زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي

ابن الجوزي القرن السادس الهجري

صفحة 596

وَٱلضُّحَىٰ١

سورة الضحى وهي مكية كلها بإجماعهم

اتفق المفسرون : على أن هذه السورة نزلت بعد انقطاع الوحي مدة .

ثم اختلفوا في سبب انقطاعه على ثلاثة أقوال :

أحدها : أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين ، وعن أصحاب الكهف ، وعن الروح ، فقال : سأخبركم غدا ، ولم يقل : إن شاء الله ، فاحتبس عنه الوحي .

والثاني : لقلة النظافة في بعض أصحابه . وقد ذكرنا هذين القولين في سورة [ مريم : 65 ] .

والثالث : لأجل جرو كان في بيته ، قاله زيد بن أسلم .

وفي مدة احتباسه عنه أقوال قد ذكرناها في [ مريم : 66 ] .

وروى البخاري ومسلم في " الصحيحين " من حديث جندب قال : قالت امرأة من قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أرى شيطانك إلا قد ودعك ، فنزلت { وَالضُّحَى وَالَّليْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } جندب : هو ابن سفيان والمرأة : يقال لها : أم جميل امرأة أبي لهب .

وفي المراد " بالضحى " أربعة أقوال :

أحدها : ضوء النهار ، قاله مجاهد .

والثاني : صدر النهار ، قاله قتادة .

والثالث : أول ساعة من النهار إذا ترحلت الشمس ، قاله السدي ، ومقاتل .

والرابع : النهار كله ، قاله الفراء .

وَٱلَّيۡلِ إِذَا سَجَىٰ٢

وفي معنى " سجى " خمسة أقوال :

أحدها : أظلم .

والثاني : ذهب ، رويا عن ابن عباس .

والثالث : أقبل ، قاله سعيد بن جبير .

والرابع : سكن ، قاله عطاء ، وعكرمة ، وابن زيد . فعلى هذا : في معنى { سكن } قولان :

أحدهما : استقر ظلامه .

قال الفراء : { سجى } بمعنى أظلم وركد في طوله . كما يقال : بحر ساج ، وليل ساج : إذا ركد وأظلم . ومعنى : ركد : سكن . قال أبو عبيدة : يقال ليلة ساجية ، وساكنة ، وشاكرة . قال الحادي :

يا حبذا القمراء والليل الساج *** وطرق مثل ملاء النساج

قال ابن قتيبة : { سجى } بمعنى سكن ، وذلك عند تناهي ظلامه وركوده .

والثاني : سكن الخلق فيه ، ذكره الماوردي .

والخامس : امتد ظلامه ، قاله ابن الأعرابي .

مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ٣

قوله تعالى : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } وقرأ عمر بن الخطاب ، وأنس ، وعروة ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة ، وأبو حاتم عن يعقوب { مَا وَدَعَكَ } بتخفيف الدال . وهذا جواب القسم . قال أبو عبيدة : { ما ودعك } من التوديع كما يودع المفارق ، و{ ما ودَعَكَ } مخففة من ودعه يدعه { وَمَا قَلَى } أي : أبغض .

وَلَلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لَّكَ مِنَ ٱلۡأُولَىٰ٤

قوله تعالى : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولَى } قال عطاء ، خير لك من الدنيا . وقال غيره : الذي لك في الآخرة أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا .

وَلَسَوۡفَ يُعۡطِيكَ رَبُّكَ فَتَرۡضَىٰٓ٥

قوله تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ } في الآخرة من الخير { فَتَرْضَى } بما تعطى . قال علي والحسن : هو الشفاعة في أمته حتى يرضى . قال ابن عباس : عُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما يُفتح على أمته من بعده كَفرا كَفرا ، فسر بذلك ، فأنزل الله عز وجل : { وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى } .

أَلَمۡ يَجِدۡكَ يَتِيمٗا فَـَٔاوَىٰ٦

قوله تعالى : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى } فيه قولان :

أحدهما : جعل لك مأوى إذا ضمك إلى عمك أبي طالب ، فكفاك المؤونة ، قاله مقاتل .

والثاني : جعل لك مأوى لنفسك أغناك عن كفالة أبي طالب ، قاله ابن السائب .

وَوَجَدَكَ ضَآلّٗا فَهَدَىٰ٧

قوله تعالى : { وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى } فيه ستة أقوال :

أحدها : ضالا عن معالم النبوة ، وأحكام الشريعة ، فهداك إليها ، قاله الجمهور ، منهم الحسن ، والضحاك .

والثاني : أنه ضل وهو صبي صغير في شعاب مكة ، فرده الله إلى جده عبد المطلب ، رواه أبو الضحى عن ابن عباس .

والثالث : أنه لما خرج مع ميسرة غلام خديجة أخذ إبليس بزمام ناقته ، فعدل به عن الطريق ، فجاء جبريل ، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة ، ورده إلى القافلة ، فمن الله عليه بذلك ، قاله سعيد بن المسيب .

والرابع : أن المعنى : ووجدك في قوم ضلال ، فهداك للتوحيد والنبوة ، قاله ابن السائب .

والخامس : ووجدك نسيا ، فهداك إلى الذكر . ومثله : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى } [ البقرة : 282 ] ، قاله ثعلب .

والسادس : ووجدك خاملا لا تُذكر ولا تُعرف ، فهدى الناس إليك حتى عرفوك ، قاله عبد العزيز بن يحيى ، ومحمد بن علي الترمذي .

وَوَجَدَكَ عَآئِلٗا فَأَغۡنَىٰ٨

قوله تعالى : { وَوَجَدَكَ عَائِلاً } قال أبو عبيدة : أي : ذا فقر . وأنشد :

وما يدري الفقير متى غناه *** وما يدري الغني متى يعيل

أي : يفتقر . قال ابن قتيبة : العائل : الفقير ، كان له عيال ، أو لم يكن . يقال : عال الرجل : إذا افتقر . وأعال : إذا كثر عياله .

قوله تعالى : { فَأَغْنَى } قولان :

أحدهما : رضاك بما أعطاك من الرزق ، قاله ابن السائب ، واختاره الفراء .

وقال : لم يكن غناه عن كثرة المال ، ولكن الله رضاه بما آتاه .

والثاني : فأغناك بمال خديجة عن أبي طالب ، قاله جماعة من المفسرين .

فَأَمَّا ٱلۡيَتِيمَ فَلَا تَقۡهَرۡ٩

قوله تعالى : { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ } فيه قولان :

أحدهما : لا تحقر ، قاله مجاهد .

والثاني : لا تقهره على ماله ، قاله الزجاج .

وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلَا تَنۡهَرۡ١٠

{ وَأَمَّا السَّائِلَ } ففيه قولان :

أحدهما : سائل البر ، قاله الجمهور ، والمعنى : إذا جاءك السائل ، فإما أن تعطيه ، وإما أن ترده ردا لينا ، ومعنى { فَلاَ تَنْهَرْ } لا تنهره ، يقال : نهره وانتهره : إذا استقبله بكلام يزجره .

والثاني : أنه طالب العلم ، قاله يحيى بن آدم في آخرين .

وَأَمَّا بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثۡ١١

قوله تعالى : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ } في النعمة ثلاثة أقوال :

أحدهما : النبوة .

والثاني : القرآن ، رويا عن مجاهد .

والثالث : أنها عامة في جميع الخيرات ، وهذا قول مقاتل . وقد روي عن مجاهد قال : قرأت على ابن عباس . فلما بلغت { والضحى } قال : كبر إذا ختمت كل سورة حتى تختم . وقد قرأت على أبيّ بن كعب فأمرني بذلك . قال علي بن أحمد النيسابوري : ويقال : إن الأصل في ذلك أن الوحي لما فتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال المشركون : قد هجره شيطانه وودعه ، اغتم لذلك ، فلما نزل { والضحى } كبر عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحا بنزول الوحي ، فاتخذه الناس سنة .