اللباب في علوم الكتاب لابن عادل

ابن عادل القرن التاسع الهجري

صفحة 540

مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٢٢

قوله : { مِن مُّصِيبَةٍ } فاعل «أصاب » ، و«من » مزيدة لوجود الشرطين ، وذكر فعلها ؛ لأن التأنيث مجازي .

قوله : { فِي الأرض } يجوز أن يتعلق ب «أصاب » ، وأن يتعلق بنفس «مصيبة » ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «مصيبة » ، وعلى هذا فيصلح أن يحكم على موضعه بالجر نظراً إلى لفظ موصوفه ، وبالرفع نظراً إلى محله ، إذ هو فاعل .

والمصيبة غلبت في الشَّر .

وقيل : المراد بها جميع الحوادث من خير وشر ، وعلى الأول يقال : لم ذكرت دون الخير ؟

وأجيب[55433] : بأنه إنما خصها بالذكر ؛ لأنها أهمّ على البشر .

قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } حال من «مصيبة » ، وجاز ذلك وإن كانت نكرة لتخصصها إما بالعمل ، أو بالصفة ، أي : إلا مكتوبة .

قوله : «مِنْ قَبْلِ » نعت ل «كتابٍ » ، ويجوز أن يتعلق به . قاله أبو البقاء[55434] . لأنه هنا اسم للمكتوب ، وليس بمصدر .

والضمير في «نَبْرأها » الظاهر عوده على المصيبة .

وقيل : على الأنفس .

وقيل : على الأرض ، أي على جميع ذلك . قاله المهدوي ، وهو حسن .

فصل في مناسبة الآية لما قبلها

قال الزجاج[55435] : إنه - تعالى - لما قال : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } وبين أن المؤدي إلى الجنة لا يكون إلا بقضاء الله تعالى وقدره ، فقال : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ } .

والمعنى لا توجد مصيبة من هذه المصائب إلا وهي مكتوبة عند الله ، والمصيبة في الأرض قَحْط المطر ، وقلّة النبات ، ونقص الثِّمار ، وغلاء الأسعار ، وتتابع الجوائح .

وأما المصيبة في الأنفس فقيل[55436] : هي الأمراض ، والفقر ، وذهاب الأولاد ، وإقامة الحدود عليها .

وقيل : ضيق المعاش وقيل : الخير والشَّر أجمع ، لقوله بعد ذلك : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ } .

وقوله : { إلا في كتابٍ } يعني : مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ[55437] .

وقوله : { من قبل أن نَبْرَأها } .

قال ابن عباس : من قبل أن نخلق المصيبة[55438] .

وقال سعيد بن جبير : من قبل أن نخلق الأرض والنفس[55439] .

{ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } أي : خلق ذلك ، وحفظه على الله يسير أي : هيّن[55440] .

قال الربيع بن صالح : لما أُخذ سعيد بن جبيرٍ - رضي الله عنه - بَكَيْتُ ، قال : ما يبكيك ؟ قلت : أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه ، قال : فلا تَبْكِ ، فإنه كان في علم الله - تعالى - أن يكون ، ألم تسمع قوله تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } الآية[55441] .

قال ابن عباس : لما خلق الله القلم ، قال له : اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة[55442] .

وقد ترك جماعة من السلف الدواء في أمراضهم ، فلم يستعملوه ثقةً بربهم وتوكلاً عليه ، وقالوا : قد علم الله أيام المرض وأيام الصِّحة ، فلم حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا ، قال الله تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } الآية ، ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام : «مَنْ عَرَفَ يُسْرَ اللَّهِ في القَدَر هَانَتْ عليْهِ المَصَائِبُ » .

فصل في اتصال الآية بسياق الآيات قبلها[55443]

قيل : إن هذه الآية نزلت متّصلة بما قبلها ، وهو أن الله - تعالى - هوَّن عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح ، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال ، وما يقع فيها من خسران ، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له ، وإنما على المرء امتثال الأمر ، ثم أدبهم فقال : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ } أي : حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق ، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم ييأسوا على ما فاتهم منه .

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : «لاَ يَجِدُ أحَدكُمْ طَعْمَ الإيمانِ حتَّى يعْلمَ أنَّ ما أصابهُ لَمْ يَكُنْ ليُخْطِئَهُ ، ومَا أخطَأهُ لَمْ يَكُنْ ليُصِيبَهُ » ، ثمَّ قرأ : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ }[55444] أي من الدنيا . قاله ابن عباس رضي الله عنهما .

فصل في أن ما كان وما يكون مكتوب في اللوح المحفوظ

قال ابن الخطيب[55445] : هذه الآية تدلّ على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود مكتوبة في اللَّوح المحفوظ .

قال المتكلمون : وإنما كتب ذلك لوجوه :

أحدها : ليستدلّ الملائكة بذلك المكتوب على كونه - تعالى - على علم بجميع الأشياء قبل وقوعها .

وثانيها : ليعرفوا حكمة الله ، فإنه - تعالى - مع علمه بأنهم يقدمون على المعاصي خلقهم ورزقهم .

وثالثها : ليحذروا من أمثال تلك المعاصي .

ورابعها : ليشكروا الله - تعالى - على توفيقه إياهم للطَّاعات ، وعصمته إياهم عن المعاصي .

فصل في كيفية حدوث الأحداث

قال ابن الخطيب[55446] : إن الحكماء قالوا : إن الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم هم المدبِّرات أمراً ، والمقسمات أمراً ، إنما هي المبادئ لحدوث الحوادث في العالم السفلي بواسطة الحركات الفلكية ، والاتصالات الكوكبية ، وتغيراتها هي الأسباب لتلك المسببات ، وهذا هو المراد من قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } .

فصل في مصائب الأنفس[55447]

قوله تعالى : { وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } يتناول جميع مصائب الأنفس ، فيدخل فيها كفرهم ومعاصيهم ، فالآية دالة على أن جميع أعمالهم بتفاصيلها مكتوبةٌ في اللوح المحفوظ مثبتة في علم الله تعالى ، فكان الامتناع من تلك الأعمال محال ؛ لأن علم الله بوجودها مُنَافٍ لعدمها والجمع بين المتنافيين محال ، وخصص مصائب الأرض والأنفس لتعلّقها بنا ، ولم يقل : جميع الحوادث لشمولها حركات أهل الجنة والنار ؛ لأنها غير متناهية ، فإثباتها في الكتاب محال .

قال ابن الخطيب : [55448] وفي الآية دليلٌ على أن الله - تعالى - يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافاً ل «هشام بن الحكم » .

قوله تعالى : { لِّكَيْلاَ } . هذه «اللام » متعلقة بقوله «ما أصَابَ » ، أي : أخبرناكم بذلك لكيلا يحصل لكم الحزن المقنط والمفرح المطغي فأما ما دون ذلك فالإنسان غير مؤاخذ به ، و«كي » هنا ناصبة بنفسها ، فهي مصدرية فقط لدخول لام الجر عليها[55449] .

وقرأ أبو عمرو[55450] : «بما أتاكم » مقصوراً من الإتيان ، أي : بما جاءكم .

قال أبو علي الفارسي[55451] : لأن «أتاكم » معادل لقوله «فَاتَكُم » ، فكما أنَّ الفعل للفائت في قوله : «فاتكم » ، فكذلك الفعل الثاني في قوله : «بما أتاكم » .

وقرأ باقي السبعة : «آتاكم » ممدوداً من «الإيتاء » ، أي : بما أعطاكم الله إياه .

والعائد إلى الموصول في الكلمتين في الذكر المرفوع بأنه فاعل ، و«الهاء » محذوفة من الصِّلة ، أي : بما آتاكموه .

وقرأ عبد الله[55452] : «بما أوتيتم » .

فصل في أن حزن المؤمن صبر وفرحه شكر[55453]

قال ابن عبَّاس : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً ، والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدّى فيهما إلى ما لا يجوز[55454] .

وقال جعفر بن محمد : يا ابن آدم ما لك تأسف على مقدر[55455] لا يردّه عليك الفَوْت ، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت .

وقيل ل «بزرجمهر » : أيها الحكيم ، ما لك لا تحزن على ما فات ، ولا تفرح بما هو آتٍ ؟ قال : لأن الفائت لا يتلافى بالعبرةِ ، والآتي لا يستدام بالحَبْرةِ .

وقوله : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي : متكبر بما أوتي من الدنيا .

«فخور » به على النَّاس ، قيل : الفخور الذي ينظر الناس بعين الاحتقار .

فصل فيمن قالوا بالإرادة والجبر

قال ابن الخطيب[55456] : المعتزلة وإن نازعوا في القدرة والإرادة ، فهم مسلمون في العلم والجبر ، فيلزمهم الجبر باعتبارهما .

والفلاسفة مذهبهم الجَبْر ؛ لأن سبب الحوادث عندهم الاتصالات الفلكية .

والقدرية قالوا : بأن الحوادث اتفاقية ، فجميع فرق العقلاء يلزمهم الجبر ، سواء أقروا به أو أنكروه .

فصل في إرادة العبد الحزن والفرح

قالت المعتزلة[55457] : قوله : { لِّكَيْلاَ تَأْسَواْ } يدل على أنه إنما أخبرهم بكتبها ليحترزوا عن الحزن والفرح ، ولولا قدرتهم عليه لم يكن لذلك فائدة ، ويدل على أنه لا يريد أن يقع منهم الفرح والحزن ، وهو خلاف قول المجبرة ؛ لأنه قال : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } والمحبة هي الإرادة .

وأجيبوا بأن المحبة هي إرادة خاصة وهي إرادة الثواب ، ولا يلزم من نفيها نفي الإرادة .