تفسير الشعراوي

الشعراوي القرن الخامس عشر الهجري

صفحة 283

إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا ٩

فمن كان يريد الأسوة الطيبة في عبودية الرسول لربه ، هذه العبودية التي جعلته يسري به إلى بيت المقدس ، ثم يصعد به إلى السماء ، ومن كان يريد أن يكون مثل نوح في عبوديته لربه فأكرم ذريته من أجله ، فعليه أن يسير على دربهم ، وأن يقتدي بهم في عبوديتهم لله تعالى ، وليحذر أن يكون مثل اليهود الذين أفسدوا في الأرض مرتين .

والذي يرسم لنا الطريق ويوضح لنا الحق من الباطل هو القرآن الكريم : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . . " 9 " } ( سورة الإسراء ) .

قول الحق تبارك وتعالى : { إن هذا القرآن . . " 9 " }( سورة الإسراء ) : هل عند نزول هذه الآية كان القرآن كله قد نزل ، ليقول : إن هذا القرآن ؟ نقول : لم يكن القرآن كله قد نزل ، ولكن كل آية في القرآن تسمى قرآناً ، كما قال تعالى : { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " 18 " } ( سورة القيامة ) : فليس المراد القرآن كله ، بل الآية من القرآن قرآن . ثم لما اكتمل نزول القرآن ، واكتملت كل المسائل التي تضمن لنا استقامة الحياة ، قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا . . " 3 " } ( سورة المائدة ) : فإن استشرف مستشرف أن يستزيد على كتاب الله ، أو يأتي بجديد فليعلم أن منهج الله منزه عن النقص ، وفي غنى عن زيادتك ، وما عليك إلا أن تبحث في كتاب الله ، وسوف تجد فيه ما تصبو إليه من الخير .

قوله : { يهدي . . " 9 " } ( سورة الإسراء ) : الهداية هي الطريق الموصل للغاية من أقرب وجه ، وبأقل تكلفة وهو الطريق المستقيم الذي لا التواء فيه ، وقلنا : إن الحق سبحانه يهدي الجميع ويرسم لهم الطريق ، فمن اهتدى زاده هدى ، كما قال سبحانه : { والذي اهتدوا زادهم هدىً وآتاهم تقواهم " 17 " }

( سورة محمد ) : ومعنى : { أقوم . . " 9 " } ( سورة الإسراء ) : أي : أكثر استقامة وسلاماً . هذه الصيغة تسمى افعل التفضيل ، إذن : فعندنا ( أقوم )وعندنا أقل منه منزلة ( قيم )كأن نقول : عالم وأعلم . فقوله سبحانه : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . . " 9 " }( سورة الإسراء ) : يدل على وجود ( القيم )في نظم الناس وقوانينهم الوضعية ، فالحق سبحانه لا يحرم البشر من أن يكون لهم قوانين وشرائع حينما تعضهم المظالم ويشقون بها ، فيقننون تقنيات تمنع هذا الظلم . ولا مانع من ذلك إذا لم ينزل لهم منهج من السماء ، فما وضعوه وإن كان قيماً فما وضعه الله أقوم ، وأنت لا تضع القيم إلا بعد أن تعض بشيء معوج غير قيم ، وإلا فماذا يلفتك للقيم ؟

أما منهج السماء فإنه يضع الوقاية ، ويمنع المرض من أساسه ، فهناك فرق بين الوقاية من المرض وبين العلاج للمرض ، فأصحاب القوانين الوضعية يعدلون نظمهم لعلاج الأمراض التي يشقون بها .

أما الإسلام فيضع لنا الوقاية ، فإن حدثت غفلة من المسلمين ، وأصابتهم بعض الداءات نتيجة انصرافهم عن منهج ربهم نقول لهم : عودوا إلى المنهج : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . . " 9 " } ( سورة الإسراء ) : ولتوضيح أن منهج الحق سبحانه أقوم نرى ما حدث معنا في مدينة " سان فرانسيسكو " فقد سألنا أحد المستشرقين عن قول الحق تبارك وتعالى : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون " 32 " }( سورة التوبة ) .

وفي آية أخرى يقول : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " 33 " } ( سورة التوبة ) .

فكيف يقول القرآن : { ليظهره على الدين كله . . " 33 " } ( سورة التوبة ) .

في حين أن الإسلام محصور ، وتظهر عليه الديانات الأخرى ؟ فقلت له : لو تأملت الآية لوجدت فيها الرد على سؤالك ، فالحق سبحانه يقول : { ولو كره الكافرون " 32 " } ( سورة التوبة ) .

ويقول : { ولو كره المشركون " 33 " } ( سورة التوبة ) : إذن : فالكافرون والمشركون موجودون ، فالظهور هنا ليس ظهور اتباع ، ولم يقل القرآن : إن الناس جميعاً سيؤمنون .

ومعنى الظهور هنا ظهور حجة وظهور حاجة ، ظهور نظم وقوانين ، ستضرهم أحداث الحياة ومشاكلها إلى التخلي عن قوانينهم والأخذ بقوانين الإسلام ؛ لأنهم وجدوا فيها ضالتهم .

فنظام الطلاق في الإسلام الذي كثيراً ما هاجموه وانتقدوه ، ورأوا فيه ما لا يليق بالعلاقة الزوجية ، ولكن بمرور الزمن تكتشف لهم حقائق مؤلمة ، وشقي الكثيرون منهم لعدم وجود هذا الحل في قوانينهم ، وهكذا ألجاتهم مشاكل الحياة الزوجية لأن يقننوا للطلاق .

ومعلوم أن تقنينهم للطلاق ليس حباً في الإسلام أو اقتناعاً به ، بل لأن لديهم مشاكل لا حل لها إلا بالطلاق ، وهذا هو الظهور المراد في الآيتين الكريمتين ، وهو ظهور بشهادتكم أنتم ؛ لأنكم ستلجأون في حل قضاياكم لقوانين الإسلام ، أو قريباً منها .

ومن هذه القضايا أيضاً قضية تحريم الربا في الإسلام ، فعارضوه وأنكروا هذا التحريم ، إلى أن جاء " كنز " وهو زعيم اقتصادي عندهم ، يقول لهم : انتبهوا ، لأن المال لا يؤدي وظيفته كاملة في الحياة إلا إذا انخفضت الفائدة إلى صفر .

سبحان الله ، ما أعجب لجج هؤلاء في خصومتهم مع الإسلام ، وهل تحريم الربا يعني أكثر من أن تنخفض الفائدة إلى صفر ؟ إنهم يعودون لمنهج الله تعالى رغماً عنهم ، ومع ذلك لا يعترفون به .

ولا يخفي ما في التعامل الربوي من سلبيات ، وهل رأينا دولة اقترضت من أخرى ، واستطاعت على مر الزمن أن تسدد حتى أقساط الفائدة ؟ ثم نراهم يغالطوننا يقولون : ألمانيا واليابان أخذت قروضاً بعد الحروب العالمية الثانية ، ومع ذلك تقدمت ونهضت .

نقول لهم : كفاكم خداعاً ، فألمانيا واليابان لم تأخذ قروضاً ، وإنما أخذت معونة لا فائدة عليها ، تسمى معونة ( مارشال ) . وأيضاً من هذه القضايا التي ألجأتهم إليها مشاكل الحياة قضية ميراث المرأة ، فلما عضتهم قننوا لها .

فظهور دين الله هنا يعني ظهور نظم وقوانين ستضطرهم ظروف الحياة إلى الأخذ بها ، وليس المقصود به ظهور اتباع .

إذن : فمنهج الله أقوم ، وقانون الحق سبحانه أعظم من قوانين البشر وأهدى ، وفي القرآن الكريم ما يوضح أن حكم الله وقانونه أقوم حتى من حكم رسوله صلى الله عليه وسلم .

وهذا في قصة مولاه " زيد بن حارثة " ، وزيد لم يكن عبداً إلى أن خطفه بعض تجار الرقيق وباعوه ، وانتهى به المطاف إلى السيدة خديجة رضي الله عنها التي وهبته بدورها لخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فكان زيد في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن علم أهله بوجوده في مكة فأتوا ليأخذوه ، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن خيره بين البقاء معه وبين الذهاب إلى أهله ، فاختار زيد البقاء في خدمة رسول الله وآثره على أهله . فقال صلى الله عليه وسلم : " فما كنت لأختار على من اختارني شيئاً " .

وفي هذه القصة دليل على أن الرق كان مباحاً في هذا العصر ، وكان الرق حضانة حنانٍ ورحمة ، يعيش فيها العبد كما يعيش سيده ، يأكل من طعامه ، ويشرب من شرابه ، يكسوه إذا اكتسى ، ولا يكلفه ما لا يطيق ، وإن كلفه أعانه ، فكانت يده بيده .

وهكذا كانت العلاقة بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين زيد ؛ لذلك آثره على أهله ، وأحب البقاء في خدمته ، فرأى رسول الله أن يكافئ زيداً على إخلاصه له وتفضيله له على أهله ، فقال : " لا تقولوا زيد بن حارثة ، قولوا زيد بن محمد " .

وكان التبني شائعاً في ذلك الوقت . فلما أراد الحق سبحانه أن يحرم التبني ، وأن يحرم نسبة الولد إلى غير أبيه بدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم . . " 5 " } ( سورة الأحزاب ) : والشاهد هنا : { هو أقسط عند الله . . " 5 " }( سورة الأحزاب ) ؛ فكأن الحكم الذي أنهى التبني ، وأعاد زيداً إلى زيد بن حارثة هو الأقسط والأعدل ، إذن : حكم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن جوزاً ، بل كان قسطاً وعدلاً ، لكنه قسط بشري يفضله ما كان من عند الحق سبحانه وتعالى .

وهكذا عاد زيد إلى نسبة الأصلي ، وأصبح الناس يقولون " زيد ابن حارثة " ، فيحزن لذلك زيد ، لأنه حرم من شرف الانتساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعوضه الله تعالى عن ذلك وساماً لم ينله صحابي غيره ، هذا الوسام هو أن ذكر اسمه في القرآن الكريم ، وجعل الناس يتلونه ، ويتعبدون به في قوله تعالى : { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها . . " 37 " }( سورة الأحزاب ) : إذن : عمل الرسول قسط ، وعمل الله أقسط . قوله تعالى : { يهدي للتي هي أقوم . . " 9 " }( سورة الإسراء ) : لأن المتتبع للمنهج القرآني يجده يقدم لنا الأقوم والأعدل والأوسط في كل شيء . في العقائد ، وفي الأحكام ، وفي القصص .

ففي العقائد مثلاً ، جاء الإسلام ليجابه مجتمعاً متناقضاً بين من ينكر وجود إله في الكون ، وبين من يقول بتعدد الآلهة ، فجاء الإسلام وسطاً بين الطرفين ، جاء بالأقوم في هذه المسألة ، جاء ليقول بإله واحد لا شريك له .

فإذا ما تحدث عن صفات هذا الإله سبحانه اختار أيضاً ما هو أقوم وأوسط ، فللحق سبحانه صفات تشبه صفات البشر ، فله يد وسمع وبصر ، لكن ليست يده كيدنا ، وليس سمعه كسمعنا ، وليس بصره كبصرنا : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " 11 " }( سورة الشورى ) : وبهذا المنهج الحكيم خرجنا مما وقع فيه المشبهة الذين شبهوا صفات الله بصفات البشر ، وخرجنا مما وقع فيه المعطلة الذين أنكروا أن يكون لله تعالى هذه الصفات وأولوها على غير حقيقتها .

وكذلك في الخلق الاجتماعي العام ، يلفتنا المنهج القرآني في قوله تعالى : { وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون " 105 " } ( سورة يوسف ) : يلفتنا إلى ما في الكون من عجائب نغفل عنها ، ونعرض عن تدبرها والانتفاع بها ، ولو نظرنا إلى هذه الآيات بعين المتأمل لوجدنا فيها منافع شتى منها : أنها تذكرنا بعظمة الخالق سبحانه ، ثم هي بعد ذلك ستفتح لنا الباب الذي يثري حياتنا ، ويوفر لنا ترف الحياة ومتعتها .

فالحق سبحانه أعطانا مقومات الحياة ، وضمن لنا برحمته ضروريات البقاء ، فمن أراد الكماليات فعليه أن يعمل عقله فيما أعطاه الله ليصل إلى ما يريد .

والأمثلة كثيرة على مشاهدات متأملة في ظواهر الكون ، اهتدى بها أصحاب إلى اكتشافات واختراعات خدمت البشرية ، وسهلت عليها كثيراً من المعاناة . فالذي اخترع العجلة في نقل الأثقال بنى فكرتها على ثقل وجده يتحرك بسهولة إذا وضع تحته شيء قابل للدوران ، فتوصل إلى استخدام العجلات التي مكنته من نقل أضعاف ما كان يحمله .

والذي أدخل العالم عصر البخار استنبط فكرة البخار ، وأنه يمكن أن يكون قوة محركة عندما شاهد القدر وهو يغلي ، ولاحظ أن غطاءه يرتفع إلى أعلى ، فاهتدى إلى استخدام البخار في تسيير القطارات والعربات .

والعالم الذي اكتشف دواء " البنسلين " اهتدى إليه عندما شاهد طبقة خضراء نسميها " الريم " تتكون في أماكن استخدام الماء ، وكان يشتكي عينه ، فعندما وصلت هذه المادة إلى عينه ربما مصادفة ، لاحظ أن عينه قد برئت ، فبحث في هذه المسألة حتى توصل إلى هذا الدواء . إلى غير ذلك من الآيات والعجائب في كون الله ، التي يغفل عنها الخلق ، ويمرون عليها وهم معرضون .

أما هؤلاء العلماء الذين أثروا حياة البشرية بنظرتهم الثاقبة ، فقد استخدموا عقولهم في المادة التي خلقها الله ، ولم يأتوا بشيء من عند أنفسهم ؛ لأن الحق سبحانه حينما استخلف الإنسان في الأرض أعد له كل متطلبات حياته ، وضمن له في الكون جنوداً إن أعمل عقله وطاقته يستطيع أن يستفيد منها ، وبعد ذلك طلب منه أن يعمر الأرض : { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها . . " 61 " }( سورة هود ) : والاستعمار أن تجعلها عامرة ، وهذا الإعمار يحتاج إلى مجهود ، وإلى مواهب متعددة تتكاتف ، فلا تستقيم الأمور إن كان هذا يبني وهذا يهدم ، إذن : لابد أن تنظم حركة الحياة تنظيماً يجعل المواهب في الكون تتساند ولا تتعاند ، وتتعاضد ولا تتعارض .

ولا يضمن لنا هذا التنظيم إلا منهج من السماء ينزل بالتي هي أقوم ، وأحكم ، وأعدل ، كما قال تعالى في آية أخرى : { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان . . " 17 " } ( سورة الشورى ) .

وإن كان الحق سبحانه وتعالى قد دعانا إلى النظر في ظواهر الكون ، والتدبر في آيات الله في كونه ، والبحث فيها لنصل إلى أسرار ما غيب عنا ، فإنه سبحانه نهانا أن نفعل هذا مع بعضنا البعض ، فقد حرم علينا التجسس وتتبع العورات ، والبحث في أسرار الآخرين وغيبهم .

وفي هذا الأدب الإلهي رحمة بالخلق جميعاً ؛ لأن الله تعالى يريد أن يثري حياة الناس في الكون ، وهب أن إنساناً له حسنات كثيرة ، وعنده مواهب متعددة ، ولكن له سيئة واحدة لا يستطيع التخلي عنها ، فلو تتبعت هذه السيئة الواحد فربما أزهدتك في كل حسناته ، حرمتك الانتفاع به ، والاستفادة من مواهبه ، أما لو تغاضيت عن هذه السيئة فيه لأمكنك الانتفاع به . وهب أن صانعاً بارعاً في صنعته وقد احتجته ليؤدي لك عملاً ، فإذا عرفت عنه ارتكاب معصية ما ، أو اشتهر عنه سيئة ما لأزهدك هذا في صنعته ومهارته ، ولرغبت عنه إلى غيره ، وإن كان أقل منه مهارة .

وهذا قانون عام للحق سبحانه وتعالى ، فالذي نهاك عن تتبع غيب الناس ، والبحث عن أسرارهم نهاهم أيضاً عن تتبع غيبك والبحث عن أسرارك ؛ ولذلك ما أنعم الله على عبيده نعمة أعظم من حفظ الغيب عنده هو ؛ لأنه رب ، أما البشر فليس فيهم ربوبية ، أمر البشر قائم على العبودية ، فإذا انكشف لأحدهم غيب أخيه أو عيب من عيوبه أذاعه وفضحه به .

إذن : فالحق تبارك وتعالى يدعونا إلى أن نكون طلعة في استنباط أسرار الكون والبحث عن غيبه ، وفي الوقت نفسه ينهانا أن نكون طلعة في تتبع أسرار الناس والبحث عن غيبهم ؛ لأنك إن تتبعت غيب الناس والتمست عيوبهم حرمت نفسك من مصادر يمكن أن تنتفع بها .

فالحق سبحانه يريد في الكون حركة متبادلة ، وهذه الحركة المتبادلة لا تنشأ إلا بوجود نوع من التنافس الشريف البناء ، التنافس الذي يثري الحياة ، ولا يثير شراسة الاحتكاك ، كما قال تعالى :

{ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " 26 " } ( سورة المطففين ) . كما يتنافس طالب العلم مع زميله المجد ليكون مثله أو افضل منه ، وكأن الحق سبحانه يعطينا حافزاً للعمل والرقي ، فالتنافس المقصود ليس تنافس الغل والحقد والكراهية ، بل تنافس من يحب للناس ما يحب لنفسه ، تنافس من لا يشمت لفشل الآخرين .

وقد يجد الإنسان هذا الحافز للمنافسة حتى في عدوه ، ونحن نرى الكثير منا يغضب وتثار حفيظته إن كان له عدو ، ويراه مصدر شر وأذى ، ويتوقع منه المكروه باستمرار . وهو مع ذلك لو استغل حكمة الله في إيجاد هذا العدو لا تنفع به انتفاعاً لا يجده في الصديق ، لأن صديقك قد ينافقك أو يداهنك أو يخدعك .

أما عدوك فهو لك بالمرصاد ، يتتبع سقطاتك ، ويبحث عن عيوبك ، وينتظر منك كبوة ليذيعها ويسمع بك ، فيحملك هذا من عدوك على الاستقامة والبعد عما يشين . ومن ناحية أخرى تخاف أن يسبقك إلى الخير ، فتجتهد أنت في الخير حتى لا يسبقك إليه .

وما أجمل ما قاله الشاعر في هذا المعنى :

عداي لهم فضل علي ومنة**** فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا

همو بحثوا عن زلتي فاجتنبتها**** وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

وهكذا نجد لكل شيء في منهج الله فائدة ، حتى في الأعداء ، ونجد في هذا التنافس المثمر الذي يثري حركة الحياة دليلاً على أن منهج السماء هو الأقوم والأنسب لتنظيم حركة الحياة .

أيضاً لكي يعيش المجتمع آمناً سالماً لابد له من قانون يحفظ توازنه ، قانون يحمي الضعيف من بطش القوي ، فجاء منهج الله تعالى ليقنن لكل جريمة عقوبتها ، ويضمن لصاحب الحق حقه ، وبعد ذلك ترك الباب مفتوحاً للعفو والتسامح بين الناس .

ثم حذر القوي أن تطغيه قوته ، وتدعوه إلى ظلم الضعيف ، وذكره أن قوته ليست ذاتية فيه ، بل هي عرض سوف يزول وسوف تتبدل قوته في يوم ما إلى ضعف يحتاج معه إلى العون والمساعدة والحماية .

وكأن الحق تبارك وتعالى يقول لنا : أنا أحمي الضعيف من قوتك الآن ، لأحمي ضعفك من قوة غيرك غداً . أليس في هذا كله ما هو أقوم ؟

ونقف على جانب آخر من جوانب هذه القوامة لمنهج الله في مجال الإنفاق ، وتصرف المرء في ماله ، والمتأمل في هذا المنهج الأقوم يجده يختار لنا طريقاً وسطاً قاصداً لا تبذير فيه ولا تقتير .

ولاشك أن الإنسان بطبعه يحب أن يثري حياته ، وأن يرتقي بها ، ويتمتع بترفها ، ولا يتاح له ذلك إن كان مبذراً لا يبقي من دخله على شيء ، بل لابد له من الاعتدال في الإنفاق حتى يجد في جعبته ما يمكنه أن يثري حياته ويرتقي بها ويوفر لأسرته كماليات الحياة ، فضلاً عن ضرورياتها .

جاء هذا المنهج الأقوم في قول الحق تبارك وتعالى : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " 67 " }( سورة الفرقان ) .

وفي قوله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا " 29 " } ( سورة الإسراء ) : فللإنسان في حياته طموحات تتتابع ولا تنتهي ، خاصة في عصر كثرت فيه المغريات ، فإن وصل إلى هدف تطلع لما هو اكبر منه ، فعليه إذن ألا يبدد كل طاقته ، وينفق جميع دخله .

وكما نهى الإسلام عن التبذير نهى أيضاً عن البخل والإمساك ؛ لأن البخل مذموم ، والبخيل مكروه من أهله وأولاده ، كما أن البخل سبب من أسباب الركود والبطالة والكساد التي تصيب المجتمع ، فالممسك لا يتعامل مع المجتمع في حركة البيع والشراء ، فيسهم ببخله في تفاقم هذه المشاكل ، ويكون عنصراً خاملاً يشقى به مجتمع .

إذن : فالتبذير والإمساك كلاهما طرف مذموم ، والخير في أوسط الأمور ، وهذا هو الأقوم الذي ارتضاته لنا المنهج الإلهي .

وكذلك في مجال المأكل والمشرب ، يرسم لنا الطريق المعتدل الذي يحفظ للمرء سلامته وصحته ، ويحميه من أمراض الطعام والتخمة ، قال تعالى : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " 31 " } ( سورة الأعراف ) : فقد علمنا الإسلام أن الإنسان إذا أكل وشرب على قدر طاقته الوقود الذي يحتاجه جسمه لا يشتكي ما يشتكيه أصحاب الإسراف في المأكل والمشرب .

والمتأمل في حال هؤلاء الذين يأكلون كل ما لذل وطاب ، ولا يحرمون أنفسهم مما تشتهيه ، حتى وإن كان ضاراً ، نرى هؤلاء عند كبرهم وتقدم السن بهم يحرمون بأمر الطبيب من تناول هذه الملذات ، فترى في بيوت الأعيان الخادم يأكل أطيب الطعام ويتمتع بخير سيده ، في حين يأكل سيده أنواعاً محددة لا يتجاوزها ، ونقول له : لأنك أكلتها وأسرفت فيها في بداية الأمر ، فلابد أن تحرم منها الآن .

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " كلوا واشربوا ولا تصدقوا ، والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة " > ، وأيضاً من أسباب السلامة التي رسمها لنا المنهج القرآني ، ألا يأكل الإنسان إلا على جوع ، فالطعام على الطعام يرهق المعدة ، ويجر على صاحبه العطب والأمراض ، ونلاحظ أن الإنسان يجد لذة الطعام وحلاوته إذا أكل بعد جوع ، فمع الجوع يستطيب كل شيء ولو كان الخبز الجاف .

وهكذا نجد المنهج الإلهي يرسم لنا الطريق الأقوم الذي يضمن لنا سلامة الحياة واستقامتها ، فلو تدبرت هذا المنهج لوجدته في أي جانب من جوانب الحياة هو الأقوم والأنسب . في العقائد ، في العبادات ، في الأخلاق الاجتماعية العامة ، في العادات والمعاملات ، إنه منهج ينتظم الحياة كلها ، كما قال الحق سبحانه : { ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ " 38 " } ( سورة الأنعام ) : هذا المنهج الإلهي هو أقوم المناهج وأصلحها ؛ لأنه منهج الخالق سبحانه الذي يعلم من خلق ، ويعلم ما يصلحهم ، كما قلنا سابقاً : إن الصانع من البشر يعلم صنعته ، ويضع لها من تعليمات التشغيل والصيانة ما يضمن لها سلامة الأداء وأمن الاستعمال .

فإذا ما استعملت الآلة حسب قانون صانعها أدت مهمتها بدقة ، وسلمت من الأعطال ، فالذي خلق الإنسان أعلم بقانون صيانته ، فيقول له : افعل كذا ولا تفعل كذا : { إن ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " 14 " } ( سورة الملك ) : فآفة الناس في الدنيا أنهم وهم صنعة الحق سبحانه يتركون قانونه ، ويأخذون قانون صيانتهم من أمثالهم ، وهي قوانين وضعية قاصرة لا تسمو بحال من الأحوال إلى قانون الحق سبحانه ، بل لا وجه للمقارنة بينهما . إذن : لا تستقيم الحياة إلا بمنهج الله عز وجل . ثم يقول تعالى : { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا " 9 " } ( سورة الإسراء ) .

فالمنفذ لهذا المنهج الإلهي يتمتع باستقامة الحياة وسلامتها ، وينعم بالأمن الإيماني ، وهذه نعمة في الدنيا ، وإن كانت وحدها لكانت كافية ، لكن الحق سبحانه وتعالى يبشرنا بما هو أعظم منها ، وبما ينتظرنا من نعيم الآخرة وجزائها ، فجمع لنا ربنا تبارك وتعالى نعيمي الدنيا والآخرة . نعيم الدنيا لأنك سرت فيها على منهج معتدل ونظام دقيق ، يضمن لك فيها الاستقامة والسلام والتعايش الآمن مع الخلق . ومن ذلك قول الحق سبحانه : { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " 38 " }( سورة البقرة ) .

وقوله تعالى في آية أخرى : { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " 123 " }( سورة طه ) .

ويقول تعالى : { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " 97 " } ( سورة النحل ) ، وفي الجانب المقابل يقول الحق سبحانه : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى " 124 " قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا " 125 " قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى " 126 " } ( سورة طه ) : فكما أن الحق تبارك وتعالى جمع لعباده الصالحين السائرين على منهجه خيري الدنيا والآخرة ، ففي المقابل جمع لأعدائه المعرضين عن منهجه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، لا ظلماً منه ، فهو سبحانه منزه عن الظلم والجور ، بل عدلاً وقسطاً بما نسوا آيات الله وانصرفوا عنها . ومعنى : { يعملون الصالحات . . " 9 " } ( سورة الإسراء ) : وعمل الصالحات يكون بأن تزيد الصالح صلاحاً ، أو على الأقل تبقي الصالح على صلاحه ، ولا تتدخل فيه بما يفسده . وقوله : { أن لهم أجرا كبيرا " 9 " } ( سورة الإسراء ) : نلاحظ هنا أن الحق سبحانه وصف الأجر بأنه كبير ، ولم يأت بصيغة افعل التفضيل منها ( اكبر ) ، فنقول : لأن كبير هنا أبلغ من اكبر ، فكبير مقابلها صغير ، فوصف الأجر بأنه كبير يدل على أن غيره أصغر منه ، وفي هذا دلالة على عظم الأجر من الله تعالى . أما لو قال : اكبر فغيره كبير ، إذن : فاختيار القرآن أبلغ وأحكم .

كما قلنا سابقاً : إن من أسماء الحق تبارك وتعالى ( الكبير ) ، وليس من أسمائه اكبر ، إنما هي وصف له سبحانه . ذلك لأن ( الكبير )كل ما عداه صغير ، أما ( اكبر )فيقابلها كبير . ومن هنا كان نداء الصلاة ( الله اكبر )معناه أن الصلاة وفرض الله علينا اكبر من أي عمل دنيوي ، وهذا يعني أن من أعمال الدنيا ما هو كبير ، كبير من حيث هو معين على الآخرة .

فعبادة الله تحتاج إلى طعام وشراب وإلى ملبس ، والمتأمل في هذه القضية يجد أن حركة الحياة كلها تخدم عمل الآخرة ، ومن هنا كان عمل الدنيا كبيراً ، لكن فرض الله اكبر من كل كبير . ولأهمية العمل الدنيوي في حياة المسلم يقول تعالى عن صلاة الجمعة : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " 9 " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون " 10 " } ( سورة الجمعة ) .

والمتأمل في هذه الآيات يجد الحق تبارك وتعالى أمرنا قبل الجمعة أن نترك البيع ، واختار البيع دون غيره من الأعمال ؛ لأنه الصفقة السريعة الربح ، وهي أيضاً الصورة النهائية لمعظم الأعمال ، كما أن البائع يحب دائماً البيع ، ويحرص عليه ، بخلاف المشتري الذي ربما يشتري وهو كاره ، فتجده غير حريص على الشراء ؛ لأنه إذا لم يشتر اليوم سيشتري غداً .

إذن : فالحق سبحانه حينما يأمرنا بترك البيع ، فترك غيره من الأعمال أولى . فإن ما قضيت الصلاة أمرنا بالعودة إلى العمل والسعي في مناكب الأرض ، فأخرجنا للقائه سبحانه في بيته من عمل ، وأمرنا بعد الصلاة بالعمل .

إذن : فالعمل وحركة الحياة ( كبير ) ، ولكن نداء ربك ( اكبر )من حركة الحياة ؛ لأن نداء ربك هو الذي سيمنحك القوة والطاقة ، ويعطيك الشحنة الإيمانية ، فتقبل على عملك بهمة وإخلاص .