تفسير الشعراوي

الشعراوي القرن الخامس عشر الهجري

صفحة 283

وَيَدۡعُ ٱلۡإِنسَٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُۥ بِٱلۡخَيۡرِۖ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ عَجُولٗا ١١

( يدع )الدعاء : طلب ما تعجز عنه قادر عليه . وأهل النحو يقولون . إن الفعل : ماضٍ ومضارع وأمر . فالأمر : طلب من الأعلى إلى الأدنى ، فكل طلب من الله لخلقه فهو أمر ، أو من الأعلى من البشر للأدنى . أما إن كان الطلب من مساوٍ لك فهو التماس أو رجاء . فإن كان الطلب من الأدنى للأعلى ، كطلب العبد من ربه فهو دعاء .

لذلك نجد التدقيق في الإعراب يحفظ لله تعالى مكانته ويعظمه ، فنقول للطالب : أعرب : رب اغفر لي ، فيقول : اغفر ، فعل دال على الدعاء ، لأنه لا يجوز في حق المولى تبارك وتعالى أن نقول : فعل أمر ، فالله لا يأمره أحد .

فأول ما يفهم من الدعاء أنه دل على صفة العجز والضعف في العبد ، وأنه قد اندكت فيه ثورة الغرور ، فعلم أنه لا يقدر على هذا إلا الله فتوجه إليه بالدعاء .

( بالشر )بالمكروه ، والإنسان لا يدعو على نفسه ، أو على ولده ، أو على ماله بالشر إلا في حالة الحنق والغضب وضيق الأخلاق ، الذي يخرج الإنسان عن طبيعته ، ويفقده التمييز ، فيتسرع في الدعاء بالشر ، ويتمنى أن ينفذ الله له ما دعا به .

ومن رحمة الله تعالى بعباده ألا يستجيب لهم هذا الدعاء الذي إن دل فإنما يدل على حمق وغباء من العبد .

وكثيراً ما نسمع أماً تدعو على ولدها بما لو استجاب الله له لكانت قاصمة الظهر لها ، أو نسمع أباً يدعو على ولده أو على ماله ، إذن : فمن رحمة الله بنا أن يفوت لنا هذا الحمق ، ولا ينفذ لنا ما تعجلناه من دعاءٍ بالشر . قال تعالى : { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم . . " 11 " } ( سورة يونس ) : أي : لو استجاب الله لهم في دعائهم بالشر لكانت نهايتهم . وإن كنت تسر وتسعد بأن ربك سبحانه وتعالى فوت لك دعوة بالشر فلم يستجب لها ، وأن لعدم استجابته سبحانه لحكمة بالغة . فاعلم أن لله حكمة أيضاً حينما لا يستجيب لك في دعوة الخير ، فلا تقل : دعوت فلم يستجب لي ، واعلم أن لله حكمة في أن يمنعك خيراً تريده ، ولعله لو أعطاك هذا الخير لكان وبالاً عليك .

إذن : عليك أن تقيس الأمرين بمقياس واحد ، وترضى بأمر الله في دعائك بالخير ، كما رضيت بأمره حين صرف عنك دعاء الشر ، ولم يستجب لك فيه . فكما أن له سبحانه حكمة في الأولى ، فله حكمة في الثانية .

وقد دعا الكفار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنفسهم ، فقالوا : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء . . " 32 " } ( سورة الأنفال ) ، وقالوا : { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا " 92 " } ( سورة الإسراء ) : ولو استجاب الله لهم هذا الدعاء لقضى عليهم ، وقطع دابرهم ، لكن لله تعالى حكمة في تفويت هذا الدعاء لهؤلاء الحمقى ، وهاهم الكفار باقون حتى اليوم ، وإلى أن تقوم الساعة .

وكان المنتظر منهم أن يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ، لكن المسألة عندهم ليست مسألة كفر وإيمان ، بل مسألة كراهية لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولما جاء به ، بدليل أنهم قبلوا الموت في سبيل الكفر وعدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم . ومن طبيعة الإنسان العجلة والتسرع ، كما قال تعالى : { خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون " 37 " } ( سورة الأنبياء ) : فكثيراً ما يدعو الإنسان بالخير لنفسه أو بما يراه خيراً ، فلا يجد وراءه إلا الشر والتعب والشقاء ، وفي المقابل قد ينزل الله بك ما تظنه شراً ، ويسوق الله الخير من خلاله .

إذن : أنت لا تعلم وجه الخير على حقيقته ، فدع الأمر لربك عز وجل ، واجعل حظك من دعائك لا أن تجاب إلى ما دعوت ، ولكن أن تظهر ضراعة عبوديتك لعزة ربك سبحانه وتعالى .

ومعنى : { دعاءه بالخير . . " 11 " } ( سورة الإسراء ) .