جواهر التفسير للخليلي

الخليلي القرن الخامس عشر الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 1

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ١

اختلف في البسملة هل هي من خصوصيات هذه الأمة أو كانت للأمم قبلها ! فنقل أبو بكر التونسي إجماع علماء كل ملة على أن الله افتتح كل كتاب بها .

وهذه دعوى لم تعضدها حجة ؛ إذ صحة الإِجماع متوقفة على ثبوت نقله .

وذهب آخرون إلى أنها من خصوصيات هذه الأمة ، واحتج له الآلوسي بما لا طائل تحته .

والعجب من هؤلاء كيف يغفلون عن كتاب سليمان الذي صدر بها ، وقد حكاه الله في سورة النمل .

أما كونها من القرآن الكريم فهو مما أجمع عليه لعدم الاختلاف في كونها جزء آية من سورة النمل . وقد أخطأ من نسب إلى أبي حنيفة وغيره القول بأنها ليست من القرآن أصلاً . وممن وقع في هذه العثرة أبو السعود في تفسيره .

ومنشأ الخطأ التباس نفي كونها آية من الفاتحة ومن كل سورة صدرت بها بنفي قرآنيتها مطلقا ، على أن كتابتها في صدر السور إلا سورة براءة في المصحف الإِمام بإجماع الصحابة ( رضي الله تعالى عنهم ) وتناقل الأمة لذلك جيلاً بعد جيل حجة قاطعة لا تدع مجالاً للريب في أنها آية من كل السور التي صدرت بها . كيف والصحابة ( رضي الله عنهم ) كانوا أشد ما يكونون حرصا على تجريد القرآن الكريم في كتابته في المصاحف من كل ما ليس منه . ولذلك جردوا مصاحفهم من عناوين السور فليس من المعقول أن يزيدوا في مائة وثلاث عشرة سورة ما ليس منها .

وهذه المسألة قد كثر فيها الأخذ والردّ حتى أن جماعة من العلماء أفردوا لها مؤلفات خاصّة . وخلاصة ما فيها أنهم اختلفوا فيها مع إجماعهم أنها جزء آية من سورة النمل :

فذهب إلى أنها آية من كل سورة صُدرت بها من علماءِ السلف من أهل مكة ، فقهاؤهم وقراؤهم ومنهم ابن كثير وأهل الكوفة ، ومنهم القارئان المشهوران عاصم والكسائي ، وعُزى إلى علي وابن عباس وابن عمر وأبى هريرة من الصحابة ، وإلى سعيد بن جبير وعطاء والزَّهري وابن مبارك من التابعين ، وهو مذهبنا ومذهب الشافعي في الجديد وعليه أصحابه ، ونُسب إلى الثوري وأحمد في أحد قوليه ، وعليه الإِمامية .

وذهب جماعة إلى أنها آية مفردة أنزلت للفصل بين السور وليست من الفاتحة ولا من غيرها ما عدا سورة النمل ، وهو الذي عليه مالك وغيره من علماء المدينة والأوزاعي وجماعة من علماء الشام ويعقوب من قراء البصرة ، وعليه الحنفية .

وذهب فريق آخر إلى أنها ليست آية مطلقاً من هذه السور ولم تنزل للفصل بينها ؛ وإنما هي جزء آية من سورة النمل . ونسب هذا القول إلى ابن مسعود ، وهو رأى لبعض الحنفية .

وقال حمزة من قراء الكوفة : إنها آية من الفاتحة دون غيرها ، وهو رواية عن أحمد .

وتوجد أقوال أخرى هي إلى الشذوذ أقرب ، منها : أنها بعض آية من جميع السور ، ومنها أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور ، ومنها عكس ذلك .

وهذا الاختلاف استتبع الاختلاف في قراءتها في الصلاة ، وفى الجهر والإِسرار بها كما سنوضحه إن شاء الله .

وحجة القول الأول ما ذكرناه من إجماع الصحابة واستقراء العمل على كتابتها في صدر كل سورة إلا سورة التوبة ، والكتابة حجة معتبرة عند جميع شعوب العالم ، والمدينة في العصر الحديث ، بل الكتابة الرسمية أقوى ما يعتمد عليه عندهم كما جاء ذلك في المنار .

وقد كانت كتابتها في المصحف الإمام الذي وزعت نسخه في الأمصار بأمر الخليفة الثالث وعلى مسمع ومرأى من سادات المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، ولم ينكر ذلك أحد منهم وقد كانوا أحذر ما يكونون عن إضافة أي شيء إلى القرآن مما ليس منه ، وتوالت من بعدهم أجيال هذه الأمة ، وكلها مطبقة على كتابتها في صدر السور وعلى تلاوتها مع القرآن ؛ وإن كان منهم من يزعم أنها آية أنزلت بانفراد للفصل بين السور . ولا يؤثر هذا الزعم في الإِجماع العملي .

ولو أن الناس أنصفوا لكفتهم هذه الحجة عن غيرها ، ولما أخذوا بالروايات الآحادية الظنية في مقابل هذه الحجة المتواترة القطعية ؛ ولكنهم عولوا على الروايات فسلكوا طرائق قددا { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ المؤمنون : 53 ] .

وأصرح ما اعتمدوا عليه من الروايات حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الربيع وأحمد ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي ، فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى على عبدي ، فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي ، وقال مرة فوض إلى عبدي ، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " .

ووجه استدلالهم بالحديث لعدم ذكر البسملة ، قالوا لو كانت من الفاتحة لذكرت في الحديث ، وهو كما ترى استدلال سلبي في مقابلة الإيجابي القطعي المتواتر وهو إجماع الجميع على كتابتها وتلاوتها في الفاتحة وغيرها من سور القرآن . وأين هذه الحجة السلبية الخفية التي تحمل ضروبا من التأويل من تلك الحجة القطعية الظاهرة التي لا يمكن تأويلها بحال ؟

ويكفيك دلالة على ضعف هذه الحجة أن الحديث لم يذكر قسمة الفاتحة بل ذكر قسمة الصلاة ، والصلاة تشتمل على أذكار وأفعال متعددة وعلى قراءة من غير الفاتحة ، وكل هذه الأشياء لم تذكر في القسمة الواردة في الحديث ، وإنما ذكرت الفاتحة وحدها ، بل ذكر منها ما لا يشاركها فيه غيرها من السور ، والبسملة قد اشتركت فيها السور كلها ما عدا براءة .

وثم جواب آخر هو أن ما في البسملة من الثناء على الله بوصفه بالرحمة مكرر في الفاتحة ومذكور في القسمة فلا يقوى الاستدلال السلبي الذي اعتمدوا عليه على معارضة القطعي ، هذا لو سُلمت المعارضة بين الحديث وما تدل عليه كتابة الفاتحة في البسملة وغيرها ، وقد علمت أن ليست ثَم معارضة ، وفي هذا يقول السيد محمد رشيد رضا : " إذا كان من علل الحديث المانعة من وصفه بالصحة مخالفة راويه لغيره من الثقات ، فمخالفة القطعي من القرآن للتواتر أولى بسلب وصف الصحة عنه ، على أن هذا الحديث هو المعارض بالأحاديث المثبتة لكون البسملة من الفاتحة " . وللإِمام الفخر في تفسيره الكبير " مفاتيح الغيب " اعتراض على استدلالهم بهذا الحديث بما جاء من ذكر البسملة في بعض طرقه ، فقد أخرج الثعلبي بإسناده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال العبد . بسم الله الرحمن الرحيم ، قال الله سبحانه مجدني عبدي ، وإذا قال الحمد لله رب العالمين ، قال الله تبارك وتعالى حمدني عبدي ، وإذا قال الرحمن الرحيم ، قال الله عز وجل : أثنى علي عبدي ، وإذا قال مالك يوم الدين ، قال الله : فوض إلي عبدي ، . . . إلخ " وتابعه الإمام العلامة أبو مسلم في نثاره غير أنا لعدم اطلاعنا على إسناد هذا الحديث عند الثعلبي ، وعدم معرفتنا بصحته لا نستطيع الاعتماد عليه ، ونكتفي بما أسلفنا ذكره في الإجابة على استدلالهم .

ومما اعتمدوا عليه حديث أبي هريرة عند أحمد وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له ، وهي تبارك الذي بيده الملك " ووجه الاستدلال أن سورة الملك هي ثلالون آية دون البسملة ، وأجيب بأن البسملة لم تُعد من السورة للإشتراك فيها بينها وبين غيرها ، والمراد بالثلاثين آية الآيات الخاصة بالسورة ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة أيضا أن سورة الكوثر ثلاث آيات مع أن أحمد ومسلما والنسائي أخرجوا من حديث أنس ( رضي الله عنه ) قال : " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله فقال : " نزلت عليّ آنفا سورة " فقرأ : { بسم الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ } [ سورة الكوثر ] " وهذا الحديث دلالته على أن البسملة من سورة الكوثر واضحه مع أنها لم تعد من آياتها لما ذكر ، فكونها آية من سورة الفاتحة أولى وهو أصح من حديث أبي هريرة في سورة الملك لأن البخاري أعله بأن عباس الجشمي راويه لا يعرف سماعه عن أبي هريرة ، وتعلقوا بأحاديث عدم الجهر بالبسملة المروية عن أنس بن مالك قال : " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم " رواه أحمد ومسلم ، وفي لفظ " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " رواه أحمد والنسائى على شرط الصحيح ، وأخرجه ابن حبان والدارقطنى والطحاوى والطبرانى وفى لفظ لابن خزيمة " كانوا يسرون " ولأحمد ومسلم رواية أخرى بلفظ " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها " ولعبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن شعبة عن قتادة عن أنس " صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبى بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم " قال شعبة فقلت لقتادة أنت سمعته من أنس ؟ قال نعم نحن سألناه عنه ، وللنسائى عن منصور بن زادان عن أنس قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى بنا أبو بكر وعمر فلم نسمعها منهما " وأنت ترى هذه الروايات عن أنس لا تخلو من اضطراب فتجدها تارة نافية لقراءة البسملة وتارة نافية للجهر بها وأخرى نافية لسماعها ، ومثل هذا الاختلاف لا تنهض به حجة كما صرح بذلك ابن عبد البر في ( الاستذكار ) وهو من أجل أئمة المالكية ، والمالكيون لا يرون قراءة البسملة في الصلاة فضلا عن الجهر بها ، وهذه المسألة أى مسألة الإِسرار والجهر بالبسملة أو تركها رأسا مما وقع فيه الخلاف واضطربت فيه الروايات عن الصحابة والتابعين فنجد الصحابي يروى عنه الجهر والإِسرار بها ولم نجد أحدا من الصحابة روي عنه الإِسرار وحده إلا ابن مسعود رضي الله عنه ، وممن روي الجهر بها عنهم في حال الجهر بالقراءة أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وابن عمر وابن الزبير وابن عباس وعمار بن ياسر ، وأبى بن كعب وأبو قتادة والسعيد وأنس وعبد الله بن أبي أوفى وشداد بن أوس وعبد الله بن جعفر والحسين بن علي ومعاوية ، وذكر الشوكانى في ( نيل الأوطار ) عن الخطيب أن من قال بالجهر بها من التابعين أكثر من أن يذكروا وأوسع من أن يحصروا منهم سعيد بن المسيب وطاوس وعطاء ومجاهد وأبو وائل وسعيد بن جبير وابن سيرين وعكرمة وعلى بن الحسين وابنه محمد بن على وسالم بن عبد الله بن عمر ومحمد بن المنكدر وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ومحمد بن كعب ونافع مولى ابن عمر وأبو الشعثاء وعمر بن عبد العزيز ومكحول وحبيب بن أبي ثابت والزهرى وأبو قلابة وعلى بن عبد الله بن عباس وابنه والأزرق بن قيس وعبد الله بن معقل بن مقرن ، وممن بعد التابعين عبيد الله العمرى والحسن بن زيد وزيد بن على ابن الحسين ومحمد بن عمر بن علي وابن أبي ذئب والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه ، وزاد البيهقي في التابعين عبد الله بن صفوان ومحمد بن الحنفية وسليمان التيمى ، ومن تابعيهم المعتمد ابن سليمان ، وذكر البيهقى في الخلافيات أنه اجتمع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ويؤيده ما جاء في كتب العترة وهو الذى عليه الشافعى وأصحابه واتفق عليه أصحابنا ، وذكر الخطيب عن عكرمة أنه كان لا يصلى خلف من لا يجهر بالبسملة ، ويرى جماعة من العلماء الإِسرار بها وهو المعمول به عند الحنفية والحنابلة ، وقد روى عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين ، ومالك لا يرى قراءتها سراً ولا جهراً ونُقل عنه قراءتها في النوافل في فاتحة الكتاب وسائر القران ، ومنهم من يرى جواز الجهر والإِسرار بها حكاه القاضى أبو الطيب الطبرى عن ابن أبى ليلى ، وإذا تدبرت مجموع الروايات استطعت أن تستخلص منها صحة القول بالجهر ، فقد أخرج الإِمام الشافعى بإسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه : قال صلى معاوية بالناس في المدينة صلاة جهر فيها بالقراءة ، فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، ولم يكبر في الخفض والرفع فلما فرغ ناداه المهاجرون والأنصار يا معاوية نقصت الصلاة - وفي رواية سرفت الصلاة - أين بسم الله الرحمن الرحيم ؟ وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت ؟ فكان إذا صلى بهم بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكبر .

والحديث صحيح الإِسناد كما أوضح العلامة المحدث أحمد محمد شاكر في شرحه وتحقيقه لسنن الترمذى ، وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم . فأت ترى كيف اجتمعت كلمة المهاجرين والأنصار على إنكار عدم الجهر بالبسملة على معاوية بن أبى سفيان مع شدة بطشه وقوة شكيمته وليس ذلك إلا لتركه واجبا لا يصح التساهل فيه ، والحديث ظاهر في أن العمل عند الصحابة رضي الله عنهم قد استقر على الجهر بالبسملة وإلا فكيف يعرفون أن لم يقرأها رأسا ولو كانت مما يخفت في الصلاة وفي هذا الحديث ما يرد على دعوى ابن العربى والقرطبى في انتصارهما لمذهبهما المالكي في عدم قراءة البسملة في الصلاة بأن ذلك قد استقر عليه العمل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جيلا بعد جيل من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن مالك ولعمرى إن هذه الدعوى لبعيدة المنال ، فإن حادثة المهاجرين والأنصار مع معاوية كانت بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يبعد أن تكون في مسجده الشريف ، فمن أين لابن العربي والقرطبى استقرار العمل في المسجد النبوى على عدم قراءتها .

هذا وقد حاول جماعة الجمع بين روايات أنس المختلفة بأن المقصود من قوله " كانوا لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم " عدم جهرهم بها كما صرح بذلك في رواية " كانوا لا يجهرون " ، وأن المقصود بقوله " كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين " الاستفتاح بهذه السورة بما فيها البسملة على أن أنسا رضي الله عنه قد رُوى عنه عدم حفظه لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الدار قطنى وصححه عن أبى سلمه قال : - سألت أنس بن مالك أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو " ببسم الله الرحمن الرحيم " ؟ فقال : إنك سألتنى عن شيء ما أحفظه ، وما سألني عنه أحد قبلك ، فقلت أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في النعلين ؟ قال نعم ، وذكر الشوكاني في " نيل الأوطار " أن عروض النسيان في مثل هذا غير مستنكر ، فقد حكى الحازمي عن نفسه أنه حضر جامعا وحضره جماعة من أهل التمييز المواظبين في ذلك الجامع ، فسألهم عن حال إمامهم في الجهر والإخفات - قال : وكان صيتا يملأ صوته الجامع - فاختلفوا في ذلك ، فقال بعضهم يجهر وقال بعضهم يخفت ، وعقب على ذلك السيد محمد رشيد رضا في " المنار " بأن اختلاف هؤلاء المصلين لم يكن في صلاة واحدة بل في جميع الصلوات ورد ذلك إلى الغفلة والناس عرضة لها لا سيما الغفلة عن أول الصلاة وعلل ذلك باشتغال الناس عن مراقبة قراءة الإمام بالدخول في الصلاة وقراءة دعاء الافتتاح وحمل عليه روايات أنس في عدم الجهر بالبسملة أو عدم سماعها ، إذ يرى السيد رشيد رضا مرد ذلك إلى بعد أنس عن الصفوف القريبة من الإِمام واشتغاله بدعاء الافتتاح والإِحرام فلذلك لم يسمع البسملة من الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الثلاثة مع أنه من العادة أن يكون صوت القارىء خافتا في أول القراءة ، ورأى كل من الحافظ ابن حجر والشوكانى أن الرواية إثبات الجهر إذا وجدت قدمت على نفيه ، لا بمجرد تقديم رواية المثبت على النافى كما هي القاعدة ، لأن أنساً يبعد جداً أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مدة عشر سنين ويصحب أبا بكر وعمر وعثمان فلا يسمع منهم الجهر في صلاة واحدة بل لكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا الحكم كأنه لبعد عهده به لم يذكر منه إلا الجزم بالافتتاح بالحمد لله جهرا فلم يستحضر الجهر بالبسملة فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر وهما يشيران بهذا إلى سؤال أبي سلمة بن مالك عما كان رسول الله يستفتح به قراءته وقد سلف ذكره ، وأنس بن مالك هو نفسه الذى روى قصة المهاجرين والأنصار مع معاوية وإنكارهم عليه عدم قراءته البسملة الذى استدلوا عليه بعدم جهره بها

وروى البخاري عن أنس أنه سئل كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد ببسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم ، وهو واضح في جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبسملة .

ومما تعلق به القائلون بعدم كونها آية من الفاتحة حديث عبد الله ابن مغفل عند الخمسة إلا أبا داود قال سمعني أبى وأن أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال يا بني إياك والحدث - قال ولم أر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا كان أبغض إليه الحدث في الإسلام منه - فإِني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحداً منهم يقولها فلا تقلها إذا أنت قرأت فقل الحمد لله رب العالمين . . والحديث معلول بعبدالله بن مغفل فإنه مجهول لا يعرف ولم يروِ عنه إلا أبو نعامة وإن صح فهو محمول على ما حملت عليه أحاديث أنس .

الدليل على كون البسملة من الفاتحة : -

أما أدلة إثبات كون البسملة من الفاتحة ، وإثبات الجهر بها فكثيرة قد تقدم ذكر بعضها من رواية أنس رضى الله عنه نفسه ، وذكر الفخر الرازى في تفسيره لذلك سبع عشرة حجة منها القوي ومنها الضعيف ، وتابعه على الاستدلال بها العلامة أبو مسلم في نثاره وحاول العلامة الألوسي نقض هذه الحجج حجة حجة انتصارا لمذهبه الجديد الذى انتقل إليه ، وابدى السيد محمد رشيد رضا في تفسيره المنار استغرابه الشديد من صنيع الألوسي الذى حاول بكل وسيلة هدم الحجج الشامخة البنيان ، المتينة الأركان من غير داع لذلك إلا التعصب المذهبي ، على أن الألوسي نفسه كان من قبل شافعي المذهب ولكنه اتبع مذهب الأحناف تقربا إلى الدولة العثمانية حسبما يقول السيد رشيد رضا ، وسوف أورد ( إن شاء الله ) بعض هذه الحجج التي أراها صالحة للاحتجاج بها ، وأذكر صورة من محاولة الألوسي لنقضها كما اضم إليها بعض الحجج الأخرى .

منها حديث أبي هريرة الذى أخرجه الطبرانى وابن مردويه والبيهقي بلفظ " الحمد لله رب العالمين سبع آيات بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن وهى السبع المثانى والقرآن العظيم وهى أم القرآن ، وهى فاتحة الكتاب " وأخرجه الدارقطنى بلفظ " إذا قرأتم الحمد لله فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم أنها أم القرآن وام الكتاب والسبع المثانى وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها " والحديث واضح في أن البسملة من الفاتحة ، ولكن الألوسي حاول قلب هذه الدلالة الواضحة فقال ما معناه إن المراد من الرواية الأولى أن الحمد لله رب العالمين إلى آخرها سبع آيات كما يقول الحنفية ، وقوله صلى الله عليه وسلم " بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن " أراد به إزالة توهم كونها ليست من القرآن لعدم تعرضه لها ، وقد جاءت عبارته بأسلوب التشبيه البليغ ومراده أنها كإحدى آياتها في كونها من القرآن ، وكذلك قوله في الرواية الأخرى " وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها " وأنت ترى أن في هذا الكلام صرفا للعبارة عن ظاهرها وخروجا بالحديث عن دلالته الواضحه فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد التأكيد على أن البسملة من الفاتحة ، وقوله { الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } علم على هذه السورة ، فما الذى يدعو إلى زعم أن البسملة ليست بآية منها مع هذا التصريح في كلامه عليه أفضل الصلاة والسلام بأنها إحدى آياتها ، وما الداعي لتقدير أداة التشبيه ، ولو كان المراد التشبيه لذكرت أداته لدفع اللبس فإن حذفها لا يكون إلا مع الأمن منه ، وفي هذا ما يكفي المستفيد دلالة على طريقة الألوسي في الرد على خصمه الرازى في هذه المسألة .

ومنها ما رواه الشافعي عن ابن جريح عن أبي مليكه عن أم سلمة أنها قالت : " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد { بسم الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } آية ، { الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } آية ، { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } آية ، { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } آية ، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } آية ، { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } آية ، { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ } آية " وهذا نص صريح ، وجاء هذا الحديث عند أحمد وأبي داود بلفظ : " سُئلت أم سلمة عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت كان يقطع قراءته آية آية ، بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، " وفي لفظ ابن الأنباري والبيهقي : " كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية ، يقول بسم الله الرحمن الرحيم ثم يقف ، ثم يقول الحمد لله رب العالمين ثم يقف ، ثم يقول مالك يوم الدين " وفي رواية الدار قطني عن ابن أبي مليكه عن أم سلمة رضى الله عنها أيضا " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، إياك نعبد وإياك نستعين ، إهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، فقطعها آية آية ، وعدها عد الأعراب ، وعد { بسم الله الرحمن الرحيم } آية ، ولم يعد { عليهم } "

قال اليعمرى : رواته موثقون ، وأخرجه أيضا ابن خزيمة والحاكم ، وفي إسناده عمر بن هارون البلخى : ضعفه الحافظ لكنه وثق عند غيره ، وغاية ما تشبث به الألوسي في الاعتراض على هذا الدليل أمران أحدهما عدم ثبوت سماع أبي مليكه عن أم سلمه رضي الله عنها ، ثانيهما أن غاية ما في الروايات قراءة النبي صلى الله عليه وسلم البسملة مع الفاتحة وهو دليل قرآنيتها لا دليل كونها من الفاتحة والجواب عن الاعتراض الأول بأن الذين أعلوا الحديث بالانقطاع كالطحاوى استدلوا برواية الليث عن ابن أبى مليكه عن يعلى بن مالك عن أم سلمه ، ورد عليهم الحافظ بأن هذا الذى أُعل به ليس بعله فقد رواه الترمذى من طريق ابن أبى مليكه عن أم سلمة بلا واسطة وصححه ورجحه على الإِسناد الذى فيه يعلى بن مُملّك ، ويريد الحافظ بذلك رواية الترمذى للحديث وتصحيحه له في باب فضائل القرآن مع العلم أن الترمذى ذكر في باب القراءة أن إسناده ليس بمتصل ، ولعل التصحيح لأجل الاتصال وعدم التصحيح في الرواية غير المتصلة كما يقول الشوكاني في " نيل الأوطار " .

والجواب عن الاعتراض الثاني أن دعوى كون البسملة آية من القرآن بانفراد ليست من الفاتحة محتاجة إلى دليل ، إذ لو كانت كذلك لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومداومته قراءتها مع الفاتحة باستمرار من غير أن يبين للناس استقلالها عنها دليل على أنها جزء منها ، وهذه الروايات عن أم سلمة تدل على جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالبسملة وإلا فمن أين لها أن تصف قراءته لها لو أنه كان يخفيها ؟ .

ومنها حديث أبي هريرة عند النسائي قال نعيم المجمر صليت وراء أبي هريرة فقرأ { بسم الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } ثم قرأ بأم القرآن - وفيه - ويقول إذا سلم : والذى نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال على شرط البخاري ومسلم ، وقال البيهقي صحيح الإِسناد وله شواهد وقال أبو بكر الخطيب فيه ثابت صحيح لا يتوجه إليه تعليل .

ومنها حديث أبي هريرة أيضا عند الدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم . قال الدارقطني رجال إسناده كلهم ثقات ، وقال الشوكاني إن في إسناده عبد الله بن عبد الله الأصبحي ، روي عن ابن معين توثيقه وتضعيفه .

ومنها حديث علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في صلاته .

أخرجه الدارقطني وقال هذا إسناد علوى لا بأس به ، وهو وإن أعله الحافظ بأنه بين ضعيف ومجهول يعتضد بالروايات الأخرى التي في معناه ، على أن الدارقطني أخرج عنه بإسناد رجاله كلهم ثقات أنه سئل عن السبع المثاني فقال : الحمد لله رب العالمين قيل إنما هي ست فقال بسم الله الرحمن الرحيم . . وأخرج الدارقطني عنه وعن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم ، وهو مع ضعف إسناده يعتضد متنه ببقية المتون .

ومنها حديث سمره قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم سكتتان . سكتة إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، وسكتة إذا فرغ من القراءة . . فأنكر ذلك عمران بن الحصين فكتبوا إلى أبي بن كعب فكتب أن صدق سمره . أخرجه الدارقطني بإسناد جيّد ولا ينافيه ما أخرجه الترمذي وأبو داود وغيرهما عنه بلفظ سكتة حين يفتتح ، وسكتة إذا فرغ من السورة لأن المبين مقدم على المجمل .

ومنها حديث أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم . أخرجه الحاكم وقال رواته كلهم ثقات . وأخرجه الدارقطني عنه بلفظ : كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم ، وله طريق أخرى عن أنس عند الدارقطني والحاكم بمعناه . ونحوه عن عائشة رضى الله تعالى عنها من طرق يشد بعضها بعضا .

ومن العجيب أن يزعم القرطبي أن هذه الروايات ليست فيها حجة لأنها آحادية والقرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه ، وقد فات القرطبي أن هذه الروايات إنما هي حجة تثبت كيفية قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لها ، وتؤكد من ناحية أخرى حجية قرآنيتها ، وكونها جزءاً من سورة الفاتحة ، أما أصل ثبوت قرآنيتها وكونها من الفاتحة فمن النقل للتواتر لها في المصاحف التي نقلتها هذه الأمة جيلا بعد جيل مجمعة على صحتها ولو كان ثبوت قرآنية البسملة متوقفا على تواتر أحاديث تُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم تنص على أنها من الفاتحة أو من القرآن لتوقف ثبوت قرآنية أية آية من أية سورة على مثل ذلك وأنّي لأحد بذلك ؟ وإنما ثبتت قرآنية البسملة بنفس ما ثبتت به قرآنية بقية الآيات وهو إثباتها في المصحف الإِمام بإجماع الصحابة رضى الله عنهم ، وتواتر النقل جيلا بعد جيل لكل ما اشتمل عليه ذلك المصحف من سور وآيات بما في ذلك البسملة ، وأعجب من كلام القرطبي قول ابن العربي : " ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها والقرآن لا يُختلف فيه ، وهو مقال في منتهى الخطورة لمصادمته الإجماع القطعي ، فإن البسملة مجمع على أنها جزء آية من سورة النمل ، ولا يصح سلب شيء من سور القرآن صفة القرآنية بحال ، ولو جاز ذلك لجاز أن تسلب آية الكرسي أو غيرها صفة القرآنية في بعض المواضع .

ولعل من أحسن ما قيل في هذا الموضوع ما قاله السيد محمد رشيد رضا في تفسيره " المنار " : إن اختلاف الروايات الآحادية في الإسرار بالبسملة والجهر بها قوى ، وأما الاختلاف في كونها من الفاتحة أو ليست منها فضعيف جداً جداً ، وإن قال به بعض كبار العلماء ذهولا عن رسم المصحف الإِمام القطعي المتواتر ، والقراءات المتواترة التي لا يصح أن تعارض بروايات آحادية أو بنظريات جدلية ، وأصحاب الجدل يجمعون بين الخث والسمين ، وبين الضدين والنقيضين ، وصاحب الحق منهم يشتبه بغيره وربما يظهر عليه المبطل بخلابته إذا كان الحن بحجته " وهو كلام نفيس جداً ، وقد قال قبله : " ولا يغرن أحدا قول العلماء إن منكر كون البسملة من الفاتحة أو من كل سورة لا يكفر ومثبتها لا يُكفر ، فيظن أن سبب هذا عدم ثبوتها بالدليل القطعي ، كلا إنها ثابتة ولكن منكرها لا يكفر لتأويله الدليل القطعي بشبهة المعارضة التي تقدمت وبيّنا ضعفها وسنزيده بيانا والشبهة تدر أحد الرده " وأنكر على الألوسي دعواه أن ثبوت البسملة بخط المصحف المتواتر دليل على كونها من القرآن دون كونها من الفاتحة وقال : هو من تمحل الجدل فلا معنى لكونها آية مستقلة في القرآن ألحقت بسوره كلها إلا واحدة وليست في شيء منها ولا في فاتحتها التي اقتدوا بها في بدء كتبهم كلها ، إنه لقول واهٍ تبطله عباداتهم وسيرتهم ، وينبذه ذوقهم لولا فتنة الروايات والتقليد . فتعارض الروايات اغتربه أفراد مستقلون ، وبالتقليد فتن كثيرون " ولله في خلقه شئون " وابدى السيد رشيد رضا استغرابه من اضطراب الألوسي في هذه المسألة ، فقد حكم وجدانه ، واستفتى قلبه في بعض فروعها فأفتاه بوجوب قراءة الفاتحة والبسملة في الصلاة وخالفه في كونها آية منها ، وقال لا ينبغي لمن وقف على الأحاديث أن يتوقف في قرآنيتها أو ينكر وجوب قراءتها ويقول بسنيتها ، فوالله لو ملئت لي الأرض ذهبا لا أذهب إلى هذا القول ، وإن أمكنني بفضل الله توجيهه ، كيف وكتب الحديث ملأى بما يدل على خلافه وهو الذي صح عندي عن الإِمام - يعني إمامه أبا حنيفة - وأبدى الألوسي استشكالا في حاشيته على تفسيره ووصفه بأنه إشكال كالجبل العظيم ، وأجاب عنه بما لا يروي من ظمأ ولا يشبع من مسغبه ، ووجه الإِشكال أن القرآن لا يثبت بالظن ولا يُنفي به ، فكيف يمكن الجمع بين إثبات المثبتين ونفي النافعين للبسملة ، وحكى إجابة ارتضاها عن هذا الإشكال ملخصها أن حكم البسملة كحكم الحروف المختلف فيها بين القرّاء السبعة ، فهي قطعية الإِثبات والنفي معاً ، ولهذا اختلف القرّاء فأثبتها بعض وأسقطها آخرون وإن اجتمعت المصاحف على الإِثبات ومثل لذلك بالصراط ومصيطر فقد قُرِءا بالسين ولم يُكتبا إلا بالصاد ، وبقوله تعالى : { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } [ سورة التكوير : 24 ] فإنه كتب بالضاد وقٌرىء بها وبالظاء ، وأطال السيد محمد رشيد رضا في الرّد عليه وتفنيد كلامه ومما قاله " إن الإِشكال الذي نظر إليه المفسر بعيني التقليد العمياوين فرآه كالجبل العظيم هو في نفسه صغير حقير ، ضئيل قميء ، خفي كالذرة من الهباء ، أو كالجزء لا يتجزأ من حيث كونه لا يُرى ولا يثبت إلا بطريقة الفرض أو كالعدم المحض ، ثم أخذ يجيب عن الإِشكال الذي فرضه الألوسي وملخص جوابه أنه لم ينفِ أحد من القرّاء كون البسملة من الفاتحة نفيا صريحا تعضده رواية متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما كل ما يتعلق به النافون شبهة عدم رواية بعض القرّاء لها وشبهة تعارض الروايات الآحادية السالفة الذكر ، وثبوتها قطعي بالروايات المتواترة تواتر سائر آيات الفاتحة ، وعدم نقل الإِثبات للشيء ليس نفيا له رواية ولا دراية ، وقد فرق العلماء بين عدم إثبات الشيء وبين إثبات عدمه كما هو معلوم بالضرورة ، ولو فُرض أنه رُوى التصريح بالنفي لكان الواجب الجزم ببطلان هذه الرّواية ، ومنشؤه التباس نفي الإِثبات بإثبات النفي لاستحالة كون المتناقضين قطعيين معاً ، ورواية الإِثبات لا يمكن فيها الطعن ، كيف وقد عززت بخط المصحف الذي هو بتواتره خطا وتلقينا أقوى من الروايات القولية ، وأعصى على التأويل والاحتمال ، ثم ردّ السيد محمد رشيد رضا على القائلين بأنها آية مستقلة بين كل سورتين للفصل بينهما ما عدا الفصل بين سورتي الأنفال وبراءة ، وملخص رده أنه مجرد رأي أريد به الجمع بين الروايات الآحادية الظنية المتعارضة ، والجمع بغيره مما لا إشكال فيه ممكن ، فلو كان المراد بها الفصل بين السور لم توضع في أول الفاتحة وهي أول القرآن ترتيبا ، ولم تحذف من أول براءة لوجود العلة المقتضية للإِثبات ، ثم تعقب الجواب الذي نقله الألوسي وقال : لا يستغرب صدوره ولا إقراره ممن يثبت الجمع بين النقيضين المنطقيين ، ويفتخر بأنه يمكنه توجيه ما يعتقد بطلانه على أنه جواب عن إشكال غير وارد ، وبعبارة أخرى ليس جوابا عن إشكال إذ لا إشكال ، ثم قال عن الخلاف بين القرّاء في مثل السراط والصراط ومسيطر ومصيطر وضنين وظنين إنه ليس خلافا بين النفي والإثبات كمسألة البسملة بل هي قراءات ثابتة بالتواتر فأما ضنين وظنين فهما قراءتان متواترتان - كمالك وملك في الفاتحة - كتبت قراءة الضاد في مصحف أُبَى وهو الذي وُزع في الأمصار وقرأ بها الجمهور ، وقراءة الظاء في مصحف عبد الله بن مسعود وقرأ بها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ، ولكل منهما معنى ، وليستا من قبيل تسهيل القراءة لقرب المخرج ثم قال عن السراط والصراط ومسيطر ومصيطر لا فرق بينهما إلا تفخيم السين وترقيقه وبكل منهما نطق بعض العرب ، وثبت به النص فهو من قبيل ما صح من تحقيق الهمزة وتسهيلها ، ومن الإِمالة وعدمها فلا تنافي بين هذه القراءات فيعد إثبات إحداهما نفيا لمقابلتها كما هو بديهي على أن خط المصحف أقوى الحجج ، فلو فرضنا تعارض هذه القراءات لكان هو المرجح ولكن لا تعارض ولله الحمد .

هذا ما قاله السيد رشيد رضا في هذه المسألة وهو ناتج عن عمق فهمه وتوقد ذكائه ولعل الذين يقولون أن البسملة أنزلت للفصل بين السور يستدلون بما أخرجه أبو داود والحاكم وصححه على شرط الشيخين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة - وفي رواية انتهاء السورة - حتى ينزل عليه { بسم الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } .

ولكن ليس في الحديث ما يدل على أنها تنزل استقلالا للفصل وإنما غاية ما فيه أن كل سورة تنزل كانت تصدر بالبسملة فيستدل بذلك النبي صلى الله عليه وسلم على انتهاء السورة التي قبلها واستقباله سورة جديدة تنزل بعدها ، ولو كانت لمجرد الفصل لما أثبتت في أول الفاتحة - كما ذكرناه عن صاحب المنارْ - لعدم تقدمها بسورة قبلها .

هذا ويرى جماعة من العلماء الجمع بين روايات الجهر والإِخفاء بما رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وكان المشركون يهزأون بمكاء وتصدية ويقولون محمد يذكر إله اليمامة - وكان مسيلمة الكذاب يسمى " رحمن " - فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } فتسمع المشركين فيهزءوا بك { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } عن أصحابك فلا تسمعهم . . وقد قال في مجمع الزوائد إن رجاله موثقون ، وقال الحكيم الترمذي : فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذكر الرسم وإن زالت العلة ، واعتمده القرطبي والنيسابوري في الجمع بين الروايات ، ويرى السيد محمد رشيد رضا أن ترك الجهر كان في أول الإسلام بمكة وأوائل الهجرة ، والجهر فيما بعده ، وفي نفسي من هذه الرواية ما يجعلني غير واثق من صحتها وذلك لأمرين :

أولهما أن مسيلمة الكذاب لم يشتهر قبل الهجرة ولا في أوائلها ، وإنما اشتهر بالتنبؤ بعد ذلك ، وعندئذ لقب برحمن اليمامة فيبعد أن يستخف المشركون بمكة المكرمة بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم عندما يسمعونه يذكر الرحمن ، معلقين عليه بأنه يقصد مسيلمة .

ثانيهما : لو كان صنيع المشركين هذا داعيا إلى إخفاء البسملة لئلا يسمعوا اسم " الرحمن " فيهزأوا به لكان ذلك يستدعى إخفاء هذا الاسم في كل آية من الكتاب بما في ذلك قول الحق تعالى في الفاتحة { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } ولم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتجنب إعلان اسم الرحمن خشية استخفاف المشركين على أن هذا الاسم الكريم كثيرا ما كان يرد في القرآن المكي كقوله تعالى في سورة الإسراء : { قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ } وقوله في " طه " { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وقوله في الفرقان { الرَّحْمَنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرا ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ } [ الفرقان : 59 - 60 ] وقوله في سورة الرحمن { الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ } [ الرحمن : 1- 2 ] .

وإذا اتضح لك أن الراجح كون البسملة آية من الفاتحة ومن سائر السور إلا براءة ، ووجوب تلاوتها في الصلاة مع الجهر بها في القراءة الجهرية فاعلم أنه لم يقل أحد من أصحابنا ولا من غيرهم بتكفير أو تفسيق المخالف في هذه المسألة ، والذين يقولون بخلاف قولنا يتفقون معنا على عدم تكفير أو تفسيق من يخالفهم اللّهم إلا ما يذكر عن أبي بكر الرازي من أن أقل ما في المسألة تفسيق المخالف وقد رد عليه العلامة أبو مسلم رحمه الله في ( نثاره ) بما يكفي حجة للمستبصر .

من فوائد افتتاح الأعمال باسم الله

والافتتاح ببسم الله الرحمن الرحيم فيه تعليم للناس بأن يفتتحوا أعمالهم ببسم الله ، وهذا يعني أن تكون أفعالهم في حدود شرع الله لا تتجاوزه فتبقى دائرة في حدود الواجب والمندوب والمباح ، كما أن في ذلك تعليما للناس بأن أعمالهم كلها لازنة لها في كفة الدين ما لم يقصد بها وجه الله سبحانه ، والعبد عندما يفتتح أي عمل باسم الله يشعر أن عمله محكوم بشرع الله فليس له أن يتصرف كما يملى عليه هواه ، وقد شهر عند الناس الافتتاح بأسماء الأشخاص والمؤسسات لقصد التنويه بها والإِشادة بذكرها والإِشعار بأن العَمل المفتتح ذو صلة بالمؤسسات أو الأشخاص المذكورة أسماؤهم ، والمسلم عندما يفتتح باسم الله يعلن شرعيه عمله وهذا يتضح في مشروعية ذكر اسم الله عند الذبح ، لأن ذبح الحيوان إيلام له وهو قبيح في العقل ، لولا أن الله سبحانه خالق الحيوان ومالكه أباح في شرعه ذبح بعض الحيوانات والانتفاع بلحومها ، فالذابح عندما يذكر اسم الله يعلن أن ذبحه تعديا من قبل نفسه وإنما هو بمقتضى الإِباحة الشرعية ممن خلقه وخلق ذلك الحيوان .

مباحث العلماء في البسملة

وفي قول الحق سبحانه { بسم الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } مباحث كثيرة عني بها المفسرون في تفاسيرهم بحسب اختلافهم في العلوم التي يعنون بها ، فالنحويون تهمهم المباحث الإِعرابية ، والبلاغيون يعتنون بالمباحث البيانية ، والفقهاء يعتنون بمسائل الفقه ، وأول ما بدىء به " الباء " وهي تأتي لمعان ليست كلها سائغة هنا وإنما يسوغ منها معنيان وهما الاستعانة والمصاحبة . . أما الاستعانة فقد رجحها طائفة من المفسرين والنحويين منهم الزمخشري وعولوا على مجموعة من الحجج منها حديث " باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء " ، وتكلف الألوسي رد جميع حجج هؤلاء حجة حجة والانتصار لقول الفريق الأول ولست أجد كبير فائدة في هذا الاختلاف حتى أبحث ما هو الراجح من الرأيين ؟ وإنما أتعجب من القرطبي في زعمه أن الباء للقسم ، وأن المقسم عليه أن كل ما جاءت به السورة التي تلى البسملة هو حق من عند الله ، وأعجب منه نسبة القرطبي هذا القول إلى العلماء مع أنه نفسه حكى الاختلاف في متعلق الباء هل هو خاص أو عام وهو مما ينافي كونها للقسم على أنه يتبادر للإِنسان حالما يتلو بسم الله الرحمن الرحيم أن المراد بها غير القسم ، وحاصل الاختلاف في متعلق الباء أن بعض العلماء يراه خاصا توحى به قرائن الأحوال فالقارىء عنما يتلو { بسم الله } يقصد أقرأ بسم الله ، والذابح يقصد كذلك أذبح باسم الله ، والداخل يقصد أدخل باسمه ، والخارج يقصد أخرج باسمه ، وهكذا في الكتاب ، والمسافر ، وكل من يعمل عملا يبتدئه باسم الله تعالى ، وبعضهم يراه عامًّا ويقدره " أبتدىء " سواء في القراءة أو الكتابة أو الذبح أو أي شىء آخر ، والذين يقدرونه خاصًّا يستدلون له بالتصريح به في قول الله تعالى :

{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } [ العلق : 1- 2 ] وأنت ترى أن كلا الوجهين ينافيان ما ذكره القرطبي أن الباء للقسم ، ولو كانت للقسم لقُدر المتعلق إما أُقسم أو أحلف ، ولم يذكر شيئا من ذلك القرطبي ، ولم ينسبه إلى أحد ، ومن العلماء من يرى أن المتعلق فعل أمر تقديره اقرأ وهو خطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى كل قارىء ، والظاهر من كلام الإمام ابن جرير أنه يميل إلى هذا الرأى ، فقد ذكر بعد إيراده عن ابن عباس رضى الله عنهما أن أول ما نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة والبسملة ، وهذا يُفهم منه أن مراده اقرأ باسم الله ، والاختلاف في جعل المتعلق خاصا أو عاما يرجع إلى الاختلاف في وجهات نظر العلماء المختلفين ، فالذين قدروه خاصا راعوا ضرورة استحضار العمل الذي يقترن البدء فيه بالبسملة ، ويقول ابن جرير : - " إن ذلك يجري مجرى الأشياء التي تعرف من غير أن تذكر ، كقول القائل : - خبزا في جواب ماذا أكلت ؟ فإنه يُعْلم بالضرورة أنّ مراده أكلت خبزا ، وكقول المهنئين بالزواج : " بالرفاء والبنين " فإن المراد واضح وهو تزوجت أو اقترنت بالرفاء والبنين ، وكذلك عندما يقرأ القارىء ويتلو { بسم الله } يعرف بالضرورة أن مراده باسم الله أقرأ ، وعندما يصنع الصانع ويتلو { بسم الله } يعلم بالضرورة أن مراده باسم الله أصنع . . وهكذا ، والذين قدروه عامٌّا نظروا إلى مجيء البسملة في أول الأقوال والأفعال وجعلوه دليلا على أن المراد التبرك بها في الافتتاح ، وللفريقين نقاش طويل وبحوث واسعة لا نجد جدوى في إيرادها هنا .

ومما كثر الخلاف فيه الاسم والمسمى ، هل هما شىء واحد أو شيئان ؟ وقبل التعرض لخلافهم يجدر بنا أن نحدد معنى الاسم .

يرى ابن سيده أن الاسم هو اللفظ الموضوع على الجواهر أو العرض ، ويقول الراغب : هو ما يعرف به ذات الشيء وأصله ، ويرى أبو حيان أن الاسم هو اللفظ الذي يدل بمقتضى الوضع على موجود في العيان إن كان محسوسا وفي الأذهان إن كان معقولا من غير أن يقترن جوهره بزمان ، ويرى السيد رشيد رضا أن الاسم هو اللفظ الذى يدل على ذات من الذوات كحجر وخشب وزيد أو معنى من المعاني كالعلم والفرح ، وتخصيص ابن سيده للإسم بما وُضع على الجواهر والأعراض يمنع من شمول تعريفه لأسماء الله الحسنى لأن ذات الله تعالى ليست جوهرا ولا عرضا ، وكذلك تعريف الراغب له بأنه ما يعرف به ذات الشيء وأصله لا يصح اعتباره منطبقا على أسماء الله ، فإن ذات الله - وهي حقيقته الخاصة - لا يعرفها أحد من خلقه كما هي ، وإنما غاية ما يمكن التوصل إليه معرفة صفاتها ، أما تعريف أبي حيان والسيد رشيد رضا فهما خاليان من الاعتراض ، ومن خلال تأملنا لجميع هذه التعريفات يمكننا أن ندرك أن الاسم هو غير المسمى ذلك لأن الاسم لفظ يدل نطقا أو كتابة على المسمى ، والمسمى حقيقة سواءا أكانت محسوسة أو معقولة ، ومما يؤسف له أن كثيرا من العلماء أضاعوا جهودهم في بحث هذه المسالة ورد بعضهم على بعض بما لا طائل تحته ، وقد تعجب الإِمام أبو حيان من هذا الاختلاف وهو جدير بأن يُتعجب منه ، ولولا خشية اللّبس لضربت صفحا عن بحث هذه المسألة من أصلها ، وإليك من تلخيصها وتحريرها ما يكفيك دليلا لتستبصر في مثل هذه المقامات التي كثيرا ما تنزلق فيها الأفهام .

لا ريب أنك تدرك إذا أدرت لسانك على ذكر اسم شيء لا يحضر ذلك الشيء بعينه فلو ذكرت زيدا أو محمدا أو عامرا أو سعيدا لحصل لك ذكر الإسم دون المسمى وإلا للزم أن تروى غلتك إذا ذكرت اسم ماء بلسانك وأنت ظمآن ، وأن تحترق لسانك بمجرد ذكرك لاسم النّار ، ومع ظهور ذلك بداهة فإن جماعة من العلماء أصروا على أن الاسم هو عين المسمى ومن هؤلاء ابن الحصار والقرطبي والألوسي ونسبه الرازي إلى الأشعرية والكرامية والحشوية ولم يكتفوا بالوقوف عند هذا الحد ، بل أخذوا يشنعون على مخالفيهم ، فالقرطبي ينسب قولهم إلى أهل الحق ومفهومه أن قول مخالفيهم هو قول أهل الباطل ، بل صرح ابن الحصّار بأن القول الآخر هو قول أهل البدعة ، ولم يأُل الألوسي جهدا في الانتصار لقولهم هذا مستندا إلى فلسفات متنوعة ليست من القرآن ولا من السنة في شيء ، وفي مقابل هؤلاء نجد الإمام ابن جرير الطبري والفخر الرازي وابن القيم والسيد محمد رشيد رضا يخالفونهم تمام المخالفة ويعدون القول بأن الاسم هو عين المسمى من الأخطاء التي أوقع أصحابها فيها قلة فهمهم لمقاصد النصوص ، ولقطب الأئمة رحمه الله كلام في ( هيميانه ) يفيد تعذر كون الإسم هو المسمى ، وحمل كلام أصحابنا بأن أسماء الله هي ذاته على أن مرادهم بذلك مدلول أسمائه ، ونحوه مَا أفاده نور الدين السالمي رحمه الله في مشارقه ، ومنشأ اللبس الذي سبب الخلاف أن القائلين بأن الإِسم هو عين المسمى رأوا أن الله تعالى أمر بذكره وتسبيحه في آيات من الكتاب وبذكر اسمه وتسبيح اسمه في آيات أخرى فقد قال عز من قائل :

{ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ]

{ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الإنسان : 25 ]

{ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً } [ الحج : 40 ]

{ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ } [ الأنعام : 118 ]

{ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ الأنعام : 119 ]

{ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ } [ الحج : 36 ] وقال سبحانه :

{ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً . . } [ الأحزاب : 41- 42 ]

{ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ]

{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } [ البقرة : 200 ]

{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ . . } [ آل عمران : 191 ]

{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } [ النساء : 103 ] ونحوه قوله في التسبيح :

{ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [ الأعراف : 206 ] وقوله :

{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [ الأعلى : 1 ]

{ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ الواقعة : 74 ] وقال تعالى :

{ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [ المؤمنون : 14 ]

{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ } [ الفرقان : 1 ]

{ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } [ الرحمن : 78 ] وقد دعاهم هذا إلى الجمع بين هذه الآيات بأن يجعلوا الاسم عين المسمى ، وأن يجعلوا ذكر الله وتسبيحه وذكر اسمه وتسبيح اسمه واحدا لأن اسمه عين ذاته ، والصواب - كما يقول صاحب المنار - أن الذكر في اللغة ضد النسيان وهو ذكر القلب ولذلك قرنه الله بالتفكر في سورة آل عمران حيث قال :

{ الَّذِينَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ . . } وقال : { وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [ الكهف : 24 ] كما يطلق الذكر على النطق باللسان لأنه دليل على ذكر القلب وعنوان له ، وذكر اللسان للاسم دون المسمى كما هو الشأن في سائر الأسماء فإذا قال قائل نار ، لا تقع النار على لسانه فتحرقه ، وإذا قال الظمآن ماء لا يجري الماء على فيه فيروي ظمأه - كما ذكرنا من قبل ، فالمراد من ذكر الله بالقلب تذكر جلاله وعظمته وكبريائه ونعمه والمراد من ذكره باللسان ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر والثناء إليها ، وهكذا يقال في التسبيح فالقلب واللسان يشتركان في التسبيح وإنما تسبيح القلب اعتقاد كما له وتنزهه عن كل ما لا يليق بعظمته وكبريائه ، وتسبيح اللسان إضافة التسبيح إلى أسمائه ، ولو لم ينطق بكلمة اسم ، ويدل على ذلك ما أخرجه الإِمام الربيع رحمه الله عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنهم أنه لما نزل قول الله تعالى { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ الواقعة : 74 ] قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اجعلوها في ركوعكم " ولما نزل قوله :

{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى }

قال : " اجعلوها في سجودكم " ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حيان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه ، وروى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه " سبحان ربي العظيم " وفي سجوده " سبحان ربي الأعلى " فظهر من هذا كله أن الاسم غير المسمى وأن ذكر كل منهما مشروع والفرق بينهما ظاهر وكذلك يقال في التسبيح والتبارك فكما يعظم الحق سبحانه يعظم اسمه الكريم فلا يذكر إلا مقرونا بالحمد والشكر والثناء والتقديس ، وقد صرحوا أن تعمد إهانة أسماء الله تعالى في اللفظ والكتابة كفر ، لأنه لا يمكن أن يصدر ذلك من مؤمن .

وهذا ملخص تحرير صاحب المنار لهذه المسألة وهو منتهى الوضوح وفي غاية التحقيق .

ومما تعلق به القائلون بأن الاسم عين المسمى قول لبيد :

إلى الحق ثم اسم السلام عليكما***ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

فقد قال القرطبي : استدل علماؤنا بقول لبيد هذا على أن الاسم هو المسمى ، واستدل أبو عبيدة معمر بن مثنى بالبيت على أن اسم صلة زائدة أقحمت في بسم الله الرحمن الرحيم ، وأن الأصل بالله الرحمن الرحيم ، وهو كلام مردود ، فإن اعتبار شيء من كلمات القرآن مقحما أمر لا يخلو من سوء أدب مع كلام الله تعالى ، أما البيت فقد أجاب عنه ابن جرير بجوابين :

أولهما أن مراد لبيد به : عليكما اسم الله أي ألزمناه فقدم المفعول على اسم الفعل فرفعه كما هي القاعدة ألا ينصب اسم الفعل المفعول به إن تقدمه .

ثانيهما أن مراده بقوله : ثم اسم السلام عليكما ثم بركة اسم السلام عليكما ، كما يقال في ما يقصد تعويذه اسم الله عليه ، والقول باتحاد الاسم والمسمى نسبه غير واحد إلي سيبويه من أئمة اللغة العربية وخطَّأ صاحب صاحب المنار هذه النسبة معولا على ما قاله ابن القيم في ( بدائع الفوائد ) ما قال نحوي قط ولا عربي أن الاسم عين المسمى ، وللفخر الرازي في تفسيره نقاش طويل يدحض به شبه القائلين باتحادهما نرى الاستغناء عنه بما ذكرناه .

وكلمة اسم على وزن فعل حسب أصلها وأصلها عند البصريين سمُوٌ مأخوذة من السمو لأن الاسم يعلو مسماه بكونه عنوانا له ودليلا عليه ، وقيل لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به ، وقيل بأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه عن غيره ، وأصله عند الكوفيين وسِمٌ ، مأخوذ من السَّمة وهي العلامة ، لأن الاسم علامة لمن وضع له ، وعلى الرأي الأول هو محذوف اللام على وزن إفعٌ سكنت فاؤه فاجتلبت له همزة الوصل في ابتداء الكلام ، وعلى الثاني هو واوى الفاء حذفت فاؤه فاجتلبت له همزة الوصل ووزنه إعلٌ ، ويدل للأول تصريفه فإنه يصغر على سُمي لا على وُسيم ويجمع على أسماء لا على أوسام ، والتصريف يرد الكلمات إلى أصولها ، وإنما كانت نظرة الكوفيين مبنية على أن المراد من وضع الأسماء للمُسميات أن تكون علامة ودليلا عليها ، ولم ينظروا إلى تصريف الكلمة بينما البصريون عولوا على التصريف مع نظرهم إلى أن الاسم يظهر بمسماه والظهور في حقيقته سمو وارتفاع .

وفي إضافة اسم إلى لفظ الجلالة خلاف ، هل هي للعهد أو للجنس الذي يُحمل على الاستغراق ؟ وهو مبني على أن الإِضافة تأتي لما تأتي له أل من المعاني ، وعلى الأول فالمقصود اسم معهود من أسماء الله ، والأجدر أن يكون اسم الجلالة لشيوعه وذيوعه ، وعلى الثاني فالمراد الافتتاح بجميع أسماء الله الحسنى ، والأولى أن تكون الإِضافة هنا البيان ، ووصف اسم الجلالة هنا بالرحمن الرحيم يؤكد ذلك ، وإنما كان الافتتاح باسم الجلالة دون غيره لأن جميع الأسماء تابعة له فلذلك يوصف بها ولا توصف به ، وفي افتتاح الكلام باسمه تعالى تفخيم له وتعظيم من شأنه ، وهذا مما جرت به العادة عند الناس كما أشرنا من قبل ، فهم عندما يريدون أن يفتتحوا مشروعا جديرًا بالعناية يفتتحونه باسم شخص مشهور كسلطان أو أمير أو باسم مؤسسة ذات شأن . .

ويعني ذلك أنه لولا صاحب الاسم لم يفتتح المشروع ، وبما أن القرآن الكريم جاء لتطهير العقيدة من جميع أدران الشرك ولوثات الزيغ فإنه علمنا كيف نخص اسم الله الرحمن الرحيم في افتتاح الأقوال والأعمال ، وهذا لأن العبد عندما يقول { بسم الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } يعلن براءته من الحول والطول وعدم قدرته على أى عمل إلا بعون الله كما يعلن أن قيمة العمل تكون يقدر الإِخلاص لله سبحانه ، وفي الافتتاح باسمه تعالى إضفاء صفة شرعية على العمل المفتتح ، ومن ثم قال العلماء " إن الأعمال غير المشروعة لا تفتتح باسم الله ، ولأجل ذلك كرهوا افتتاح دواوين الأشعار بالبسملة لما يكون فيها من المجون والأقوال المجانبة للحق ، فالشعراء هم كما وصفهم الله بقوله :

{ وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } [ الشعراء : 224 - 227 ] وفي هذا الاستثناء مَا يدل على أن الشعر إن كان خالصا من الشوائب ، بَعِيدا عن المنكرات ، لا يمنع من افتتاح ديوانه بالبسملة .

{ الله } اسم خاص لا يُطلق إلا على رب العالمين ، وقالوا في تعريفه : هو علم على ذات واجب المستحق لجميع المحامد لذاته ، واختلف في أصله ، فالجمهور يرون أن أصله إله ، فحذفت الهمزة وعُوض عنها الألف واللام وأُدغمت اللام في اللام ثم فُخمت ، ولأجل أن الألف واللام للتعويض اجتمعتا مع حرف النداء ولا تجتمع أداة التعريف في غير هذا الاسم مع يا إلا مقرونة بأي ، وأصل إله ألَه بمعنى عبد عند ابن جرير وجماعة من علماء العربية والتفسير وعضده ابن جرير بما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ

{ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } [ الأعراف : 127 ] وفسره بمعنى عبادتك ، وذكر علماء العربية أن ألَه كعبد وزنا ومعنى ، يقال ألَهَ إلهَةً وألوهةّ وأُلوهية كعبد عبادة وعبودية وعبودة ، وقيل أصله ألِه على وزن سمع بمعنى تحير لأن العقول تتحير في معرفته سبحانه ، ويرد على هذا أن الأصل في الاشتقاق أن يكون لمعنى في المشتق والحيرة إنما هي في العباد ، وقبل أصله من ألِهَ بمعنى فزع لأن الخلق يفزعون إلى الله سبحانه

{ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } [ المؤمنون : 88 ] وقيل من ألِهَ بمعنى سكن لأن النفوس تسكن إليه تعالى

{ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] وقيل هو مأخوذ من وَلِهَ بمعنى تجبر فيكون على هذا أصل إله ولاه وإنما أُبدلت الهمزة واواً كما قيل في وشاح إشاح ، وقيل غير ذلك ، وهذه الأقوال كلها مبنية على التخمين الذي لا يشفي غليلا ، والظاهر أن اسم الجلالة غير مشتق والألف واللام فيه ليستا للتعريف فإن هذا الاسم الكريم هو أعرف المعارف فليس بحاجة إلى أن تجتلب له أدّاه تعريف والقول بعدم اشتقاقه محكي عن الخليل بن أحمد الفراهيدي مع حكاية القول الآخر عنه وذكر بعض المؤلفين أن الخليل رؤي في المنام بعد موته فقيل له ما فعل الله بك فقال رحمني بقولي إن اسم الجلالة غير مشتق ، ولابن مالك النحوي الشهير في المقام تحرير " ما أظن أنَّ شبهة تبقى معه لمدعى اشتقاق هذا الاسم الكريم وأن أصله إله ، وحاصل ما يقوله أنه يكفي في رد دعوى القائلين بالاشتقاق أنهم ادعوا ما لا دليل عليه ، لأن الله والإِله مختلفان لفظا ومعنى أما لفظا فلأن الله عينه حرف علة والإِله صحيح العين واللام وإنما فاؤه همزة فهما من مادتين ، وردهما إلى أصل واحد تحكم من سوء التصريف ، وأما معنى فلأن الله لم يطلق في جاهلية ولا إسلام على غير الحق تبارك وتعالى وأما الإِله فأصل وضعه لمطلق المعبود ولكنه خص بالمعبود بحق ، ومن قال أصله الإِله لا يخلو من أمرين ، إما أن يقول أن حذف الهمزة كان ابتداء ثم اُدغمت اللام ، أو يقول إن حركتها أُزيلت وأُلقيت إلى اللام قبلها ثم حذفت على القياس ، والأمران باطلان أما الأول فبطلانه لأجل دعوى حذف الفاء بلا سبب ولا مشابهة ذي سبب من اسم ثلاثي ولا يصح أن يقاس هذا الحذف على الحذف في يد وما شابهه لأن الحذف في باب يد في الأواخر ، ويترخص فيها ما لا يترخص في فاء الكلمة ثم لا يقاس على الحذف في باب عدة لأن الحذف فيه محمول على الحذف في المضارع من بابه وهو يعد ، ولا على رِقة بمعنى ورق لمشابهته عدة وزنا وإعلالاً ، ولولا أنه بمعناه لأُلحق بباب لثه وهو الثنائي المحذوف اللام ، وأما ( ناس ) فأصله أُناس ، فالناس من نَوسْ والأناس من الأنس ، ولو سُلِّمَ أن أصلهما واحد فالحمل عليه زيادة في الشذوذ وكثرة مخالفة الأصل بلا داعٍ .

وأما الثاني فبطلانه لاستلزامه مخالفة الأصل من وجوه ، أحدها نقل حركة بين كلمتين على سبيل اللزوم ولا نظير له ، ( الثاني ) نقل حركة همزة إلى مثل ما بعدها وهو يوجب اجتماع مثلين متحركين وهو أثقل من تحقيق الهمزة بعد ساكن ، ( الثالث ) الرجوع إلى تسكين المنقول إليه الحركة وهو يبطل النقل لأنه يعود عملاً كلا عمل ، وهو مستقبح في كلمة فكيف بالكلمتين ، ( الرابع ) إدغام المنقول إليه في ما بعد الهمزة وهو مجانب للقياس لأن الهمزة المنقولة الحركة في تقدير الثبوت ، فإدغام ما قبلها في ما بعدها كإدغام أحد المنفصلين ، وقد اعتبر أبو عمرو في الإِدغام الكبير الفصل بواجب الحذف كالياء في نحو ( يَبْتَغِ غَيْرَ ) فلم يدغم .

فاعتبار غير واجب الحذف أولى والذين يزعمون أن أصله إله يقولون : إن الألف واللام عوض من الهمزة ، ويرده أن المعوض والمعوض عنه لا يحذفان معا وقد حذفت الألف في قول الشاعر :

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب *** عنى ولا أنت ديّاني فتخزوني

وقالوا : ( لهي أبوك ) فحذفوا لام الجر والألف واللام وقدموا الهاء وسكنوها فصارت الألف ياء ، وهذا يدل أن الألف كانت منقلبة لتحركها وانفتاح ما قبلها فلما وليت ساكنا عادت إلى أصلها وفتحتها فتحة بناء وسبب البناء تضمن معنى التعريف عند أبي علي ، ومعنى حرف التعجب إذ لم يقع في غيره وإن لم يوضع له حرف عند ابن مالك ، هذا ملخص كلامه وهو منتهى الجودة ولكن لعل خصومه يجدون في قول الله تعالى :

{ لَّكِنَّاْ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } [ الكهف : 38 ] حجة يستندون إليها في الرد عليه في إنكاره إدغام ما قبل الهمزة فيما بعدها ، اعتبارا للمحذوف في حكم الثابت سواء كان واجب الحذف أو جائزه فإن كثيرا من أئمة التفسير والعربية نصوا على أن الأصل { لَكِنَّ انا هو الله ربي } فحذفت ألف أنا وأدغمت نون لكن في نونها ، وممن نص على ذلك ابن جرير والزمخشري غير أن لابن مالك أن يقول كما يقول أبو حيان في ( البحر المحيط ) بأن ذلك غير متعين لإِمكان أن تكون ( لَكنَّ ) مشددة هنا وحذف اسمها وهو ضمير وهو ضمير المتكلم أي ( لكنني أنا هو الله ربي ) كما حذف اسمها ضميرا في قول الشاعر :

وترمينني بالطرف أي أنت مذنب *** وتقلينني لكن إياك لا أقلي

فأصله ( لكنني ) ، وفي قول الآخر :

فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي *** ولكن زنجيٌّ عظيم المشافر

على رفع زنجي وتقديره ( ولكنك زنجي ) .

واختلفوا في الفرق بين الإِله والله ، فالسيد السند يرى أنهما علم لذاته تعالى ، ولكن إله يطلق على غيره تعالى ، والله لا يطلق على غيره سبحانه أصلا ، وقال السعد : " إن الإِله اسم لمفهوم كلى هو المعبود بحق ، والله علم لذاته ، وقال الرضى هما قبل الإِدغام وبعده مختصان بذاته تعالى لا يطلقان على غيره أصلا إلا أنه قبل الإِدغام من الأعلام الغالبة وبعده من الأعلام الخاصة ، وأنت تدري أنه إذا أُطلق اسم الجلالة لم يتبادر إلى ذهن أي أحد من أي ملة كان إلا أنَّ المراد به الحي الدائم خالق كل شيء ، وأما الإِله فهو يطلق على المعبود وإنما خص في الإِسلام بالمعبود بالحق سبحانه وتعالى ، ولذلك إذا أطلقه غير المسلم قد يتبادر أن المراد به غير الله تعالى والله سبحانه قد حكى في كتابه عن المشركين قولهم

{ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] كما حكى عنهم قولهم

{ وَاْصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ } [ ص : 6 ] وقولهم

{ إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } [ الفرقان : 42 ] ولم يحك عنهم ما يدل على أنهم يطلقون اسم الجلالة على غيره تعالى بل حكى عنهم ما يدل على أنهم يخصونه به سبحانه فقد قال تعالى :

{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان : 25 ] وفي هذا ما يدل على اختلاف مفهوم الكلمتين عندهم فالإِله هو المعبود والله هو الخالق القادر على كل شيء ، وإنما انحصر معنى الإِله عند المسلمين في الله سبحانه لأنه المعبود بحق ، وكل ما يعبد سواه فهو معبود بباطل ، وبهذا يتضح أن الإِله معناه كلي ينحصر في فرد ، ولو لم يكن كذلك لما كان قول الموحد " لا إله إلا الله " توحيداً إذ لو كان المعنى المتبادر من اللفظين واحدا من أول الأمر لكان ذلك بمثابة قول القائل " لا إله إلا إله " وفي هذا ما يؤيد رأي ابن مالك في أن كل واحد من اللفظين مستقل وضعا .

ومن أغرب ما قيل أن هذا الاسم الكريم ليس بعربي الأصل وهو رأي لا يلتفت إليه ولعل من قال به حيره اختلاف العلماء فيه هل هو مشتق أو غير مشتق ؟ وما هو أصل اشتقاقه فلم يستطع أن يخلص من ذلك إلا إلى القول بأنه أعجمي الأصل .

وأما علمية هذا الاسم فقد استُدل عليها بوجوه : -

أولها : أنه يوصف ولا يوصف به ، قال الله تعالى :

{ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ البقرة : 255 ] وقال :

{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الحشر : 22- 24 ] وأما قراءة { صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ } في سورة إبراهيم بالجرّ فمحمولة على البيان .

ثانيهما : أنه لا بد من اسم تُجرى عليه صفاته ، فإن كل ما تتوجه إليه الأذهان ويُحتاج إلى التعبير عنه وقد وُضِعَ له اسم ، سواء كان توفيقا أو اصطلاحيا ، فمن المستحيل أن يُهمل الخالق تعالى الذي هو مصدر الأشياء جميعا ، فلا يكون له اسم يجري عليه ما يُعزى إليه ، وأسماء غيره لا تصلح له لانفراده تعالى بكونه واجب الوجود لذاته غير مماثل لشيء من مخلوقاته ، ولا يصح أن يكون اسم جنس معرَّفا لأنه غير خاص وضعا ، وكذلك لا يصح أن يكون علما منقولا من الوصفية ، لأنه يستدعى أن لا يكون في الأصل مما تجري عليه الصفات .

ثالثهما : أنه لو كان وصفا لجاز اتصاف غيره بأصل ذلك الوصف ولو كان مجازا إن كان من الصفات التي تجري على المخلوقين كالعلم والقدرة والمشيئة والحياة والسمع والبصر ، وذلك يمنع الاكتفاء به في التوحيد نحو ( لا إله إلا العالم القدير السميع العليم ) لإِمكان أن يراد غير الله تعالى بهذه الصفات لعدم تعذر إطلاقها على غيره بخلاف اسم الجلالة لاختصاصه به سبحانه .

ولسبب اختصاص الله تعالى بهذا الاسم الكريم وكونه علما على ذاته صرف جميع خلقه عن التسمى به ، ولم تحدث أحدا نفسه - وإن كان من أعتى العتاه - أن يتسمى به أو يسمى به غيره ، فلو سُئل أحد من أهل الجاهلية : هل اللات هي الله ؟ أو العُزّى أو مناة ؟ لأنكر ذلك ، ومن ثم قال غير واحد من أئمة التفسير وغيرهم إنَّ هذا الاسم هو المراد في قوله سبحانه :

{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] أما الإِله فلم يكن الناس في جاهليتهم يتورعون من وصف غير الله به ، لأن أصله لمطلق المعبود ، والإِسلام حصره في المعبود بحق كما ذكرنا فمن وصف به أي شيء غير الله تعالى فقد جعل لله ندّا ، ولذلك أنكر القرآن تسمية المشركين أصنامهم آلهة ، ويرى السيد محمد رشيد رضا أنه أنكر عليهم تأليهها وعبادتها لا مجرد تسميتها ، فقد سماها هو آلهة في قوله :

{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } [ هود : 101 ] قال ولا يظهر في هذه الآية قصد الحكاية ، وفي كلامه هذا نظر فإن الإِله لو لم يمنع شرعا إطلاقه على غير الله لما كان قول " لا إله إلا الله " توحيداً ، ونجد في القرآن الكريم الإِنكار الذي يلي الإنكار على من يصف غير الله بالألوهية وقد تكرر ذلك في سورة النمل قال تعالى :

{ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } [ النمل : 60 ]

{ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ النمل : 62 ]

{ أَإِلَهٌ مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ النمل : 61 ]

{ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ النمل : 64 ] وأما قوله :

{ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ } [ هود : 101 ] فليس فيه ما يدل على إقرار هذه التسمية لأنه مسوق مساق التهكم والاستخفاف بهم ، وهؤلاء المشركون وإن استجابوا عبادة هذه الأشياء فإنما يعتبرون العبادة وسيلة إلى الله فإنهم يقولون :

{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر : 3 ] أما لو سئلوا هل خلق شيء من هذه الأصنام التي يعبدونها شيئا من هذه الكائنات لأجابوا بالنفي ، بدليل قوله تعالى :

{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان : 25 ] .

{ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } صفتان لله تعالى اشتقاقهما من الرحمة وهي انفعال نفسي يحمل صاحبه على الإِحسان إلى غيره وهو محال على الله بحسب المعنى المعروف في البشر لأنه في البشر ألم يلم بالنفس لا يشفيه إلا الإِحسان ، والله تعالى منزه عن الآلام والانفعالات ، وإنما يحمل وصف الله تعالى بالرحمة على أثرها وهو الإِحسان ومثل هذا مألوف عند العرب ، وكون صفتي " الرحمن الرحيم " مشتقتين من الرحمة هو رأي الجمهور ، وذهب بعضهم إلى أن " الرحمن " اسم وليس بصفة وأنه غير مشتق لأنه لو كان مشتقا من الرحمة لجاز اتصاله بالمرحوم فيقال : الله رحمن بعباده كما يقال رحيم بعباده ، وأيضا لو كان مشتقا من الرحمة لم تنكره العرب حين سمعته إذ لم يكونوا ينكرون رحمة بهم ، وقد قال الله عنهم :

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ } [ الفرقان : 60 ] واستدل ابن العربي بقولهم " وما الرحمن " ولم يقولوا ومن الرحمن على أنهم جهلوا الصفة دون الموصوف واعترضه ابن الحصار محتجا عليه بقوله تعالى : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } [ الرعد : 30 ] ويؤيد رأي الجمهور ما رواه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته " وليس في عدم اتصاله بذكر المرحوم ما يدل على عدم الاشتقاق فإنه استدلال سلبي قي مقابلة الدليل الثبوتي ، وإنكار العرب للرحمن ناشيء عن تعنتهم في الكفر وإصرارهم على التكذيب وإلا فقد كانوا غير جاهلين به ، كيف ! وقد ورد في أشعارهم كما ذكره ابن جرير ، ومنه قول أحد الجاهلية الجهلاء :

ألا ضربت تلك الفتاة هجينها *** ألا قضب الرحمن ربي يمينها

وقول سلامة بن جندب الطهوي :

عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم *** وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق

ومما يستغرب ما نسبه ابن الأنباري إلى المبرد وأبو إسحاق الزجّاج إلى أحمد بن يحيى أن اسم الرحمن عبراني وليس بعربي ، واستدل لذلك بقول جرير :

لن تدركوا المجد أو تشروا عباءكم *** بالخز أو تجعلوا الينبوت ضمرانا

أو تتركون إلى القسين هجكرتكم*** ومسحكم صلبهم رحمان قربانا

وليس في ذلك ما يدل على عبرانيته ، إذ لا يلزم من استعمال أهل الكتاب له - لوصح - ألا يكون عربيا ولعل القائلين باسمية " الرحمن " يستدلون بالإِسناد إليه في نحو قوله تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] { الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ } [ الرحمن : 1- 2 ] وهذا لا ينافي وصفيته لأنه وإن كان صفة مشتقة فهو مختص بالله تعالى والصفات يسند إليها كثيرا وإن لم تكن مختصة فما بالك بالمختص ؟ واختصاصه بالله هو رأي الجمهور وحملوا قول الشاعر بني حنيفة في مسيلمة :

سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا *** وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

على التعنت بالكفر .

واختلف في الفرق بين { الرحمن } و { الرحيم } فالجمهور على أن { الرحمن } أبلغ من { الرحيم } وهو مبني على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، وأورد الزمخشرى من هذا الباب نكتة لطيفة وذلك أنه ذكر أنه كان في طريقه إلى الحجار فوجد محملا أكبر بقليل عن محامل تستعمل في العراق يسمى الواحد منها " الشقدف " فسأل أعْرابيا عن اسم المحمل الذي رآه فقال له أليس ذلك يدعى الشقدف ؟ قال له : بلى . . قال : فهذا الشقنداف ، واستظهر منه الزمخشري أن طول الإسم لكبر المسمى ، وهذه القاعدة غير مطرده ، فإن حَذِرا أبلغ من حاذر وحروفه أقل ، وبناء على ما يقوله الجمهور قيل : إن { الرحمن } هو المنعم بجلائل النعم و { الرحيم } هو المنعم بدقائقها وقيل أن { الرحمن } هو المنعم بنعم شاملة تعم المؤمن والكافر والبر والفاجر و { الرحيم } هو المنعم على المؤمنين خاصة ، ومتعلق هذا القول قوله تعالى { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } وانتقد الأستاذ الشيخ محمد عبده هذين القولين وقال : " كل هذا تحكم في اللغة مبني على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، ولكن الزيادة تدل على زيادة الوصف مطلقا فصفة { الرحمن } تدل على كثرة الإِحسان الذي يعطيه سواءً كان جليلا أم رقيقا وأما كون أفراد الإِحسان التي يدل عليه اللفظ الأكثر حروفا أعظم من أفراد الإِحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفا فهو غير معنى ولا مراد ، وقد قارب من قال : إن { الرحمن } المحسن بالإِحسان العام ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول { الرحيم } بالمؤمنين .

وقيل { الرحمن } رحمن الدنيا والآخرة " والرحيم " رحيم الآخرة ، وهو كسابقيه لا يستند إلى دليل ، ولعل عدم ظهور الحجة في التفرقة التي زعموها كان هو السبب في قول جماعة من المفسرين كالمحلِّي والصَّبَان : إن الاسمين الكريمين بمعنى ، وإنما جيىء بالثاني تأكيداً للأول ، وانتقد الإِمام محمد عبده هذا الرأي قائلا : " ومن العجيب أن يصدر مثل هذا القول عن عالم مسلم وما هي إلا غفلة ، نسأل الله أن يسامح صاحبها " ثم قال : " وأنا لا أجيز لمسلم أن يقول في نفسه أو بلسانه إن في القرآن كلمة تغاير أخرى ثم تأتي لمجرد تأكيد غيرها بدون أن يكون لها في نفسها معنى تستقل به ، نعم قد يكون في معنى الكلمة ما يزيد معنى الأخرى تقريرا أو إيضاحا ، ولكن الذي لا أجيزه هو أن يكون معنى الكلمة هو عين معنى الأخرى بدون زيادة ثم يؤتى بها لمجرد التأكيد لا غير ، بحيث تكون من قبيل ما يسمى بالمترادف في عرف أهل اللغة ، فإن ذلك لا يقع إلا في كلام من يرمي في لفظه إلى مجرد التنميق والتزويق ، وفي العربية طرق للتأكيد ليس هذا منها ، وأما ما يسمونه بالحرف الزائد الذي يأتي للتأكيد فهو حرف وُضع لذلك ومعناه هو التأكيد ، وليس معناه معنى الكلمة التي يؤكدها ، فالباء في قوله تعالى : { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } [ النساء : 79 ، 166 ] تؤكد معنى اتصال الكفاية بجانب الله جل شأنه بذاتها وهو معناها الذي وُضعت له ، ومعنى وصفها بالزيادة أنها كذلك في الإِعراب وكذلك معنى من في قوله :

{ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } [ البقرة : 102 ] ونحو ذلك ، أما التكرار للتأكيد أو التقريع أو التهويل فأمر سائغ في أبلغ الكلام عندما يظهر ذلك القصد منه ، كتكرار جملة { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن ] ونحوها عقب ذكر كل نعمة وهي عند التأمل ليست مكررة ، فإن معناها عند ذكر كل نعمة " أفبهذه النعمة تكذبان " ، وهكذا كل ما جاء في القرآن على هذا النحو ويخلص الإِمام بعد هذا الرّد إلى اختيار القول باستقلال كلٍّ من لفظيّ { الرحمن } و { الرحيم } بمعنى ، ويردّ استخراج المعنى الذي تدل عليه كل واحدة من اللفظتين إلى بنائها الحرفي ، فالرحمن على وزن فعلان ، وهذه الصّيغة تدل على وصف فعلي فيه معنى المبالغة كفعال وهو مستمعل لغة في الصفات العارضة كعطشان وغرثان وغضبان وشعبان ، و { الرحيم } على وزن فعيل ، وهذه الصيغة تستعمل لغة في المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا نحو سميع وبصير وعليم وحكيم وحليم وجميل ، والقرآن الكريم عندما يخبر عن صفات الله لا يخرج عن الأسلوب العربي البليغ ، وإنما تعلو صفات الله عن مماثلة صفات المخلوقين ، ومن هنا يرى الأستاذ أن " الرحمن " يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل ، وهي إفاضة النعم على الخلق والإِحسان إليهم ، وأن { الرحيم } يدلّ على مصدر هذه الرحمة ومنشأ هذا الإِحسان ، وهو بهذا يثبت أن { الرحمن } صفة فعلية ، و { الرحيم } صفة ذاتية ثابتة له تعالى ، ويؤكد بهذه التفرقة أنه لا يُسْتَغْنى بأحد الوصفين عن الآخر ، ولا يكون مجيء الثاني لمجرد تأكيد الأول ، ويرى أن العربي إذا سمع وصف الله جل ثناؤه بالرحمن وفهم منه أنه مفيض النعم ، وواهب الإِحسان بالفعل لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما ، لأن الفعل قد ينقطع إذا لم يكن صادرا عن صفة لازمة ثابتة وإن كان كثيرا ، ولكن عندما يسمع لفظ الرحيم يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بجلال الله ويرضيه سبحانه ، ويعلم أن لله صفة ثابتة ، وهي الرحمة التي يكون عنها أثرها ، وإن كانت تلك الصفة على غير مثال صفات المخلوقين ويكون ذكرها بعد الرحمن كذكر الدليل بعد المدلول ليكون برهانا عليه .

ورأي الإِمام في التفرقة بين الرحمن والرحيم يتفق مع الجويني الذي حكى عنه الألوسي بأن فعلان لمن تكرر منه الفعل وكثر ، وفعيلاً لمن ثبت منه الفعل ودام ، وابن القيم يرى عكس ذلك فهو يرى أن الرحمن صفة ذاتية لله تعالى ، والرحيم يدل على تعلقها بالمرحوم ، ويستدل لذلك بقول الله تعالى :

{ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [ الأحزاب : 43 ] ، إنه بهم رحيم ، وعدم مجيء " الرحمان بهم " وأكّد رأيه بقوله : ( فعلمت أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة ، والرحيم هو الراحم برحمته ، وعلى كلا الرأيين فإن اجتماع الوصفين الكريمين يؤدي إلى ما لا يحصل لو أُفرد أحدهما بالذكر ) وللمفسرين أقوال في { الرحمن الرحيم } غير التي ذكرنا نرى الاستغناء عن ذكرها لعدم اعتضادها بحجة مقبولة .

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢

{ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }

الحمد والمدح ينتظمهما الاشتقاق الكبير ، وهو اتحاد الحروف مع اختلاف ترتيبها ، فالحاء والميم والدّال الموجودة في الحمد هى نفسها حروف " المدح " ولكن بترتيب آخر ، والزمخشري يقول بتآخيهما ، واختلف الذين عُنوا بشرح كلامه ، هل قصده بالتآخي : اتحاد معناهما أو اتحاد حروفهما مع ما ينتظم الكلمات المتنوعة التي تلتقي بالاشتقاق من معنى لطيف قد يظهر مع التأمل الخاطف ، وقد يخفي إلا مع التأمل الطويل ؟ فالحمد والمدح كالجذب والجبذ في اتحاد الحروف ، ووجود معنى يجمع بينهما ، والذين فرقوا بين الحمد والمدح راعوا أن الحمد يكون على الأمور التي للمحمود اختيار فيها ، بخلاف المدح ، فقد يكون في الأمور الطبيعية كمدح الوجه بالحسن ، والقامة بالاعتدال ، والدرة بالصفاء ، ولا يسمى شيء من ذلك حمدا ، وعرّفوا الحمد أنه الثناء باللسان على الجميل وقيده بعضهم بكونه اختياريا ، ومنهم من زاد على ذلك سواء تعلق بالفضائل أم بالفواضل على أن بعض العلماء يرى أن المدح أيضا لا يكون إلا في الأمور الاختيارية ، وإن ورد على غيرها عُدّ من باب المجاز ، وتقييد الثناء بكونه على الجميل يخرج الذم فإن الثناء قد يصدق عليه في نحو قولهم ( أثنى عليه شرّا ) وتقييد الجميل بكونه اختياريا يخرج المحاسن الاضطرارية كالتي أشرنا إليها وهي التي تُمدح - على رأي بعض - ولا تُحمد ، وقول بعضهم سواء تعلق بالفضائل أو بالفواضل يقتضي دخول الصفات التي تكون ذات أثر في الغير فيما يُحمد عليه فإن الفضائل جمع فضيلة وهي صفة تقوم بنفس الموصوف لا تتعداه إلى غيره ، والفواضل جمع فاضلة وهي ما ينتقل أثره إلى الغير ، فسجية الكرم فضيلة ، والكرم طبيعة قائمة بنفس الكريم لا تنتقل عنه وإنما ينتقل عنه أثرها وهو الإِحسان إلى الغير ويُعَبر عنه بالفاضلة ، والشجاعة طبيعة في نفس الشجاع لا تتعداه إلى غيره وإنما يتعدى أثرها عندما تبعث صاحبها على نصرة المظلومين وإغاثة الملهوفين ، ويُعبر عن هذا الأثر بالفاضلة كذلك ، واستشكل هذا التعريف بأنه يمنع دخول صفات الله فيما يحمد عليه وهي من أجل المحامد ، وسبب المنع هو قيد الاختياري ، وأجاب القطب رحمه الله في ( التيسير ) بأن هذا القيد يراد به إخراج المحاسن الاضطرارية ، فلا يمنع من دخول صفات الله تعالى لأنها وإن لم يجز لنا أن نصفها بأنها اختيارية لما يُفهمه هذا الوصف من إمكان تخلي الله تعالى عنها فإنه لا يجوز لنا أيضا أن نقول عنها إنها اضطرارية لما يقتضي ذلك من كون الله سبحانه مضطرا إليها - تعالى الله عن ذلك - ورأي القطب في ( الهيميان ) أن يستبدل قيد الاختياري بغير الاضطراري لئلا يكون مانعا من دخول صفات الله ، ويرى السيد الجرجاني في حاشيته على الكشاف أن كون الصفات مبدأ للاختيارات يزيح المانع من دخولها وتابعه المفسر الشهير أبو السعود حيث قال عن الجميل اختياريا كان أو مبدأ له ، وحاصل ذلك أنه لما كانت صفات الله تعالى الذاتية كالحياة والعلم والقدرة والمشيئة سببا لحصول أفعاله الاختيارية كالخلق والإِنعام جاز حمده عليها بل وجب ذلك .

واختلف في الحمد والشكر هل هما متحدان ؟ أم مختلفان ؟ فذهب ابن جرير الطبري وأبو العباس المبرد إلى أنهما بمعنى واحد ونسبه ابن جرير إلى ابن عباس رضي الله عنهما ، وحكاه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب " الحقائق " عن جعفر الصادق وابن عطاء قال القرطبي : وليس بمرضي ، واستدل له ابن جرير بصحة قولك : الحمد لله شكرا ، وتعقبه ابن عطيه بأنه دليل على خلاف ما ذهب إليه لأن قولك شكراً إنما خصصت به الحمد لأنه على نعمة من النعم ، وأنكر ابن كثير على سلفه ابن جرير جعل الحمد والشكر بمعنى مستندا في هذا الإِنكار على التفرقة التي أوردها المتأخرون بينهما ، وتعقبه الشوكاني في ( فتح القدير ) بأن كلام المتأخرين ليس بحجة على استعمال الكلمات العربية ولا سيما أن ابن جرير قد عضد رأيه بما رواه عن بعض السلف كما عضده بجواز مجيء الشكر مصدرًا للحمد ، وفي السنه ما يدل على أن الحمد قد يسد مسد الشكر ، فقد أخرج ابن جرير عن الحكم بن عمير - وكانت له صحبة - قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا قلت الحمد لله رب العالمين ، فقد شكرت الله فزادك " وأخرج عبد الرزاق في " المصنف " والحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " والخطابي في " الغريب " والبيهقي في " الأدب " والديلمي في " مسند الفردوس " عن عبد الله بن عمرو ابن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده " وفيه انقطاع إلى أن الألوسي ذكر أنّ له شاهدا يتقوى به ، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن الحلبى قال : الصلاة شكر والصيام وكل خير تفعله شكر وأفضل الشكر الحمد ، وأخرج الطبراني في " الأوسط " بسند ضعيف عن النواس بن سمعان قال : سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لئن ردها الله عليَّ لأشكرن ربي " فرجعت فلما رآها قال : " الحمد لله " فانتظروا هل يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم صوما أو صلاة فظنوا أنه نسى ، فقالوا يا رسول الله قد كنت قلت : " لئن ردها الله عليّ لأشكرن ربي " قال : " ألم أقل الحمد لله " وإنما كان الحمد رأس الشكر وأفضله لأنه إعلان باللسان عن إنعام المنعم ، واللسان أقوى دلالة من غيره ، وفيما أوردناه ما يؤكد ما قاله ابن عطية من أن الشكر أعم من الحمد فهو يشمل القول والعمل ويدل لذلك قول الله تعالى : { اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [ سبأ : 13 ] وقوله سبحانه : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ] إذ ليس المطلوب من شكر الله ، وشكر الوالدين مجرد الاعتراف بالإِحسان وإنما المطلوب القيام بحقوق عبادة الله كما أمر ، ومعاملة الوالدين بالإِحسان وهو واضح في قوله سبحانه : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً . . الخ } [ الإسراء : 23 ] وعرف بعض العلماء الشكر لغة بأنه فعل ينبيء عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على الشاكر سواء كان قولا باللسان أم اعتقادا ومحبة بالجنان ، أم عملا وخدمة بالأركان ، واستُدُل بذلك بقول الشاعر :

أفادتكم النعماء مني ثلاثة***يدي ولساني والضمير المحجبا

فإن مراده من هذا أن النعماء سخرت لهم يده يخدمهم بها ، ولسانه يثني عليهم به ، والضمير المحجب يواليهم به ، وإذا القينا نظرة على هذا التعريف وجدنا بين الحمد والشكر عموما وجيها ، فكل واحد منهما أخص من وجه وأعم من آخر ، أما الحمد فهو أخص موردا وأعم متعلقا لأن مورده اللسان وحده ومتعلقه النعمة وغيرها ، وأما الشكر فهو بعكس ذلك لأن مورده اللسان والقلب والجوارح ومتعلقه النعمة وحدها ، وهذا كما ذكرنا أن الحمد يكون على الفضائل كالشجاعة والكرم وغيرهما ، وبعض العلماء جعل تعريف الشكر المذكور نفسه تعريفا للحمد العرفي فيكون بين الحمدين اللغوي والعرفي كالذي بين الحمد والشكر اللغويين من العموم الوجهي ، ولست أدري ما هي حجة هؤلاء في جعل الحمد العرفي أعم موردا من الحمد اللغوي بحيث يكون باللسان وغيره ، وهؤلاء يرون أن الشكر العرفي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه لما خُلق لأجله ، وهو سائغ نظرا إلى أن جميع آلاء الله تعالى تستدعي طاعته والقيام بحسن عبادته ، ويؤكد ذلك قوله تعالى :

{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ الإنسان : 3 ] وقوله على لسان سليمان عليه السلام : { لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } [ النمل : 40 ] على أن بعض العلماء يرى أن الحمد لا يتصور أن يكون عملا لسانيا لا يشامله عمل القلب والجوارح لأن حمد المحمود باللسان وحده من غير استشعار معناه بالقلب ولا تصديق له بالجوارح يعد سخرية واستخفافا ، وأُجيب بأن استشعار معني الحمد بالقلب وتصديقه بعمل الجوارح شرطان له وليسا من جوهره ومما يستغرب منه دعوى القرطبي : إن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان ، وهو مردود بالأحاديث الصحيحة التي أوردها القرطبي نفسه في تفسيره منها ما رواه مسلم عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليرضي عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، أو يشرب الشربة فيحمده عليها "

وروى ابن ماجه عن أنس أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما أنعم الله على عبد نعمة فقال : الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ " ، وفي الكتاب العزيز ما يدل على أن الحمد يكون في مقابل الإِحسان فالله تعالى يقول تعليما لعباده كيف يحمدونه : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا . . } [ الكهف : 1 ] ويقول { الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [ فاطر : 1 ] وحكى عن أهل الجنة قولهم وَقَالُواْ { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ، الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [ فاطر : 34- 35 ] ويستغرب من القرطبي قوله عقب هذا .

وعلى هذا الحد قال علماؤنا الحمد أعم من الشكر لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر ، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر ، فإن هذا الذي ذكره أخيرا يهدم ما بناه أولا حيث اشترط في الحمد أن يكون من غير سبق إحسان ، اللهم إلا أن يكون مراده أن الحمد يأتي تارة في مقابل نعمة وتارة بدونها كما صرح به ابن عطية وكما يفيده تعريف الحمد الذي ذكرناه ، وإذا كان هذا هو مراد القرطبي فهو معنى صحيح ولكن عبارته لم تف بمطلوبه .

و " ال " في الحمد قيل هي للاستغراق وعليه أبو حيان في ( البحر ) والقرطبي في تفسيره والألوسي " مع بعض تردد " والفخر الرازي في ( مفاتيح الغيب ) والشوكاني في ( فتح القدير ) وقطب الأئمة في ( الهيميان ) ونور الدين السالمي في ( طلعة الشمس ) .

وقيل هي للجنس وعليه الزمخشري وكثير من الذين تأثروا برأيه ، ووهّم الزمخشري أصحاب الرأي الأول ، وحمل خصوم الزمخشري هذا التوهيم على أنه أراد به الانتصار لمذهبه الفاسد في خلق الأفعال فإنه إذا جعلت جميع صنوف المحامد محصورة في الله عز وجل كما يستلزمه القول بالاستغراق فات الزمخشري مطلوبه من جعل العباد الصالحين مستحقين لشيء من الحمد على خلقهم الأفعال الحسنة كما هي عقيدة المعتزلة في أن الإِنسان يستقل بخلق أفعاله استقلالا تاما ، وللإِمام نور الدين السالمي رحمه الله في أول " طلعة الشمس " بحث نفيس في هذه المسألة أطال فيه مناقشة الزمخشري في رأيه ، غير أن السيد الجرجاني انتصر للزمخشري في حاشيته على " الكشاف " بإيضاح لا يدع مجالاً للشك في أن الزمخشري لم يرد برأيه هذا نصرة مذهبه في خلق الأفعال ، فإن اختصاص الجنس يستلزم اختصاص أفراده أيضا ، إذ لو وُجِدَ فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه وإنما اختار الزمخشري الجنس على الاستغراق لأنه يُسْتَفَاد من جوهر الكلام ، ويستلزم اختصاص جميع الأفراد ، فلا حاجة في تأدية المقصود من إثبات الحمد له تعالى وانتفائه عن غيره إلى أن يلاحظ بمعونة الأمور الخارجية ، بل يكون على ما اختاره اختصاص الأفراد بطريق برهاني فيكون أقوى من إثباته ابتداء .

وإذا كان إفراد الحمد على كلا القولين مختصة بالله سبحانه فإن في ذلك ما يفيد أن جميع النعم لا تصدر إلا عنه

{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [ النمل : 53 ] وفي تذكير الإِنسان بذلك تحرير لرقبته من الذل لغير الله تعالى ، ورفع للرؤوس حتى لا تتطأطأ لغير عزته وكبريائه ، ورفع من معنوية الإِنسان فلا يتعلق قلبه بغير الله سبحانه .

وجملة " الحمد لله " قيل إنها خبرية يراد بها الإِخبار عن كون جميع المحامد لله سبحانه وقيل هي خبرية لفظا ، إنشائية معنى ، والظاهر أن معناها يحتمل الخبر والإِنشاء بحسب قصد المتكلم بها ، وأما لفظها فخبري قطعا .

" الرب " مأخوذ من ربه يربه بمعنى نماه أو أصلحه أو مَلَكه ، ويقال أيضا ربّبَه وربّته ورباه ، ويُطلق الرب على الملك كقول النابغة :

تخب إلى النعمان حتى تناله *** فذلك من ربٍّ تليدي وطارفي

ومنه قول الآخر :

وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي *** وقبلك ربتني فضعت ربوب

ويطلق على المالك ، واستشهد له بقصة صفوان بن أمية مع أبي سفيان صخر بن حرب عندما نمى إلى أهل مكة بعد فتحها أن المسلمين هُزموا في حربهم مع هوازن وكان أبو سفيان لا تزال الجاهلية مترسبة في نفسه ، وكان صفوان لا يزال على شركه فسُرّ أبو سفيان بما سمع ، وأخذت الحمية القرشية صفوان فغضب عليه وقال له " في فيك الكثكث لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن " يعني لأن يملكني رجل من قريش - يقصد به رسول الله صلى الله عليه وسلم - أحب إلى من أن يملكني رجل من هوازن ، ويُطلق الرب على السيد والمصلح والمدبِّر ، وهذه المعاني قريب بعضها من بعض ، والله تعالى يربي عباده بالآلاء الظاهرة والباطنة التي يسبغها عليهم وهو مالك أمرهم ومدبره ، وجابر كسرهم ، ومصلح شأنهم .

" العالمين " جمع عالم وفي العالم خلاف ! هل هو مأخوذ من العلم أو العلامة ؟

فعلى الأول يطلق على ما من شأنه العلم ، فيقال عالم البشر وعالم الملائكة وعالم الجن وعالم الشياطين ، وعلى الثاني يطلق على كل ما كان علامة على وجود الله سبحانه فيشمل الكائنات كلها ، فإن كل ذرة في الوجود هي حجة قاطعة على وجوده سبحانه ، ودليل ساطع على صفاته اللائقة بجلاله ، ومن ثمَّ يقول الإِمام ابن أبي نبهان رحمهما الله : " إن كل ذرة في الوجود هي كلمة من كلمات الله سبحانه ، دالة على معرفته ، ناطقة بتوحيده ، وما عداها فهو كالشرح لتلك الكلمة " ونظرا إلى الاختلاف في اشتقاقه كلمة " العالم " وما توحيه القرائن اختلف المفسرون في المراد بالعالمين هنا ، فقيل يراد به السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما رواه ابن جرير عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما وروى عنه أن المراد بالعالمين الإِنس والجن وهو محكي عن سعيد بن جبير ومجاهد واستدل له بقوله تعالى { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] وقال الفراء وأبو عبيدة : يراد به العقلاء وهم أربعة أمم الإِنس والجن والملائكة والشياطين ، ونسبه صاحب المنار إلى الإِمام جعفر الصادق ، وأصح هذه الأقوال القول الأول لأن أحسن ما فسر به القرآن القرآن نفسه ، والله تعالى يقول :

{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ . . } [ الشعراء : 23- 24 ] وكل ذرة في الكون هي بحاجة إلى الرعاية والإِصلاح والتنمية من قبل الله تعالى إذ لو تخلى الله سبحانه عن أي كائن في هذا الوجود في أقل من لحظة لما قر له قرار ، وتربية الله سبحانه تغمر كل كائن دقيقا كان أو جليلا وما من شيء إلا وهو ناطق بلسان حاله معلنا افتقاره إلى الله ذي الجلال ، ومن هنا ساغ أن يجمع العالم - مع صدقه على ما يعقل وما لا يعقل - فيقال العالمون إذ لا فرق بين العاقل وغيره في دلالة حاله على احتياجه إلى واجب الوجود لذاته ، ويرى الإمام محمد عبده تغليب العاقل على غيره لنكتة لاحظتها العرب وهي أن لفظ العالم لا يطلق على كل كائن وموجود فيقال عالم الحجر وعالم التراب وإنما يطلق على كل جملة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العاقل الذي جمعت جمعه وإن لم تكن منه فيقال عالَم الإِنسان وعالَم الحيوان وعالَم النبات ثم قال ونحن نرى أن هذه الأشياء هي التي يظهر فيها معنى التربية الذى يعطيه لفظ رب لأن فيها مبدأها وهو الحياة والتغذي والتولد ، وهذا ظاهر في الحيوان ثم حكى عن أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني أن الحيوان شجرة قطعت رجلها من الأرض فهي تمشي والشجرة حيوان ساخت رجلاه في الأرض فهو قائم في مكانه يأكل ويشرب وإن كان لا ينام ولا يغفل .

ويتضح لك مما ذكرناه سابقا أن التربية تظهر في كل شيء وليس ظهورها محصورا في الأصناف التي ذكرها الأستاذ الإِمام ، وللعلماء أقوال في جمع العالَم مع أن العالَم اسم جنس يستغرق جميع أفراده من غير أن يجمع وأحسن ما يقال أنه أريد بالجمع إدخال جميع أجناس العالَم المختلفة في مدلول هذه الكلمة بينما يحصل استغراق أفراد هذه الأجناس بالتعريف إذ لو قيل رب العالَم لربما توهم أن المراد به جنس من أجناس العالَم كالبشر أو الملائكة أو الجن ، أما بهذه الصيغة فلا يبقى مجال لتوهم ذلك .

وتربية الله للعالمين تنقسم إلى قسمين : تكوينية وتشريعية . فالتكوينية ظاهرة على كل شيء ولنأخذ الإِنسان مثلاً لذلك فإن الله أوجده من خلية مهينة حقيرة إذا نظرت بالمجهر لم تكد تبصر لدقتها المتناهية ولكن لم تلبث أن تطورت بأطوار تربية الله المختلفة حتى خرج منها بشر سوي سميع بصير يفكر ويقدر ويدبر ويعلم ويريد ، يتميز بقدرات معنوية مع ما أوتيه من قوة حسية ، أهلُّه كل ذلك للخلافة في الأرض والاضطلاع بأمانة ثقلت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقن منها ، وكل ما يسره الله سبحانه للإِنسان من قوام جسده داخل في حدود تربيته التكوينية .

وأما التربية التشريعية فالإِنسان هو المستهدف بها وإن عم أثرها غيره وهى تتمثل في رسالات الله التي بعث بها رسله المصطفين لإِخراج الناس من الظلمات إلى النور وجمع شتاتهم وتوجيه عقولهم وأفكارهم وتصفية فطرهم وطبائعهم وكما أن الخلق لا يكون إلا من الله والبشر مهما أوتوا من قوة لن يخلقوا ذبابا ، فإن التشريع الصالح للإِنسانية لا يكون إلا منه سبحانه وتعالى أما التشريعات البشرية فما هي إلا مصدر شقاء الإِنسانية وبلائها إذ لا يمكن أن تؤلف بين الأجناس المختلفة في العادات والظروف ولا أن تجمع بين الرغبات المتباينة ، ولا يصح أن تعتبر من التربية في شيء ، وكل من تسول له نفسه فيشرع من الأحكام ما لم يأذن به الله كمن تسول له نفسه بأن يستطيع أن يشارك الله تعالى في خلقه تعالى الله عن ذلك .

ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ٣

{ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ }

سبق تفسيرهما وبقى النظر في إعادتهما وللمفسرين في ذلك آراء منهم من يرى هذه الإعادة دليلا على أن البسملة ليست من الفاتحة إذ لو كانت من الفاتحة لما كان معنى لتكرار ما جاء فيها من غير داع إلى ذلك ، ومن هؤلاء ابن جرير الطبري فقد جعل من هذه الإعادة دليلا على خطأ القائلين بأن البسملة من الفاتحة ثم التفت إلى ما جاء في القرآن مما ظاهره التكرار نحو قوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } في سورة الرحمن وقوله : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } في سورة المرسلات وأجاب بأن ذلك إنما يكون مع الفاصل وما قبل { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } في سورة الفاتحة لا يكفي لأن يعد فاصلا وبنى ذلك في رأيه على ما حكاه عن جماعة من أهل التأويل بأن في التركيب تقديما وتأخيراً والأصل { الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين مالك يوم الدين } وبين سبب هذه الدعوى أن الأصل في التركيب أن يكون كل شيء مع مناسبه وفي الآيات وصف الله سبحانه بالربوبية والرحمة والملك ، والربوبية أليق أن تكون بجانب الملك والرحمة بجانب الالوهية المستفادة من اسم الجلالة ، وذكر أن التقديم والتأخير مما لا يستنكر في الوضع العربي والشواهد عليهما قائمة في القرآن نفسه ومن سائر الكلام العربي ، وذكر من القرآن شاهدا على ذلك قول الله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً . . } [ الكهف : 1- 2 ] فإن في التركيب - حسبما يقول - تقديما وتأخيرا والأصل { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا } واستشهد لذلك من كلام العرب بقول جرير :

طاف الخيال وأين منك لماما***فارجع لزورك بالسلام سلاما

فالأصل : طاف الخيال لماماً منك هو . . وهذا الذي اعتمده ابن جرير ونسبه إلى جماعة من أهل التأويل نسبه أبو حيان في البحر المحيط إلى مكي وقال : لولا جلالة قائله لنزهت كتابي عن ذكره ثم ذكر أبو حيان علوَّ بلاغة القرآن وجمال أسلوبه في تركيب كلماته ورصف جمله فلا وجه للدعوى بأنه قدم فيه ما حقه التأخير أو أخر ما حقه التقديم وأضاف إلى ذلك بأن الله سبحانه وصف نفسه في الفاتحة بالربوبية والرحمة ، وذكر فيها حمده وعبادته ، ووصف الربوبية يقتضي استحقاق الحمد ، ووصف الرحمة يقتضى استحقاق العبادة ، وقد وُضع كل واحد من الوصفين بجوار ما يلائمه .

هذا وضعف كلام ابن جرير أظهر من أن يحتاج إلى الكشف ، فان عبارات القرآن الكريم لا يصح أن تُحمل على خلاف الأصل إلاّ لأمر يقتضي الخروج عنه ولا داعي هنا للتقديم والتأخير ، ولا يصح أن يُحمل التركيب القرآني الذي هو أبلغ تركيب في الكلام على ما قد يضطر الشعراءَ إليه في شعرهم محافظتُهم على الوزن والقافية ، فإن للشعر أحكاما لا تكون حتى للكلام المنثور ، وقد يفضى الاضطرار بالشعراء إلى الإِتيان بتركيب ممجوج تأباه الفصاحة ، نحو قول الفرزدق :

وما مثله في الناس إلا مملكا *** أبو أمه حيٌّ أبوه يقاربه

وقد أجمع علمَاء البلاغة على رداءة هذا التركيب ، فهل يصح أن يُحمل عليه أو على مثله شيء من التركيب القرآنى الذى يتعالى عن الضرورات ، ويعلو على كل العبارات ، وأما قول الله تعالى في فاتحة الكهف

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ، قَيِّماً }

فإن كل كلمة فيه قد جاءت في موضعها من غير تقديم ولا تأخير ، فإن الله سبحانه ابتدأ بنفي العوج عن كتابه ثم أكد هذا النفي بوصفه أنه قيّم والتأكيد يأتي بعد المؤكد ، وقد اجتمع من نفي العوج عن الكتاب ووصفه أنه قيّم نفى النقص عنه وإثبات الكمال له ، وإذا ألقينا نظرة على ترتيب كلمات الفاتحة الشريفة وجدنا كل كلمة جاءت في موضعها بحسب ما يقتضيه معناها ، وتصدير الفاتحة بعد البسملة بجملة { الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أمر تقتضيه الرسالة التي بُعث بها النبي عليه أفضل الصلاة والسلام وبُعث بها النبيون من قبله فإن رسالات جميع المرسلين تلتقي على الدعوة إلى توحيد الله تعالى { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ } وقد كانت دعوة كل رسول يواجه بها قومه

{ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ الأعراف : 59 ] فلا غرو أذا رأينا أم القرآن الكريم تُصدَّر - بعد البسملة التي تشترك فيها مع غيرها من السور - بجملة تستأصل جذور الشرك والوثنية من قلوب العباد وتغرس فيها شجرة التوحيد الخالص ، كيف وقد جمعت الفاتحة مقاصد القرآن ، والتوحيد أسمى مقاصده ، وقد كان القرآن منذ بداية نزوله يواجه تلك الوثنية العاتية المتأصلة في نفوس العرب ، فما أنسب أن تكون بداية هذه السورة الكريمة معنية ببناء صرح العقيدة الصّحيحة التي ترجع إليها جزئيات الأعمال في الإِسلام ، إذ ما من شيء من أعمال المسلم التي يطالب بها إلا وهو إما أن يكون مددا للعقيدة أو منبثقا منها ، فالشعائر التعبدية كلها وقود لمشكاتها وصقل لمرآتها والشريعة الجامعة التي شرعها الله هي من مقتضياتها ولوازمها ، فإن إنفراد الله سبحانه بالربوبية والألوهية يقتضي أن لا يُستمد منهج الحياة إلاّ منه ، ولا ريب أن ذوي الفطرة السليمة إذا قرع مسامعهم قول الحق سبحانه : { الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وتصوروا معناه داخلت قلوبهم هيبة تجف منها نفوسهم وترتجف منها أوصالهم لما يدركونه من عظمة الخالق سبحانه الذي يخضع لجلاله كل كائن في الوجود ، ويذل لكبريائه كل عزيز وعظيم ، فلا عجب إذا تُلِّيَ ذلك بوصف الرحمن الرحيم لإِفاضة الطمأنينة على هذه القلوب الواجفة وإنزال السكينة على هذه النفوس المضطربة عندما تشعر بأن هذه الربوبية هي ربوبية رحمة وإحسان ، والألوسي الذي تشدد في إنكار كون البسملة آية من الفاتحة يتفق هنا معنا على ضعف هذه الحجة ، وأوضح أن هذا التكرار لفائدة وهي أن ذكرهما في البسملة تعليل للابتداء باسمه عزّ شأنه وذكرهما هنا تعليل لاستحقاقه تعالى الحمد ، والرّازي يرى أن حكمة التكرار تشويق القلوب إلى رحمة الله تعالى كأنه قيل : اذكر أني إله ورب مرة واحدة ، واذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمه أكثر منها بسائر الأمور ، ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال : لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ، ونظيره قوله تعالى : { غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ } [ غافر : 3 ] وتعقب الألوسي كلام الرازي بأن الألوهية مكررة أيضا يشير بذلك إلى ذكر اسم الجلالة في البسملة وإعادته في جملة الحمد لله ، وذكر الإِمام محمد عبده نكتة ظاهرة في إعادة هذين الوصفين الكريمين وهي أن تربيته تعالى للعالمين ليست لحاجة به إليهم كجلب منفعة أو دفع مضرة وإنما هي لعموم رحمته وشمول إحسانه ، ثم أشار إلى النكتة التي ذكرناها من قبل وهي أن مراده تعالى بهذا التكرير أن يتحبب إلى عباده فعرفهم أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان ليكون في ذلك حافز لهم على اكتساب مرضاته وتجنب ما يؤدي إلى سخطه . . إلى آخر ما ذكر .

ويرى السيد رشيد رضا أنه لا وجه للبحث في عد ذكر { الرحمن الرحيم } في سورة الفاتحة تكرارا أو إعادة مطلقا ، وبين أن ذلك ظاهر على القول بأن البسملة ليست آية منها ، وأما على القول بأنها آية منه فيحتاج إلى بيان ، وأوضح وجهه وهو أن المراد من جعلها آية منها ومن كل سورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقنها ويبلغها الناس إعلانا منه بأن السورة التي صُدرت بها منزلة من عند الله لتكون رحمة لخلقه بما تشتمل عليه من هدايه ، وأنه عليه أفضل الصلاة والسلام لم يكن له كسب فيها ولا صنع ، وما هو إلا مبلغ لها بأمر الله تعالى ، فلذلك كانت مقدمة للسور كلها إلا سورة براءة المنزلة بالسيف وكشف الستار عن نفاق المنافقين ، فهي بلاء على من أنزل أكثرها في شأنه لا رحمة بهم ، ثم قال : وإذا كان المراد ببدء الفاتحة بالبسملة أنها منزلة من الله رحمة بعباده فلا ينافي ذلك أن يكون من موضوع هذه السورة بيان رحمة الله تعالى مع بيان ربوبيته للعالمين ، وكونه الملك الذي يملك وحده جزاء العاملين على أعمالهم وأنه بهذه الأسماء والصفات كان مستحقا للحمد من عباده ، كما أنه مستحق له في ذاته ، ولهذا نُسب الحمد إلى اسم الذات الموصوف بهذه الصفات ، ثم أضاف إلى ذلك أن الحاصل أن معنى الرحمة في بسملة كل سورة هو أن السورة منزلة برحمة الله وفضله فلا يُعد ما عساه يكون في أول السورة أو أثنائها من ذكر الرحمة مكررا مع ما في البسملة وإن كان مقرونا بذكر التنزيل كأول سورة فصلت { حم ، تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [ فصلت : 1- 2 ] لأن الرحمة في البسملة للمعنى العام في الوحي والتنزيل وفي السور للمعنى الخاص الذي تبينه السوره . . الخ .

هذا وبما أن القرآن الكريم أنزله الله ليكون هدًى للمؤمنين ، فإن كل كلمة منه تشع منها الهداية ، وبإمكان تاليه أن يستفيد بكل ما يتلوه في تهذيب نفسه وتربية ضميره ، وذكر صاحب " المنار " أن حظ العبد من وصف الله تعالى بالربوبية أن يحمده تعالى ويشكره باستعمال نعمه التي تتربى بها القوى الجسدية والعقلية فيما خلقت لأجله مستشعرا عظم المنة من الله سبحانه عليه من غير أن يكون تعالى محتاجا إليه ، وفي هذا ما يدعوه إلى إحسان تربية نفسه وتربية من يوكل إليه تربيته من أهل وولد ومريد وتلميذ ، واستعمال نعمته بهداية الدين في تربية نفسه الروحية والإِجتماعية ، وكذا تربية من يوكل إليه تربيتهم ، وأن لا يبغي كما بغى فرعون فيدعى أنه رب الناس ، وكما بغى فراعنة كثيرون ولا يزالون يبغون بجعل أنفسهم شارعين يتحكمون في دين الناس بوضع العبادات التي لم ينزلها الله تعالى ، وبقولهم هذا حلال وهذا حرام من عند أنفسهم أو من عند أمثالهم فيجعلون أنفسهم شركاء لله في ربوبيته قال تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21 ] وفسر النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله بمثل هذا .

وذكر صاحب المنار أيضا أن حظ العبد من وصف الله بالرحمة أن يطالب نفسه بأن يكون رحيما بكل من يراه مستحقا للرحمة من خلق الله تعالى حتى الحيوان الأعجم ، وأن يتذكر دائما أن ذلك هو طريقه إلى رحمة الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " رواه الطبراني عن جرير بسند صحيح وقال : " الراحمون يرحمهم الله تبارك وتعالى ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " رواه أحمد وأبو داود والحاكم من حديث ابن عمر ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله تعالى يوم القيامة " رواه البخاري في " الأدب المفرد " والطبراني عن أبي أمامه وأشار السيوطي إلى صحته .

مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ٤

{ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ }

في هذه الآية الكريمة تقرير لحقيقة هامة جاء القران الكريم ليقررها بكثير من آياته وهي كلية من كليات العقيدة الإِسلامية الصحيحة وضرورة من ضرورات الفكر الإِنساني الذي تصدر عنه التصرفات والأعمال وتقوم على أساسه حياة الإِنسان فإن الإِيمان باليوم الآخر ليس هو من الأمور الهامشية التي لا صلة لها بعمق الفكر ولا أثر لها في واقع الحياة ولكنه ركيزة أساسية في بناء الحياة الفكرية والعملية ، ولذلك نجد الإِيمان به يأتي رديف الإِيمان بالله في الذكر سواء في آيات الكتاب أو في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم خصوصا عندما يستدعي الحال تأكيد أمر أو نهي فكثيرا ما يأتي في القرآن { لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } أو ما يفيد مفاد هذا التعبير في حال التأكيد ، كما أنا نسمع كثيرا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر . . فليفعل كذا " أو " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يفعل كذا " وفي ذلك ما يكفي برهانا أن الإِيمان باليوم الآخر كالإِيمان بالله في عمق أثرهما في سلوك الإِنسان وقوة تأثيرهما في توجيه ميوله ورغباته وضبط غرائزه ونزعاته ، وهذا لأن الإِيمان بالله يعني الإِيمان بالمبدأ والإِيمان باليوم الآخر يعني الإِيمان بالمصير وهل تبقى للإِنسان قيمة إن جهل المبدأ أو المصير ، وماذا عسى أن تكون حالة هذا الإِنسان الذي يعيش على هامش الحياة لا يستشعر حقوقا عليه لمبدئه ، ولا مسئولية يخشى مغبتها في مصيره وإنما يلهو ويمرح ويأكل ويشرب ويسافد ويتناسل شأن البهائم التي لا عقل لها ولا ضمير أما إذا أدرك واستيقن أن له مُبدئا أخرجه من العدم واسبغ عليه صنوف النعم وبوأه في الأرض ومكن له فيها فإن إدراكه لذلك يحيي في نفسه شعورا لافتقاره إلى تحري مرضاة هذا المبديء الكريم والخالق العظيم فيدعوه ذلك إلى أن يستمد منه منهج حياته وميزانه الذي يعرف به الخير والشر والنفع والضر ولكنه مع ذلك قد يتعامى عن قصد السبيل لما يتجاذبه من طبائع النفس ويتقاضاه من مطالب الحياة فهو واقع بين العواطف الملتهبة والغرائز الجارفة والمطالب المختلفة والدوافع المتنوعة فلا عجب إذا أنساه ذلك ما يجب عليه تجاه خالقه وتجاه الخلق ، ولكن إيمانه بالمنقلب الذي يلقى فيه جزاءه يجعله يستعلى على ضرورات حياته ورغبات نفسه ودوافع غرائزه فلا يجعل العواطف أساسا لتعامله مع الناس ولا الغرائز مقياسا للنفع والضر والخير والشر ، وحياة الإِنسان في الأرض حياة محدودة بل حياة وهمية إذ لا يعرف أحد مقدار بقائه فيها فهو ينتظر فراقها بين لحظة وأخرى ، فإذا لم يؤمن بحياة أطول يجازى فيها على عمله كان ذلك داعيا إلى التقاعس عن الخير واستغلال ما يمكن من المنافع العاجلة ولو على حساب الآخرين وما الذي يدعوا الإِنسان إلى التفاني في البر وهو غير واثق من إستيفاء جزائه في هذه الحياة الدنيا ولا راجٍ حياة أخرى يطمع فيها أن يلقى أجر ما كسب ، وعدم الإيمان بالمعاد مدعاة للقلق بسبب عدم وثوق الإِنسان من التعمير في هذه الدنيا ، وهبه معمرا فيها فإنه لا بد له من يوم يواجه فيه الموت الكريه ، فهو يحسب حسابه بإستمرار ليوم فنائه الذي يفرق ما جمع ، ويأتي على ما كسب ، وما الليل والنهار إلا مطيته الدؤب التي تسير به إلى ذلك اليوم وهذا يدعوه - مع عدم إعتقاد المعَاد - إلى التكاسل عن واجباته الإجتماعية ، أما إذا وثق بأنه سيعاد كما كان مرة أخرى وسيوفى جزاء عمله فإن وثوقه بذلك سبب لطمأنينة نفسه ونشاطها في العمل .

والمشركون الذين كان القرآن يواجههم كانوا يؤمنون إيمانا جزئيا بالله الخالق العظيم سبحانه وتعالى ، فالله تعالى يقول عنهم : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان : 25 ] ولكنهم فاقدون الإِيمان بيوم البعث وهذا جعلهم يعيشون بلا هدف ويحيون للشهوات الدنيئة ، فقد حكى الله تعالى عنهم قولهم : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ ق : 3 ] وقولهم{ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُونَ } [ المؤمنون : 82 ، الصافات : 16- 17 ، الواقعة : 47- 48 ] وكان القرآن الكريم يواجههم بالأمثال المختلفة التي يضربها لهم لتبديد شبههم وتفريق أوهامهم ، فاسمع إلى قول الله تعالى :

{ يأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ } [ الحج : 5- 7 ] وإلى قوله : { أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ } [ يس : 77- 81 ] تتصور تلك المعركة الحامية الوطيس ، معركة الجدال في اليوم الآخر .

وقوله تعالى : { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } جاء في هذه السورة الكريمة لقرن الترهيب بالترغيب ، فإن الآيات السابقة آيات مبشرات ، وقد قضت سنة الله في كتابه أن يجتمع الوعد والوعيد غالبا في آية أو آيات متجاورة لحكمة بالغة علمها الله تعالى ، فإن العباد بحاجة إلى تربيتهم بالترغيب والترهيب ، وإيقاظ الشعور بالخوف والرجاء في نفوسهم لينشطوا للأعمال الصالحة بباعث الرجاء ، وليحاذروا الأعمال السيئة لداعي الخوف ، وفي الآية قراءات : " قرأ عاصم والكسائي ويعقوب وخلف في مختاره { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ، قال الألوسي : وهي قراءة العشرة إلا طلحة والزبير ، وقراءة كثير من الصحابة منهم أُبيُّ وابن مسعود ومعاذ وابن عباس والتابعين منهم قتادة والأعمش "

وذكر ابن عطية في تفسيره عن مكي أن نسبها - فيمن نسبها إليهم - إلى طلحة والزبير أيضا ، وقرأ باقي السبعة " مَلِكَ يوم الدين " ، ونُسبت إلى زيد وأبي الدرداء وابن عمرو وكثير من الصحابة والتابعين ، وروى أحمد بن صالح عن ورش عن نافع " ملكي " بإشباع كسرة الكاف ، وروي عن أبى عمرو من السبعة " مَلْك يوم الدين " بتسكين اللام ، وثم قراءات أخرى منها : " مَلَك يوم الدين " بفتح اللام فعلاً ماضياً ، و " مالكَ " بالنصب و " مالكاً " بالنصب والتنوين ، و " مالكٌ " بالرفع والتنوين ، و " مالك .

. " بالرفع والإِضافة ، و " مالكَ " بالنصب والإِضافة ، و " مليك " على وزن عظيم ، وهي قراءات شاذة لا يقرأ بها في الصلاة ، وإنما المشهور القراءتان الأوليان .

وروي الترمذي في سننه عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ " ملك " بغير ألف ، وأخرج نحوه ابن الأنباري عن أنس ، وأخرج أحمد والترمذي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقرأون " مالك " بالألف ، وأخرجه الحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا ، ورواه الطبراني في " الكبير " عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحوه عند سعيد بن منصور عن ابن عمر رضي الله عنهما ، وأخرجه أيضا وكيع في تفسيره وعبد بن حميد وأبو داود عن الزهري يرفعه مرسلا ، وأخرجه ابن الرزاق في تفسيره وعبد بن حميد وابو داود عن ابن المسيب يرفعه أيضا ارسالا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الشوكاني في تفسيره : وقد روي من طرق كثيرة فهو أرجح من الأول ، وللعلماء خلاف في ترجيح إحدى القراءتين على الأخرى مع الإِجماع أن كلتيهما صحيحتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ذهب إلى ترجيح { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } طائفة منهم المبرد وأبو عبيد من أئمة العربية وعليه ابن جرير الطبري والزمخشري والجرجاني والقرطبي وقطب الأئمة والإِمام أبو نبهان والسيد محمد رشيد رضا .

وذهب إلى ترجيح { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } طائفة أخرى منهم أبو حاتم وابن العربي وابن عطية والشكواني والإِمام محمد عبده ، ولكل حجة .

أما الأولون فيحتجون لرأيهم بأن قراءة " ملك " هي قراءة أهل الحرمين وهم أجدر أن يقرأوا القرآن غضا طريا كما أُنزل ، وبأنها تعتضد بقوله تعالى في وصف يوم الدين { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } وبقوله تعالى في سورة الناس وهي آخر القرآن ترتيبا { مَلِكِ النَّاسِ } وبأن نفوذ الملك أعم من نفوذ المالك وبأنه يلزم على قراءة " مالك " نوع تكرار لأن الرب بمعناه أيضا ، وبأنه سبحانه وصف ذاته المتعالية بالملك عند المبالغة في قوله { مَالِكَ الْمُلْكِ } [ آل عمران : 26 ] والملك مأخوذة من المُلْك بالضم بخلاف المالك فإنه من المِلك بالكسر ، واعترض على الأول بأن قراءة أهل الحرمين لا تدل على الرجحان لأنه لو سلم كون أوائلهم أعلم بالقرآن لم يسلم ذلك في عهد القراء المشهورين ، ومن المعلوم أن صحيح البخاري مقدم على موطأ مالك مع أن مالكاً هو عالم المدينة على أن القراءات المشهورة كلها متواترة وبعد التواتر المفيد للقطع لا يلتفت إلى أصول الرواة ، وقول بعضهم : لا يخفي أن أهل الحرمين قديما وحديثا أعلم بالقرآن والأحكام مردود بأنه لو ثبت ذلك لأقتضى ترجيح روايتهم على كل رواية والأخذ برأيهم دون من سواهم ، واعترض على الثاني بأن عضد قراءة " ملك " بقوله تعالى : { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } [ غافر : 16 ] يمنعه قوله سبحانه عن ذلك اليوم : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } [ الانفطار : 19 ] فإنه أراد به يوم القيامة وهو يوم الدين ، ونفى المالكية عن غيره يقتضي إثباتها له ، لأن السياق لبيان عظمته تعالى ، ويعضده قوله من بعد : { وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] فإن المقصود بالأمر واحد الأمور لا الأوامر ، واعترض على الثالث بأن ما في سورة الناس يختلف عما في سورة الفاتحة لأنه لو قٌرئ هنالك " مالك الناس " لتكرر معناه مع ما في رب الناس وأما هنا فلا تكرار لاختلاف المقام ، واعتُرِض على الرابع بأنه لا يلزم أن يكون الملك أعمّ من المالك بل بينهما العموم الوجهي ويُتصور ذلك فيمن شمل ملكه مدينة فيها الكثير من الناس والممتلكات ، ولكن لا مِلك له فيها - بالكسر - فهو ملك غير مالك بالنسبة إليها ، وأصحاب المِلك بالكسر - هم الذين لهم مطلق التصرف فيما يمتلكون دون الملك ، واعتُرض على الخامس بأن دعوى التكرار مدفوعة وهي أيضا لازمة على قراءة ملك إن فُسِّر الرب بالملك كما ذكره الجوهري ، وقد أوردنا بعض الشواهد لذلك في تفسير الرب واعترض على السادس بأن قوله تعالى : { مَالِكَ الْمُلْكِ } أدل على المالكية منه على الملكية ، وإضافة المالك إلى الملك تدل على أن المالك أبلغ من الملك لأن المُلك - بالضم - قد جعل تحت حيطة المالكية لأنه أحد مملوكاته .

وأما الآخرون فيحتجون أيضا بأدلة ، منها أن في قراءة مالك حرفا زائدا ، ولكل حرف في التلاوة عشر حسنات كما جاء في الحديث ، فكانت قراءته أكثر ثوابا ، ومنها أن المالك أقوى تصرفا في مِلكه من الملك في مُلكه لأن الملك هو الذي يدبر أعمال رعيته العامة ولا تصرف له بشيء من شئونهم الخاصة ، قال الإِمام محمد عبده : ( وإنما تظهر هذه التفرقة في عبد مملوك في مملكة لها سلطان ، فلا ريب أن مالكه هو الذي يتولى جميع شئونه دون السلطان ) ، ومنها أن الملك ملك الرعية ، والمالك مالك للعبيد والعبد أدون حالا من الرعية ، فوجب أن يكون القهر في الملكية أكثر منه في المالكية ، فوجب أن يكون المالك أعلى حالا من الملك ، ومنها أن الرعية يمكنهم التخلص عن كونهم رعية ملكهم باختيار أنفسهم وذلك بانتقالهم عن مملكته إلى مملكة أخرى وحملهم جنسية جديدة ، أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه أن يكون مملوكا لمالكه وهذا يدل على أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية ، ومنها أن المملوك مطالب بخدمة المالك وليس له أن يستقل بأمره دونه ، ولا يجب على الرعية خدمة الملك وهذا يعني أن الانقياد والخضوع في المملوكين أبلغ منهما في الرعايا ، ومنها أن المالك يحق له بيع مملوكه ورهنه بخلاف الملك فلا يحق له بيع رعيته ، ومنها أن المالك يضاف إلى العاقل وغيره ، فيُقال مالك الناس ، ومالك الدواب ، ومالك الأرض ، ومالك الشجر ، أما الملك فلا يضاف إلى مُطلق هذه الأشياء بل يُضاف إلى الناس لأنهم عقلاء ، ونحن إذا أمعنا النظر لم نجد فائدة في هذا الاختلاف ، فالقراءتان صحيحتان مشهورتان ، وكل واحدة منهما تؤكد معنى ، فالله تعالى قد وصف نفسه في التنزيل بأنه ملك ومالك ، فقد قال : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ } [ الحشر : 23 ] وقال : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } [ آل عمران : 26 ] .

فلا داعي إلى ترجيح إحدى القراءتين على الأخرى مع ثبوتهما جميعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما أختار أن يلتزم القارئ في الصلاة وفي غيرها القراءة التي اعتادها ، فلا تكون قراءته للقرآن مركبة بعضها بقراءة قارئ وبعضها بقراءة قارئ آخر ، فنحن هنا في المشرق نقرأ بقراءة عاصم فعلينا أن نقرأ { مالك } في الصلاة وفي غيرها إلا إذا أراد أحدنا أن يقرأ في الصلاة بقراءة أحد القراء السبعة الآخرين فعليه أن يلتزم تلك القراءة في كل شيء لا في ( ملك ) فحسب ، وكذلك إذا أراد أحدنا أن يتلو القرآن خارج الصلاة بقراءة قارئ آخر فعليه أن يلتزمها من أول القرآن إلى آخره لا أن يقرأ بعضه بقراءة وبعضه بقراءة أخرى ، أما أهل شمال افريقيا وغربها فهم يقرأون بقراءة نافع ، فالأولى بهم أن يقرأوا ( ملك ) لئلا يخرجوا عن التركيب الذي ذكرته اللهم إلا أن يريد أحدهم أن يقرأ في صلاة بعينها أو في كل الصلوات أو في تلاوة بعينها أو في جميع التلاوات بقراءة قارئ آخر فله ذلك على أن يلتزم ما تقتضيه تلك القراءة من أحكام ، أما إذا نظرنا إلى ما تدل عليه الكلمتان وجدنا أن كلمة مالك أبلغ في التنصيص على عدم وجود من يملك في ذلك اليوم شروى نقير إذ انفراد أحد بكونه ملكا في زمان أو مكان لا يمنع من وجود ملاك تحته بخلاف ما إن ( انفرد بكونه مالكا ) ومن هنا قال أبو حاتم : إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من ملك وملك ابلغ في مدح المخلوقين من مالك ، والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك وإذا كان الله مالكا كان ملكا ، وبهذا تعلم أن الخشوع الذي تثيره قراءة مالك لا يقل عما تثيره قراءة ملك ، وإن قال السيد محمد رشيد رضا في " المنار " بخلاف ذلك مستدلا لما يقوله بأن الملك هو المتصرف في أمور العقلاء المختارين بالأمر والنهي والجزاء ، والمراد بالآية تذكير المكلفين بما ينتظرهم من الجزاء على اعمالهم رجاء أن تستقيم أحوالهم .

وإنما قلت بأن القراءتين جميعا تؤثران الخشوع في القلب بالسواء نظرا إلى أن المالك لذلك اليوم هو الذي وعد وتوعد ولا اخلاف لوعده أو وعيده ولا تبديل لكلماته فليس معنى لما يقوله السيد رشيد رضا من أن قراءة ملك أكثر تأثيرا في الخشوع ولا يلزم من هذه القراءة أن يكون معناها تكرارا لما في رب العالمين لأن ذكر الخاص بعد العام إنما هو دليل الاهتمام به ولا يعد من التكرار ، وذكر ابن عطية والقرطبي في تفسيريهما عن أبي على أن أبا بكر بن السراج حكى عن بعض من اختار القراءة بملك ، أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقوله : { رَبِّ الْعَالَمِينَ } فلا فائدة في قراءة من قرأ مالك لأنها تكرير قال أبو على : ولا حجة في هذا لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة تقدم العام ثم ذكر الخاص كقوله تعالى :

{ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ } [ الحشر : 24 ] فالخالق يعم ويذكر المصور لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجود الحكمة ، وكما قال تعالى :

{ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [ البقرة : 4 ] بعد قوله

{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } [ البقرة : 3 ] والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها والتنبيه على وجوب اعتقادها والرد على الكفرة الجاحدين لها ، وكما قال : { الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ } فذكر الرحمن الذي هو عام وذكر الرحيم بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله :

{ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [ الأحزاب : 43 ]

والإضافة في مالك كالإِضافة في ملك ليست مجرد إضافة لفظية فالتعريف بها حاصل ولذلك جاز وصف اسم الجلالة بها ويوم الدين وإن كان مستقبلا فإنه لتحقق وقوعه نازل منزلة الشيء الكائن وملك الله تعالى له أمر ثابت .

وكون الله تعالى مالك ذلك اليوم يعني أنه مالك لكل ما فيه لأن الزمان كالمكان تقتضي الإِضافة إليه شمول ما ينطوي عليه ، وقد جاء ذكر يوم الدين في كثير من آيات الكتاب العزيز في معرض التخويف من الجزاء وبيان عاقبة القوم الظالمين من ذلك قوله سبحانه : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ، ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ، يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 17- 19 ] وقوله : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً } [ الفرقان : 25- 26 ] وقوله : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ، إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ، كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ، يلَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ، مَآ أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ، هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ، خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } [ الحاقة : 18- 32 ] وبين تعالى أن العبد يومئذ يتخلى عنه كل ما أوتيه في الدنيا من ملك وجاه ، وكل ما يكون سببا للاعتزاز والافتخار فقد قال عز من قائل :

{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } [ الأنعام : 94 ] وقال سبحانه :

{ إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ، لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً ، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً } [ مريم : 93- 95 ] وأخبر تعالى عن تقطع جميع الصلات والأسباب يومئذ وتحول جميع المودات إلى عداوة ساخنة إلاَّ ما يكون بين عباده المتقين حيث قال :

{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] وقال :

{ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] وقال : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصَحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 34- 37 ] وفي هذا ما يدعو ذوي الألباب لانتهاز فرصة الحياة وتزود تقوى الله تعالى منها{ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [ البقرة : 197 ] .

و { الْيَوْمَ } لغة وقت طلوع الشمس إلى وقت غروبها ، وشرعا من بين طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس ، ويُطلق على مجموع الليل والنهار واستُعير هنا لما بين ابتداء القيامة إلى استقرار أهل الدارين فيهما ، و ( الدين ) يأتي لغة لمعان ، نقتصر منها على معنيين لصلتهما بالمراد في الآية :

أولهما : الحساب على الأعمال والمجازاة عليها ، ومنه قولهم : كما تدين تدان ، وقول الشاعر :

واعلم يقينا أن ملكك زائل***واعلم بأن كما تدين تُدان

وقول الآخر :

إذا ما رمونا رميناهم***ودناهم مثلما يقرضونا

{ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ }

ثانيهما : القضاء ومنه قوله تعالى :

{ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } [ يوسف : 76 ] وقول الشاعر :

لعمرك ما كانت حمولة معبد***على جُدها حربا لدينك من مُضر

وفسر الدين في الآية بالمعنى الأول ابن عباس وابن مسعود من الصحابة رضى الله عنهم ، وعليه ابن جريج وقتادة ، وحكى ذلك عنهم ابن جرير وغيره من المفسرين ، وروي عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما تفسيره بالمعنى الثاني وكلاهما سائغ ، وجاء الدين في القرآن بمعنى الجزاء في قوله : { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ } [ النور : 25 ] وقوله : { أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } [ الصافات : 53 ] ويدل عليه قوله تعالى : { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ غافر : 17 ] وقوله : { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 28 ]

وقد يسأل سائل ، أليس الله مالكا لجميع الأيام ؟ فكيف يُخَص مُلكُه بيوم الدين ؟ .

والجواب أن كل زمان داخل في حيطة ملك الله تعالى الواسع كدخول كل مكان ، وإنما خُص يوم الدين بالذكر لأن الذين يتعامون في الحياة الدنيا عن دلائل اختصاص الله تعالى بالملك فيدعون الملك لأنفسهم أو لغيرهم ويخشون غير الله تعالى ، ويرجون سواه يدركون في ذلك اليوم أن الملك لله تعالى وحده ، فلا يتطاول أحد على ادِّعاء الملك ، ولا يتعلق خوف أحد ولا رجاؤه بغير الله ، ولذلك قال الله تعالى : { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند الشيخين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض ؟ " ، ومن هنا حرم أن يوصف أي أحد غير الله بأنه مالك يوم الدين أو ملك يوم الدين ، كما يحرم وصف غيره بأنه رب العالمين ، ومثلهما ملك الملوك وملك الأملاك فإنهما وصفان لله تعالى وحده ، ففي حديث أبي هريرة عند الشيخين أيضا أن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام قال : " إن أخنع إسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك " - زاد مسلم - " لا مالك إلا الله عَزّ وجل " وفي رواية أخرى " أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل كان يسمى ملك الأملاك ، لا ملك إلا الله سبحانه " .

أما الملك فيجوز اطلاقه مجازا على غير الله كما في قوله تعالى حكاية عن بني اسرائيل : { ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ البقرة : 246 ] وقوله : { إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } [ البقرة : 247 ] وفي الحديث " ناس من أمتي عُرضوا عليَّ غُزاة في سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة " .

ولسائل أن يسأل أيضا أليست كل الأيام أيام جزاء وكل ما يلاقيه الناس في هذه الحياة من البؤس هو جزاء على تفريطهم في اداء الحقوق والقيام بالواجبات التي عليهم ؟ واترك الإِجابة لصاحب المنار الذي طرح هذا السؤال وأجاب عنه بما معناه : أن الجزاء قد يقع في أيام الدنيا على جميع الأعمال خيرا كانت أم شرا ولكن ربما لا يظهر للمجزيين إلا على بعضها دون جميعها ، وانما يظهر الجزاء على التفريط في العمل الواجب ظهورا تاما في الدنيا بالنسبة إلى مجموع الأمة لا إلى كل فرد من أفرادها فكل أمة تنحرف عن صراط الله المستقيم ولا تراعي سننه في خليقته لا ينتظرها إلا مصير حاسم تلقى فيه من العدل الإلهي ما تستحقه من الجزاء كالفقر والذل وتبدد العزة وتلاشي السلطة جزاءً وفاقا ، أما الأفراد فإن كثيرا من المسرفين الظالمين منهم يقضون أعمارهم في لجج الشهوات والملذات وقد توبخهم ضمائرهم أحيانا ولا يسلمون من المنغصات وقد يصيبهم النقص في أموالهم وعافية ابدانهم وقوة مداركهم ولكن كل هذا لا يقابل بعض اعمالهم القبيحة لا سيما أولئك الجبابرة المتسلطون الذين تشقى بأعمالهم السيئة شعوب وأمم ، وفي مقابل أولئك نرى المحسنين في انفسهم وفي الناس يبتلون بصنوف البلاء ولا ينالون الجزاء الذي يستحقونه على صنوف أعمالهم ! نعم يكرمهم الله تعالى براحة ضمائرهم وسلامة أخلاقهم وصحة ملكاتهم ولكن ليس ذلك كل ما يستحقون ، أما في ذلك اليوم فكل فرد من افراد العاملين يوفى جزاؤه كاملا لا يظلم شيئًا منه كما قال تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } الزلزلة : [ 7- 8 ] .

إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ٥

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

في هذه الآية الكريمة يعلم الله عبادة أن يفردوه بالعبادة وبالاستعانة ، وهذه ثمرة التوحيد وجوهر الإِيمان والآيات المتقدمة في السورة جاءت توطئة لها ومقدمة لما فيها فإن الإله الحق الذي هو رب العالمين والمتصف بالرحمة والمالك للأمر في الدنيا والآخرة جدير بأن لا تتجه العبادة إلى غيره وأن لا يتعلق القلب بسواه ، ويرى الزمخشري أن الآية الكريمة جاءت لتبين الحمد المقصود في قول الله تعالى : { الْحَمْدُ للَّهِ } ويتقدمها سؤال مقدر تقديره كيف تحمدونه ؟ فأُجيب : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، وسوغ السيد الجرجاني ذلك لأن السؤال عن كيفية الحمد لا عن ماهيته ، فصح أن يجاب عنه بالإِجابة المشتملة على الحمد وعلى غيره لأن ضم غيره إليه نوع بيان لكيفيته ، أي حال حمدنا أن نجمعه بسائر عبادات الجوارح والاستعانة في المهمات ، ونخص مجموعها بك ، وأورد السيد الجرجاني أيضا أنه صح كون العبادة بيانا للحمد من حيث أن اقصى غاية الخضوع يقتضي اعترافا تاما بالإِنعام ، ووصفا للمنعم بصفات الجلال والإِكرام ، وهذا لأن الحمد أصل العبادة ورأسها كما مر أنه رأس الشكر ، إِذ حقيقة العبادة شكر المنعم الحقيقي ، أي اظهار الانقياد له بقدر الإِمكان غاية ما في الباب أن الجواب يشتمل على زيادة في البيان ، ورجح السيد الجرجاني أن يكون قوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } استئنافا جوابا لسؤال يقتضيه اجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها أزلا وأبدا ، كأن سائلا يقول : ما شأنكم مع هذا الموصوف ؟ وكيف توجهكم إليه ؟ .

فأجيب بحصر العبادة والاستعانة فيه ، واعترض الإِمام أبو السعود ما يقوله الزمخشري " بأنه مع كونه لا حاجة إليه مما لا صحة له في نفسه فإن السؤال المقدر لا بد أن يكون بحيث يقتضيه انتظام الكلام ، وتنساق إليه الأذهان والأفهام ، ولا ريب في أن الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفية اللائقة لا يخطر ببال أحد أن يسأل عن كيفيته ، على أن ما قدر من السؤال غير مطابق للجواب فإنه مسوق لتعيين المعبود لا لبيان العبادة حتى يتوهم أنه بيان لكيفية حمدهم ، والاعتذار بأن المعنى نخصك بالعبادة وبه يتبين كيفية الحمد تعكيس للأمر وتمحل لتوفيق المنزل المقرر بالمفهوم المقدر ، ثم قال : وبعد اللُّتيا والتي إن فرض السؤال من جهته عز وجل فأتت نكته الالتفات التي أجمع عليها السلف والخلف ، وإن فرض من جهة الغير يختل النظام لابتناء الجواب على خطابه تعالى وبهذا هدم أبو السعود ما رجحه الجرجانى من أنه استئناف جوابا لسؤال يقتضيه اجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها ، وأضاف ( بأن تناسي جانب السائل بالكلية وبناء الجواب على خطابه عزّ وعلا مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله ) ثم قال : ( والحق الذي لا محيد عنه أنه استئناف صدر عن الحامد بمحض ملاحظة اتصافه تعالى بما ذُكر من النعوت الجليلة الموجبة للإِقبال الكلى عليه من غير أن يتوسط هنالك شيء آخر ) وأرى أن أضيف إلى ما يقوله أبو السعود أن السورة الكريمة صُدِّرت بحصر الحمد في ذات الحق تعالى وهو مشعر كما سبق بصدور جميع الآلاء عنه ثم تُلِّي ذلك بوصفه تعالى أنه رب العالمين ، وفي هذا تصريح بما يستلزمه حصر الحمد فيه من كونه مصدر جميع الآلاء ، كما أن فيه إيقاظا للشعور بعظمته تعالى المستوجبة لملأ القلب بهيبته ، ثم أُتبع ذلك وصفه بالرّحمة المستلزمة للإِحسان ، واختتمت سلسلة هذه الصفات بكونه مالك يوم الدين وهو اليوم الذي ينقلب جيع الناس إليه ليلقوا جزاء ما قدموا ، وإجراء هذه الصفات العظيمة على الله باللسان مع استشعار معانيها بالقلب يجعل النفس تنساق انسياقا تلقائيا إلى منتهى الخضوع لهذا الرب الجليل الموصوف بهذه الصفات ، صفات العظمة التي لا تليق بغيره ، وليس خضوع أبلغ من خضوع العابد فناسب المقام أن يُفرد الله تعالى هنا بالعبادة وبالاستعانة بصيغة الخطاب المشعرة بالحضور ، والخروج بالكلام من أسلوب الغَيبَة إلى أسلوب الخطاب هو المعروف عند علماء البلاغة بالالتفات ويكون أيضا بالخروج عن التكلم إلى الخطاب أو العكس وبالخروج عن الخطاب إلى الغيبة أو التكلم وهكذا .

ولا يعنينا هنا بحث مسائل الالتفات فإن ذلك من اختصاص علم البلاغة وانما يعنينا بحث النكتة التي يجاء به لأجلها ، وقد ذكر علماء البلاغة نكتة عامة له وهي تطرية الكلام وتجديد نشاط السامع والمتكلم ، وقد تنضم إليها نكت خاصة بحسب المقامات ، وللمفسرين والبلاغيين سباق في إظهار النكت التي تناسب هذا المقام ، منهم من قال : لما ذُكر الحقيق بالحمد ووُصف بصفات العظمة التي تميزه عن غيره تعلقت معرفة القلب بمعلوم متميز خوطب بذلك ليكون أدل على الإِختصاص والترقي من البرهان إلى العيان ، والإِنتقال من الغيبة إلى الشهود فكأن المعلوم صار عيانا ، والمعقول مشاهدا ، والغيب حضورا ، وقيل : لما شرح الله تعالى صدر عبده بالإِسلام وأفاض على قلبه نور الإِيمان ترقى بسلم الحمد المستجلب لمزيد النعم إلى مقام الإِحسان وهو ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) وأيضا حقيقة العباده هو الإِنقياد المطلق من النفس لأحكام المعبود ، وصورة هذا الإِنقياد وقالبه الإِسلام ، ومعناه وروحه الإِيمان ، وسره وغايته الإِحسان ، وبالإِلتفات في ( نعبد ) يصل العبد عبر المرحلتين السابقتين إلى المرحلة الثالثة ، وذكر الألوسي " بأنه يحتمل أن يكون السر أنّ الكلام من أول السورة إلى هنا ثناء ، والثناء في الغيبة أولى ومن هنا إلى الآخر دعاء وهو في الحضور أولى " ، وقيل غير ذلك .

والعبادة لغة بمعنى الذل ، يقال : عبد إذا ذل ، وعُبِّد إذا ذُلل ، منه قوله تعالى : { أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 22 ] ويُقال طريق معبد إذا وطئته الأقدام حتى ذللته ، ومنه قول طرفة بن العبد :

تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت *** وظيفا وظيفا فوق مور معبد

أما اصطلاحا فللناس فيها مذاهب ترجع إلى المعنى اللغوي ، فابن جرير الطبري يفسرها بالخضوع والاستكانة والذل مع الإِقرار بالربوبية للرب المعبود وحده ، وروي عن ترجمان القرآن رضي الله عنه " أن المراد بقوله سبحانه { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } إياك نوحد ونخاف ونرجو " ، ورواه عنه ايضا ابن ابي حاتم ، وابن كثير يرى أن العبادة استكمال المحبة مع منتهى الخضوع والخوف ، وابن تيميه يرى أن العبادة الجمع بين المحبة والخضوع ، ولجهابذة العلماء في العصر الحديث أنظار في مدلول لفظ العباده ، فالإِمام أبو الأعلى المودودي يرى أن العبادة تتكون من عناصر ، منها الإِذعان التام من العابد لعلو المعبود والنزول له عن حريته واستقلاله ، وترك كل مقاومة وعصيان إزاءه والإِعتقاد بعلائه ، والإِعتراف بعلو شأنه ، وأن يكون قلبه مفعما بعواطف الشكر والإِمتنان على نعمه وأياديه بحيث يبالغ في تمجيده وتعظيمه ، ويتفنن في إبداء الشكر على آلائه ، وفي أداء شعائر العبدية له ، ويرى العلامة المودودي أن هذا التصور لا ينضم إلى معاني العبدية إلا إذا كان العبد لا يخضع لسيده رأسه فحسب ، بل يخضع معه قلبه أيضا ، ويستمد السيد المودودي نظرته هذه في تفسير العبادة من مدلول الكلمة اللغوي ، فإن العربي بمجرد سماعه كلمة العبد والعبادة لا يتصور إلا العبديه والعُبودية ، وبما أن وظيفة العبد الحقيقية هي طاعة سيده المطلقة فإن تصور الطاعة بمجرد ذكر العبد والعبادة أمر لا بد منه ، وخلاصة رأيه في العبادة أنها خضوع الظاهر والباطن والانقياد المطلق من العابد للمعبود مع غمرة القلب بالشعور العبودي .

أما الأستاذ الشيخ محمد عبده فيرى أن العبادة شعور خاص في القلب يستلزم الخضوع المطلق والإِنقياد التام من العابد للمعبود وفي ذلك يقول : ما هي العبادة ؟ يقولون هي الطاعة مع غاية الخضوع وما كل عبارة تمثل المعنى تمام التمثيل وتجليه للأفهام واضحا لا يقبل التأويل فكثيرا ما يفسرون الشيء ببعض لوازمه ويعرفون الحقيقة برسومها ، بل يكتفون احيانا بالتعريف اللفظي ، ويبينون الكلمة بما يقرب من معناها ، ومن ذلك هذه العبارة التي شرحوا بها معنى العبادة ، فإن فيها اجمالا وتساهلا واننا إذا تتبعنا آى القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب لعبد وما يماثلها ويقاربها في المعنى - كخضع وخنع واطاع وذل - نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهي عبد ويحل محلها ويقع موقعها .

ولذلك قالوا : إن لفظ العباد مأخوذ من العبادة فتكثر إضافته إلى الله تعالى ولفظ العبيد تكثر إضافته إلى غير الله تعالى لأنه مأخوذ من العبودية بمعنى الرق وفرق بين العبادة والعبودية بذلك المعنى ، ومن هنا قال بعض العلماء إن العبادة لا تكون في اللغة إلا لله تعالى ولكن استعمال القرآن يخالفه .

يغلو العاشق في تعظيم معشسوقه والخضوع له غلوا كبيرا حتى يفنى هواه في هواه وتذوب إرادته في ارادته ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة ، ويبالغ كثير من الناس في تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء فترى من خضوعهم لهم وتحريمهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين دع سائر العابدين ، ولم يكن العرب يسمون شيئا من هذا الخضوع عبادة فما هي العبادة إذاً ؟ .

تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية ، ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به ، ولكنها فوق إدراكه فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال إنه عبده وإن قبل موطئ أقدامه ما دام سبب الذل والخضوع معروفا وهو الخوف من ظلمه المعهود أو الرجاء لكرمه المحدود اللهم إلا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن للملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا لأنهم أطيب الناس عنصرا وأكرمهم جوهرا ، وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد إلى الكفر والإِلحاد فاتخذوا الملوك آلهة وأربابا وعبدوهم عبادة حقيقية .

ويضيف الأستاذ إلى ذلك فيقول : للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرعت لتذكير الإِنسان بذلك الشعور بالسلطان الإِلهي الأعلى الذي هو روح العبادة وسرها ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر في تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه والأثر إنما يكون عن ذلك الروح والشعور الذي قلنا إنه منشأ التعظيم والخضوع فإذا كانت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة كما أن صورة الإِنسان وتمثاله ليس إنسانا خذ إليك عبادة الصلاة مثلا وانظر كيف أمر الله بإقامتها دون مجرد الإِتيان بها وإقامة الشيء هي الإِتيان به مقوما كاملا يصدر عن علته وتصدر عنه آثاره ، وآثار الصلاة ونتائجها هي ما أنبأنا الله تعالى بها بقوله : { إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] وقوله عز وجل { إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ، إِلاَّ الْمُصَلِّينَ } [ المعارج : 19- 22 ] وقد توعد الذين يأتون بصورة الصلاة من الحركات والألفاظ مع السهو عن معنى العبادة وسرها فيها المؤدى إلى غايتها بقوله : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [ الماعون : 4- 7 ] فسماهم مصلين لأنهم أتوا بصورة الصلاة ووصفهم بالسهو عن الصلاة الحقيقية التي هي توجه القلب إلى الله تعالى المذكر بخشيته والمشعر للقلوب بعظم سلطانه ثم وصفهم بأثر هذا السهو وهو الرياء ومنع الماعون .

هذا كلام الأستاذ في العبادة ، وهو يفيد أن معنى العبادة لا يتم إلا مع استشعار عظمة المعبود التي لا تكتنه ، وقدرته التي لا تُحد ، وهو صحيح بالنظر إلى العبادة الصحيحية الواجبة لله تعالى ، ولكن لا يمنع أن يطلق اسم العباده على تعظيم أحد لغيره تعظيما يخرج به عن حدود استحقاق البشر ، ويدل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أخبر عن أهل الكتاب أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله مع أنهم لم يكونوا يعتقدون لهؤلاء الأحبار والرهبان القدرة المطلقة التي لا تُحد ، والعظمة الباهرة التي لا تكتنه ، وروى الإِمام أحمد والترمذي وابن جرير عن عدي بن حاتم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو قوله سبحانه : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ } [ التوبة : 31 ] - وكان امرأً قد تنصر - فقال له إنهم لم يعبدوهم ، قال له : " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم " فإذا كان اتباع الإِنسان على تحليله الحرام وتحريمه الحلال عبادة فما بالك بما يكون من مخلوق لمخلوق مثله من تعظيم لا يليق إلا بمقام الألوهية .

هذا والعبادة هي الغاية التي لأجلها خلق الإِنسان ، قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ومن هنا كانت فطرة كل إنسان داعية إليها لما تستشعره من الفراغ الروحي والخواء النفسي بدونها ، ومن ثم كانت العبادة تلبية لنداء الفطرة الذي يجلجل من أعماق النفس الإِنسانية ، وإنما الفطرة وحدها لا تستطيع أن تهتدي إلى العبادة الصًّحيحة ولذا فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه لتوجيه هذه الفطرة إلى الصراط المستقيم ، وما من رسول إلا وكانت دعوته الأولى في قومه إلى إفراد الله تعالى بالعبادة { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] والعبادة الخالصة لله تعالى توائم بين حركتي الإِنسان الاختيارية والاضطرارية ، فجسم الإِنسان تُعَد خلاياه بملايين الملايين ، وكل هذه الخلايا تتحرك بحسب سنة الله فيها ، فإذا انقاد هذا الإِنسان وأذعن لربه العظيم وعبده حق عبادته حصل الانسجام التام ما بين هذه الحركات الطبيعية في جسمه وحركته الاختيارية التي ينساق إليها مختارا طاعة لمولاه ، ومن هنا نجد الإِمام المحقق سعيد بن خلفان الخليلي رحمه الله يُعبر في إحدى قصائده النورانية عما يشعر به وهو يسبح لله سبحانه من تجاوب ألسنة لا تحصى فيه مع هذا التسبيح حيث يقول :

أعاين تسبيحي بنور جناني *** فأشهد منى ألف ألف لسان

وكل لسان أجتلي من لغاته *** إذا ألف ألف من غريب أغان

ويُهدى إلى سمعي بكل لُغية *** هدي ألف ألف من شتيت معان

وفي كل معنى ألف ألف عجيبة *** يقصر عن إحصائها الثقلان

ولا تقف عبادة الإِنسان عند هذا الحد بل توائم بين حركته وحركة كل شيء في هذا الكون الواسع الذي تسبح كل ذرة منه بحمد الله وتسجد خاضعة لجلاله ، { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] ، { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ } [ الحج : 18 ] ولذلك كانت عبادة الله الخالصة داعية للشعور بالانسجام مع الكون والألفة مع الوجود ، فلا ينظر إليه العابد نظرة نفرة وعداء ، وإنما ينظر إليه نظرة وئام ووداد .

أما إذا تجلى الإِنسان عن عبادة ربه فإنه يشعر بعداوة الكون وخصومة الطبيعة له ، ولذلك تجد الغربيين الذين رانت على قلوبهم الجاهلية الحديثة ينظرون إلى الكون نظرة الخصومة والعداء ، ويتجلى ذلك في عباراتهم ، فكثيرا ما يرد على ألسنتهم وأقلامهم قهر الطبيعة وقسوتها ، فإذا حقق أحدهم شيئا قالوا قهر الطبيعة أو تغلب عليها ، وإذا أصيب أحدهم بمكروه قالوا قست الطبيعة عليه ، أما المؤمن الذي يسبح بحمد الله ويسجد لكبريائه فهو لا يشعر بأية عداوة بينه وبين الطبيعة ، وإنما يشعر بالألفة والمودة بينه وبينها لما يربطهما من الخضوع لله والتسبيح بحمده ، ولما يتلوه على صفحاتها من آيات بينات تزيد إيمانه رسوخا ويقينه ثباتا ، ومما يؤسف له أن تردد ألسنة تلامذة الغرب المنتسبين إلى الإِسلام هذه العبارات الوقحة بدون شعور بهاجس نفسي يؤنبهم على استعمالها ، وهذا إن دل على شيء فهو دليل على ما أصاب قلوبهم من المسخ وبصائرهم من الطمس ، وإذا كانت العبادة منشأ الألفة والوئام بين العابد وجميع الكائنات فإن ذلك يقتضي أن تكون العبادة أوسع مدلولا مما يظنه كثير من الناس من أنها منحصرة في الصلاة والزكاة والصوم والحج ، وهذا هو الذي تدل عليه الآيات والأحاديث . أما الآيات فأرى أن أؤخر الكلام عليها إلى أن أصل إليها إن شاء الله في مواضعها ، وأما الأحاديث فبحسبي أن أذكر مثالين منها :

1- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " في كل ذى كبد رطبة أجر " وهو دليل على أن الإِنسان يتقرب إلى الله سبحانه بالإِحسان حتى إلى البهيمة العجماء .

2- يقول عليه أفضل الصلاة والسلام " في بضع أحدكم صدقة " قيل له يا رسول الله أيصيب أحدنا شهوته ويؤجر ؟ قال : " أرأيت إن وضعها في حرام ألم يكن يؤزر " قيل له بلى يا رسول الله قال : " كذلك يؤجر إن وضعها في حلال " فانظر كيف يكون العَمل الفطرى الذي يبلى به الإِنسان داعي الغريزة عبادة يؤجر عليها إن أحسن توجيهه واستصحب معه حسن النية .

وبهذا يتضح أن العبادة تقتضى الخضوع المطلق لمنهاج الله فلا يحكم العابد إلاّ به ولا يحتكم إلا إليه ولذلك حكم الله على من لم يكن يحكم بما أنزل بالكفر والظلم والفسق حيث قال : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] وقال : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ المائدة : 45 ] وقال :

{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ المائدة : 47 ] وانكر على الذين يدعون الإِيمان وهم يتحاكمون إلى غير شرعه في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } [ النساء : 60 ] ونفى الايمان عن كل من لم يحكم رسوله صلى الله عليه وسلم الناطق بوحيه المبلغ لأمره في قوله : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] .

والعبادة أسمى ما ينتسب إليه الانسان ولذلك وصف الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أعلى مقامات ذكره وهى صِنو العبادة فقد قال في معرض ذكر إنزال الكتاب عليه

{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ . . } [ آل عمران : 7 ] وقال{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] وقال : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] وقال في معرض الحديث عن إبلاغه الرسالة ودعائه الله { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } وقال في الحديث عن الإِسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذى ترتب عليه أن ينال من الإِكرام ما لم ينله أحد قبله : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الإسراء : 1 ] وهذا لأن عبادة الإِنسان لربه وعبوديته له تعنيان تحرير رقبته من الذل لسواه وتخليص قلبه من الخضوع لغير عزته ، وقد غلا بعضهم فادعى أن العبودية أشرف من الرسالة حكى ذلك الفخر الرازى في تفسيره ولم يتعرض له بشيء ، وحاصل ما احتج به هذا القائل أن الرسالة انصراف عن الحق إلى الخلق ، والعبودية انصراف عن الخلق إلى الحق ، والعبودية أيضا تجرد عن التصرفات ، والرسالة تلبس بها ، وهذه فلسفة باطلة لا يجوز لمن يؤمن بالله ورسله أن يقرها فالرسالة هى أشرف المقامات وأعلى الدرجات التي يوصل إليها بمحض اصطفاء الله تعالى ولا تنافي العبودية ولذلك وصف الله بهما أحب الناس إليه وأرفعهم عنده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وليست الرسالة - كما قال - انصرافاً من الحق إلى الخلق وإنما هى اضطلاع بواجب أمانة الحق لابلاغها إلى الخلق ، وإذا كانت تقتضي اشتغالا بالتصرفات فإن تلك التصرفات هى من أقرب القربات إلى المرسِل سبحانه فهى داخلة في حدود عبادته ، وأعظم الدلائل على إخلاص العبودية له .

والفخر والألوسي قسما العبادة إلى ثلاث درجات تمشيا مع آراء كثير من العلماء :

الدرجة الأولى : أن تكون العبادة ابتغاء ثواب الله وخشية عقابه ، وهى أضعف الدرجات وسماها الألوسي في تفسيره عبادة .

الدرجة الثانية : أن تكون لأجل نيل شرف بما فيها من التزلف إلى الله تعالى ، وهى درجة متوسطة عندهم ، وسماها الألوسي عبودية .

الدرجة الثالثة : أن تكون لذات الله مع غض النظر عن كل ما سواه وسماها الألوسي عبودية .

وفي هذا التصنيف نظر ، إذ لا يستند إلى دليل من كتاب ولا سنة ، وتعظيم الله سبحانه بالعبادة وإخلاصها لوجه لا ينافيان ابتغاء ثوابه والحذر من عقابه كما لا ينافيان الرغبة في نيل شرف عبادته عزَّ وجل ، وللإِمام نور الدين السالمي رحمه الله في معارجه بحث نفيس في هذه المسأله ، ناقش فيه كلام هؤلاء الذين يقسمون العبادة من تلقاء أنفسهم أقساما ، واستدل لرده بما جاء من الآيات التي تصف الأنبياء أنهم كانوا يعبدون الله رغبا ورهبا ، كقوله سبحانه : { كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } [ الأنبياء : 90 ] وهي في معرض مدحهم والإِبانة عن علو قدرهم ، ولا ريب أن الأنبياء أرسخ في العبادة قدما ، وأسرع إلى كل خير سبقا من غيرهم ، فلو كانت العبادة التي تكون بباعث الخوف والرجاء أضعف من غيرها لكانت عبادات الأنبياء غير مقرونة بهما على أن الخوف والرجاء هما السور المتين الذي يحوط أعمال البر كلها .

وكما تطالب الآية الكريمة الناس أن يفردوا الله سبحانه وتعالى بالعبادة تطالبهم بأن يفردوه بالاستعانة لأن القوة المطلقة لله وكل ما يحدث في الكون فهو بأمر الله وكما أن الله تعالى قد تفرد بخلق الكون فهو متفرد بتدبيره فلا معنى للتعلق بغيره ، والقرآن الكريم جاء ليقرر هذه الحقيقة بكثير من الآيات التي تخاطب الناس بالبرهان وتضرب لهم الأمثال ، منها قول الله سبحانه

{ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [ الرعد : 16 ] وقوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ الزمر : 38 ] ويبين لنا القرآن أن كل محاولة من المخلوقين لرد سراء أو ضراء كتبها الله لأحد أو عليه لا بد أن تبوء بالفشل الذريع

{ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ فاطر : 2 ]

{ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ يونس : 107 ] والنبي صلى الله عليه وسلم كان يربي أمته على هذه العقيدة القرآنية لتتحول إلى واقع ملموس في أحوال المؤمنين ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الشيخين " إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله " .

وهنا سؤال يفرض نفسه وهو أن الإِنسان كائن اجتماعي يشترك مع غيره في المصالح والمنافع ولا يمكنه الاستقلال عن سائر بني جنسه فهو بحاجة دائما إلى من يعينه فإذا مرض احتاج إلى الطبيب ، وإذا أفلس احتاج إلى من يقرضه أو يتصدق عليه ، وإذا اضطر إلى حمل شيء لا يطيقه احتاج إلى من يعينه عليه ، وهكذا فكيف يمنع من الاستعاة بالناس ؟ على أن القرآن نفسه يرشدنا إلى التعاون في قوله :

{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [ المائدة : 2 ] وأترك الإِجابة عن هذا السئوال لفيلسوف الإِسلام الإِمام محمد عبده وتلميذه السيد محمد رشيد رضا .

أما الإِمام محمد عبده فيجيب بما معناه : أن أعمال الناس تتوقف ثمراتها ونجاحها على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإِلهية أن تكون مؤدية اليها وانتفاء الموانع التي جعلها الله بمقتضى حكمته حائلة دونها ، والإِنسان بما اوتي من علم وقوة مكن الله له من كسب بعض الأسباب ودفع بعض الموانع ولكن حجب عنه البعض الآخر فيجب على الناس أن يقوموا بما فيه استطاعتهم من ذلك ويتقنوا أعمالهم بما في وسعهم وأن يتعاونوا ويساعد بعضهم بعضا ويفوضوا الأمر فيما وراء الكسب إلى القادر على كل شيء ويلجأوا إليه وحده طالبين منه المعونة المتممة للعمل والمؤدية إلى جناء ثمرته وليس لهم أن يتعلقوا بما وراء الاسباب إلا بمسببها سبحانه ، ويتضح بهذا أن قوله تعالى : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } متمم لمعنى قوله { إِيَّاكَ نَعْبُد } لأن هذه الاستعانة هي فزع من القلب إلى الله وتعلق من النفس به وذلك من مخ العبادة ، فإذا توجه بها العبد إلى غير الله كان ضربا من ضروب العبادة الوثنية التي انتشرت في زمن التنزيل وقبله ، وخصت بالذكر لئلا يتوهم الجاهلون أن الاستعانة بالذين اتخذوهم أولياء من دون الله واستعانوا بهم فيما وراء الأسباب المكتسبة للناس هي كالاستعانة بسائر الناس في الأسباب العامة فأراد الله سبحانه أن يزيل هذا اللبس ببيان أن الاستعانة بالناس في حدود استطاعتهم ضرب من استعمال الأسباب المسنونة ، وما مثلها إلا كمثل الآلات المستعملة فيما خصت به بخلاف الاستعانة بهم فيما وراء طاقاتهم البشرية كالاستعانة في شفاء المريض بما وراء الدواء ، وعلى غلبة العدو بما وراء العدة والعدد فإن ذلك مما لا يجوز أن يكون إلا بالله تعالى الذي بيده الأسباب والمسببات وهو على كل شيء قدير ، وضرب الإِمام محمد عبده مثلا لذلك : الزارع عندما يبذل جهده في الحرث والعذق وتسميد الأرض وريها فهو يمارس الوسائل المؤدية مع التوفيق إلى حصول المطلوب ، ويستعين بالله تعالى على النجاح طالبا منه منع الآفات والجوائح السماوية والأرضية ، ومثل بالتاجر الذي يحذق في اختيار الأصناف ويمهر في فن الترويج ، ويتوكل على الله فيما وراء ذلك ، وخلص الأستاذ الإِمام من هذا إلى تفنيد حالة الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم ، وتيسير أمورهم وشفاء أمراضهم ، ونماء حرثهم وزرعهم ، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من الأمور التي ليست في استطاعة الأحياء بله الأموات ، وقال عنهم : إنهم عن صراط التوحيد ناكبون ، وعن ذكر الله معرضون ، واستخرج الأستاذ الإِمام من قول الله سبحانه : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فائدتين جليلتين قال فيهما : ( هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة ) :

أولاهما : أن الإِنسان مطالب بالأعمال النافعة والاجتهاد في إتقانها ما استطاع ، لأن طلب المعونة لا يكون إلا على عمل بذل فيه المرء طاقته فلم يوفه حقه أو يخشى أن لا ينجح فيه فيطلب المعونة على إتمامه وكماله .

فمن وقع من يده القلم على المكتب لا يطلب المعونة من أحد على إمساكه ، أما من وقع تحت عبء ثقيل يعجز عن النهوض به وحده فهو جدير بطلب المعونة من غيره على رفعه ولكن بعد استفراغ القوة في الاستقلال به ، ثم قال الأستاذ بعد هذا التحرير : وهذا الأمر هو مرقاه السعادة الدنيوية وركن من أركان السعادة الأخروية .

ثانيتهما : ما يفيده الحصر المستفاد من تقديم المعمول على العامل من وجوب تخصيص الاستعانة بالله وحده فيما وراء ذلك ، قال : وهو روح التوحيد وكمال الدين الخالص الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الغيار ، ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين والشيوخ الدجالين ، ويطلق عزائمهم من قيد المهيمنين الكذّابين من الأحياء والميتين ، فيكون المؤمن مع الناس حرا خالصا وسيدا كريما ، ومع الله عبدا خاضعا

{ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [ الأحزاب : 71 ] .

وأما السيد محمد رشيد رضا فيقول " إن عبادة الله تعالى هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لألوهيته ، واستعانته هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لربوبيته ، أما الأول فظاهر لأنه هو الإِله الحق فلا يعبد بحق سواه ، وأما الثاني فلأنه هو المربي للعباد الذي وهب لهم جميع ما تكمل به تربيتهم الصورية المعنوية ، قال : ومن هنا تعلم أن إيراد ذكر العبادة والاستعانة بعد ذكر اسم الجلالة الأعظم واسم الرب الأكرم إنما هو لترتبهما عليهما من قبيل ترتيب النشر على اللف ، والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله وتحل محله ، وهو كمال التوحيد والعبادة الخالصة ، ولذلك جمع القرآن بينهما في مثل قوله تعالى :

{ وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] فهذه الاستعانة هى ثمرة التوحيد واختصاص الله تعالى بالعبادة ، فإن من معنى العبادة الشعور بأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العامة الموهوبة من الله تعالى لعباده كافة هي لله وحده ، كما تنطق به الآية التي استشهدنا بها آنفاً على قرن العبادة بالتوكل فمن كان موحدا خالصا لا يستعين بغير الله تعالى قط ، فما كان من أنواع المعونة داخلا في حلقات سلسلة الأسباب كان طلبه بسببه طلبا من الله تعالى ولكنه يحتاج في تحقيق ذلك إلى قصد وملاحظة وشهود قلبى وما كان غير داخل فيها يتوجه في طلبه إلى الله تعالى بلا واسطة ولا حجاب .

قال : وبهذا البيان تعلم أن لا منافاة بين التوحيد والتوكل وبين الأخذ بالأسباب وإقامة سنن الله تعالى بل الكمال والأدب في الجمع بينهما ، فالسيد المالك إذا نصب لعبيده وخدمه مائدة يأكلون منها غدوا وعشيا وجعلهم خدما يقومون بأمرها لا يكون طلب الطعام منه إلا بالاختلاف إلى المائدة ، وإنما ينبغي أن لا يغفلوا بها وبخدمها عن ذكر صاحب الفضل الذي أنشاها بماله وسخر أولئك الخدم للآكلين عليها ، ولا عن حمده وشكره ، وهذا مثال مائدة الكون بأسبابه ومسبباته فالعبد إذا احتاج شيئا من الأشياء التي لم يجعلها سيده مبذولة لجميع عبيده في كل وقت طلبه منه دون سواه ، فإن أظهر الحاجة إلى غيره كان ذلك من قلة ثقته بمولاه حيث جعل ذلك الغير في مرتبته أو أجدر منه بالفضل ، قال : هذا في العبيد مع السادة الذين لهم نظراء وأنداد فكيف إذا كان العبد الذي يتوجه إلى غير مولاه لا يجد من يتوجه إليه سواه إلا أمثاله من العبيد المحتاجين إلى المولى مثله لأنه هو السيد الصمد الذي ليس له كفوا أحد ، وأتبع ذلك قوله أن لفظ الاستعانة يشعر بأن يطلب العبد من الرب تعالى الإِعانة على شيء له فيه كسب ليعينه على القيام ، به وفي هذا تكريم للإِنسان بجعل عمله أصلا في كل ما يحتاج إليه لإِتمام تربية نفسه وتزكيتها ، وإرشاد له إلى أن ترك العمل والكسب ليس من سنة الفطرة ، ولا من هدي الشريعة فمن تركه كان كسولا مذموما لا متوكلا محمودا ، وتذكير له من جهة أخرى بضعفه لكيلا يغتر فيتوهم بأنه مستغن بكسبه عن عناية ربه فيكون من الهالكين في عاقبة أمره ، هذا كلامه وهو ككلام أستاذه في إثبات كون الاستعانة بالله وعدم إشراك غيره فيها من لوازم الإِيمان ومقتضيات التوحيد ، وإنما بين كلاميهما خلاف لفظي ، فالأستاذ الإِمام يرى أن الاستعانة فيما كان داخلا في إطار الأسباب التي منحها الله عباده جائزة أن تكون بأولئك الذين أجرى الله الأسباب على أيديهم وعلى ذلك يحمل نحو قوله تعالى :

{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [ المائدة : 2 ] أما تلميذه السيد محمد رشيد رضا فهو ينظر إلى أن أولئك ليسوا مستقلين بالأسباب وإنما وهبهم الله تعالى من فضله التفوق فيها وسخرهم بحكمته لإِعانة المحتاجين إليها فالمستعين بهم إنما يستعين في الحقيقة بالله واهب الأسباب ومقدرها فيجب على المؤمن ألا يغفل عن هذه الحقيقة عندما يطلب من غيره قضاء حاجته .

هذا وقد يفهم من كلامه في الأسباب العَامة وقوله إنها موهوبة للناس كافة أنه يرى تكافؤ جميع الناس فيها ، وهو أمر ترده المشاهدة فإن الناس متباينون في المواهب منهم من وهب حصافة الرأي ، ومنهم من وهب قوة البدن ومنهم من وهب الحذق في أعمال خاصة وهذا لتكون حياة الناس قائمة على أسس الاجتماع ولو تساوى الناس في مواهبهم لاستغنى كل أحد بنفسه واستكفى بموهبته ولكن الله سبحانه يريد بذلك تذكير الناس بفقرهم واحتياجهم ، لئلا يغتر إنسان بما أوتي فيدعي أنه أوتيه باستحقاق ، فتجد الملك بحاجة إلى الحجام والقين والحداد والطباخ كحاجته إلى المستشارين والوزراء فسبحان الغني الذي تفرد بالعزة والكبرياء .

وبهذا الذي حررناه تدرك خطورة ما يصنعه كثير من الناس من التعلق بغير الله سبحانه في طلب الحاجات التي لم يجعل الله قضاءها بيد الناس والأعجب من ذلك أن يأتي أحدهم إلى ضريح طالبا من صاحبه الميت البالي أن يعينه على ما لا يستعان عليه إلا بالله ، أو يأتي إلى صخرة صماء أو شجرة أو نهر أو أي شيء من هذا القبيل طالبا منه ذلك مع أن هذه الأشياء لا تسمع ولا تبصر ولا تحس ولا تعقل وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق منزلة وأعظمهم شأنا يقول له سبحانه في حياته :

{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ } [ الأعراف : 188 ] فما بالك بغيره صلى الله عليه وسلم بل ما بالك بالأموات والجمادات والنباتات هل من المعقول أن تلبي هذه الأشياء لأحد طلبا أو تسمع له دعاء أو تستجيب له نداء ؟ وإنما ذلك شأن العقول إذا ضلت والأفكار إذا زاغت .

ولعمري ليس تفشي مثل هذه الضلالات في هذه الأمة إلا تصديقا لنبوة النبي الصادق صلى الله عليه وسلم حيث يقول كما ثبت في الصحيحين " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " وفي حديث أبي واقد الليثي عند الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها " ذات أنواط " يعلقون عليها أسلحتهم ، فقيل له : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال النبي : " سبحان الله هذا كما قال قوم موسى { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم " .

هذا وفي المقام مباحث :

الأول : - في تقديم العبادة على الاستعانة ، ولأفكار العلماء تزاحم في استخراج حكمة ذلك وقد استظهروا وجوها :

أولها : أن العبادة أمانة كما قال تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ } [ الأحزاب : 72 ] لذلك كانت أجدر بالعناية ، فقدمت .

ثانيها : أن إسناد المتكلم العبادة إلى نفسه يوهم التبجح والاعتداد بما صدرعنه ، فكان جديرا بأن يُتْبع ما يدل على أن العبادة لا تتم إلا بمعونة وتوفيق من الله وهذا يستفاد من جملة { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .

ثالثها : أن العبادة قربة محضة إلى الله تعالى ، أما الاستعانة فقد تكون لمنفعة عاجلة .

رابعها : أن العبادة مطلوبة لله تعالى من العباد ، والاستعانة مطلوبة للعباد من الله ، وتقديم ما كان لله أولى مما كان للعباد .

خامسها : أن العبادة في جملتها واجبة لله تعالى على العبد ، ولذلك كانت هي الغاية من خلق الإِنس والجن ، قال تعالى :

{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] أما الاستعانة فيختلف حكمها باختلاف حال المستعان عليه .

سادسها : أن العبادة أظهر مناسبة بذكر الجزاء فجيء بها بعده ، والاستعانة أكثر التئاما مع طلب الهداية فجيء بها قبله .

سابعها : أن الاستعانة ثمرة للعبادة ، فإن إخلاصَ العبادة لله يستلزم إفراده بالاستعانة ، قال صاحب المنار : " ولا ينافي هذا أن العبادة نفسها مما يستعان عليه بالله تعالى ليوفق العابد للإِتيان بها على الوجه المرضي له عز وجل ، لا منافاة بين الأمرين لأن الثمرة التي تخرج من الشجرة تكون حاوية للنواة التي تخرج منها شجرة أخرى ، فالعبادة تكون سببا للمعونة من وجه ، والمعونة تكون سببا للعبادة من وجه آخر ، كذلك الأعمال تكون الأخلاق التي هي مناشيء الأعمال ، فكل منها سبب ومسبّب ، وعلة ومعلول ، والجهة مختلفة فلا دور في المسألة " .

ويرى ابن جرير أن الترابط الذي بين العبادة والاستعانة يقتضي جواز تقديم أي منهما على الآخر كما يجوز أن يُقال : قضيت حقي فأحسنت إليّ ، أو أحسنت إليّ فقضيت حقي ، ويُستفاد مما قاله أنه لا يرى ما يسوغ البحث في تقديم العبادة على الاستعانة .

الثاني : - في تقديم المعمول وهو { إياك } على العامل وهو { نعبد } و { نستعين } ، وذكروا له وجوها : -

أولها : الدلالة على الحصر والاختصاص ، ومن هنا فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلا نعبدُ غيرك ، ويراد به التبرؤ عن الشرك والتعريض بالمشركين .

ثانيها : أن المتقدم في الوجود أحق بالتقدم في الذكر ، فالله تعالى كان قبل كل موجود ، ولذلك كان الأنسب تقديم ذكره عن ذكر عبادته .

ثالثها : أن في تقديم ذكره تعالى تنبيها للعابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله ، فيوقظ ذلك الهمة في نفسه ويقضي على الكسل والتواني .

الثالث : - في المجيء بصيغة الجمع دون الإِفراد في قوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وفيه أقوال :

أولها : أن العبد يحتقر نفسه في مقام الخطاب لله عز وجل ، ويستقل عبادته بجانب ما لله تعالى من منة أسبغها عليه وحق يجب له تعالى على العبد ، فيجدر به أن يخاطبه مع غيره وأن يوجه عبادته إليه مختلطة بعبادة العابدين .

ثانيها : أن الإِنسان مع خضوعه لأهل الدنيا وطلبه منهم ما يجدر طلبه من الله إن قال بمفرده إياك أعبد وإياك أستعين كان كاذبا ، أما إن وجه الخطاب بصيغة الجمع الدالة على اشتراكه مع العابدين والمستعينين كان أبعد عن الكذب ، لوجود من أخلص له العبادة وقصر الاستعانة عليه من بينهم .

ثالثها : أن صيغة الجمع أدعى إلى القبول والاستجابة من صيغة الإِفراد لأن المخاطب يحشر نفسه في زمرة المخاطبين ، ولا يعتد بخطابه بنفسه ، وذكروا أنّه مما يرشد إلى ذلك ما حكاه الله عن الذبيح إسماعيل عليه السلام من قوله :

{ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [ الصافات : 102 ] وما حكاه عن الكليم عليه السلام من قوله :

{ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً } [ الكهف : 69 ] وقد صبر الذبيح لتواضعه بعد نفسه واحداً من جمع ، ولم يصبر الكليم لإِفراده نفسه مع أنهما قالا جميعا " إن شاء الله " .

رابعها : أن الإِسلام دين وحدة واجتماع ، وليس بدين تشتت وافتراق ، ولأجل ذلك شرعت بعض العبادات تؤدي بطريقة جماعية لا على الانفراد ، وفي المجيء بصيغة الجمع هنا في هذه السورة التي يجب على المسلم أن يكررها في كل ركعة من ركعات الصلاة التي هي أهم عبادة في الإِسلام تذكير بواجب الترابط بين المسلمين وإيقاظ لمشاعر الأخوة والمودة بينهم .

الرابع : - في تكرار { إِيَّاكَ } وفيه آراء : -

أولها : أنه للتنصيص على أن طلب العون منه تعالى فإنه لو قال : { إياك نعبد ونستعين } لاحتمل أن يكون إخبارا عن طلب العون من غير تعيين للجهة المطلوب منها .

ثانيها : أن العبادة هي قربة إلى الله تعالى ولو لم تكن مقرونة بالاستعانة ، والاستعانة كذلك ولو لم تكن في حال العبادة ، ولو أفرد ذكر الضمير لأوهم أنه لا يتقرب إليه إلا بالجمع بينهما .

ثالثها : أن في التكرار تعليما للناس بأن يجددوا ذكر الله عند كل حاجة تعن .

الخامس : في إطلاق الاستعانة وعدم تقييدها بمستعان فيه معين ، وقد ذكروا لذلك نكته وهي قصد العموم لاحتمال دخول كل ما يستعان عليه ، والفعل المثبت وإن كان له حكم الإِطلاق المخالف لحكم العموم في عدم احتوائه جميع أفراد مدلولات لفظه دفعة واحدة ، فإنه بعدم تقييده يقضي باحتمال قصد أي فرد من أفراد تلك المدلولات ، ومن جهابذة المفسرين من يرى أن الاستعانة هنا ليست على إطلاقها وإنما هي محصورة في العبادة ، وممن جنح إلى هذه العلامة الزمخشري في كشافه حيث جعل الاستعانة مبهمة أوضحها قول الله تعالى فيما بعد : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } فكأنما المستعينون سُئلوا من قبل العلي الأعلى : كيف أعينكم ؟ فقالوا : إهدنا الصراط المستقيم .

واللائق بعقيدة التوحيد عموم الاستعانة في كل ما يطلب العون فيه وهذا لا يمنع أن تكون العبادات داخلة من باب الأولوية فيما يستعان فيه ، وقد أسلفنا حديث ابن عباس رضي الله عنهما الدال على الاستعانة بالله شاملة لكل ما يُطلب فيه العون ، وقد نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على طلب العون من الله في أداء العبادة ، فقد أخذ يوما بيد معاذ رضى الله عنه وقال : " والله إني لأحبك أوصيك يا معاذ ، لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول : " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " .

ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ٦

{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }

الهداية تطلق على الدلالة ، وخصها بعضهم بالدلالة المصحوبة باللطف وأُجيب عما عساه يتجه إلى هذا من سؤال عن قول الله تعالى : { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [ الصافات : 23 ] الذي تنافي الهداية فيه اللطف المزعوم بأن الآية واردة مورد التهكم على حد{ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ التوبة : 34 ] وكما قال الشاعر :

وخيل قد دلفت لها بخيل***تحية بينهم ضرب وجيع

والهداية في القرآن ذات مدلولات متعددة ، فلذلك تأتي تارة مسنداً فعلها إلى الله وحده ومنفيا عمن سواه ، كما في قوله تعالى في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم :

{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ القصص : 56 ] وفي قوله : { وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ } [ النمل : 81 ] وقوله : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 272 ] ويُسند فعلها تارة إلى غيره تعالى كإسناده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله

{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] وإسناده إلى النبيين من قبله كما في قوله عزّ من قائل :

{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [ الأنبياء : 73 ] وإسناده إلى القرآن في قوله سبحانه : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] وتأتي تارة محصورة في المؤمنين وحدهم دون الكافرين كما في قوله سبحانه في وصف القرآن : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] وقوله :

{ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [ النمل : 2 ] وقوله :

{ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ } [ لقمان : 3 ] وقوله سبحانه في وصف المؤمنين : { وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُواْ إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } [ الحج : 24 ] وقوله :

{ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] وقوله : { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } وقوله : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] وقوله : { وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } [ محمد : 4- 5 ] وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } [ يونس : 9 ] وقوله في النبيين : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] وتأتي تارة شاملة للمؤمنين والكفار كما في قوله سبحانه : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ الإنسان : 3 ] وقوله : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ } [ البلد : 10 ] بل تأتى تارة نصا في الكفار وحدهم كما في قوله سبحانه :

{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [ فصلت : 17 ] ومن هذا الباب قول الله تعالى :

{ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] وقوله :

{ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 3 ] .

وقد استظهر أصحابنا رحمهم الله من هذا أن الهداية تنقسم إلى قِسمين : هداية بيان ، وهداية توفيق ، فهداية البيان تعم المؤمن والكافر ويُحمل عليها نحو قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } ، وأما هداية التوفيق فهي محصورة في المؤمنين ، ويُحمل عليها نحو قوله عز وجل : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } ، وهداية البيان يصح إسناد فعلها إلى غير الله تعالى كما في قوله : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فإن المراد بهدايته صلى الله عليه وسلم إلى الصراط المستقيم دعاؤه إليه المقرون ببيان معالمه ، أما هداية التوفيق فليست من مقدور البشر وإنما هي من مقدور القادر على كل شيء الذي يصرف القلوب كيف يشاء ، وإذا نظرنا إلى الآيات التي أوردناها وجدنا أن الهداية أوسع مدلولا وأكثر تشعبا مما ذكره أصحابنا ، فمدلولها يشمل هداية الدين وغيرها ، ومتعلقها الإِنسان المخاطب بهداية الدين وغيره من المخلوقات ، لذلك أميل إلى ما قاله بعض أئمة التفسير في القديم والحديث في تفسير الهداية وتقسيمها إلى أقسام : -

الأول : هداية الوجدان الطبيعي والإِلهام الفطري ، وتكون للإِنسان وغيره منذ الولادة ، فالمولود يشعر بحاجته إلى الغذاء فيصرخ طالبا له بفطرته ، ويُلهم امتصاص الثدي بمجرد وصوله إلى فيه .

الثاني : هداية الحواس والمشاعر ، وهي تتميم للهداية المذكورة في القسم الأول ، وهي أيضا مشتركة بين الإِنسان وغيره ، بل غير الإِنسان أكمل فيها وفيما قبلها منه فإن حواس الحيوان وإلهامه تكمل له بعد ولادته بقليل ، أما الإِنسان فإنه يتدرج فيها في زمن طويل ، ولذلك لا تظهر عليه عقب الولاده علامات إدراك الأصوات والمرئيات ، وعندما يبصر لا يمكنه تحديد المسافات فيرى البعيد قريبا وتحدثه نفسه بأن يمد إليه يده وهذا الغلط في الحس لا ينفك عن الإِنسان حتى بعد نموه وكماله ، ألا تراه يرى النجم نقطة في السماء وهو قد يكون أكبر من الأرض بملايين المرات ، وهذان القسمان داخلان في عموم قوله تعالى :

{ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] وقوله :

{ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 3 ] .

الثالث : هداية العقل وهي خاصة بالإِنسان من بين الكائنات الحية المستقرة في الأرض وهذا لأن الإِنسان ينوء بثقل أمانة الخلافة في الأرض وهو كائن اجتماعي تتوقف مصالحه على التعارف والتفاهم بين بني جنسه ولم يعط من قوة المشاعر الباطنة والظاهرة ما يكفيه للقيام بما تقتضيه الحياة الاجتماعية كما أعطى النحل والنمل فإن الله قد وهبها من الإِلهام الفطري ما يكفيها لأن تعيش مجتمعه يؤدي كل واحد منها وظيفة العَمَل لجميعها ويؤدي الجميع وظيفة العمل للواحد ، وهذا سبب الترابط بين أفرادها ووجود النظام فيما بينها .

أما الإِنسان فلم تكن له هذه الخاصية ولم يتوفر له هذا الإِلهام ، ومع ذلك فهو يتميز عنها بما منحه من شرف الخلافة في الأرض والسيادة فيها ، وقد وهبه الله في مقابل ذلك هداية العقل التي هي أقوى من هداية الحس والمشاعر ، فإن العقل هو الذي يصحح أخطاء الحواس والمشاعر ويكشف عن أسباب هذه الأخطاء ، فعندما يرى البصر الكبير صغيرا على البعد ، ويرى العود المستقيم معوجا في الماء ، ويذوق الصفراوي الحلو فيحس منه المرارة يحكم العقل في ذلك فيفند هذه الأخطاء ويبين أسبابها ، وحمل بعضهم على هذه الهداية قول الله سبحانه{ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ } [ البلد : 10 ] .

الرابع : هداية الدين ، فإن العقل وحده لا يستطيع أن يقوّم سلوك الإِنسان المعوج ، ويهدي فكره المنحرف فإن الخطأ يتسلط عليه كما يتسلط على الحس ، وقد يتأثر عقل الإِنسان بالجو الذي يعيش فيه ، والمحيط الذي يتربى وسطه ، فيستحسن ما يستقبحه غيره ، ويستقبح ما يستحسنه سواه ، وقد تستعلى عواطفه أو رغباته على العقل فتطمس نوره وتوهن قواه ، ولذلك ينساق كثير من الناس - مع ما أتوه من قوة التفكير - وراء شهواتهم وعواطفهم ، غير مبالين بالمصير الذي تؤديهم إليه ، بل يسخّرون أحيانا طاقاتهم العقلية والحسية للوصول إل ما يهدفون إليه من مقاصد دنيئة ، بدلا من استخدام العقل فيما يؤول إلى سعادة الإِنسان الشخصية والنوعية ، ولا تقف رغبات الإِنسان عند حد معين ، ولذلك كثيرا ما تفضي به إلى التطاول إلى ما فيه يد غيره ، وعدم المبالاة بإمتهان كرامة بني جنسه ، فيؤدي الأمر إلى التنازع والتدافع والتقاتل والتفاني ، ولا تغني تلك الهدايات شيئا ، وهذا أمر مشاهد حتى في الشعوب والأمم التي تعد نفسها أرقى من غيرها حضارة ، ولا أدل على ذلك مما يحصل أحيانا في سلسلة الحروب الدولية ، من إبادة شعوب أو استرقاقها ، واهلاك الحرث والنسل بالوسائل العلمية ، التي تستخدمها عقول ضلت سبيل الرشد وأخفقت في بناء مجتمع بشري ينعم بالسعادة والهناء والإِستقرار ، ومن ثم كان الإِنسان بحاجة إلى هداية أسمى من الهدايات السابقة الذكر تملأ القلب خشية من سلطة غيبية أعلى وأجل من تصورات البشر ومدارك العقول والأفكار ، وتضع حدودا للأعمال ورسوما لكل ما تتطلبه حياة الإِنسان فلا يعدو أحد على غيره ، كما تصل الإِنسان بالغيب الذي يتطلع إليه وما هو ببالغه إلا من طريق هذه الهداية .

هذا وقد أودع في غريزة كل إنسان الشعور بهذه القوة الغيبية التي لا يحاط بها علما ، والتي تهيمن على الوجود كله وإليها يرد الإِنسان بفطرته كل ما لا يعرف له سببا لأنها هي التي تهب كل موجود ما يكون به قوام وجوده ، كما أودع في غريزة كل أحد بأن هذه الحياة الدنيا ليست هي الحياة النهائية التي يحياها الإِنسان ولذلك يتطلع كل أحد إلى حياة أوسع منها .

والهدايات الثلاث السابقة لا تصل إلى تحديد ما يجب على الإِنسان لذي القوة الغيبية الذي خلقه في أحسن تقويم وسخر له ما يحتاج إليه كما لا تصل إلى تحديد ما تكون به السعادة في الحياة الأخرى ، ومن هنا كانت ضرورته إلى الدين وإفتقاره إلى توجيهه ، والهدايات الثلاث السابقة مشتركة بين البر والفاجر ، ويرى بعض المفسرين أنها يشار إليها جميعا بقوله تعالى :

{ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ } [ البلد : 10 ] وبعضهم يرى دخول الهداية الرابعة ضمن الإِشارة وهذه الهداية الرابعة - أعني هداية الدين - قد يشارك فيها الفاجر إذا فسرت بالبيان دونما إذا فسرت بالتوفيق كما أسلفنا من قبل ، وهداية التوفيق تنقسم إلى ثلاث مراتب : -

المرتبة الأولى : التوفيق لقبول الحق والعمل به وإليها الإِشارة بنحو قوله عز وجلَّ : { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 272 ] .

المرتبة الثانية : التوفيق للإِستمرار على الحق والإِستزادة منه ، وإليها الإِشارة بنحو قوله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] فإن الجهاد نفسه لا يكون إلا بهداية توفيقية من الله سبحانه ، وقوله : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] واختُلف في هذه الهداية ، هل هي مكتسبة من العبد نظراً إلى العمل يسببها ؟ نحو الجهاد الوارد في قوله عزَّ وجل : { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا } ، أو هي هبة من الله لعبده نظرا إلى أن الله هو الذي أفاضها عليه ، والاختلاف باختلاف الاعتبارات ليس غير ، ولذلك تصح نسبة إكتسابها إلى العبد كما تصح نسبة هبتها إلى الله تعالى .

المرتبة الثالثة : التوفيق لجوار الله سبحانه في جنات عدن وإليها الإِشارة بقوله عز وجل : { وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [ محمد : 4- 6 ] وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [ يونس : 9 ] وهذه هي أسمى مراتب الهدايات وأرقى منازل المهتدين ، وجميع الهدايات السابقة سُلّم للصعود إليها ، ووسائل للحصول عليها .

والأصل في كلمة هدى أن تستعمل بمعنى الإِمالة - هكذا نقل القرطبي في تفسيره - واستدل له بقوله تعالى : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي ملنا ، وبحديث عائشة في الصحيحين : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهادى بين رجلين " أي يتمايل من المرض ، ومنه الهدية لأنها تمال من مِلك إلى مِلك والهَدْيُ للحيوان الذي يساق إلى الحرم ، لأنه يمال به من مكان إلى مكان ، وفي الاستدلال لذلك بقوله تعالى : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } نظر فإنه من هاد يهود وليس من هدى يهدي .

ويتعدى فعل الهداية إلى المفعول الثاني بنفسه كما في هذه الآية ، وفي قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام :

{ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } [ مريم : 43 ] ويتعدى إليه باللام نحو قوله سبحانه حكاية عن أهل الجنة :

{ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } [ الأعراف : 43 ] ويتعدى إليه بإلى نحو قوله عز وجل{ وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُواْ إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } [ الحج : 24 ] .

وللعلماء آراء في التفرقة بين معنى الهداية إن تعدت بِنَفْسِها إلىالمفعول الثاني ومعناها إن تعدت إليه بحرف . ولم تقم أدلة على صحة آرائهم بل قامت على دحض بعضها لذلك استغنيت عن ذكرها . وَطلبُ الهداية هنا محمول على طلب المزيد منها ، أو على طلب التوفيق للاستمرار عليها لأن الإِنسان عرضة للخطأ والضلال والتأثر بالمؤثرات الداخلية والخارجية ، وبهذا يجاب عما لو سُئل :

أليس مَن حمد الله بمحامده ، ووصفه بصفاته ، وخصه بالعبادة والإِستعانة مهتديا ؟ فلماذا يطلب منه الهداية ؟ وهل هو إلا تحصيل حاصل ؟ . .

والصراط الطريق ومنه قول الشاعر :

أمير المؤمنين على صراط *** إذا اعْوجَّ الموارد مستقيم

وقول الآخر :

وطِئْنَا أرضهم بالخيل حتى***تركناهم أذل من الصراط

وأصله السراط بالسين لأنه يسترط السابلة أي يبتلعها ، أو يسترطه السابل بالقطع ، ولذلك سمي لَقَمًا لأنه يلتقم السالك ، أو يلتقمه السالك وأُبدلت السين صادا لمكان الطاء .

روى الحاكم وصححه وتعقبه الذهبي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } بالصاد ، وروى البخاري في تاريخه وسعيد بن منصور وعبد بن وحميد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ { السراط المستقيم } بالسين ، والقراءة بالسين أخرجها ابن الأنباري عن ابن كثير ، أحد القراء السبعة والرواية عنه مختلفة ، فقد روى عنه أيضا الصاد والمضارعة بينها وبين الزاي ، وأخرج ابن الأنباري أيضا عن حمزة أنه كان يقرأ ( الزراط ) بالزاي الخالصة ، قال الفرّاء : وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين ، وهذه القراءة رواها الأصمعي عن أبي عمرو ، وذكر ابن عطية وأبو حيان في تفسيرهما عن بعض اللغويين ، أنه قال ما حكاه الأصمعي من هذه القراءة خطأ منه ، إنما سمع أبا عمرو يقرأ بالمضارعة فتوهمها زايا ، ولم يكن الأصمعي نحويا فيؤمن على هذا .

ثم ذكر أن هذا الكلام حكاه أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد ، وقد مر أن هذه القراءة أسندها ابن الأنباري إلى حمزة ، وهو أحد القراء السبعة ، وأنها لغة عذرة وكلب وبني القين ، فتخطئة بعض اللغويين للأصمعي في نقلها عن ابي عمرو تسرّع منه ، وأبو حيان الذي نقل هذه التخطئة كما نقلها ابن عطية نقل من بعد عن ابي جعفر الطوسي ، وهو أحد أئمة التفسير من الشيعة الإِمامية ، أنه قال : " الصراط بالصاد لغة قريش ، وهي اللغة الجيدة وعامة العرب يجعلونها سينا ، والزاي لغة عذرة وكعب وبني القين " والجمهور قرأوا بالصاد .

وللمفسرين أقوال في معنى الصراط ترجع إلى ما قاله ابن جرير : أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ، وهو كذلك في لغة جميع العرب .

قيل : هو القرآن ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير عن علي كرم الله وجهه مرفوعا ، ورواه ابن جرير موقوفا عليه ، ويشهد له ما رواه أحمد والترمذي عن علي مرفوعا في فضائل القرآن ، " وهو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم والصراط المستقيم " وقد تقدم الحديث بتمامه في مقدمة التفسير ، وهذا القول أخرجه ابن المنذر ووكيع وعبد بن وحميد وأبو بكر الأنباري والحاكم وصححه ، والبيهقي عن ابن مسعود .

وقيل هو الإِسلام أخرجه وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه ، عن جابر بن عبد الله ونص ما رووا عنه أنه قال : ( هو دين الإسلام وهو أوسع مما بين السماء والأرض ) ، وأخرج نحوه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وكذلك عن ابن مسعود وناس من الصحابة وروى ابن جرير عن محمد بن الحنفية أنه قال : هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو الإِسلام ، رواه عنه ابن جرير ايضا ، ويشهد لهذا التفسير قول الله تعالى :

{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 161 ] كما يشهد له ما اخرجه أحمد والترمذي وحسنه ، والحاكم وصححه ، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شُعَب الإِيمان عن النوّاس ابن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتّحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تَفَرّقوا ، وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإِنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب ، قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإِسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم " قال ابن كثير : - بعدما أورد بعض أسانيد الحديث - وهو إسناد حسن صحيح .

وقيل : هو السُّنَّة ذكره بعض المفسرين عن بعض الصحابة .

وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمرو ، أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وابن عساكر عن عاصم الأحول عن أبي العالية ، وجاء فيه عن عاصم الأحول أنه ذكر للحسن البصري تفسير أبي العالية فقال : صدق ابو العاليه ونصح ، وأخرج الحاكم وصححه عن أبي العالية عن ابن عباس مثله .

قال قطب الأئمة رحمه الله في الهيميان : " ويُقدر مضاف أي اهدنا اتِّباعهم ، وفيه تكلف بعيد ، وتجوز تسمية أشخاصهم طريقا ووجهه أنهم واسطة إلى الجنة لمن اقتدى بهم ممن أنعم الله عليه ، وعلى هذا الأخير يكون الخطاب لغيره صلى الله عليه وسلم وغير أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، قيل : وهو قوي في المعنى " .

وأخرج الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : الصراط المستقيم الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر القرطبي في تفسيره عن الفضيل بن عياض أنه قال : هو طريق الحج ، قال القرطبي : وهذا خاص والعموم أولى .

وهذه الأقوال كلها ما عدا الأخير متحدة في المعنى وإن اختلفت في اللفظ ، فإن الإِسلام يتمثل في تعاليم القرآن وهديه ، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وهدى أصحابه رضي الله عنهم ، فلا يختلف تفسير من فسره بالقرآن عن تفسير من فسّره بالإِسلام أو السنة أو الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، وإنما اختلفت العبارات لإِختلاف الإِعتبارات ، وقد أوردنا سابقا كلام ابن تيميه ، الذي أوضح فيه أن مثل هذا لا يُعد خلافا ، وانتقد الفخر الرازي تفسير الصراط المستقيم بالإِسلام أو القرآن نظرا إلى أن قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } والبدلية تقتضي صحة حلول البدل محل المبدل منه ، فكأنه قيل : إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم ، والأمم السابقة لم يكن لها القرآن والإِسلام ، ورد عليه أبو حيان في البحرالمحيط بأن هذا لا يتأتي له إلا إذا صح أن الذين أنعم الله عليهم هم متقدمون ، قال : " وستأتي الأقاويل في تفسير الذين أنعم الله عليهم " : ورد الألوسي على الفخر بما حاصله أن الفخر نفسه اختار فيما اختار من الوجوه التي ارتضاها أن الصراط المستقيم هو الوسط بين طرفي الإِفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال ، وأكد ذلك بقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] قال الألوسي : " فياليت شعري ماذا يقول لو قيل له لو لم يكن هذا للمتقدمين من الأمم ، وتلونا عليه الآية التي ذكرها ، وسبحان من لا يُرد عليه " .

هذا وقد تقدم ما يدل على صحة تفسير الصراط المستقيم بالإِسلام من القرآن والحديث ، ومما يؤكد ذلك قول الله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] ولا معنى لما يقوله الفخر ، من أن الأمم لم يكن لها إسلام ، فإن الإِسلام لم تختص به هذه الأمة فحسب ، بل هو مشترك بينها وبين جميع الأمم ، التي اتبعت هدى أنبيائها فإن المرسلين ما بعثوا لتفريق الدين بل بعثوا لجمعه وتوحيده ، وينص على ذلك قول الله تعالى :

{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } [ الشورى : 13 ] وإذا كانت شرائع النبيين قد اختلفت باختلاف الظروف التي واجهوها ، وأحوال الأمم التي بعثوا فيها ، فإن أصول دينهم لم تختلف ، إذ لم يأت رسول إلا ويدعو إلى توحيد الله وعدم إشراك غيره في العبادة ، وهذا هو الإِسلام عينه . ومما يدل على ما قلناه قول الحق سبحانه{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ آل عمران : 67 ] وقد حكى الله عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أنهما كانا يقولان - وهما يرفعان قواعد البيت العتيق - : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [ البقرة : 128 ] وقال عز وجل :

{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ }

صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ٧

{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ }

فصراط هنا بدل من الصراط الذي ذكر من قبل ، وهذا النوع من البدل يعبر عنه النحويون ببدل الكل من الكل ، وزعم بعضهم بأن { صِّرَاطَ } الثاني غير { الصِّرَاطَ } الأول ، وكأنه نُوى فيه حرف عطف ، واختلف هؤلاء في تعيينه ، فجعفر بن محمد يرى أنه العلم بالله والفهم عنه ، وبعضهم يرى أنه موافقة الباطن للظاهر في إسباغ النعمة ، ومنهم من يرى أنه التزام الفرائض والسنن . ودعوى أن { صِّرَاطَ } الثاني غير الأول ، ما هي إلا هروب من الواضح إلى المشكل ، وفائدة المجيء بالبدل والمبدل منه ، التنصيص على أن صراط هؤلاء هو عَلمَ في الإِستقامة ، فلو قيل : إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم ، لم تحصل هذه الفائدة ، ومثال ذلك إذا أردت المبالغة في وصف أحد بالكرم والفضل فإنك تقول : ( هل أدُلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان ، فإنك بذلك جعلته علما على الكرم والفضل ، بحيث إذا ذكر تُصوِّر الكرم والفضل في أعلى مراتبهما ، بين يدي السامع وأمام ناظريه ، ولو جئت بأسلوب آخر وقلت : هل أدُلك على فلان أكرم الناس وأفضلهم ، لم تفد العبارة هذه المبالغة ، وكذلك هنا ذُكر أولا الصراط المستقيم ثم فُسر بصراط الذين انعم الله عليهم ، ليكون نصّاً في أن هؤلاء المنعم عليهم هم معالم الاستقامة وأعلام الاعتدال والرشد ، يُهتدى بهم إلى مرضاة الرب تعالى .

واختلف في المقصود بهم فالجمهور يرون أنهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون ، أخذا من قوله تعالى :

{ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] ويعتضد ذلك بذكر الصراط المستقيم في هذا السياق قبل هذه الآية في قوله عز وجل : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [ النساء : 66- 68 ] وهذا هو الذي رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وروي عنه : أنهم المؤمنون . وأخرج عبد ابن حميد عن الربيع بن أنس أنهم النبيون ، وقيل : هم قوم موسى وعيسى قبل النسخ والتبديل ، وقيل : هم المسلمون ، وقيل : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وروي عن أبي العالية أنهم محمد صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهم ، وانتقد الإِمام محمد عبده تفسير المنعَم عليهم بالمسلمين ، محتجا بأن الفاتحة أول سورة نزلت ، كما روى عن الإِمام على كرم الله وجهه ، وكما حققه الإِمام محمد عبده نفسه .

وإن لم تكن أول سورة على الإِطلاق ، فلا خلاف في أنها من أوائل السور ولم يكن المسلمون حال نزول السورة بحيث يطلب الإِهتداء بهداهم ، لأن هداهم معقود بالوحي ، وتلك هي بداية الوحي ، ثم انهم هم المأمورون بأن يطلبوا من الله أن يهديهم هذا الصراط ، صراط الذين أنعم عليهم من قبلهم فهم قطعا غيرهم ، ورجح الإِمام محمد عبده قول الجمهور أنهم هم الذين أنعم الله عليهم ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وانتقاد الإِمام موجه إلى الذين يزعمون أن هؤلاء المنعم عليهم هم مسلمو هذه الأمة وهو لا ينافي أن يكون المعنيون - وإن كانوا قبل هذه الأمة - من المسلمين أيضا ، لما علمت من أن الإِسلام ليس محصورا في هذه الأمّة ، وإنما هو دين جميع النبيين والصالحين ، وأوضح الإِمام محمد عبده أن ما جاء من ذكر المنعم عليهم إلى آخره ، مجمل لما فصل في سائر القرآن من أخبار الأمم وبيان أحوالها مما يقدر بثلاثة أرباع القرآن تقريباً ، والمراد من ذلك توجيه الأنظار إلى الإِعتبار بأحوال الأمم في الكفر والإِيمان ، والشقاوة والسعادة إذ لا شيء - يهدي الإِنسان كالمثلات والوقائع ، فإذا امتثل المسلمون الأمر والإِرشاد ، ونظروا في أحوال الأمم السالفة ، وأسباب علمهم ، وجهلهم ، ورقيهم ، وانحطاطهم ، وقوتهم ، وضعفهم ، وعزهم ، وذلهم ، وسائر ما يعرض للأمم ، كان لهذا النظر أثر إيجابي في نفوس المسلمين ، يحملهم على الإِقتداء بالصالحين من قبلهم واتباع أسباب العلم والرقي والقوة والعز ، ليتمكنوا في الأرض ، واجتناب أسباب الجهل والإِنحطاط والضعف والذل التي تؤدي إلى الشقاوة والهلاك والدمار .

ثم أشار الأستاذ محمد عبده إلى علم التاريخ ، وما فيه من الفوائد والثمرات وذكر أن العاقل تأخذه الدهشة والحيرة إذا سمع أن كثيرا من شيوخ الدين من أمة هذا كتابها يعادون بإسم الدين ، ويزهدون فيه غيرهم ، كما يرغبون بأنفسهم عنه ، زاعمين أنه لا حاجة إليه ولا فائدة منه ، ثم قال وكيف لا يدهش ويحار والقرآن ينادي بأن معرفة أحوال الأمم من أهم ما يدعو إليه هذا الدين

{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ } [ الرعد : 6 ] .

وأورد بعد هذا سئوالا وهو : كيف يأمرنا الله باتباع صراط من تقدمنا ؟ ! وعندنا احكام وإرشادات لم تكن عندهم ، وبذلك كانت شريعتنا أكمل من شرائعهم ، وأصلح لزماننا ، وما بعده ؟ وأجاب عمّا ذكرناه من قبل أن دين الله في جميع الأمم واحد ، وانما تختلف الأحكام بالفروع التي تختلف بإختلاف الزمان ، وأما الأصول فلا خوف فيها فالإِيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر ، وترك الشر وعمل البر ، والتحلي بالأخلاق الفاضلة والتخلي عن العادات المذمومة ، كل من ذلك أمر مشترك بين الجميع ، وقد أمرنا الله بالنّظر فيما كانوا عليه ، والاعتبار بما صاروا إليه ، لنقتدي بهم في القيام على أصول الخير ، وهو أمر يتضمن الدليل على أن في ذلك الخير والسعادة ، على حسب طريقة القرآن ، في قرن الدليل بالمدلول ، والعلة بالمعلول والجمع بين السبب والمسبب ، وتفصيل الأحكام التي هذه كلياتها بالإِجمال نعرفه من شرعنا ، وهدى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام .

وزاد السيد محمد رشيد رضا عما قال أستاذه ، أن في الإِسلام من ضروب الهداية ما قد يُعَد من الأصول الخاصة به ، ويَرى أنه مما يقتضي الاستدراك على ما قرره الأستاذ الشيخ محمد عبده ، وذلك نحو بناء العقائد في القرآن على البراهين العقلية والكونية ، وبناء الأحكام الأدبية والعملية على قواعد جلب المصالح والمنافع ، ودفع المضار والمفاسد ، ونحو بيان أن للكون سننا مطّردة تجري عليها عوالمه العاقلة وغيرالعاقلة ، وكالحث على النظر في الكائنات لقصد العلم والمعرفة ، لما فيها من الحكمة والأسرار التي يرتقي بها العقل ، وتتسع بها أبواب المنافع للإِنسان ، وكل ذلك مما امتاز به القرآن ، وأجاب عن ذلك أنه تكميل لأصول الدين الثلاث ، التي بعث بها كل نبي مرسل لجعل بنائه رصينا مناسبا لارتقاء الإِنسان ، والأصول الثلاثة هي الإِيمان الصحيح ، وعبادة الله تعالى وحده ، وحسن المعاملة مع الناس ، ولا خلاف فيها في رسالات جميع المرسلين .

والإِنعام أطلق في الآية الكريمة لأن من رُزِق نعمة التوفيق للخير ، فكأنما استجمع جميع النعم ، والخير بأسره محصور في الإِسلام ، فمن هُدي إليه فقد جمع بين نعمة الحال والمآل ، وللعلماء رأيان في الكفرة ، هل يقال فيهم : إن الله أنعم عليهم أو يمنع ذلك ؟ فالمعتزلة يجيزون هذا الوصف في غير المسلمين ، وأكثر علماء الكلام من غيرهم يمنعونه ، ونجد الفخر الرازي في تفسيره ( مفاتيح الغيب ) يستدل للقائلين بالمنع بأنه لو جاز نحو هذا الوصف في غير المؤمنين ، لأدى ذلك إلى دخولهم ضمنا في قوله سبحانه : { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وهذا يقتضي جواز أن يقول الإِنسان في دعائه : ( إهدني صراط من أنعمت عليهم من القوم الكافرين ) ولما امتنع ذلك بالإِجماع ، ثبت لدينا عدم صدق وصف الإِنعام على غير المؤمنين ، وأنت إذا تدبرت ما جاء من تقييد في نفس هذه الآية الكريمة إتضح لك بطلان ما يقوله الرازي ، فإن قوله سبحانه { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ } وصف تقييدي للمنعم عليهم ، يُخرج مما يقتضيه إطلاق لفظ الإِنعام ، كل من لم يكن على طريقة أصحاب الصراط المستقيم المعنيين في الدعاء ، ويدل على ذلك ما جاء في القرآن ، من تذكير الناس - مؤمنهم وكافرهم - بآلاء الله ، وقد يأتي الخطاب موجها إلى غير المؤمنين ، ومما ورد هذا المورد قول الله عز وجل :

{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 21- 22 ] وقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ البقرة : 28- 29 ] وقوله عز وجل { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] وقوله سبحانه : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ البقرة : 122 ] وقوله تعالى : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ ، فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش ] .

إلى ما وراء ذلك من آيات الإِمتنان ، التي تعم المؤمن والكافر تارة ، وتخص الكافرين تارة أخرى ، أمّا ما قيل من أن هذه العطايا التي بسطها الله للكفار ليست إنعاما عليهم ، وإنما هي استدراج ولا تساوى شيئا ، إذا قيست بما ينتظرهم من عقاب ، فالجواب عنه : أنه وإن كانت استدراجا فهي لا تنافي أن تكون إنعاما ، كما نص عليه الكتاب في خطاب بني إسرائيل ، والعقاب العظيم الذي ينتظر الكفار ليس مترتبا على النعم ، وإنما هو مترتب على كفرهم بها وبواهبها سبحانه وتعالى ، والكفر قد كان باختيارهم ، ولم يكونا عليه مكرهين .

والنعمة عرّفها بعض العلماء بأنها الحالة التي يستلذها الإِنسان ، وقسمها بعضهم إلى دنيوية وأخروية ، والدنيوية إلى روحانية وجسمانية ، فالروحانية نفخ الروح وإنارة العقل وإذكاء المشاعر ، والجسمانية تكوين الجسم وتجهيزه بالطاقات المختلفة والحواس المتنوعة ، والأخروية هي الفوز برضوان الله والسعادة بجواره ، في جنات عدن ، وهي تترتب على نعمة الهداية المترتبة على التوفيق لاستخدام العقل فيما يؤدي إلى الخير ، وبهذا التقسيم يتضح لك أن من النعم ما يكون مشتركا بين المؤمن والكافر ، ومنها ما يكون خاصا بالمؤمنين ، والمنعم عليهم هنا هم المؤمنون ، لأنهم الذين وفقوا لسلوك صراط الحق ، المؤدى إلى رضوان الله عز وجل ، وطريقهم هو طريق العز والنصر في الدنيا ، والفوز والسعادة في الدار الآخرة ، فإن الله سبحانه قد وعد بالاستخلاف والتمكين للمؤمنين الملتزمين لنهج الإِيمان

{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } [ النور : 55 ] .

{ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ }

الجمهور قرأوا بجر { غَيْرِ } وابن كثير قرأ بنصبها ، وروى عنه الجر ، ولا إشكال في قراءة النصب ، لأن { غَيْرِ } يلزمها التنكير ، وإن أضيفت إلى المعارف كمثل ، وذلك أنك إذا قلت : رأيت غيرك فكل ، ما سوى المخاطب يحتمل أن يكون المراد ، وكذلك إذ قلت : رأيت مثلك فإن الاعداد المحتمل قصدها من أمثاله لا تحصى ، لكثرة ووجوه المماثلة ، وعليه فالنصب هنا على الحال ، وأما قراءة الجر فلعلماء العربية فيها رأيان : أولهما أن تكون { غَيْرِ } بدلا من { الَّذِينَ } أو بدلا من الضمير في { عَلَيْهِم } والوجه الثاني ضعيف ، وهذا الرأي مبني على جواز الإِبدال بالمشتق وما في حكمه ، ويرى أبو حيان ضعفه . ثانيهما : أن تكون { غَيْرِ } صفة للذين وهو مبني على أحد أمرين إما اعتبار { الَّذِينَ } في حكم المعرّف بلام الجنس ، وهو المعبر عنه بالمعهود الذهني ، فإنه يكون مَعرفة بالنظر إلى مدلوله وله حكم النكرة بالنظر إلى قرينة البعضية المبهمة ، ولذلك يعامل معاملتها في الوصف بالجملة وهى في حكم النكرة ، نحو قول الشاعر :

ولقد أمر على اللئيم يسبني *** فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

وإما اعتبار { غَيْرِ } في حكم المعرفة ، نظراً إلى وقوعها بين معرفتين متضادتين ، وفي مثل هذه الحالة تكتسب التعريف ، نحو قولك : إلزم العلم غير الجهل ، وقولك : إرغب في الحياة غير الموت ، فإنه لا ضد للعلم إلا الجهل ، ولا ضد للحياة إلا الموت ، وكذلك قول الله تعالى : { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فإن هؤلاء لا ضد لهم إلا ما جاء بعد { غَيْرِ } .

وانتقد أبو السعود إعتبار { الَّذِينَ } في حكم المعهود الذهني في الإِبهام ، لأنه لا معنى لأن يضاف بدل { الصراط المستقيم } إلى الموصول إلا لشهرته وتميزه ، المنافيين للإِبهام ، فإن البدل يراد به إيضاح المبدل منه . أما الزمخشري فإنه سوغ كل واحد من الإِعتبارين . وابن جرير اعتبرهما في حكم الوجه الواحد ، وأضاف إليه وجها آخر وهو تقدير { صِرَاطَ } مضاف إلى { غَيْرِ } ، وفي هذا تكلف لا يخفى على متأمل ، وأنت إذا نظرت في الرأي الأول ، وجدته لا يخلو من مسوغ ، فإن توغل { غَيْرِ } في الإِسمية كافٍ لإِعطائها بعض أحكام الجوامد كالبدلية ، وإن كانت في حكم المشتق ، والوصف أيضا ليس بالضعيف لإِمكان اعتبار إكتساب { غَيْرِ } هنا للتعريف بسبب وقوعها بين ضدين ، وقد علمت مما نقلناه عن أبي السعود بطلان دعوى أن الإِسم الموصول في قوله { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } في حكم النكرة ، وبهذا تعلم عدم صحة ما قاله العلامة الساليكوتي وغيره ، في تسويغ تلك الدعوى مما حاصله أنه لا صحة لإِرادة جنس المنعم عليهم من حيث هو إذ لا صراط له ، ولا غرض يتعلق بطلب صراط من أنعم عليهم على سبيل الاستغراق ، سواء أريد استغراق الأفراد والجماعات ، أو المجموع من حيث المجموع ، فالمطلوب صراط جماعة ممن أنعم عليهم بالنعم الأُخروية وهم طائفة من المؤمنين لا بأعيانها ، فإن نظر إلى البعضية المبهمة المستفادة من إضافة الصراط إليهم كالنكرة ، وإن نظر إلى مفهومه الجنسي أي المنعم عليهم كان معرفة ، نقل ذلك العلامة الألوسي ولم يعقب عليه إلا بقوله : ولا يخلو من دغدغة ، وبطلانه يظهر من حيث أن صراط جميع المنعم عليهم صراط واحد ، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] وقد صوره النبي صلى الله عليه وسلم للأذهان في صورة المحسوس ، عندما خط خطا في الأرض مستقيما لا عوج فيه ، وقال : " ( هذا صراط الله ) وخط عن يمينه ، خطوطا وقال : ( هذه السبل ، ما من سبيل إلاَّ وعلى رأسه شيطان يدعو إليه ) " ثم تلا الآية ، وهذا يعني أن صراط أي فرد من المنعم عليهم هو صراط الجنس كله ، وليس لكل طائفة منهم صراط خاص ، حتى يقال بأن الصراط المقصود هنا هو صراط طائفة من المؤمنين ، ويؤكد ذلك أن الصراط المبدل منه معرّف ، وما أريد بالبدل إلا مزيد الإِيضاح فلا معنى لمجيئه مبهما ، ولو كان مبهما - كما قالوا - لما صح أن يكون علما على الاستقامة ومجانبة الانحراف والاعوجاج .

و { غَيْرِ } هنا أشربت معنى النفي ، فلذلك صح أن تقابل بلا النافيه ، ولو كانت للإستثناء المحض لما جاز ذلك .

و " الغضب " هو انفعال نفسي يدفع صاحبه إلى الإِنتقام ، وهذا لا يليق بجلال الله سبحانه ، المنزه عن جميع صفات المخلوقين ، فلذلك أول الغضب في مثل هذا المقام ، إما بمسبِّبه القريب وهو إرادة الانتقام ، أو بمسبّبه البعيد وهو إنزال العقوبة ، ولفظة الغضب تدل على الشدة ، ولذلك يطلق العرب وصف الغضوب على الناقة العبوس ، وعلى الحيّة الخبيثة ، ويسمون الدرقة من جلد البعير المطويّ بعضه على بعض " غضبه " كما يسمون بذلك الصخرة المتميزة في الجبل ، ومنه قول الراجز : أو غضبة في هضبة ما أمنعا .

و { الضلال } يطلق على الذهاب عن الطريق السوي ، ومنه قوله عز من قائل :

{ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ } [ السجدة : 10 ] أي غبنا فيها بالموت ، ومنه قول العرب : ضل اللبن في الماء إذا إمتزج به .

وجيء بفعل الإِنعام مسندا إلى ضمير الخطاب ، الموجه إلى الله ، بخلاف الغضب والإِضلال ، لأجل تعليم العباد كيف يتأدبون في مخاطبته عز وجل .

وجمهور المفسرين : على أن المراد بالمغضوب عليهم اليهود وبالضالين النصارى ، وذكر ابن أبي حاتم أنه لا يعلم خلافا بين المفسرين في ذلك ، وهو من التفسير المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد أخرج عبد الرزاق وأحمد في مسنده وعبد بن حميد وابن جرير والبغوي وابن المنذر وأبو الشيخ عن عبد الله بن شقيق قال : " أخبرني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى على فرس له ، ويسأله رجل من بني القيْن فقال : من المغضوب عليهم يا رسول الله ؟ قال : ( اليهود ) قال فمن الضالون ؟ قال : ( النصارى ) " وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه بما ذكر ، وأخرج البيهقي عن عبد الله بن شقيق عن رجل من بني القيْن أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله . . إلخ وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير عن عبد الله بن شقيق قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاصر أهل وادي القرى فقال له رجل . . إلخ ، وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسّنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" إن المغضوب عليهم هم اليهود وإن الضالين هم النصارى " وأخرج أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححه والطبراني " عن الشريد قال : مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا ، وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية يدي فقال : أتقعد قعدة المغضوب عليم " وهذا التفسير مروي عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وروى عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وكثير من أئمة التابعين فَمن بعدهم ، قال الشوكاني : والمصير إلى هذا التفسير النبوي متعين وهو الذي أطبق عليه أئمة التفسير من السلف .

وعضد هذا التفسير باقتران ذكر اليهود بالغضب وذكر النصارى بالضلال في عدة آيات من الكتاب نحو قوله عز وجل : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ البقرة : 90 ] وقوله : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ } [ المائدة : 60 ] وقوله عز من قائل :

{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } [ المائدة : 78 ] وقوله تعالى : { قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ } [ المائدة : 77 ] ، والأوْلى - كما قال الألوسي : الاستدلال بالحديث ، لأن الغضب والضلال وردا في القرآن لجميع الكفار على العموم قال تعالى : { وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ } [ النحل : 106 ] وقال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَلاً بَعِيداً } [ النساء : 167 ] وقال{ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [ الفرقان : 44 ] .

واليهود والنصارى جميعا جديرون بوصف الضلال ، حقيقون بالغضب ، لذا يتوجه السئوال عن وصف اليهود " بالمغضوب عليهم " والنصارى " بالضالين " وأجاب عنه ابن جرير : بأن الله وسم لعباده كل فريق بما تكررت العبارة عنه به وفهم به امره ولم يره ابن عطية هذه الإِجابة تشفي غليلا - وإنها لكذلك - لذلك عدل عنها إلى الجواب ، بأن أفاعيل اليهود من اعتدائهم وتعنتهم وكفرهم ، مع رؤيتهم الآيات ، وقتلهم الأنبياء بغير حق أمور توجب الغضب في عرف الناس فسمى الله ما أحل بهم غضبا ، والنصارى لم تصدر منهم هذه الأشياء ، وإنما ضلوا من أول أمرهم ، دون أن يقع منهم ما يوجب غضبا خاصا بأفاعيلهم في عرف الناس بل ، الغضب العام الذي يستحقه كل كافر ، فلذلك وصفت كل واحدة من الطائفتين بما وصفت به .

ونقل الفخر الرازي تضعيف هذا التفسير ، لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينا من اليهود والنصارى ، فكان الإِحتراز عن دينهم أوْلى ، واختار الفخر أن يُحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق ، ويَحمل الضالون على كل من أخطأ في الإِعتقاد ، لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل ، وذكر وجها آخر وهو أن المغضوب عليهم الكفار ، والضالين المنافقون ، لأن الله تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في أوائل البقرة ثم ثنَّى بذكر الكفار وتوعّدهم ، ثم ثلّث بذكر المنافقين وتصوير أحوالهم ، فيُحتمل أن يكون المغضوب عليهم هنا الكفار والضالون المنافقين كما أن المُنعَم عليهم المؤمنون ، ورد ذلك الألوسي بأنه لا قول لقائل ، ولا قياس لقايس بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين ، وحكى القرطبي أن المغضوب عليهم هم متبعو البدع ، والضالين هم الذين ضلوا عن سنن الهدى وذكر عن السُّلَمِيّ في حقائقه ، والماوردي في تفسيره ، أنهما حكيا : بأن المغضوب عليهم من أسقط فرض هذه السورة في الصلاة ، والضالين من ضل عن بركة قراءتها .

قال القرطبي : وليس بشيء ، ونقل عن الماوردي قوله : وهذا وجه مردود لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار ، وانتشر فيه الخلاف ، لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم .

ويرى بعض المفسرين أن المغضوب عليهم هم الذين نبذوا الحق وراء ظهورهم بعد معرفتهم به ، وقيام حجته عليهم ، والضالين هم الذين لم يعرفوا الحق رأسا ، أو عرفوه على غير وجهه الصحيح ، ومن بين القائلين بذلك الإِمام محمد عبده ، وأوضح أن المغضوب عليهم ضالون أيضا ، لأنهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم قد استدبروا الغاية واستقبلوا غير وجهتها ، فلا يصلون منها إلى مطلوب ولا يهتدون فيه إلى مرغوب ، ولكن فرقا بين من عرف الحق فأعرض عنه على علم ، وبين من لم يظهر له الحق فهو تائه بين الطرق لا يهتدي إلى الجادة الموصلة منها ، وهم من لم تبلغهم الرسالة ، أو بلغتهم على وجه لم يتبين لهم فيه الحق ، فهؤلاء هم أحق باسم الضالين ، فإن الضال حقيقة هو التائه الواقع في عماية ، لا يهتدي معها إلى المطلوب ، والعَماية في الدين هي الشبهات التي تلبس الحق بالباطل ، وتشبّه الصواب بالخطأ .

وقسّم الإِمام محمد عبده الضّالين إلى أقسام : -

الأول : من حُرموا بلوغ دعوة الرسالة إليهم ، أو بلغتهم على غير وجهها الصحيح ، فهؤلاء لم يُرزَقُوا من أنواع الهداية إلا ما يحصل بالحس والعقل ، وحُرموا رشد الدين ومن الطبيعي أن لا تستقيم أحوالهم في شئونهم الدنيوية ، ولو قُدِّر أن استقامت على الوجه الصحيح ، فلا محيص لهم عن الضلال فيما تكون به نجاة الأرواح وتتحقق به سعادتها في الدار الآخرة على أنَّ الدين المستقيم من شأنه أن يفيض على أهله من روح الحياة ما تكون به سعادتهم في الدنيا والآخرة معا ، فمن حرم الدين حرم السعادتين ، وظهر أثر التخبط والإِضطراب في أعماله المعاشية ، وحل به الرزايا ما يكون عادة نتيجة الضلال والخبط وهي سنة الله في هذا العالم ولن تجد لسنته تبديلا .

ويرى الإِمام محمد عبده أن أمر هؤلاء في الآخرة إلى الله إن شاء عفا عنهم وإن شاء أخذهم ولن يساووا المهتدين في منازلهم . وزاد السيد محمد رشيد رضا على كلام أستاذه ، أن الذين حُرموا هداية الدين لا يُعقل أن يُؤاخذوا في الآخرة على ترك شيء مما لا يُعرف إلا بهذه الهداية ، وهو معنى كونهم غير مكلفين ، ونسبه إلى جمهور المتكلمين واستدل له بقوله عز وجل :

{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] .

وانتقد السيد محمد رشيد رضا من قال إنهم مكلفون بالعقل لعدم ظهور وجه لقوله ، إلا إن أراد أن حالهم في الآخرة تكون على حسب ارتفاع أرواحهم بهداية العقل وسلامة الفطرة ، لأن الناس يتفاوتون في إدراكهم وأعمالهم ، بسبب تفاوت استعدادهم الفطري ولإِختلاف وسائل تربيتهم .

ويرى السيد محمد رشيد رضا بهذا الجمع بين القولين في تكليفهم وعدمه أو الفصل بينهما ، وذكر أن ما يعطيهم الله تعالى إياه في الدار الآخرة على حسب ما يكونون عليه من الخير أو الشر ، ومن الفضيلة أو الرذيلة هو الجزاء العادل على أعمالهم الإِختيارية ويزيدهم الله من فضله إن شاء .

هذه خلاصة كلامهما وأنت تدري أن من الأمور التكليفية ما تكون طريقة معرفته العقل كمعرفة الخالق عز وجل وصفاته الواجبة وانتقاء أضدادها ولذلك يحيل القرآن الكريم إلى التفكر في ملكوت السماوات والأرض ، لأجل الإِهتداء إلى معرفة الخالق وعظمته وتقوية الإِيمان به عز وجل ، ويشير القرآن الكريم إلى أن الذين يستفيدون من ذلك هم أولوا الألباب الذين يستخدمون ما وهبهم الله تعالى من طاقات العقل والفكر في استجلاء الحقيقة واستظهار الحق ، ومن ذلك قوله عز وجل :

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 164 ] وقوله عز من قائل :

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ آل عمران : 190 ] والكفار الذين حُرموا نعمة الهداية والدين ، قد طمسوا أنوار بصائرهم بما أخلدوا إليه من الكفر وجنحوا إليه من الضلال ، ولذلك حكى الله تعالى عنهم قولهم يوم القيامة :

{ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ الملك : 10 ] .

إذا تدبرت ذلك ، اتضح لك أن من لاحت له معالم الحقيقة وانكشفت لبصيرته أعلام الحق فتعامى عنها مستمسكا بما ورثه من العقائد ، لن يكون سالما ، وكذلك الذي لا يكلف نفسه مؤونة البحث عن الحق والتفتيش عن الصواب ، أما الذي ينشد الحق ويتبع كل بارقة تلمع له من نوره ويحرص على أداء واجباته الإِجتماعية من غير تفريط فيها فذلك الذي تُرجى له السلامة عند الله .

على أن الحجة قد قامت على الناس بما يسمعون عنه من أخبار النبوات وأحوال النبيين وما عليهم إلا أن يفتشوا عن ضالتهم المنشوده والله لا يضيع عمل عامل

{ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] .

ونحن نسلم أن الشرع هو الحكم في العقائد والأعمال ولكنا نرى وجوب استخدام العقل مع تعذر الوصول إلى الشرع وهذا يقضي أن يتجنب الإِنسان كل ما يستقبحه عقله قبل التوصل إلى حكمه الشرعي ولا ريب أن العقول السليمة كلها تقضي بمنع الإِعتداء والظلم والفساد ، لأجل ذلك ذهب من ذهب من علمائنا - كالإِمامين أبي سعيد وابن بركه - إلى وجوب تحكيم العقل عند تعذر الوصول إلى الشرع حتى في الأمور العملية ولهذه المسألة مباحث ليس من غرضنا استيفاؤها ، فمن أرادها فليطلبها من مظانها ككتاب الإِستقامة للإِمام الكُدَمي ومشارق أنوار العقول للإِمام السالمي رحمهما الله .

الثاني : من بلغته الدعوة على وجه يؤدي إلى النظر ، فساق همته إليه واستفرغ جهده فيه ولكن لم يوفق إلى الإِيمان بما دُعي إليه ، وانقضى عمره وهو جاد في الطلب ، وهذا القسم لا يتكون إلا من أفراد متفرقين في الأمم ولا ينطبق على شعب بأسره من الشعوب ، فلا يظهر له أثر سلبي في أحوال شعب أو أمة ، وما يكون لهما من سعادة أو شقاء في الحياة الدنيا ، أما منزلة صاحب هذه الحالة في الدار الآخرة ، فقد نقل الإِمام محمد عبده عن بعض الأشاعرة ، أنه ممن تُرجى له رحمة الله تعالى ، وعزا صاحب هذا الرأي مثله عن أبي الحسن الأشعري ، وعزا الإِمام محمد عبده إلى الجمهور - بناء على رأيهم - أن مؤاخذته أخف من مؤاخذة الجاحد ، الذي أنكر التنزيل واستعصى على الدليل وكفر بنعمة العقل ورضي بحظه من الجهل .

هذا ملخص ما قاله في أصحاب هذا القسم ، ولكنني أستبعد جدا أن يتجه إنسان إلى الحق غير راغب عن شيء منه ولا مؤثر لهواه عن بعض ما يقتضيه الحق ويستلزمه الرشد مستخدما كل الوسائل الممكنة له في الوصول إليه ، ثم يحال بينه وبينه لأن الله تعالى يقول : { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } والله لا يخلف الميعاد ، فلا يتصور هذا بحال وإذا ضل الإِنسان عن جملة الحق أو عن بعضه فما هو إلا نتيجة تقصيره في البحث أو اتباعه الهوى بعدما تبين له الهدى ، ومثل هذا لا يصح أن تُرجى له رحمة الله ، لأن رحمة الله إنما هى للمتقين .

الثالث : من بلغتهم الرسالة وصدّقوا بها ، بدون نظر في أدلتها ولا وقوف على أصولها فكانت عقائدهم نابعة من أهوائهم ، وهم أصحاب البدع المنحرفون في إعتقادهم عن هداية الوحي ، وهم الذين مزّقوا شمل الأمّة ، لإِنحرافهم عن نهج سلفها الصالح ، وأشار الإِمام محمد عبده إلى طَرَفٍ من آثار هؤلاء في الناس ، فذكر أن الرجل منهم يأتي إلى دوائر القضاة ، فيستحلف بالله العلي العظيم أنه لم يفعل ما نسب إليه فيحلف وعلامة الكذب بادية على وجهه فإذا أتاه المستحلف من طريق آخر وحمله على الحلف بشيخ من المشايخ الذين يعتقد لهم الولاية ، لم يلبث أن يتغير لونه وتتزلزل أركانه ويرجع في قسمه ويقول الحق ، مقرا بأنه فعل ما حلف أولا بالله أنه لم يفعله ، تكريما لاسم ذلك الشيخ وخوفا منه أن يسلب عنه نعمة أو ينزل به نقمة إذا حلف باسمه كاذبا ، ويرد الإِمام محمد عبده هذا الضلال إلى الضلال في الإِيمان بالله وما يجب له من الوحدانية في الأفعال ، ثم أشار بعد ذلك إلى الضلالات المتنوعة التي عرضت على دين الإِسلام وسلكت بهذه الأمة سبلا معوجة ، لا توصل إلى حق ولا رشدٍ ، وذكر أن من أشنع هذه الضلالات أثرا وأشدها ضررا خوض رؤساء الفرق منهم في مسائل القضاء والقدر والاختيار والجبر والوعد والوعيد وتهوين مخالفة الله على النفوس ، ثم ذكر أنه لا بد لمن أراد تمحيص الإِعتقاد ومعرفة ما فيه من الضلال والرشاد من تنزيه القرآن عن إدخال أي شيء مما في أدمغة الناس من المعتقدات فيه وبدون ذلك لا يمكن معرفة الهداية من الضلال ، لاختلاط الموزون بالميزان ، فلا يُدرى ما هو الموزون به ، ثم أوضح أن معنى ذلك أن يكون القرآن أصلا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين ، لا أن تكون المذاهب أصلا والقرآن هو الذي يحمل عليها ، ويُرجع بالتأويل أو التحريف إليها كما جرى عليه المخذولون وتاه فيه الضالون .

الرابع : الذين ضلوا في الأعمال وحرفوا الأحكام عما وضعت له نتيجة الخطأ في فهم مقاصد الشعائر الدينية والواجبات الاجتماعية التي فرضت في الإِسلام وضرب الإِمام محمد عبده لذلك مثلا : الإِحتيال في الزكاة بتحويل المال إلى ملك الغير قبل حلول الحول ثم استرداده بعد مضي جزء من الحول الثاني هروبا من الزكاة المفروضة ، ويظن المحتال أنه بحيلته قد خلص من أداء الفريضة ونجا من غضب من لا تخفى عليه خافية ، ولا يعلم أنه بذلك يهدم ركنا من أركان دينه ويعمل عمل من يعتقد أن الله قد فرض فرضا وشرع بجانب ذلك الفرض ما يذهب به ويمحو أثره وذلك محال على الله سبحانه وتعالى .

ومثل هذا التحايل الذي ذكره الأستاذ الإِمام ، الحيل الرِّبَويّةِ التي كثيرا ما يستخدمها الذين لا يرعون للدين حرمة ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، نحو ما تعارف عليه الناس من بيوع الإِقالة ، فتجد أحدهم إذا احتاج يبيع عقاراً للآخر بثمن معلوم ولا يشترط الإِقالة إلى مدة معلومة ويتفق البائع والشاري على أن يستأجر البائع المبيع من المشتري في كل شهر بقدر معلوم من غير أن يتخلى عنه ويقبضه المشتري ، وفي هذا العقد حُرَم متعددة : -

الأولى : حرمة التذرع إلى الربا والتحايل على من لا تخفى عليه خافية ، وحرمة الربا لما فيه من الاستغلال وابتزاز ثروات المحتاجين ، وهذا المعنى حاصل في هذه المعاملة .

الثانية : حرمة بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن ، وقد صح النهي عن ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .

الثالثة : حرمة بيعين في بيع ، وللإِيجار حكم البيع ، فاجتماع عقدته وعقدة البيع معاً يُضفي على هذا العقد هذا الحكم نفسه .

الرابعة : حرمة الشرطين في بيع ، وهذا العقد ليس منطويا على شرطين فحسب ، بل على ثلاثة شروط : أولها شرط الإِقالة ، ثانيها شرط الاستئجار ، ثالثها اشتراط كون الاستئجار بثمن معلوم ، ومثل هذا قد تفشى في معاملات الناس ، نتيجة الجهل والإِسخفاف بأحكام الله تعالى .

وذكر الأستاذ الإِمام أن ثلاثة أقسام من هذا الضلال ، أولها وثالثها ورابعها يظهر أثرها في الأمم ، فتختل فيها قوى الإِدراك ، وتفسد الأخلاق وتضطرب الأعمال ، ويحل بها الشقاء عقوبة من الله ، لا بد من نزولها بهم ، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تحويلا ، وذكر أن حلول الضعف ونزول البلاء بأمة من الأمم ، من العلامات والدلالات على غضب الله تعالى ، بما أحدثته في عقائدها وأعمالها ما يخالف سننه ، لهذا علمنا الله تعالى كيف ندعوه بأن يهدينا طريق الذين ظهرت نعمته عليهم ، بالوقوف عند حدوده وتقويم العقول والأعمال بفهم ما هدانا إليه ، وأن يجنبنا طرق أولئك الذين ظهرت فيهم آثار نقمه ، بالإِنحراف عن شرائعه ، سواءً كان ذلك عمداً وعناداً أو غواية وجهلاً ، وذكر أن الأمة إذا ضلت سبيل الحق ولعب الباطل بأهوائها فسدت أخلاقها واعتلت أعمالها وقعت في الشقاء لا محالة ، وسلط الله عليها من يستذلها ويستأثر بشئونها ولا يؤخر لها العذاب إلى يوم الحساب وإن كانت ستلاقى منه نصيبا أيضا ، فإذا تمادى بها الغي ، وصل بها إلى الهلاك ومحا أثرها من الوجود ، لهذا علمنا الله تعالى كيف ننظر في أحوال من سبقنا ، ومن بقيت آثارهم بين أيدينا من الأمم لنعتبر ونميز بين ما تكون به سعادة الأمة أو شقاؤها ، أما في الأفراد فلم تجر سنة الله بلزوم العقوبة لكل ضال في هذه الحياة الدنيا ، فقد يُستدرج الضال من حيث لا يعلم ويدركه الموت قبل أن تزول النعمة عنه وإنما يلقى جزاءه

{ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الإنفطار : 19 ] انتهى كلامه وهو بحث نفيس ولأجل نفاسته حرصت على إيراد أقسام الضالين التي ذكرها وإن كنت أجنح إلى تفسير الضالين في الآية بما أثر النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف .

ويرى السيد محمد رشيد رضا الجمع بين التفسير المأثور والتفسير الذى عزاه إلى المحققين - ومنهم شيخه الإِمام محمد عبده - بما حاصله ، أنّ ما ذكره المحققون ليس مخالفا للمأثور ، لورود المأثور مورد التمثيل لا التخصيص والحصر .

ونستفيد أمرين جليلين من قوله تعالى { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ } :

أولها : وجوب الترابط والتلاحم بين المؤمنين بحيث يكوّن أفرادهم كتلة منيعة ، وتأتي أجيالهم حلقات متتابعة في سلسلة واحدة ، يواصل كل جيل منها ما بدأه الجيل الذي تقدمه .

ثانيهما : وجوب نفرة المؤمنين عن أعداء الدين ومنابذتهم بحيث لا يلتقون معهم على فكر ولا خلق ولا سلوك .

وهذان الأمران هما المعروفان عند العلماء - وخاصة أصحابنا - بالولاية والبراءة ولأجل أهميتهما جاءت هذه السورة التي هي أكثر تكرارا على ألسنة المسلمين في الصلاة وغيرها ، مؤكدة عليهما ، فالله تعالى يُعَلِّم عباده أن يطلبوا منه ، بأن يهديهم صراط الذين أنعم عليهم ، من سلفهم الصالحين الذين استقاموا على الطريقة وقاوموا الإِنحراف ، وأن يطلبوا بأن يوفقهم لمجانبة طرق أضدادهم من المغضوب عليهم والضالين ، وما أجملته الآية الكريمة هنا قد فصّلته وأكدته آيات أخرى في سائر القرآن منها قوله عز وجل :

{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 71 ] وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [ الأنفال : 72- 73 ] وقوله تعالى : { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ ، إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } [ الممتحنة : 1- 2 ] وضرب الله مثلا لعباده المؤمنين ابراهيم عليه السلام ومن معه الذين أعلنوا براءتهم من القوم الكافرين وإن كانوا من ذوي قرباهم حيث قال : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ، رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الممتحنة : 4- 5 ] ثم تلا ذلك ما يدل على وجوب التأسي بهم وعلى أن ذلك لازم الإِيمان بالله واليوم الآخر ، حيث قال : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ الممتحنة : 6 ] ومفهوم هذا أن من لم يتأس بهم ليس من الذين يرجون الله واليوم الآخر ، وفي خاتمة الآية ما لا يخفى من الوعيد لمن أعرض عن هذا الأمر واستخف بهذا الواجب ، وبين سبحانه أنه ليس من شأن المؤمن أن يوالي أحدا ممن عرف عداوته لله ولدينه ، ولو كان أقرب قريب ، فقد قال عز وجل :

{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ } [ المجادلة : 22 ] وأكد سبحانه وتعالى أن من تولى كافرا فله حكمه ، حيث قال : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ المائدة : 51 ] وبين عز وجل أن هذه الموالاة لا تنشأ إلا عن مرض نفساني عضال ، يستحكم في قلوب الذين لا يرجون الله واليوم الآخر ، حيث قال : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } [ المائدة : 52 ] وحذّر في هذا السياق من الإِرتداد تعريضا بالذين إتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتنبيها على أن هذه الموالاة تؤدي إلى الردة والعياذ بالله وذلك في قوله : { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } [ المائدة : 54 ] ويأتي في هذا السياق نفسه بيان صفات القوم الذين يجب على المؤمن أن يرتبط بهم بحبل الولاية ، وهم الذين يجمعون بين الإِيمان الراسخ والعمل الصالح ، وذلك حيث يقول : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [ المائدة : 55 ] وأتبع ذلك ما يكشف عن عاقبة الترابط بين المؤمنين برباط الولاية في قوله تعالى :

{ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [ المائدة : 56 ] ثم أتبع ذلك كله تأكيد التحذير من ولاية جميع القوم الكافرين في قوله :

{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ } [ المائدة : 57 ] .

وفي هذا ما يكفي العاقل تنفيرا وتحذيرا من الاندفاع وراء خطوات الكافرين وهم الذين لا يضمرون لهذه الأمة إلا الحقد الأسود الدفين ولا يريدون لها إلا الذوبان في بوتقة الإِلحاد ، أو الغرق في خِضمِّ الفساد ، ولذلك ينصبون كل ما يمكن من شراك المكائد ، لاصطياد مرضى القلوب وضعاف الإِيمان من هذه الأمة الذين يعيشهم بريق المظهر وتستهويهم نغمة التضليل والإِفساد ، وما الغاية من ذلك إلا ترغيبها في سفاسف الأمور ، وتزهيدها في معاليها ، هذا بجانب التآمر عليها في استقلالها وثرواتها .

ولا ريب أن غفلة هذه الأمة عن ذلك كله ، هو الداء العضال المستعصي على العلاج ، وإذا ألقينا نظرة على طريقة السلف الصالح ، الذين مكّن الله لهم في الأرض واستخلفهم فيها ، نجد حياتهم تنم عن عمق فهمهم لمقاصد هذه التوجيهات الربانية ، ولذلك كانوا ينأوْن بأنفسهم ويربأون عن الدنو حول ما يوهم مودة لأعدائهم أو إعجابا بشيء من أمرهم وذلك كله نتيجة التربية العملية التي رُبوا بها على هداية القرآن ، وإرشاده ونصحه وتعاليمه ، وكان على رأس من قام بهذه التربية في هذه الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

كما يتجلى ذلك في أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم فقد بلغ الحال أن كانت صلوات الله وسلامه عليه يحرص على مخالفة الكفار حتى في الأمور العادية ، ومن ذلك ما يروى أنه عليه أفضل الصلاة والسلام ، كان واقفا في حال دفن ميت وكان أصحابه وقوفا معه ، فمر بهم يهودي وقال : هكذا تصنع أحبارنا ، فقعد النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه بالقعود ، مخالفة لمسلك اليهود ، وكثيرا ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه في معرض الأمر والنهي ، " خالفوا اليهود أو خالفوا المشركين " وذلك لئلا يتأثر السلوك فتتأثر بالتالي العقيدة ، وهنا لا يملك المؤمن إلا أن يقف خاشعا أمام عظمة الإِسلام وعمق حكمته وسلامة تربيته ولكن يا للأسف الشديد ، أين هذه التعاليم القرآنية والتوجيهات النبوية من أمة اليوم ؟ التي أخذت تلهث وراء بهرجة الجاهلية الحديثة ، واطئة بأقدامها على قيمها وأخلاقها وعقيدتها ، فما أكثر أولئك الذين يقيسون التقدم الحضاري بمقياس التأثر بحياة الغرب الجاهلية ، فأصبحوا يتأسون بالغربيين في مأكلهم ومشربهم وملبسهم ونومهم وحديثهم ، وجميع أمورهم المعاشية معتقدين بأن ذلك رمز الوعي وعنوان الترقي ولا يدري هؤلاء البله أن ذلك إن دل على شيء ، فإنما يدل على الحماقة والتخلف والإِنحطاط والذوبان .

هذا وقد بلغ الإِسلام من دقته في هذه الأمور أن كل ما أراد أن يصل إلى هذه الأمة من مواريث النبوات السابقة ، أوصله إليها بطريق الوحي لا بطريق العادات الجاهلية ، بل قطع أولا صلتهم بالجاهلية رأسا ، لئلا تبقى هذه الأمة عالة على غيرها من الأمم ، في شيء من عقيدتها ، ولا في شيء من عباداتها وعاداتها ، ويكفي مثلا لذلك تعظيم البيت الحرام ، الذي بقي عند العرب مما ورثوه عن أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، ولكن بما أن ذلك قد تلوث بلوثات الجاهلية ، صرف الله تعالى هذه الأمة أولاً ، حتى عن الاتجاه إلى البيت الحرام في صلاتها ، لتتلقى جميع أمور دينها عن ربها سبحانه ، من طريق الوحي ، لا من طريق العادات الجاهلية ولما استقرت عقيدتها ورسخ إيمانها وصارت لا تتلقى إلا عن الله تعالى ، أُمرت من جديد باستقبال البيت الحرام ، وشُرعت لها المناسك العظام ، بعدما محصتهم هداية الله ونجحوا في مرحلة الامتحان ، ولذلك يقول الله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } [ البقرة : 143 ] وفي هذا ما يكفي لأن يكون عبرة لأولى الألباب ، نسأل الله العون والتوفيق والتأييد والتسديد ، وهو حسبنا وكفى .

تلاوة الفاتحة في الصلاة

فاتحة الكتاب هي أم القرآن ، بالنص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وبما ذكرناه من اشتمالها على مجمل معاني القرآن ، ولذلك شُرعت تلاوتها في الصلاة ، لتذكير المصلي بما تحتويه من المعاني القيمة ، التى أنزل القرآن لتبيانها ، ولا خلاف بين الأمة في مشروعية تلاوة الفاتحة في الصلاة ، ولكنهم اختلفوا في فرعين من فروع هذه المسألة ، نقسم الحديث عنهما إلى مبحثين : -

المبحث الأول : في وجوب تلاوة الفاتحة في الصلاة ، لقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دالة على مشروعية تلاوة الفاتحة في الصلاة ، بل على وجوبها منها ما أخرجه الربيع رحمه الله عن أبي عبيدة ، عن جابر بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنهم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " ورواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " رواه أحمد وابن ماجه ، ورواه البيهقي من طريق علي مرفوعا بلفظ " كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " ، وفسّر الربيع رحمه الله الخداج بالناقصة وهي غير التمام ، ومنها ما أخرجه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يخرج فينادي : ( لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد ) وهو وإن أعل بجعفر ابن ميمون الذي قال النسائي عنه : ليس بثقة ، وقال أحمد : ليس بقوي ، وقال ابن عدي يكتب حديثه في الضعفاء ، فإنه يعتضد بما أخرجه مسلم وأبو داود وابن حبّان عن عبادة بن الصامت ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا " والحديث مروي عند الجماعة بدون لفظة ( فصاعدا ) وإنما تفرد بها منهم مسلم وأبو داود ، وأخرجه الدارقطني بلفظ " لا تجزيء صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وقال إسناده صحيح وصححه ابن القطان أيضا ، ويعتضد بشاهد من حديث أبي هريرة مرفوعا بهذا اللفظ ، أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما ، ورواه أحمد بلفظ " لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن " والأحاديث في ذلك كثيرة يعزز بعضها بعضا ، منها حديث أنس عند أحمد والترمذي ، وحديث أبي قتادة عند أبي داود والنسائي ، وابن عمر عند ابن ماجه ، وأبي سعيد عند أحمد وأبي داود وابن ماجه ، وأبي الدرداء عند النسائي وابن ماجه ، وجابر عند ابن ماجه .

وجمهور الأمة يحملون هذه الأحاديث على الوجوب ، حتى أن الفخر الرازي نقل عن ابي حامد الإِسفرائينى أنه حكى إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة ، وذكر جماعة عن أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ما يدل على عدم وجوب قراءتها ، وذلك أنهم قالوا : إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك ، وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة : أقله ثلاث آيات ، أو آية طويلة ، كآية الديْن ، وذكر عن محمد بن الحسن أيضا أنه قال : أسوغ الإِجتهاد في مقدار آية ومقدار كلمة مفهومة نحو الحمد لله ، ولا أسوغه في حرف لا يكون كلاما .

وذكر القرطبي عن الطبري أنه قال : يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها في القرآن عدد آياتها وحروفها ، ونقل القرطبي عن ابن عبد البر قوله : وهذا لا معنى له ، لأن التعيين لها والنص عليها قد خصها بهذا الحكم دون غيرها ، ومحال أن يجيء بالبدل منها من وجبت عليه فتركها وهو قادر عليها ، وإنما عليه أن يجيء بها ويعود إليها كسائر المفروضات المتعينات في العبادات ، وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح ، أن الحنفية يتفقون مع غيرهم على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ، لكن بنوا على قاعدتهم أنها مع الوجوب ليست شرطا في صحة الصلاة ، لأن وجوبها إنما ثبت بالسنة والذي لا تتم الصلاة إلا به هو فرض ، والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن ، وقد قال تعالى : { فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } [ المزمل : 20 ] فالفرض قراءة ما تيسر ، وتعيين الفاتحة إنما ثبت بالحديث فيكون واجبا يأثم من يتركه وتجزيء الصلاة بدونه .

وَأَتْبَعَ الحافظ ذلك قولُه : وإذا تقرر ذلك ، لا ينقضي عجبي ممن يتعمد ترك قراءة الفاتحة منهم وترك الطمأنينة ، فيصلي صلاة يريد أن يتقرب بها إلى الله تعالى وهو يتعمد ارتكاب الإِثم فيها مبالغة في تحقيق مخالفته لمذهب غيره ، والذي نسبه إلى الحنفية من وجوب الفاتحة في الصلاة ، نص عليه الكاساني منهم في بدائع الصنائع وإنما حصر الوجوب في الركعتين الأوليين من ذوات الأربع والثلاث ، وفي كلتا الركعتين من ذات الركعتين وذكر أن من تركها عمدا كان مسيئا ، ومن تركها سهوا لزمه سجود السهو ، قال : وهذا يعني عندنا - يعني الحنفية - .

وهذا التفصيل نسبه الفخر الرازي إلى أبي حنيفة نفسه وقال في الركعتين الأخيرتين ، يخير المصلي إن شاء قرأ وإن شاء سبّح وإن شاء سكت ، ونسب الفخر إلى صاحب كتاب الاستحباب أن القراءة واجبة في الركعتين من غير تعيين ، وحكى عن ابن الصبَّاغ أنه نقل في كتاب الشامل عن سفيان ، وجوب القراءة في الركعتين الأوليين وكراهتها في الأخريين ، والقول بالاكتفاء بالتسبيح في الأخريين منسوب في بعض كتب أصحابنا إلى الإِمام أبي معاوية عزان بن الصقر رحمه الله ، وحكى الفخر عن الأصم وابن عليّة أن القراءة غير واجبة أصلا ، وذهب الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي إلى أن قراءتها في ركعة واحدة مجزئة ، سواء كانت الصلاة ثنائية ، أو ثلاثية أو رباعية ، ونسبه القرطبي إلى المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني ، وإلى أكثر أهل البصرة . وحاصل المقام أن في المسألة أقوالا : -

أولها : قول الجمهور ، وهو اشتراط الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة ، وحكى الإِسفرائيني إِجماع الصحابة عليه ، وذكر أنه قال به أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود ، ونسبه غيره إلى ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وأبي بن كعب وأبي أيوب الإِنصاري وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي سعيد الخدري وعثمان بن أبي العاص وخوات بن جبير ، وعليه جمهور أصحابنا ، وبه قال مالك والشافعي ، وهو المشهور عن أحمد ، ونسبه القرطبي إلى مشهور مذهب الأوزاعي ونسبه الشوكاني إلى العترة .

ثانيها : عدم وجوب القراءة في الصلاة أصلا ، وهو قول الأصم وابن عليَّة .

ثالثها : وجوبها في ركعة من ركعات الصلاة فقط وهو قول الحسن البصري ومن تابعه ، ونُسب إلى داود وإِسحاق والهادي والمؤيَّد بالله .

رابعها : وجوبها في الركعتين الأوليين والإِجتزاء بالتسبيح في الأخريين وهو رأي الحنفية وبه يقول أبو معاوية عزان بن الصقر من أصحابنا ، غير أن الحنفية لا يرون بطلان الصلاة بدونها ، كما تقدم ، بناءً على تفرقتهم بين الفرض والواجب .

خامسها : الاستغناء عن الفاتحة بغيرها من القرآن نحو ثلاث آيات أو آية طويلة كآية الديْن ، وهو رأي أبي يوسف ومحمد بن الحسن ، وسوّغ محمد بن الحسن الاجتهاد في آية أو كلمة مفهومة نحو { الْحَمْدُ للَّهِ } دون حرف لا يكون كلاما ، وذكر ابن قدامة في المغني عن أحمد رواية أنها لا تتعين وتجزىء قراءة آية من القرآن من أي موضع كان .

سادسها : اشتراط قراءة الفاتحة أو مثلها من القرآن في عدد آياتها وحروفها نسبه القرطبي إلى الطبري .

سابعها : وجوب قراءتها في الركعتين الأوليين ، وكراهتها في الأخريين ، وهو قول سفيان حسبما نقله الفخر الرازي ، عن كتاب الشامل لابن الصبّاغ .

والصحيح من هذه الآراء القول بوجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ، وهو الذي تقتضيه الأحاديث التي أسلفنا ذكرها ، ويعضده إجماع الصحابة الذي حكاه أبو حامد الإِسفرائيني ، أما القول بإسقاط وجوب القراءة رأسا فهو منافٍ لدلالة قوله تعالى : { فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } [ المزمل : 20 ] ومصادم لنصوص الأحاديث التي أسلفنا ذكرها .

وأما القائلون بالإِجتزاء بتلاوتها في ركعة من ركعات الصلاة فيرد عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته : " ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " ، بعد أن أمره بالقراءة . رواه الجماعة من طريق أبي هريرة رضي الله عنه ، وفي رواية لأحمد وابن حبان والبيهقي في قصة المسيء صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " ثم افعل ذلك في كل ركعة " كما يرد عليهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد أخرج البخاري عن إبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب . . والنبي عليه أفضل الصلاة والسلام تأتي أفعاله في العبادات ، تشريعا لأمته يستوضح بها ما انبهم ويستبان بها ما أجمل ، وقد قال : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ولا متعلق لهم في نحو قوله صلى الله عليه وسلم " لا تقبل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن " اعتبارا أن الاستثناء من النفي إثبات ، فإذا حصلت قراءة الفاتحة في الصلاة مرة واحدة صحت الصلاة ، لأن سنته صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية بينت أن هذه القراءة المطلوبة يجب أن تكون في كل ركعة من ركعات الصلاة ، لا في ركعة واحدة فحسب ، فاتضح بذلك أن صحة الصلاة موقوفة على تلاوة الفاتحة في كل ركعة ، وبهذا يُرد على القائلين بالاجتزاء بها في الركعتين الأوليين من صلاة رباعية أو ثلاثية .

وأما القائلون بكفاية غيرها عنها - سواء القائلون بكفاية آية أو ثلاث آيات أو مثل الفاتحة في مثل عدد آياتها وحروفها - فأحاديث اشتراط الفاتحة كافية في هدم رأيهم والكشف عن ضعفه ، ولا حجة لهم في إطلاق قوله تعالى { فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي المسيء صلاته : " ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن " ، لأن المجمل يحمل على المبين والمطلق يرد إلى المقيد ، على أنه ورد في حديث المسيء أيضا ، عند أحمد وأبي داود وابن حبان بلفظ :

" ثم اقرأ بأم القرآن " وروى الشافعي بإسناده عن رفاعة بن رافع ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي : " ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله أن تقرأ " وفي مثل هذا دليل على تعين الفاتحة وأن ما تيسر محمول على ما زاد عليها ، مع احتمال أنه لم يكن يحسن الفاتحة ، والآية الكريمة جاءت في سياق أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقيام الليل ، وليست في الصلوات الخمس ، وذكر بعض العلماء احتمال أنها نزلت قبل نزول الفاتحة ، لأنها نزلت بمكة المكرمة في صدر زمن الرسالة ، فليس فيها ما يدل على معارضة الأحاديث ، أما ما يتعلقون به من حديث أبي سعيد بلفظ : " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو غيرها " فإن ابن سيد الناس يقول : لا يدرى بهذا اللفظ من أين جاء وقد صح عن أبي سعيد عند أبي داود أنه قال : أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر . . وإسناده صحيح ورواته ثقات .

وأما تعلقهم بحديث أبي هريرة عند أبي داود بلفظ : " لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب " فيجاب عنه بأنه من رواية جعفر بن ميمون وقد سبق أن ذكرنا عن النسائي وأحمد وابن عدي تضعيفه وهو أيضا مردود بأن أبا داود أخرج من طريقه عن أبي هريرة بلفظ : " أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أخرج فأنادي ، أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد " وليست تلك الرواية بأولى من هذه ، بل هذه أولى بما يشدها من الروايات الأخرى ، التي هي أقوى سندا وأصح متنا ، على أنه يحتمل أن المراد بقوله عليه أفضل الصلاة والسلام - لو صحت الرواية - " لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب " الاجتزاء بقراءة الفاتحة وحدها ، في بعض الصلوَات كصلاة السر ، كما هو المذهب عندنا .

وبالجملة فإن كل ما يتعلق به المخالف في هذه المسألة ، إما رواية واهية أو ذات احتمال ، والدليل إذا طرقه الإِحتمال سقط به الاستدلال ، أما أدلتنا على وجوب الفاتحة في كل ركعة فهي أقوى من أن تُغمز ، وأظهر من أن تؤوّل ، وإن حاول جماعة قلب الاستدلال بها لصالح رأيهم ، ومن ذلك دعواهم أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " يدل على صحة الصلاة بدونها ، لأن غاية ما في الحديث أن الصلاة دونها ناقصة ، وهو لا يدل على بطلانها ، ويُجاب عن ذلك بأن الصلاة المطلوبة شرعاً هي الصلاة المستكملة لشروطها وأركانها ، فإذا اختل شيء منها انهدم جميعها ، والخداج هو في الأصل ، اسم لإِلقاء الناقة ولدها لغير تمام الحمل ، كما قال اللغويون ، وهو سبب من أسباب هلاك الحمل ، على أن الروايات الأخرى التي جاءت تارة بلفظ " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وأخرى بلفظ " لا تجزىء صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " صريحة في بيان المقصود بالخداج .

وحاولوا كذلك قلب الأدلة - من قوله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " زاعمين بأن المراد نفي الكمال لا نفي الذات ، لأن الذات قائمة غير منتفية ، ونفي الكمال يدل بمفهومه على وجود الحقيقة ، وأجاب عن ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح بما حاصله : إما أن يدعى هؤلاء أن المراد بالصلاة حقيقتها اللغوية ، وإما أن يسلّموا أن المراد بها معناها الشرعي ، والأول غير مُسَلّم لأن ألفاظ الشرع محمولة على مصطلحاته ، إذ هي المستوجبة للبيان ولم يُبعث الشارع لبيان الموضوعات اللغوية ولكنه بُعث لبيان الحقائق الشرعية ، وإذا ثبت أن الصلاة المنفية هنا هى الصلاة الشرعية اتضح نفي حقيقتها ، من غير احتياج إلى إضمار الإِجزاء ولا الكمال ، لأنه يؤدى إلى الإِجمال ، كما نُقل عن القاضى أبي بكر وغيره حتى مال إلى التوقف لأن نفي الكامل يُشعر بحصول الإِجزاء ، فلو قدر الإِجزاء منتفيا لأجل العموم قدر ثابتا لأجل إشعار نفي الكمال بثبوته ، فيؤدي إلى التناقض ولا سبيل إلى إضمارهما معا ، لأن الاضمار إنما احتيج إليه للضرورة وهي تندفع باضمار فرد فلا حاجة إلى أكثر منه ودعوى إضمار أحدهما ليست بأولى من الآخر ، قاله ابن دقيق العيد ، وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن في هذا الأخير نظرا ، لأنا إن سلمنا تعذر الحمل على الحقيقة ، فالحمل على أقرب المجازين إليها أولى من الحمل على أبعدهما ، ونفى الاجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة وهو السابق إلى الفهم ، ولأنه يستلزم نفي الكمال من غير عكس ، فيكون أولى ، وأيد الحافظ ذلك برواية " لا تجزىء " التي ذكرناها ، وبرواية " لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن " وإذا علمت وجوب قراءتها في كل ركعة من الصلاة ، فاعلم أن تركها عمداً أو نسياناً ، أو ترك شيء منها ، مفض إلى بطلان الصلاة على الصحيح ، وهو قول أصحابنا في العمد ، ونسيان أكثرها ، وقول أكثرهم في نسيان الأقل منها ، ووافقنا عليه الشافعي في الجديد ، وعليه ابن حزم الظاهرى في المحلّى ، وذهب الشافعي في قديمه إلى أن نسيانها لا يفسد الصلاة ، واحتج بما روى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : صلى بنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه المغرب ، فترك القراءة ، فلما انقضت الصلاة قيل له : تركت القراءة ، قال : كيف كان الركوع والسجود ، قالوا : حسنا ، قال : فلا بأس ، واعتبر الشافعي حدوث هذه الواقعة بمحضر الصحابة من غير نكير منهم في حكم الإِجماع ، ثم رجع عنه في الجديد ، كما ذكرنا ، أخذا بالأدلة العامة التي تشمل العمد والسهو ، وأجاب عن قصة عمر بجوابين :

أولهما : أن الشعبي روى أن عمر رضي الله عنه أعاد الصلاة .

وهي زيادة من الثقة حكمها القبول ، والمثبت مقدم على النافي عند التعارض .

ثانيهما : احتمال أن يكون عمر رضى الله عنه لم يترك نفس القراءة وإنما ترك الجهر بها ، قال الشافعي : هذا هو الظن بعمر .

وضعّف القرطبي ما رُوى عن عمر أنه اعتد بالصلاة التي لم يقرأ فيها بعدم إعادته لها ، وقال عنه : منكر اللفظ ، منقطع الإِسناد ، لأنه يرويه ابراهيم بن حارث التيمي عن عمر ، ومرة يرويه ابراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عمر ، وكلاهما منقطع لا حجة فيه ، وقد ذكره مالك في الموطأ ، وهو عند بعض الرواة وليس عند يحيى وطائفة معه ، لأنه رماه مالك من كتابه بأخره ، وقال ليس عليه العمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " ثم ذكر القرطبي ما رُوى عن عمر ، أنه أعاد تلك الصلاة ، وقال : وهو الصحيح عنه ، روى يحيى بن يحيى النيسابورى قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش : عن ابراهيم النخعي عن همام بن الحارث ، أن عمر نسي القراءة في المغرب ، فأعاد بهم الصلاة ، قال ابن عبد البرّ : وهذا حديث متصل شهده همام بن عمر ، رُوى ذلك من وجوه ، وروى أشهب عن مالك قال : سُئل مالك عن الذي نسى القراءة ، أيعجبك ما قال عمر ، قال : أنا أنكر أن يكون عمر فعله - وأنكر الحديث - وقال : يرى الناس عمر يصنع هذا في المغرب ولا يسبحون به ، أرى أن يعيد الصلاة من فعل هذا .

والمفهوم من كلام المالكية أن مالكا يرى رأينا في من يتركها عمدا وهو خلاف ما ذكره عنه ابن حزم وغيره ، والاعتماد على ما يرويه عنه أصحابه أولى ، أما في حالة النسيان ، فذكر ابن خويزمنداد البصري المالكي ، عدم اختلاف قول مالك ، في بطلان صلاة من تركها في ركعة من صلاة ركعتين ولزوم الإِعادة عليه ، واختلف قوله من تركها ناسيا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية ، فقال مرة يعيد الصلاة ، وقال مرة أخرى يسجد سجدتي السهو ، وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عن مالك ، قال ابن خويزمنداد : وقد قيل إنه يعيد تلك الركعة ، ويسجد للسهو بعد السلام ، قال ابن عبد البر : الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة ، والاتيان بركعة بدلا منها كمن أسقط سجدةً سهوا ، وهو اختيار ابن القاسم .

في تلاوة الفاتحة للإِمام والمأموم والمنفرد

فاتحة الكتاب جامعة لما لم يجمعه غيرها من مجملات معاني القرآن ، وهذا سر مشروعية قراءتها في الصلاة كما أسلفنا ، ومن هنا أطلق عليها اسم الصلاة . أخرج الإِمام الربيع عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" يقول الله عزّ وجل قُسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، نصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا قال العبد الحمد لله فيقول الله حمدني عبدي ، فإذا قال العبد : الرحمن الرحيم فيقول الله أثنى علىّ عبدي ، وإذا قال العبد : { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } فيقول الله : مجدني عبدي ، فيقول : العبد إياك نعبد وإياك نستعين ، فيقول الله : هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فيقول العبد : اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، فيقول الله : هذه لعبدي ولعبدي ما سأل " .

وأخرج الحديث الجماعة إلا البخاري وإبن ماجه بلفظ قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج " ، فقيل لأبي هريرة إِنا نكون وراء الإِمام فقال : إقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله : حمدني عبدي . . إلخ " .

والحديث الأول هنا حديث مستقل ، أخرجه الإِمام الربيع رحمه الله ، من طريق أنس رضي الله عنه كما سبق ، وإطلاق إسم الصلاة على الفاتحة يدل على أهميتها في الصلاة ، وضرورة قراءتها ، لتوقف صحة الصلاة عليها ، فهي بمثابة العمود الفقري فيها ، وفي هذا ما يكفي حجة لإِيجابها على كل مصل ، إماما كان أو مأموما أو منفردا ، فإن الفاتحة في الصلاة لا تقل أهمية عن الركوع والسجود ، بل الحديث يدل على سبق أهميتها ، وإذا كان الركوع والسجود لا يحملهما إمام عن المأموم ، فأجدر أن يكون هذا الحكم على الفاتحة ، ووجوب قراءتها على المأموم كالإمام والمنفرد مروي عن جماعة الصحابة رضي الله عنهم ، منهم عمر بن الخطاب ، فقد روى الدار قطني عن يزيد بن شريك قال : سألت عمر عن القراءة خلف الإِمام فأمرني أن أقرأ ، قلت : وإن كنت أنت ، قال : وإن كنت أنا ، قلت ، وإن جهرت ، قال : وإن جهرت .

قال الدارقطني هذا إسناد صحيح ، وأخرجه ابن حزم مسندا في المحلّى عن يزيد بن شريك وعباية بن رداد وخيثمة بن عبد الرحمن عن عمر رضي الله عنه وذكر الترمذي في جامعه أن أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين يقولون بذلك ، وعزاه إلى مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد واسحق ، وصحح هذا الرأي القرطبي من المالكية في تفسيره ، وعليه جمهور أصحابنا ، ونُسب إلى الناصر من أهل البيت ورجّحه الشوكاني .

وقيل : بعدم القراءة مطلقا خلف الإِمام سواءً أسَرَّ أو جهر ، وهو قول : أبي حنيفة وأصحابه ، وبه قال : ابن وهب وأشهب وابن الحكم وابن حبيب من أصحاب مالك ، وقال : بعض سلف مشارقتنا ، حتى قال بعضهم : جمرة في عينه أحب إليه من أن يقرأ الفاتحة خلف الإِمام ، وعزي هذا القول إلى الإِمام ابن محجوب رحمه الله ، وعزا إليه القطب رحمه الله في الشامل وشرح النيل رجوعه عنه .

وقيل بالتفرقة بين الجهرية السرية ، فينصت لها المأموم من إمامه في الجهر ويقرؤها في السر ، وهو مشهور مذهب مالك ، ونسبه الشوكاني إلى زيد بن على والهادي والقاسم وأحمد بن عيسى وعبيد الله بن الحسن العنبري واسحاق بن راهويه وأحمد ، وذكر ابن قدامة في المغني أنه رواية الجماعة عن أحمد ، وعزاه أيضا إلى الزهري والثوري وابن عيينه وإلى إسحاق ، واعتمده ، من قبله سلفه الخرقي في مختصره .

وذكر ابن حزم الظاهري اختلاف أصحابه الظاهرية في ذلك ، فمنهم من رأى وجوب القراءة مطلقا خلف الإِمام ، كما هو القول الأول ورجحه هو وعُزِي إلى سلفه داود ، ومنهم من فرق بين قراءتي السر والجهر كما هو القول الثالث ، ويؤيد القول الأول ، ما أخرجه الربيع عن عبادة بن الصامت رضي الله ، عنه قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف قال : ( لعلكم تقرأون خلف إمامكم ) قلنا أجل ، قال : " لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة إلا بها " والحديث أخرجه عن عبادة أيضا أحمد والبخاري في جزء القراءة ، وصححه ابو داود والنسائي والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي ، من طريق ابن اسحاق قال : حدثني مكحول عن محمود بن ربيعه ، عن عبادة ، وتابعه زيد بن واقد وغيره عن مكحول ، وأخرجه أبو داود عن نافع بن محمود بن الربيع الأنصاري قال : أبطأ عبادة بن الصامت عن صلاة الصبح ، فأقام أبو نعيم المؤذن الصلاة فصلى أبو نعيم بالناس ، وأقبل عبادة ابن الصامت وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم ، وأبو نعيم يجهر بالقراءة ، فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن فلما انصرف قلت : لعبادة سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر ، قال : أجل " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فالتبست عليه ، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال : هل تقرأون إذا جهرت بالقراءة فقال : بعضنا : إنا نصنع ذلك ، قال : " فلا وأنا أقول مالي ينازعني القرآن فلا تقرأوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن " وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث محمد بن اسحاق بمعناه وحسنه ، وقال الدارقطني : هذا إسناد حسن ورجاله كلهم ثقات ، وجاء في كثير من روايات الحديث " لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها "

، وذكر الشوكاني من شواهده ، ما رواه أحمد من طريق خالد الحذّاء ، عن ابي قلابة بن أبي عائشة ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعلكم تقرأون والإِمام يقرأ " ، قالوا : إنا لنفعل ، قال : " لا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب " ، قال الحافظ : إسناده حسن ، ورواه ابن حبان من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أنس ، وزعم أن الطريقتين محفوظتان ، وخالفه البيهقي فقال : إن طريق أبي قلابة عن أنس ليست محفوظة ، وفي لفظ للدارقطني عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقرأ أحد منكم شيئا من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن " قال الدارقطني : رِجاله كلهم ثقات .

فهذه الأحاديث ناصة على أن للفاتحة حكما خاصا في الصلاة ، فلا يكتفي فيها بسماعها من الإِمام بخلاف غيرها ، وهذا لتوغلها في الوجوب ، لأنها ركن من أركان الصلاة ، ولذلك أطلق عليها اسم الصلاة بالنص الصريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه رب العالمين ، لأنها بمثابة القلب منها .

واحتج القائلون بعدم القراءة خلف الإِمام مطلقا أو فيما يُجْهر به بعموم قوله تعالى{ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } [ الأعراف : 204 ] وبعموم روايات ، منها ما أخرجه الربيع عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي هريرة قال : انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة جهر فيها بالقرأ ، فقال : " هل قرأ معي أحد منكم آنفا ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا فيما جهر به من الصلاة " ، ورواه مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسّنه ، وابن ماجة وابن حبان بلفظ : " فإني أقول مالي أُنازع القرآن " وزيادة فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه سلم فيما يجهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الزيادة مدرجة في الخبر كما نقله الشوكاني عن الخطيب ، وذكر أنه اتفق على ذلك البخاري في التاريخ وأبو داود ويعقوب بن سفيان والذهلي والخطابي وغيرهم .

قال النووي : وهذا مما لا خلاف فيه بينهم ، ومنها حديث أبي هريرة عند الخمسة إلا الترمذي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما جُعل الإِمام لِيؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا قرأ فأنصتوا " ونُسب إلى مسلم تصحيحه ، ولكن أبا داود قال في زيادة قوله ( وإذا قرأ فأنصتوا ) ، ليست بمحفوظة ، ونسب الوهم فيها إلى أبي خالد ، ورد عليه المنذري بأن أبا خالد هذا هو سليمان ابن حيان الأحمر وهو من الثقات الذين احتج بهم البخاري ومسلم في صحيحهما ، وأجاب عنه الإِمام نور الدين السالمي رحمه الله ، بأن ذلك لا ينافي وقوع الوهم منه ، لأن أبا داود لم يدّع كذبه ، وإنما ادّعى وهمه ، وهو غير الكذب بل هو في معنى الغلط ، غير أن المنذري عزز ثبوت هذه الزيادة ، ونفي الوهم عن راويها أبي خالد ، بعدم تفرده بها ، فقد تابعه عليها أبو سعيد محمد بن سعد الأنصاري الأشهلي المدني نزيل بغداد ، وقد سمع من عجلان وهو ثقة وثَّقَهُ يحيى بن معين ومحمد بن عبد الله المحزمي وأبو عبد الرحمن النسائي وقد أخرج النسائي هذه الزيادة في سننه من حديث أبي خالد الأحمر ومحمد بن سعد ، ونسب المنذري إلى مسلم إخراج هذه الزيادة في حديث أبي موسى الأشعري من رواية جرير ابن عبد الحميد ، عن سليمان التَّيمي عن قتادة وأقر الشوكاني نسبتها إلى رواية مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري ، ورأيت جماعة من العلماء عزوا إخراجها إلى مسلم من حديث أبي موسى ، منهم القرطبي في تفسيره ، والحافظ ابن حجر في فتح الباريء ، وعزا إليه ابن قدامة في المغنى إخراج حديث أبي هريرة الذي تقدم ذكره ، وقد راجعت أبواب القراءة في الصلاة وأبواب صلاة الجماعة من صحيح مسلم بابا بابا ، وتأملت ما فيها حديثا حديثا ، فلم أجد ما عزوه اليه من رواية أبي موسى ، ولا من رواية أبي هريرة ، ولا من رواية غيرهما ، وإنما رأيت في باب ائتمام المأموم بالإِمام أربعة أحاديث أخرحها مسلم من رواية أنس وعائشة ، وجابر بن عبد الله ، وأبي هريرة رضي الله عنهم أما حديث أنس فلفظه " إنما جعل الإِمام ليؤتم به فإذا كبّر فكبِّروا ، فإذا سجد فاسجدوا ، وإذا رفع فارفعوا وإذا قال : سمع الله لمن الحمده فقولوا ربنا ولك الحمد ، وإذا صلى قعودا فصلوا قعودا أجمعون " وفي بعض طرقه عنه زيادة " فإذا صلى قائما فصلوا قياما " ولفظ حديث عائشة " إنما جعل الإِمام ليؤتم به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا " ولفظ حديث جابر " إئتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا " ولفظ حديث أبي هريرة " إنما الإِمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ، فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا ، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون " وفي بعض الطرق في نفس صحيح مسلم زيادة بعض ألفاظ في رواية أبي هريرة منها " إذا صلى قائما فصلوا قياما " وليس في شيء منها " وإذا قرأ فأنصتوا " ولم تأت رواية في هذا الباب عن أبي موسى الأشعري ، ولست أدري أين تقع هذه الرواية التي نسبوها إليه ، مع العلم أن هؤلاء الذين عزوا إخراج مسلم لهذا الحديث عن أبي موسى وتصحيحه حديث أبي هريرة معدودون في مقدمة أئمة الحديث رواية ودراية ، هذا وقد أعلّ الدارقطني زيادة " وإذا قرأ فأنصتوا " الواردة في رواية سليمان التيمي عن قتادة بأن الحفاظ من أصحاب قتادة لم يذكروها منهم شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة وهمام وأبو عوانة ومعمر وعدي بن أبي عمارة ، قال الدارقطنى : فإجماعهم يدل على وهمه ، وقد روي عن عبد الله بن عامر عن قتادة متابعة التيمي ، ولكن ليس هو بالقوي تركه القطان ، لكن روى بعضهم تصحيحها عن أحمد بن حنبل وابن المنذر .

ومنها حديث " من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة " وهو حديث مرسل من طريق عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أسنده عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن عماره : وأبو حنيفه وقد ضعفهما الدارقطنى الراوى للحديث قال : وروي هذا الحديث سفيان الثوري ، وشعبة وإسرائيل بن يونس وشريك وأبو خالد الدالاني وأبو الأحوص وسفيان بن عيينه وحريث ابن عبد الحميد وغيرهم عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب . وذكر الحافظ وغيره أنه مشهور من كلام جابر بن عبد الله موقوفا عليه ، وقد رواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر ، قال ابن عبد البر : " ورواه يحيى بن سلام ، صاحب التفسير عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وصوابه موقوف على جابر كما في الموطأ " .

وليس في شيء مما احتجُّوا به ما يدل على صحة ما ذهبوا إليه ، أما الآية الكريمة فإنها ليست نصا في الموضوع ، إذ يحتمل أن تكون القراءة المقصودة فيها خارج الصلاة وهي مكية ، وتحريم الكلام في الصلاة كان في المدينة ، كما قال زيد بن الأرقم : وليس ببعيد أن يكون المقصود بها المشركين الذين يرفعون أصواتهم عند تلاوة القرآن حذر أن يصل إلى نفوسهم إن أنصتوا إليه فيستولى عليها ، وقد رُوي مثل ذلك عن سعيد بن المسيب ويشهد له قول الله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] ولو سُلِّم أنها نزلت في قراءة الصلاة ، فهي مخصصة بالأحاديث الناصة على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم ، والخصوص إذا ثبت قُدِّم على العموم ولو كان قرآنًا ، لأن العام ظني الدلالة - وإن كان قطعي المتن - بخلاف الخصوص ، وأما الأحاديث فهي أيضا عمومات محمولة على ما فوق الفاتحة ، لوجوب تقديم الخاص على العام ، ولا تقوى هذه العمومات على معارضة الخصوصات الصريحة الواضحة ، وقد علمت ما في بعض تلك الأحاديث من مطاعن لأئمة الحديث في أسانيدها ، فكيف تقوى على معارضة الروايات الصحيحة الصريحة في إيجاب تلاوة الفاتحة على كل مصلٍّ ؟ .

هذا وإذا ثبت الأمر بقراءة الفاتحة خلف الإِمام فإن ذلك لا يتقيد بحال سكوته إذ ليس في تلك الأحاديث ما يدل عليه ، وقد اختلفت الشافعية في قراءة الفاتحة ، هل تكون عند سكتات الإِمام وعند قراءته ، قال الشوكاني : وظاهر الأحاديث أنها تقرأ عند قراءة الإمام ، وفعلها حال سكوت الإِمام إن أمكن أحوط ، لأنه يجوز عند أهل القول الأول فيكون فاعل ذلك آخذاً بالإِجماع - قال - وأما اعتياد قراءتها حال قراءة الإِمام للفاتحة فقط ، أو حال قراءته للسورة فقط ، فليس عليه دليل بل الكل جائز وسنة ، نعم حال قراءة الإِمام للفاتحة مناسب ، من جهة عدم الاحتياج إلى تأخير الإِستعاذة عن محلها ، أو تكريرها عند إرادة قراءة الفاتحة إن فعلها في محلها أول وآخر الفاتحة إلى حال قراءة الإِمام للسورة . إنتهى كلامه بتصرف .

ثم ذكر الشوكاني عن بعض الشافعية أنه بالغ ، فصرح بأنه إذا اتفقت قراءة الإِمام والمأموم في آية خاصة من آي الفاتحة بطلت صلاته ، وذكر عن صاحب البيان من الشافعية ، أنه رواه عن بعض أهل الوجوه منهم ، قال : وهو من الفساد بمكان يغني عن رده ، وللحافظ ابن حجر بحث قيم في هذه المسألة في الفتح ، فبعد أن ذكر حديث " وإذا قرأ فأنصتوا " أتى باحتمالين في المقصود به : -

أولهما : أن الإِنصات المطلوب فيما عدا الفاتحة .

ثانيهما : أن ينصت إذا قرأ الإِمام ويقرأ إذا سكت ، قال : وعلى هذا فيتعين على الإِمام السكوت في الجهرية ليقرأ المأموم ، لئلا يوقعه في ارتكاب النهي ، حيث لا ينصت إذا قرأ الإِمام ، ثم قال : وقد ثبت الإِذن بقراءة المأموم الفاتحة في الجهرية بغير قيد ، وذلك فيما أخرجه البخاري في جزء القراءة والترمذي وابن حبّان وغيرهما ، من رواية مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم ثقلت عليه القراءة في الفجر . . وأورد حديث عبادة الذي ذكرناه ، ثم قال : وله شاهد من حديث أبي قتادة عند أبي داود والنسائي ومن حديث أنس عند ابن حبّان .

ويمكنك بهذا استظهار رجحان القول بقراءة الفاتحة ، ولو في حال قراءة الإِمام ، وهو الذي عليه العمل عندنا ، وذكر صاحب الإِيضاح وغيره عن بعض أصحابنا اختيار ما عليه بعض الشافعية من قراءتها في سكتات الإِمام .

وتلاوة الفاتحة في الصلاة أو في غيرها يجب أن تكون بحسب ألفاظها المنزلة ، فلا تَصِح ترجمتها إلى أي لغة أخرى ، كالفارسية مثلا ، لأن ذلك يسلبها قرآنيتها ، وذهب أبو حنيفة إلى جواز قراءتها في الصلاة وغيرها باللغة الفارسية ، وهو رأي غير سديد ، وقد أطال العلماء في الرد عليه ، وقد كنت أرغب في بحث هذا الموضوع هنا ، ولكني رجحت تأخيره إلى موضعه وهو ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى ، وأرجو أن أوفق لذلك عندما أصل في التفسير إن شاء الله إلى الآيات التي تنص علي عربية القرآن ، وقول أبي حنيفة مهجور عملا إذ لم يعمل به أي أحد حتى من أصحابه الذين يرون رأيه ، وبهذا كان الإِجماع العَملي من الأمة مخالفا لرأيه ، وهذا ما يسر الله إملاءه في هذا الجزء المشتمل على مقدمات مهمة في التفسير والإِعجاز ، بجانب تفسير الفاتحة ، أسأل الله أن يتقبله مني ، وأن يجزي الخير كل من أعانني عليه ، وأن يوفقني لمواصلة العمل الذي بدأته إلى نهايته ، إنه سبحانه ولي التوفيق ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .