تفسير القرآن للمراغي

المراغي القرن الرابع عشر الهجري

صفحة 1

ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ٦

{ اهدنا الصراط المستقيم }

الإيضاح :

الهداية هي الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب ، والصراط هو الطريق ، والمستقيم ضد المعوج ، وهو ما فيه انحراف عن الغاية التي يجب على سالكها أن ينتهي إليها .

وهداية الله للإنسان على ضروب :

هداية الإلهام ، وتكون للطفل منذ ولادته ، فهو يشعر بالحاجة إلى الغذاء ويصرخ طالبا له .

هداية الحواس ، وهاتان الهدايتان يشترك فيهما الإنسان والحيوان الأعجم ، بل هما في الحيوان أتم منهما في الإنسان ، إذ إلهامه وحواسه يكملان بعد ولادته بقليل ، ويحصلان في الإنسان تدريجيا .

هداية العقل ، وهي هداية أعلى من هداية الحس والإلهام ، فالإنسان قد خلق ليعيش مجتمعا مع غيره ، وحواسه وإلهامه لا يكفيان لهذه الحياة ، فلا بد له من العقل الذي يصحح له أغلاط الحواس ، ألا ترى الصفراوي يذوق الحلو مرا ، والرائي يبصر العود المستقيم في الماء معوجا .

هداية الأديان والشرائع ، وهي هداية لا بد منها لمن استرقت الأهواء عقله ، وسخر نفسه للذاته وشهواته ، وسلك مسالك الشرور والآثام ، وعدا على بني جنسه ، وحدث بينه وبينهم التجاذب والتدافع –فبها يحصل الرشاد إذا غلبت الأهواء العقول ، وتتبين للناس الحدود والشرائع ، ليقفوا عندها ويكفوا أيديهم عما وراءها –إلى أن في غرائز الإنسان الشعور –بسلطان غيبي متسلط على الأكوان ، إليه ينسب كل ما لا يعرف له سببا ، وبأن له حياة وراء هذه الحياة المحدودة ، وهو بعقله لا يدرك ما يجب لصاحب هذا السلطان ، ولا يصل فكره إلى ما فيه سعادته في هذه الحياة فاحتاج إلى هداية الدين التي تفضل الله بها عليه ووهبه إياها .

وإلى تلك الهدايات أشار الكتاب الكريم في آيات كثيرات كقوله : { وهديناه النجدين } أي طريقي الخير والشر والسعادة والشقاء . وقوله : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } أي أرشدناهم إلى طريق الخير والشر ، فاختاروا الثاني الذي عبر عنه بالعمى .

وهناك نوع آخر من الهداية وهو المعونة والتوفيق للسير في طريق الخير ، وهي التي أمرنا الله بطلبها في قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } إذ المراد –دلنا دلالة تصحبها من لدنك معونة غيبية تحفظنا بها من الوقوع في الخطأ والضلال .

وهذه الهداية خاصة به سبحانه لم يمنحها أحد من خلقه ، ومن ثم نفاها عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } وأثبتها لنفسه في قوله : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } .

أما الهداية بمعنى الدلالة على الخير والحق ، مع بيان ما يعقب ذلك من السعادة والفوز والفلاح ، فهي مما تفضل الله بها على خلقه ومنحهموها ، ومن ثم أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } .

هذا –والصراط المستقيم هو جملة ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة من عقائد وأحكام وآداب وتشريع ديني كالعلم الصحيح بالله والنبوة وأحوال الكون وأحوال الاجتماع –وقد سمي هذا صراطا مستقيما تشبيها له بالطريق الحسي ، إذ كل منهما موصل إلى غاية ، فهذا سير معنوي يوصل إلى غاية يقصدها الإنسان ، وذاك سير حسي يصل به إلى غاية أخرى .

وقد أرشدنا الله إلى طلب الهداية منه ، ليكون عونا لنا ينصرنا على أهوائنا وشهواتنا بعد أن نبذل ما نستطيع من الجهد في معرفة أحكام الشريعة ، ونكلف أنفسنا الجري على سننها ، لنحصل على خيري الدنيا والآخرة .