النكت و العيون للماوردي

الماوردي القرن الخامس الهجري

صفحة 1

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ١

فصل الاستعاذة :

ثبت بالكتاب والسنة أن يستعيذ القارئ لقراءة القرآن ، فيقول : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " . وهو نص الكتاب ، وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، من نفخه ونفثه وهمزه " .

وفي الاستعاذة وجهان : ( أحدهما ) أنها الاستجارة بذي منعة . ( والثاني ) أنها الاستعانة عن خضوع .

وفي موضعها وجهان : ( أحدهما ) أنها خبر يخبر به المرء عن نفسه بأنه مستعيذ بالله . ( والثاني ) أنها في معنى الدعاء وإن كانت بلفظ الخبر ، كأنه يقول : أعذني يا سميع يا عليم من الشيطان الرجيم ، يعني أنه سميع الدعاء عليم بالإجابة .

وفي قوله : " من الشيطان " وجهان : ( أحدهما ) من وسوسته . ( والثاني ) من أعوانه .

وفي " الرجيم " وجهان : ( أحدهما ) يعني الراجم ، لأنه يرجم بالدواهي والبلايا . ( والثاني ) أنه بمعنى المرجوم ، وفيه وجهان : ( أحدهما ) أنه مرجوم بالنجوم . ( والثاني ) أنه المرجوم بمعنى المشئوم . وفيه وجه ( ثالث ) أن المرجوم الملعون ، والملعون المطرود .

وقوله : " من نفخه ونفثه وهمزه " ، يعني بالنفخ : الكبر ، وبالنفث : السحر ، وبالهمز الجنون . والله أعلم .

سورة فاتحة الكتاب

قال قتادة : هي مكية ؛ وقال مجاهد : هي مدنية . ولها ثلاثة أسماء : فاتحة الكتاب وأم القرآن ، والسبع المثاني .

روى ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هي أم القرآن ، وهي فاتحة الكتاب ، وهي السبع المثاني[1] .

فأما تسميتها بفاتحة الكتاب فلأنه يستفتح الكتاب بإثباتها خطا وبتلاوتها لفظا .

وأما تسميتها بأم القرآن فلتقدمها وتأخر ما سواها تبعا لها ، صارت أما لأنها أمّته أي تقدمته ، وكذلك قيل لراية الحرب ( أم ) لتقدمها واتباع الجيش لها ،

قال الشاعر :

على رأسه أم لها يقتدى بها *** جماع أمور لا يعاصى لها أمر

وقيل لما مضى على الإنسان من سني عمره ( أم ) لتقدمها ، قال الشاعر :

إذا كانت الخمسون أمّك لم يكن *** لرأيك إلا أن يموت طبيب

واختلف في تسميتها بأم الكتاب فجوزه الأكثرون ، لأن الكتاب هو القرآن ، ومنع منه الحسن وابن سيرين ، وزعما أن أم الكتاب اسم اللوح المحفوظ فلا يسمى به غيره ، لقوله تعالى : { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم }[2] .

وأما تسميته مكة بأم القرى ففيه قولان : ( أحدهما )- أنها سميت أم القرى لتقدمها على سائر القرى . ( والثاني ) أنها سميت بذلك لأن الأرض منها دحيت ، وعنها حدثت ، فصارت أما لها لحدوثها عنها كحدوث الولد عن أمه .

وأما تسميتها بالسبع المثاني فلأنها سبع آيات في قول الجميع . وأما المثاني فلأنها تثنى في كل صلاة من فرض وتطوع . وليس في تسميتها بالمثاني ما يمنع من تسميته غيرها به . قال أعشى همذان :

فلِجُوا المسجد وادعوا ربكم *** وادرسوا هذي المثاني والطول

قوله عز وجل : { بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمنِ الرَّحِيمِ }[7] أجمعوا أنها من القرآن في سورة النمل ، وإنما اختلفوا في إثباتها في فاتحة الكتاب ، وفي أول كل سورة ، فأثبتها الشافعي في طائفة ، ونفاها أبو حنيفة في آخرين .

واختُلِفَ في قوله : { بِسْمِ } :

فذهب أبو عبيدة وطائفة إلى أنها صلة زائدة ، وإنما هو اللهُ الرحمنُ الرحيمُ ، واستشهدوا بقول لبيد :

إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَلَيْكُما *** وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقَدِ اعْتَذَرْ

فذكر اسم السلام زيادة ، وإنما أراد : " ثم السلام عليكما " .

واختلف من قال بهذا في معنى زيادته على قولين :

( أحدهما ) : لإجلال ذكره وتعظيمه ، ليقع الفرق به بين ذكره وذكر غيره من المخلوقين ، وهذا قول قطرب .

( والثاني ) : ليخرج به من حكم القسم إلى قصد التبرُّك ، وهذا قول الأخفش .

وذهب الجمهور إلى أن " بسم " أصل مقصود ؛ واختلفوا في معنى دخول الباء عليه ، فهل دخلت على معنى الأمر أو على معنى الخبر ؟ على قولين :

( أحدهما ) : دخلت على معنى الأمر وتقديره : ابدؤوا بسم الله الرحمن الرحيم ؛ وهذا قول الفراء .

( والثاني ) : على معنى الإخبار وتقديره : بدأت بسم الله الرحمن الرحيم ؛ وهذا قولُ الزجَّاج .

وحُذِفت ألف الوصل ، بالإلصاق في اللفظ والخط ، لكثرة الاستعمال كما حُذفت من الرحمن ، ولم تحذف من الخط في قوله :

{ إِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذَّي خَلَقَ }

[ العلق : آية1 ] لقلَّة استعماله .

( الاسم ) كلمة تدل على المسمى دلالة إشارةٍ ، والصفة كلمة تدل على الموصُوف دلالة إفادة . فإن جعلت الصفة اسماً دلَّت على الأمرين على الإشارة والإفادة .

وزعم قوم أن الاسم ذاتُ المسمى ، واللفظ هو التسمية دون الاسم ، وهذا فاسد لأنه لو كان أسماءُ الذواتِ هي الذواتُ ، لكان أسماءُ الأفعال هي الأفعال ، وهذا ممتنع في الأفعال فامتنع في الذوات .

واختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين :

( أحدهما ) : أنه مشتق من السمة ، وهي العلامة ، لما في الاسم من تمييز المسمى ، وهذا قول الفرَّاء .

( والثاني ) : أنه مشتق من السمو ، وهي الرفعة ؛ لأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه من غيره ؛ وهذا قول الخليل[8] والزجَّاج .

[7]وأنشد قول عمرو بن معدي كرب :

إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَمْراً فَدَعْهُ  ***   وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ

وَصِلْهُ بِالدُّعَاءِ فَكُلُّ أَمْرٍ  *** سَمَا لَكَ أَوْ سَمَوْتَ لَهُ وُلُوعُ

وتكلف من رَاعَى معاني الحروف ببسم الله تأويلاً ، أجرى عليه أحكام الحروف المعنوية ، حتى صار مقصوداً عند ذكر الله في كل تسمية ، ولهم فيه ثلاثة أقاويل :

( أحدها ) : أن الباء بهاؤه وبركته ، وبره وبصيرته ، والسين سناؤه وسموُّه وسيادته ، والميم مجده ومملكته ومَنُّه ؛ وهذا قول الكلبي .

( والثاني ) : أن الباء بريء من الأولاد ، والسين سميع الأصوات ، والميم مجيب الدعوات ؛ وهذا قول سليمان بن يسار .

( والثالث ) : أن الباء بارئ الخلق ، والسين ساتر العيوب ، والميم المنان ، وهذا قول أبي روق .

ولو أن هذا الاستنباط يحكي عمَّن يُقْتدى به في علم التفسير لرغب عن ذكره لخروجه عما اختص الله تعالى به من أسمائه ، لكن قاله متبوع فذكرتُهُ مَعَ بُعْدِهِ حاكياً ، لا محققاً ليكون الكتاب جامعاً لما قيل .

ويقال لمن قال " بسم الله " بَسْمَلَ[8] على لُغَةٍ مُوَلَّدَةٍ ، وقد جاءت في الشعر ، قال عمر بن أبي ربيعة :

لَقَدْ بَسْمَلَتْ لَيْلَى غَدَاةَ لَقِيتُهَا  ***   فَيَا حَبَّذا ذَاكَ الْحَبِيبُ المُبَسْمِلُ

فأما قوله : " الله " ، فهو أخص أسمائه به ، لأنه لم يتسَمَّ باسمه الذي هو " الله " غيره .

والتأويل الثاني : أن معناه هل تعلم له شبيهاً ، وهذا أعمُّ التأويلين ، لأنه يتناول الاسم والفعل .

وحُكي عن أبي حنيفة أنه الاسم الأعظم من أسمائه تعالى ، لأن غيره لا يشاركه فيه .

واختلفوا في هذا الاسم هل هو اسم عَلَمٍ للذات ، أو اسم مُشْتَقٌّ من صفةٍ ؟ على قولين :

( أحدهما ) : أنه اسم علم لذاته ، غير مشتق من صفاته ، لأن أسماء الصفات تكون تابعة لأسماء الذات ، فلم يكن بُدٌّ من أن يختص باسم ذاتٍ ، يكون علماً ، لتكون أسماء الصفات والنعوت تبعاً .

( والقول الثاني ) : أنه مشتق من أَلَهَ ، صار باشتقاقه عند حذف همزِهِ ، وتفخيم لفظه ( الله ) .

واختلفوا فيما اشْتُقَ منه " إله " على قولين :

( أحدهما ) : أنه مشتق من الَولَه ، لأن العباد يألهون إليه ، أي يفزعون إليه في أمورهم ، فقيل للمألوه إليه " إله " ، كما قيل للمؤتمِّ به إمام .

( والقول الثاني ) : أنه مشتق من الألوهية ، وهي العبادة ، من قولهم فلان يتألَّه ، أي يتعبد ، قال رؤبةُ بن العجاج :

لِلَّهِ دَرُّ الْغَانِيَاتِ المُدَّهِ  ***  لَمَّا رَأَيْنَ خَلِقَ الْمُمَوَّهِ

سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألهِ

أي من تعبد ، وقد رُوي عن ابن عباس أنه قرأ : { وَيَذَرَكَ وإلِهَتَكَ } أي وعبادتك .

ثم اختلفوا ، هل اشتق اسم الإله من فعل العبادة ، أو من استحقاقها ، على قولين :

أحدهما : أنه مشتق من فعل العبادة ، فعلى هذا ، لا يكون ذلك صفة لازمة قديمة لذاته ، لحدوث عبادته بعد خلق خلقه . ومن قال بهذا منع من أن يكون الله تعالى إلهاً لم يزل ، لأنه قد كان قبل خلقه غير معبود .

والقول الثاني : أنه مشتق من استحقاق العبادة ، فعلى هذا يكون ذلك صفة لازمة لذاته ، لأنه لم يزل مستحقّاً للعبادة ، فلم يزل إلهاً ، وهذا أصح القولين ، لأنه لو كان مشتقّاً من فعل العبادة لا من استحقاقها ، للزم تسمية عيسى عليه السلام إلهاً ، لعبادة النصارى له ، وتسمية الأصنام آلهة ، لعبادة أهلها لها ، وفي بطلان هذا دليل ، على اشتقاقه من استحقاق العبادة ، لا من فعلها ، فصار قولنا " إله " على هذا القول صفة من صفات الذات ، وعلى القول الأول من صفات الفعل .

وأما " الرحمن الرحيم " ، فهما اسمان من أسماء الله تعالى ، والرحيم فيها اسم مشتق من صفته .

وأما الرحمن ففيه قولان :

أحدهما : أنه اسم عبراني معرب ، وليس بعربي ، كالفسطاط رومي معرب ، والإستبرق فارسي معرب ، لأن قريشاً -وهم فَطَنَةُ العرب وفُصَحَاؤهم- لم يعرفوهُ حتى ذكر لهم ، وقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم :

{ . . . وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً }

[ الفرقان : 60 ] ، وهذا قول ثعلب واستشهد بقول جرير :

أو تتركون إلى القسّين هجرتكم  ***  ومسحكم صلبهم رحمن قربانا[7]

قال : ولذلك جمع بين الرحمن والرحيم ، ليزول الالتباس ، فعلى هذا يكون الأصل فيه تقديم " الرحيم " على " الرحمن " لعربيته ، لكن قدَّم " الرحمن " لمبالغته .

والقول الثاني : أن الرحمن اسم عربي كالرحيم لامتزاج حروفهما ، وقد ظهر ذلك في كلام العرب ، وجاءت به أشعارهم ، قال الشنفري :

أَلاَ ضَرَبَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ هَجِينَهَا   ***  أَلاَ ضَرَبَ الرًّحْمنُ رَبِّي يَمِينَهَا

فإذا كانا اسمين عربيين فهما مشتقان من الرحمة ، والرحمة هي النعمة على المحتاج ، قال الله تعالى :

{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }

[ الأنبياء : 107 ] ، يعني نعمةً عليهم . وإنما سميت النعمةُ رحمةً لحدوثها عن الرحمة .

والرحمن أشدُّ مبالغةً من الرحيم ، لأن الرحمن يتعدى لفظه ومعناه ، والرحيم لا يتعدى لفظه ، وإنما يتعدى معناه ، ولذلك سمي قوم بالرحيم ، ولم يتَسَمَّ أحدٌ بالرحمن ، وكانت الجاهليةُ تُسمِّي اللهَ تعالى به ، وعليه بيت الشنفرى ، ثم إن مسيلمة الكذاب تسمَّى بالرحمن ، واقتطعه من أسماء الله تعالى . قال عطاء : فلذلك قرنه الله تعالى بالرحيم ، لأن أحداً لم يتسمَّ بالرحمن الرحيم ، ليفصل اسمه عن اسم غيره ، فيكون الفرق في المبالغة ، وفرَّق أبو عبيدة بينهما ، فقال بأن الرحمن ذو الرحمة ، والرحيم الراحم .

واختلفوا في اشتقاق[8] الرحمن والرحيم على قولين :

أحدهما : أنهما مشتقان من رحمة واحدةٍ ، جُعِل لفظ الرحمن أشدَّ مبالغة من الرحيم .

والقول الثاني : أنهما مشتقان من رحمتين ، والرحمة التي اشتق منها الرحمن ، غير الرحمة التي اشتق منها الرحيم ، ليصح امتياز الاسمين ، وتغاير الصفتين . ومن قال بهذا القول اختلفوا في الرحمتين على ثلاثة أقوال :

أحدها : أن الرحمن مشتق من رحمة الله لجميع خلقه ، والرحيم مشتق من رحمة الله لأهل طاعته .

والقول الثاني : أن الرحمن مشتق من رحمة الله تعالى لأهل الدنيا والآخرة ، والرحيم مشتق من رحمتِهِ لأهل الدنيا دُون الآخرة .

والقول الثالث : أن الرحمن مشتق من الرحمة التي يختص الله تعالى بها دون عباده ، والرحيم مشتق من الرحمة التي يوجد في العباد مثلُها .

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ٢

قوله عز وجل : { الحَمْدُ لِلِّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .

أما { الحمد لله } فهو الثناء على المحمود بجميل صفاته وأفعاله ، والشكرُ الثناء عليه بإنعامه ، فكلُّ شكرٍ حمدٌ ، وليسَ كلُّ حمدٍ شكراً ، فهذا فرقُ ما بين الحمد والشكر ، ولذلك جاز أن يَحْمِدَ الله تعالى نفسه ، ولم يَجُزْ أن يشكرها .

فأما الفرق بين الحمد والمدح ، فهو أن الحمد لا يستحق إلا على فعلٍ حسن ، والمدح قد يكون على فعل وغير فعل ، فكلُّ حمدٍ مدحٌ وليْسَ كل مدحٍ حمداً ، ولهذا جاز أن يمدح الله تعالى على صفته ، بأنه عالم قادر ، ولم يجز أن يحمد به ، لأن العلم والقدرة من صفات ذاته ، لا من صفات أفعاله ، ويجوز أن يمدح ويحمد على صفته ، بأنه خالق رازق لأن الخلق والرزق من صفات فعله لا من صفات ذاته .

وأما قوله : { رب } فقد اختُلف في اشتقاقه على أربعة أقاويل :

أحدها : أنه مشتق من المالك ، كما يقال رب الدار أي مالكها .

والثاني : أنه مشتق من السيد ، لأن السيد يسمى ربّاً ، قال تعالى :

{ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً }[9] يعني سيده .

والقول الثالث : أن الرب المدَبِّر ، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ : { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ }[10] وهم العلماء ، سموا ربَّانيِّين ، لقيامهم بتدبير الناس بعلمهم ، وقيل : ربَّة البيت ، لأنها تدبره .

والقول الرابع : الرب مشتق من التربية ، ومنه قوله تعالى :

{ وَرَبَآئِبُكُمُ اللاَّتِي في حُجُورِكُمْ }[11] فسمي ولد[12] الزوجة ربيبة ، لتربية الزوج لها .

فعلى هذا ، أن صفة الله تعالى بأنه رب ، لأنه مالك أو سيد ، فذلك صفة من صفات ذاته ، وإن قيل لأنه مدبِّر لخلقه ، أو مُربِّيهم ، فذلك صفة من صفات فعله . ومتى أدْخَلت عليه الألف واللام . اختص الله تعالى به دون عباده ، وإن حذفتا منه ، صار مشتركاً بين الله وبين عباده .

وأما قوله : { العالمين } فهو جمع عَالم ، لا واحد له من لفظه ، مثل : رهط وقوم ، وأهلُ كلِّ زمانٍ[13] عَالَمٌ ، قال العجاج :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .  ***   فَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا الْعَالَمِ[14]

واختُلِف في العالم ، على ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنّه ما يعقِل : من الملائكة ، والإنس والجنِّ ، وهذا قول ابن عباس .

والثاني : أن العالم الدنيا وما فيها .

والثالث : أن العالم كل ما خلقه الله تعالى في الدنيا والآخرة ، وهذا قول أبي إسحاق الزجَّاج .

واختلفوا في اشتقاقه على وجهين :

أحدهما : أنه مشتق من العلم ، وهذا تأويل مَنْ جعل العالم اسماً لما يعقل .

والثاني : أنه مشتق من العلامة ، لأنه دلالة على خالقه ، وهذا تأويل مَنْ جعل العالم اسماً لكُلِّ مخلوقٍ[15] .

ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ٣
مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ٤

قوله تعالى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قرأ عاصم والكسائي { مالِكِ } وقرأ الباقون { مَلِك } وفيما اشتقا جميعاً منه وجهان :

أحدهما : أن اشتقاقهما من الشدة ، من قولهم ملكت العجين ، إذا عجنته بشدة .

والثاني : أن اشتقاقهما من القدرة ، قال الشاعر[16] :

مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا  ***  يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا

والفرق بين المالك والملك من وجهين :

أحدهما : أن المالك مَنْ كان خاصَّ المُلكِ ، والملِك مَنْ كان عَامَّ المُلْك .

والثاني : أن المالك من اختص بملك الملوك ، والملك من اختص بنفوذ الأمر .

واختلفوا أيهما أبلغ في المدح ، على ثلاثة أقاويل :

أحدها : أن المَلِك أبلغ في المدح من المالك ، لأنَّ كلَّ مَلِكٍ مالِكٌ ، وليسَ كلُّ مالِكٍ ملِكاً ، ولأن أمر الملِكِ نافذ على المالِكِ .

والثاني : أن مالك أبلغ في المدح من مَلِك ، لأنه قد يكون ملكاً على من لا يملك ، كما يقال ملك العرب ، وملك الروم ، وإن كان لا يملكهم ، ولا يكون مالكاً إلا على من يملك ، ولأن المَلِك يكون على الناس وغيرهم .

والثالث : وهو قول أبي حاتم ، أن مَالِك أبلغ في مدح الخالق من مَلِك ، ومَلِك أبلغ من مدح المخلوق من مالك .

والفرق بينهما ، أن المالك من المخلوقين ، قد يكون غير ملك ، وإن كان الله تعالى مالكاً كان ملكاً ، فإن وُصف الله تعالى بأنه ملك ، كان ذلك من صفات ذاته ، وإن وصف بأنه مالك ، كان من صفات أفعاله .

وأما قوله تعالى : { يَوْمِ الدِّينِ } ففيه تأويلان :

أحدهما : أنه الجزاء .

والثاني : أنه الحساب .

وفي أصل الدين في اللغة قولان :

أحدهما : العادة ، ومنه قول المثقَّب العَبْدِي :

تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي ***  أَهذَا دِينُهُ أَبَداً وَدينِي[17]

أي عادته وعادتي .

والثاني : أنَّ أصل الدين الطاعة ، ومنه قول زهير بن أبي سُلمى :

لَئِن حَلَلْتَ بِجَوٍّ في بَنِي أَسَدٍ *** في دِينِ عَمْرٍو وَمَالتْ بَيْنَنَا فَدَكُ[18]

أي في طاعة عمرو .

وفي هذا " اليوم " قولان :

أحدهما : أنه يوم ، ابتداؤه طلوع الفجر ، وانتهاؤه غروب الشمس .

والثاني : أنه ضياء ، يستديم إلى أن يحاسب الله تعالى جميع خلقه ، فيستقر أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار .

وفي اختصاصه بملك يوم الدين تأويلان :

أحدهما : أنه يوم ليس فيه ملك سواه ، فكان أعظم من مُلك الدنيا التي تملكها الملوك ، وهذا قول الأصم .

والثاني : أنه لما قال : { رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، يريد به ملك الدنيا ، قال بعده : { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } يريد به ملك الآخرة ، ليجمع بين ملك الدنيا والآخرة .

إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ٥

قوله عز وجل : { إِيَاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

قوله : { إِيَّاكَ } هو كناية عن اسم الله تعالى ، وفيه قولان :

أحدهما : أن اسم الله تعالى مضاف إلى الكاف ، وهذا قول الخليل .

والثاني : أنها كلمة واحدة كُنِّيَ بها عن اسم الله تعالى ، وليس فيها إضافة لأن المضمر لا يضاف ، وهذا قول الأخفش .

وقوله : { نَعْبُدُ } فيه ثلاثة تأويلات :

أحدها : أن العبادة الخضوع ، ولا يستحقها إلا الله تعالى ، لأنها أعلى مراتب الخضوع ، فلا يستحقها إلا المنعم بأعظم النعم ، كالحياة والعقل والسمع والبصر .

والثاني : أن العبادة الطاعة .

والثالث : أنها التقرب بالطاعة .

والأول أظهرها ، لأن النصارى عبدت عيسى عليه السلام ، ولم تطعه بالعبادة ، والنبي صلى الله عليه وسلم مطاع ، وليس بمعبودٍ بالطاعة .

ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ٦

قوله عز وجل : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيم } إلى آخرها .

أما قوله : { اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ } ففيه تأويلان :

أحدهما : معناه أرْشُدْنا ودُلَّنَا .

والثاني : معناه وفقنا ، وهذا قول ابن عباس .

وأما " الصراط " ففيه تأويلان :

أحدهما : أنه السبيل المستقيم ، ومنه قول جرير :

أَميرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِراطٍ  ***   إذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيم

والثاني : أنه الطريق الواضح ، ومنه قوله تعالى :

{ وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُون }[19] وقال الشاعر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ***  فَصَدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّرَاطِ الْقَاصِدِ[20]

وهو مشتق من مُسْتَرَطِ الطعام ، وهو ممره في الحلق .

وفي الدعاء بهذه الهداية ، ثلاثة تأويلات :

أحدها : أنهم دعوا باستدامة الهداية ، وإن كانوا قد هُدُوا .

والثاني : معناه زدنا هدايةً .

والثالث : أنهم دعوا بها إخلاصاً للرغبة ، ورجاءً لثواب الدعاء . واختلفوا في المراد بالصراط المستقيم ، على أربعة أقاويل :

أحدها : أنه كتاب الله تعالى ، وهو قول علي وعبد الله ، ويُرْوَى نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم .

والثاني : أنه الإسلام ، وهو قول جابر بن عبد الله ، ومحمد بن الحنفية .

والثالث : أنه الطريق الهادي إلى دين الله تعالى ، الذي لا عوج فيه ، وهو قول ابن عباس .

والرابع : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخيار أهل بيته وأصحابه ، وهو قول الحسن البصري وأبي العالية الرياحي .

صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ٧

وفي قوله تعالى : { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمُ } خمسة أقاويل : أحدها : أنهم الملائكة .

والثاني : أنهم الأنبياء .

والثالث : أنهم المؤمنون بالكتب السالفة .

والرابع : أنهم المسلمون وهو قول وكيع .

والخامس : هم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومَنْ معه مِنْ أصحابه ، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد .

وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير : ( صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )

وأما قوله : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } فقد روى عن عديِّ بن حاتم قال : سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن المغضوب عليهم ، فقال : " هُمُ اليَهُود " وعن الضالين فقال : " هُمُ النَّصارى[21] " .

وهو قول جميع المفسرين .

وفي غضب الله عليهم ، أربعة أقاويل :

أحدها : الغضب المعروف من العباد .

والثاني : أنه إرادة الانتقام ، لأن أصل الغضب في اللغة هو الغلظة ، وهذه الصفة لا تجوز على الله تعالى .

والثالث : أن غضبه عليهم هو ذَمُّهُ لهم .

والرابع : أنه نوع من العقوبة سُمِّيَ غضباً ، كما سُمِّيَتْ نِعَمُهُ رَحْمَةً .

والضلال ضد الهدى ، وخصّ الله تعالى اليهود بالغضب ، لأنهم أشد عداوة .

وقرأ عمر بن الخطاب ( غَيْرِ الْمغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ الضَّآلِّين ) .