الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي

الثعالبي القرن التاسع الهجري

صفحة 560

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ١

مدنية وآياتها 12 .

قوله تعالى : { يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } الآية ، وفي الحديثِ مِنْ طُرُقٍ ما معناه ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جاءَ إلى بيتِ حَفْصَةَ ، فوجَدَها قد مرَّتْ لزيارةِ أبيهَا ، فَدَعَا صلى الله عليه وسلم جاريَتَهُ مَارِيَّةَ ، فَقَالَ مَعَها ، فَجَاءَتْ حَفْصَةُ وَقَالَت : يا نبيَّ اللَّه ! أفِي بَيْتِي وعلى فِرَاشِي ؟ فَقَالَ لَهَا صلى الله عليه وسلم : مترضِّياً لها : ( أيُرْضِيكِ أنْ أُحَرِّمَها ؟ ) قَالَتْ : نَعَمْ ؛ فقال : ( إنِّي قَدْ حَرَّمْتُهَا ) ، قال ابن عباس : وقالَ مَعَ ذلكَ : واللَّهِ ، لاَ أَطَؤُهَا أَبَداً ، ثم قال لها : ( لاَ تُخْبِرِي بِهَذَا أَحَداً ) ، ثم إنَّ حَفْصَةَ قَرَعَتْ الجِدَارَ الَّذِي بَيْنَهَا وَبْيْنَ عَائِشَةَ ، وَأَخْبَرَتْهَا لِتُسِرَّهَا بالأَمْرِ ، وَلَمْ تَرَ في إفْشَائِهِ إلَيْهَا حَرَجاً ، واستكتمتها ، فَأَوْحَى اللَّهُ بِذَلِكَ إلى نَبِيِّهِ ، ونزلَتِ الآيةُ ، وفي حديثٍ آخَرَ عن عائشةَ أنَّ هذا التحْرِيمَ المذكورَ في الآية ؛ إنَّما هُو بِسَبَبِ العَسَلِ الذي شَرِبَه صلى الله عليه وسلم عِنْدَ زينبَ بِنْتِ جَحْشٍ ، فَتَمالأتْ عائشةُ وحفصةُ [ وسَوْدَةُ ] عَلى أنْ تَقُولَ له ؛ مَنْ دَنَا مِنْهَا : إنّا نَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ ، أأكَلْتَ مَغَافِيرَ يَا رَسُولَ اللَّه ؟ والمَغَافِيرَ : صَمْغُ العُرْفُطِ ، وَهُوَ حُلْوٌ كَرِيهُ الرَّائِحَةِ ، فَفَعَلْنَ ذَلِكَ ، فَقَالَ رسولُ اللَّه : ( ما أَكَلْتُ مَغَافِيرَ ، وَلَكِنِّي شَرِبْتُ عَسَلاً ) ، فقلْنَ له : جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُط ؟ فقال : صلى الله عليه وسلم : ( لاَ أشْرَبُه أبَداً ) ، وكانَ يَكْرَهُ أنْ تُوجَدَ مِنْهُ رَائحةٌ كَرِيهةٌ ، فدخلَ بعد ذلك على زينبَ فَقَالَتْ : أَلا أسْقِيكَ مِنْ ذَلِكَ العَسَلِ ؟ فَقَال : ( لاَ حَاجَةَ لِي بِهِ ) ، قالتْ عائشةُ : تَقُولُ سَوْدَةُ حِينَ بَلَغَنَا امتناعه : وَاللَّهِ ، لَقَدْ حَرَمْنَاهُ ، فَقُلْتُ لَها : اسكتي ، قال ( ع ) : والقولُ الأوَّلُ أن الآيةِ نزلتْ بسبب مارية أصَحُّ وأوْضَحُ ، وعليه تَفَقَّه الناسُ في الآية ، ومَتَى حَرَّمَ الرَّجُلُ مَالاً أو جاريةً فليسَ تحريمُه بشيءٍ ، ( ت ) : والحديثُ الثَّانِي هو الصحيحُ خَرَّجَه البخاريُّ ومسلمُ وغيرهما ، ودَعَا اللَّهُ تعالى نبيَّه باسْم النبوَّةِ الذي هو دالٌّ على شَرَفِ مَنْزِلَتِه وَفَضِيلَتِه التي خَصَّهُ بِهَا ، وقرَّره تعالى كالمُعَاتِبِ له على تحريمِه عَلى نفسِه مَا أحلَّ اللَّهُ له ، ثم غَفَرَ لَه تَعَالَى مَا عَاتَبه فيه وحرمه .

قَدۡ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمۡ تَحِلَّةَ أَيۡمَٰنِكُمۡۚ وَٱللَّهُ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ٢

وقوله تعالى : { قَدْ فَرَضَ الله } أي : بيَّنَ وأثْبَتَ ، فقال قوم من أهل العلم : هذه إشارَةٌ إلى تَكْفِيرِ التَّحْرِيمِ ، وقال آخرونَ هي : إشارَةٌ إلى تكفيرِ اليمينِ المُقْتَرِنَةِ بالتحريمِ ، والتَّحِلَّةُ مَصْدَرُ وزنها «تَفْعِلَة » وأدْغِمَ لاِجْتِمَاعِ المثلينِ ، وأحالَ في هذه الآيةِ على الآيةِ التي فسَّر فِيها الإطْعَامَ في كفارةِ اليمينِ باللَّهِ تَعَالى ، والمَوْلَى المُوَالِي النَّاصِرُ .

وَإِذۡ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعۡضِ أَزۡوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتۡ بِهِۦ وَأَظۡهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ عَرَّفَ بَعۡضَهُۥ وَأَعۡرَضَ عَنۢ بَعۡضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتۡ مَنۡ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡخَبِيرُ٣

{ وَإِذَ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أزواجه } يعني حَفْصَةَ { حَدِيثاً } قال الجمهورُ الحديثُ هو قولُهُ في أمر ماريةَ ، وقال آخرونَ : بلْ هو قولُه : إنَّمَا شَرِبْتُ عَسَلاً .

وقوله تعالى : { عَرَّفَ بَعْضَهُ } المَعْنَى مَعَ شَدِّ الراءِ : أعْلَمَ بِهِ وأَنَّب عليه { وأعْرَض عن بعض } أي : تَكُرُّماً وَحَيَاءً وحُسْنَ عشرةٍ ، قال الحسن : ما اسْتَقْصَى كريمٌ قط .

إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ٤

والمخاطبة بقوله : { إِن تَتُوبَا إِلَى الله } هي لحفصةَ وعائشةَ ، وفي حديثِ البخاريّ ، وغيره عن ابن عباس قال : قلت لعمر : من اللتان تَظَاهَرَتَا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال : حفصةُ وعائشةُ .

وقوله : { صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } معناه مَالَتْ ، والصُّغْيُ الميلُ ، ومنه أَصْغَى إليه بأُذُنِه ، وأصْغَى الإنَاءَ ، وفي قراءة ابن مسعود : ( فَقَدْ زَاغَتْ قُلُوبُكُما ) والزيغُ : الميلُ وعُرْفُه في خِلاَفِ الحَقّ ، وجَمَعَ القلوبَ مِن حيثُ الاثنانِ جَمْعٌ ، ( ص ) : { قُلُوبُكُمَا } القياسُ فيه : قلباكما مُثَنَّى ، والجمعُ أكْثَرُ استعمالاً وحسْنُه إضافَتُه إلى مثنًى ، وهو ضميرُهما ؛ لأنَّهُمْ كَرِهُوا إجماعَ تَثْنِيَتَيْنِ ، انتهى . ومعنى الآيةِ إن تُبْتُما فَقَدْ كَانَ مِنكُمَا مَا يَنْبَغِي أنْ يُتَابَ منه ، وهذا الجوابُ الذي للشَّرْطِ هُو متقدمٌ في المعنى ، وإنما تَرتَّبَ جَوَاباً في اللفظِ ، { وَإِن تَظَاهَرَا } معناه : تَتَعَاوَنَا وأصل : { تَظَاهَرَا } تَتَظَاهَرَا ، و{ مَوْلاهُ } أي : ناصرُه ، { وَجِبْرِيلُ } ومَا بعدَه يحتملُ أنْ يكونَ عَطْفاً على اسمِ اللَّهِ ، ويحتملُ أنْ يكونَ جبريلُ رَفْعاً بالابتداءِ وَمَا بَعْدَهُ عَطْفٌ عَلَيْهِ و{ ظَهِيرٌ } هُو الخَبَرُ .

عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبۡدِلَهُۥٓ أَزۡوَٰجًا خَيۡرٗا مِّنكُنَّ مُسۡلِمَٰتٖ مُّؤۡمِنَٰتٖ قَٰنِتَٰتٖ تَـٰٓئِبَٰتٍ عَٰبِدَٰتٖ سَـٰٓئِحَٰتٖ ثَيِّبَٰتٖ وَأَبۡكَارٗا٥

وخَرّجَ البخاريّ بسنده عن أنس قال : قال عمر : اجْتَمَع نساءُ النبي صلى الله عليه وسلم في الغِيرَةِ عليه فقلتُ لَهُنَّ : { عسى ربُّه إنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يبدله أزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ } فنزلت هذه الآية ، انتهى . و{ قانتات } معناه مُطِيعَات ، و( السائحاتُ ) قِيل : معناه : صَائِمَاتٌ ، وقيل : معناه : مُهَاجِرَاتٌ ، وقيل : معناه ذَاهِبَاتٌ في طَاعَةِ اللَّهِ ، وشُبِّه الصَّائِمُ بالسائِحِ من حيثُ يَنْهَمِلُ السائِحُ وَلا يَنْظُرُ في زادٍ ولاَ مَطْعَمٍ ، وكذلك الصائم يُمْسِك عن ذلك ، فيستوي هو والسائِح في الامْتِنَاعِ ، وشَظَفِ العَيْشِ لِفَقْدِ الطَّعَام .

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَـٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ٦

وقوله سبحانه : { يا أيها الذين آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } الآيةُ ، { قُواْ } معناه اجْعَلُوا وِقَايَةً بينكم وبينَ النارِ ، وقوله : { وَأَهْلِيكُمْ } معناه بالوَصِيَّةِ لهم والتقويم والحَمْلِ على طاعةِ اللَّه ، وفي الحديثِ : " رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً قَال : يا أهْلاَهُ صَلاَتَكُمْ ، صِيَامَكُمْ ، زَكَاتَكُمْ ، مِسْكِينَكُمْ ، يَتِيمَكُمْ " ( ت ) : وفي «العتبية » عن مالكٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ اللَّهَ أذِنَ لي أنْ أتَحَدَّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ ، إنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ لَمَخْفِقَ الطَّيْرِ سَبْعِينَ عَاماً " ، انتهى . وباقي الآية في غَايَةِ الوضوحِ ، نَجَانَا اللَّهُ مِنْ عَذَابه بِفَضْلِه .

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَعۡتَذِرُواْ ٱلۡيَوۡمَۖ إِنَّمَا تُجۡزَوۡنَ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ٧

صفحة 561

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَةٗ نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَيُدۡخِلَكُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ يَوۡمَ لَا يُخۡزِي ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥۖ نُورُهُمۡ يَسۡعَىٰ بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ٨

والتوبةُ فَرْضٌ على كلِّ مسلمٍ ، وهي الندمُ على فَارِطِ المعصيةِ ، والعَزْمُ عَلى تَرْكِ مِثلِها في المستقبل ، هذا من المتمكن ، وأما غيرُ المتمكِّنِ كالمَجْبُوبِ في الزِّنَا فالندمُ وحدَه يكفيه ، والتوبةُ عِبادَةٌ كالصَّلاَةِ ، وغيرها ، فإذا تَابَ العبدُ وَحَصَلَتْ توبتُه بشروطِها وقبلت ، ثم عَاوَدَ الذنبَ فتوبتُه الأولَى لا تفسدُها عَوْدَةٌ بل هي كسَائِرِ مَا تَحَصَّلَ من العباداتِ ، و( النَّصُوح ) بناءَ مبالغةٍ من النُّصْحِ ، أي : توبة نَصَحَتْ صَاحِبها ، وأرْشَدَتْه ، وعن عمرَ : التوبةَ النصوحُ : هي أن يتوبَ ثم لا يعودُ ولا يريدُ أن يعودَ ، وقال أبو بكر الوَرَّاق ، هي أن تَضِيقَ عليكَ الأرْضُ بما رَحُبَتْ كتوبةِ الذين خُلِّفُوا . ورُوِيَ في معنى قولِه تعالى : { يوم لا يخزي اللَّه النبي } أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تَضَرَّعَ مَرَّةً إلى اللَّه عز وجل في أمْرِ أُمَّتِهِ ، فأوحَى اللَّه إلَيْهِ إنْ شِئْتَ جَعَلْتُ حِسَابَهُمْ إلَيْكَ ، فَقَالَ : يَا رَبِّ ، أَنْتَ أَرْحَمُ بِهِمْ ، فَقَالَ اللَّهُ تعالى : إذَنْ لاَ أُخْزِيَكَ فِيهِمْ " . وقولُه تَعَالَى : { والذين آمَنُواْ مَعَهُ } يَحْتَمِل : أن يكونَ معطوفاً عَلى النبيِّ فيخرجُ المؤمِنونَ من الخزي ، ويحتملُ : أنْ يَكُونَ مبتدأً ، و{ نُورُهُمْ يسعى } : جملةٌ هِي خبرُه ، وقولهم : { أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } قال الحسنُ بن أبي الحسن : هو عِنْدَما يَرَوْنَ مِنِ انْطِفَاءِ نورِ المنافقين حَسْبَمَا تقدم تفسيرُه ، وقيل : يقوله من أُعْطِي منَ النور بقدر ما يَرَى موضعَ قدميه فقط ، وباقي الآية بيَّن مما تقدم في غيرِ هذا الموضع .

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ٩
ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمۡرَأَتَ نُوحٖ وَٱمۡرَأَتَ لُوطٖۖ كَانَتَا تَحۡتَ عَبۡدَيۡنِ مِنۡ عِبَادِنَا صَٰلِحَيۡنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمۡ يُغۡنِيَا عَنۡهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـٔٗا وَقِيلَ ٱدۡخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّـٰخِلِينَ١٠

وقوله سبحانه : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأة نُوحٍ } الآية ، هذَانِ المَثَلاَنِ اللذانِ للكفارِ والمؤمنينَ معناهما : أنَّ مَنْ كَفَرَ لا يُغْنِي عنه مِنَ اللَّهِ شيءٌ ولا ينفعُه سَبَبٌ ، وإنَّ مَنْ آمنَ لا يدفعُه عَنْ رِضْوَانِ اللَّهِ دافعٌ وَلُوْ كَانَ في أسوأِ مَنْشَأٍ وأخسِّ حالٍ ، وقول من قال : إنَّ في المَثَلَيْنِ عبرةٌ لأَزْوَاجِ النبي صلى الله عليه وسلم بعيدٌ . قال ابن عباس وغيره : ( خَانَتَاهُمَا ) : أي في الكُفْرِ ، وفي أن امرأةَ نوحٍ كانَتْ تقول للناس : إنَّه مجنُونٌ وأن امرأةَ لوطٍ كَانَتْ تَنُمُّ إلى قَوْمِها خَبَر أضْيَافِه ، قال ابن عباس : وَمَا بَغَتْ زَوْجَةُ نَبِيٍّ قَطُّ .

وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱمۡرَأَتَ فِرۡعَوۡنَ إِذۡ قَالَتۡ رَبِّ ٱبۡنِ لِي عِندَكَ بَيۡتٗا فِي ٱلۡجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرۡعَوۡنَ وَعَمَلِهِۦ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ١١

وامرأة فرعون اسمُها آسية ، وقولها : { وَعَمَلِهِ } تعني كُفْرَهُ ومَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ .

وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ١٢

وقوله : { التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } الجمهورُ أنه فَرْجُ الدِّرْعِ ، وقال قوم : هو الفَرْجُ الجَارِحَةُ وإحْصَانُه صَوْنُه .

وقولُه سبحانه : { فَنَفَخْنَا فِيهِ } عبارةٌ عَنْ فِعل جبريلَ ، ( ت ) : وقد عَكَسَ رحمه اللَّه نَقْلَ ما نَسَبَهُ للجمهورِ في سورةِ الأنبياءِ فقال : المَعْنَى واذْكُرِ الَّتي أحصنتْ فَرْجَها وهو الجارِحَة المعروفةُ ، هذا قولُ الجمهورِ ، انظر بقيةَ الكلامِ هناك .

وقوله سبحانه : { مِن رُّوحِنَا } إضافةُ مخلوقٍ إلى خالقٍ ، ومملوك إلى مالكٍ ، كما تقول بَيْتُ اللَّهِ ، ونَاقَةُ اللَّهِ ، وكذلك الرُّوحُ الجنسُ كلُّه هو روح اللَّه ، وقرأ الجمهور : { وَصَدَّقَتْ بكلمات رَبَّهَا } بالجَمْعِ فَيُقَوِّي أنْ يريدَ التوراةَ ، ويحتملُ أنْ يريدَ أمْرَ عيسَى ، وَقَرَأ الجحدري : ( بِكَلِمِة ) فَيُقَوِّي أنْ يريدَ أمْرَ عيسى ، ويحتملُ أنْ يريدَ التوراةَ ، فتكونُ الكلمةُ اسْمُ جنسٍ ، وقرأ نافع وغيره : «وكِتَابِهِ » وقرأ أبو عمرو وغيره : «وَكُتُبِهِ » بضم التاء وَالجَمْعِ ، وذلك كلَّه مرادٌ بهِ التوراةُ والإنْجِيلُ ، قال الثعلبيُّ : واختار أبو حاتم قراءةَ أبي عمرٍو بالجَمْعِ لعمومِها ، واختار أبو عبيدة قِراءَة الإفْرَادِ ؛ لأن الكتَابَ يُرَادُ به الجنسُ ، انتهى ؛ وهو حَسَنٌ ، { وَكَانَتْ مِنَ القانتين } أي : من القوم القانتينَ ؛ وهم المطيعونَ العابِدونَ ، وقد تقدَّم بيانُه .