة في معرفة الموجد الأول الذي هو موجود بنفسه لا بسبب ولا علة سابقة عليه ، و به وجد كل ما عداه ، لا يستطيعون الوصول إلى حقيقة هذا الموجود العظيم الذي لا يعقل وجود هذه الكائنات الممكنة إلا بوجوده ، حتى إن الملاحدة الماديين لما بحثوا في أصل الموجودات ، وارتقوا إلى معرفة البسائط التي تركبت منها الكائنات ، قالوا إنه لا بد أن يكون لها منشأ وحدة مجهول الذات ، ذو قوة وحياة .

والحاصل أن اسم الجلالة " الله " علم على ذات الباري سبحانه وتعالى تجري عليه الصفات ولا يوصف به . ولفظ " الإله " صفة . والجمهور على أن معناه الشرعي المعبود بحق ، ولذلك أنكر القرآن عليهم تسمية أصنامهم آلهة ، والتحقيق أنه أنكر عليهم تأليهها وعبادتها ، لا مجرد تسميتها ، وقد سماها هو آلهة في قوله { 11 : 102 وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب } ولا يظهر في هذه الآية قصد الحكاية .

ومما يترتب على قولنا أن لفظ الجلالة ( الله ) علم يوصف ولا يوصف به أن أسماء الله الحسنى صفات تجري على هذا الاسم العظيم ، ولكونها صفات وصفت بالحسنى . قال تعالى { 7 : 79 ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه } وتسند إليه تعالى أفعال هذه الصفات فيقال : رحم الله فلانا ، ويرحمه الله ، و اللهم ارحم فلانا ، وتضاف إليه مصادرها فيقال رحمة الله وربوبيته ومغفرته { إن رحمة الله قريب من المحسنين } وهذه الأسماء المشتقة كل منها يدل على ذات الله تعالى وعلى الصفة التي اشتق منها معا بالمطابقة ، وعلى الذات وحدها أو الصفة بالتضمن ، ولكل منها لوازم يدل عليها بالالتزام ، كدلالة الرحمان على الإحسان والإنعام ، ودلالة الحكيم على الإتقان والنظام ، ودلالة الرب على البعث والجزاء ، لأن الرب الكامل لا يترك مربوبيه سدى ، ومن عرف الأسماء الحسنى ، والصفات العليا ، عرف أن اسم الجلالة الأعظم ( الله ) يدل عليها كلها وعلى لوازمها الكمالية وعلى تنزهه عن أضدادها السلبية ، فدل هذا الاسم الأعلى على اتصاف مسماه بجميع صفات الكمال ، وتنزهه عن جميع النقائص ، فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، ا ه ما أحببت زيادته الآن .

قال الأستاذ الإمام ما معناه : والرحمان والرحيم مشتقان من الرحمة وهي معنى يلم بالقلب فيبعث صاحبه ويحمله على الإحسان إلى غيره ، وهو محال على الله تعالى بالمعنى المعروف عند البشر ، لأنه في البشر ألم في النفس شفاؤه الإحسان والله تعالى منزه عن الآلام والانفعالات ، فالمعنى المقصود بالنسبة إليه من الرحمة أثرها وهو الإحسان . وقد مشى الجلال في تفسيره وتبعه الصبان على أن الرحمان والرحيم بمعنى واحد ، وأن الثاني تأكيد للأول . ومن العجيب أن يصدر مثل هذا القول عن عالم مسلم وما هي إلا غفلة نسأل الله أن يسامح صاحبها .

( قال ) : وأنا لا أجيز لمسلم أن يقول في نفسه أو بلسانه أن في القرآن كلمة تغاير أخرى ثم تأتي تأكيد غيرها بدون أن يكون لها في نفسها معنى تستقل به . نعم قد يكون في معنى الكلمة ما يزيد معنى الأخرى تقريرا أو إيضاحا ولكن الذي لا أجيزه هو أن يكون معنى الكلمة هو عين معنى الأخرى بدون زيادة ، ثم يؤتى بها لمجرد التأكيد لا غير بحيث تكون من قبيل ما يسمى بالمترادف في عرف أهل اللغة . فإن ذلك لا يقع إلا في كلام من يرمى في لفظه إلى مجرد التنميق والتزويق . وفي العربية طرق للتأكيد ليس هذا منها وأما ما يسمونه بالحرف الزائد الذي يأتي للتأكيد فهو حرف وضع لذلك ومعناه هو التأكيد وليس معناه الكلمة التي يؤكدها .

فالباء في قوله تعالى { وكفى بالله شهيدا } تؤكد معنى اتصال الكفاية بجانب الله جل شأنه بذاتها ومعناها الذي وضعت له ، ومعنى وصفها بالزيادة أنها كذلك في الإعراب . وكذلك معنى " من " في قوله { وما هم بضارين به من أحد إلا إذن الله } ونحو ذلك . أما التكرار للتأكيد أو التقريع أو التهويل فأمر سائغ في أبلغ الكلام عندما يظهر ذلك القصد منه كتكرار جملة { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ونحوها عقب ذكر كل نعمة . وهي عند التأمل ليست مكررة ، فإن معناها عند ذكر كل نعمة : أفبهذه النعمة تكذبان . وهكذا كل ما جاء في القرآن على هذا النحو . والجمهور على أن معنى الرحمان المنعم بجلائل النعم ، ومعنى الرحيم المنعم بدقائقها ، وبعضهم يقول إن الرحمان هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافرين مع غيرهم ، والرحيم هو المنعم بالنعم الخاصة بالمؤمنين . وكل هذا تحكم في اللغة مبنى على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى . ولكن الزيادة تدل على زيادة الوصف مطلقا فصفة الرحمان تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه سواء كان جليلا أو دقيقا . وأما كون أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأكثر حروفا أعظم من أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفا ، فهو غير معنى ولا مراد . وقد قارب من قال أن معنى الرحمان المحسن بالإحسان العام ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول الرحيم بالمؤمنين . ولعل الذي جعل حمل من قال أن الثاني مؤكد للأول على قوله هذا هو عدم الاقتناع بما قالوه من التفرقة مع عدم التفطن لما هو أحسن منه .

قال الأستاذ الإمام : والذي أقول إن صيغة فعلان تدل على وصف فعلى فيه معنى المبالغة كفعال وهو في استعمال اللغة للصفات العارضة كعطشان وغرثان وغضبان ، وأما صيغة فعيل فإنها تدل في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا في الناس كعليم وحكيم وحليم وجميل . والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربي البليغ في الحكاية عن صفات الله عز وجل التي تعلو عن مماثلة صفات المخلوقين . فلفظ الرحمان يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهي إفاضة النعم والإحسان ؛ ولفظ الرحيم يدل على منشإ هذه الرحمة والإحسان وعلى أنها من الصفات لثابتة والواجبة . وبهذا المعنى لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر ولا يكون الثاني مؤكدا للأول ، فإذا سمع العربي وصف الله جل ثناؤه بالرحمان وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلا لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما . لأن الفعل قد ينقطع إذا لم يكن عن صفة لازمة ثابتة وإن كان كثيرا ، فعندما يسمع لفظ الرحيم يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بالله تعالى ويرضيه سبحانه ، ويعلم أن لله صفة ثابتة هي الرحمة التي عنها يكون أثرها ، وإن كانت تلك الصفة على غير مثال صفات المخلوقين ، ويكون ذكرها بعد الرحمان كذكر الدليل بعد المداول ليقوم برهانا عليه ا ه .

أقول قد سبق العلامة ابن القيم إلى مثل هذه التفرقة ولكنه عكس في دلالة الاسمين الكريمين . قال : وأما الجمع بين الرحمان والرحيم ففيه معنى بديع ، وهو أن الرحمان دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم ، وكأن الأول الوصف . والثاني الفعل ، فالأول دال على أن الرحمة صفته أي صفة ذات الله سبحانه والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته ، أي صفة فعل له سبحانه ، فإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى { وكان بالمؤمنين رحيما * إنه بهم رءوف رحيم } ولم يجئ قط رحمان بهم ، فعلمت أن رحمان هو الموصوف بالرحمة ، ورحيم هو الراحم برحمته ( قال رحمه الله تعالى ) هذه نكتة لا تكاد تجدها في كتاب ، وإن تنفست عندها مرآة قلبك لم تنجل لك صورتها .

وقال في كتاب آخر عند ذكر الاسمين الكريمين : وكرر أذانا ( أي إعلاما ) بثبوت الوصف وحصول أثره وتعلقه بمتعلقاته ، فالرحمان الذي الرحمة وصفه ، والرحيم الراحم لعباده ، ولهذا يقول تعالى { وكان بالمؤمنين رحيما * أنه بهم رءوف رحيم } ولم يجئ رحمان بعباده ولا رحمان بالمؤمنين ، مع ما في اسم الرحمان الذي هو على وزن ( فعلان ) من سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه للموصوف به . ألا ترى أنهم يقولون غضبان للممتلئ غضبا وندمان وحيران وسكران ولهفان لمن ملئ بذلك فبناء فعلان للسعة والشمول ا ه المراد منه .

أقول إن هذه الأمثلة تؤيد ما قاله الأستاذ الإمام من أن صيغة ( فعلان ) تدل على الصفة العارضة ولا تدل على الدائمة فاحتيج إلى صيغة أخرى تدل على الصفة الثابتة الدائمة وهي صيغة ( فعيل ) . فهذا أقوى ما قيل في نكتة الجمع بين الاسمين الكريمين بالصيغتين . ويليه دلالة أحدهما على الرحمة بالقوة والآخر دلالة عليها بالفعل . وهذا معنى آخر ألم به هذان الإمامان ، ولكن ابن القيم جعل لفظ الرحيم هو الدال على الرحمة بالفعل بدليل الآيتين اللتين أوردهما ، ولفظ الرحمان هو الدال عليها بالقوة لعدم تعلق مثل ذلك الظرف به ، وهو قوى . وعكس محمد عبده وجعل ذلك من مدلول الصيغة باللزوم .

( استدراكات وبيان لأغلاط معنوية )

أقول إن هذه الأمثلة تؤيد ما قاله الأستاذ الإمام الخ وهذا القول لا يصح على إطلاقه فإن كلام ابن القيم مخالف لكلام شيخنا من بعض الوجوه كما يعلم من بياننا لكل منهما وزد على ذلك أن اسم " الرحمان " جاء في التنزيل ثانيا لاسم الذات " الله " فهو لا يلاحظ فيه تعلق الرحمة بالمرحومين فعلا كما يدل عليه استعماله في مقامات ليست من موضوع الرحمة بل بعضها عام وبعضها في موضوع العذاب كقوله تعالى في حكاية إنذار إبراهيم لأبيه { يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان } وقوله { قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدا } وقوله { وخشي الرحمان بالغيب } وقوله { إن يردن الرحمان بضر } ومن الآيات التي موضوعها عام ما ورد في الرد على من قالوا " اتخذ الله ولدا " فحكى قولهم باسم الرحمان كما حكاه باسم الله .