{ الرحمان الرحيم }[23]
إشارة إلى الصفة مرة أخرى ، ولا تظن أنه مكرر ، فلا تكرر في القرآن ، إذ حد المكرر ما لا ينطوي على مزيد فائدة . وذكر الرحمة بعد ذكر العالمين وقبل ذكر { ملك يوم الدين } ينطوي على فائدتين عظمتين في تفصيل مجاري الرحمة :
إحداهما : تلتفت إلى خلق رب العالمين : فإنه خلق كل واحد منهم على أكمل أنواعه وأفضلها ، وآتاه كل ما يحتاج إليه . فأحد العوالم التي خلقها عالم البهائم ، وأصغرها البعوض والذباب والعنكبوت والنحل .
فانظر إلى البعوض : كيف خلق أعضاءها ، فقد خلق عليها كل عضو خلقه على الفيل ، حتى خلق له خرطوما مستطيلا حاد الرأس ثم هداه إلى غذائه إلى أني مص دم الآدمي ، فتراه يغرز فيه خرطومه ويمص من ذلك التجويف غذاء ، وخلق له جناحين ليكون له آلة الهرب إذا قصد دفعه .
وانظر إلى الذباب كيف خلق أعضاءه ، وخلق حدقتيه مكشوفتين بلا أجفان ، إذ لا يحتمل رأسه الصغير الأجفان ، والأجفان يحتاج إليها لتصقيل الحدقة مما يلحقها من الأقذاء والغبار ، وانظر كيف خلق له بدلا عن الأجفان يدين زائدتين ، فله سوى الأرجل الأربع يدان زائدتان ، تراه إذا وقع على الأرض لا يزال يمسح حدقتيه بيديه يصقلها عن الغبار .
وانظر إلى العنكبوت : كيف خلق أطرافها وعلمها حيلة النسج ، وكيف علمها حيلة الصيد بغير جناحين ، إذ خلق لها لعابا لزجا تعلق نفسها به في زاوية ، وتترصد طيران الذباب بالقرب منها ، فترمي إليه نفسها فتأخذ وتقيده بخيطها الممدود من لعابها ، فتعجزه عن الإفلات حتى تأكله أو تدخره .
وانظر إلى نسج العنكبوت لبيتها ، كيف هداها الله نسجه على التناسب الهندسي في ترتيب السدي واللحمة .
وانظر إلى النحل وعجائبها التي لا تحصى ؛ في جمع الشهد والشمع ، وننبهك على هندستها في بناء بيتها فإنها تبني على شكل المسدس ، كي لا يضيق المكان على رفقائها ، لأنها تزدحم في موضع واحد على كثرتها ، ولو بنت البيوت مستديرة لبقي خارج المستديرات فرج ضائعة ، فإن الدوائر لا تراص ، وكذلك سائر الأشكال ، وأما المربعات فتراص ، ولكن شكل النحل يميل إلى الاستدارة فيبقى داخل البيت زوايا ضائعة ، كما يبقى في المستدير خارج البيت فرج ضائعة ، فلا شكل من الأشكال يقرب من المستدير في التراص غير المسدس ، وذلك يعرف بالبرهان الهندسي .
فانظر كيف هداه الله خاصية هذا الشكل ، وهذا أنموذج من عجائب صنع الله ولطفه ورحمته بخلقه ، فإن الأدنى ينبه على الأعلى ، وهذه الغرائب لا يمكن أن تستقصي في أعمار طويلة ، أعني : ما انكشف للآدميين منها ، وأنه ليسير بالإضافة إلى ما لا ينكشف ، أو استأثر هو والملائكة بعلمه ، وربما تجد تلويحات من هذا الجنس في كتاب " الشكر " وكتاب " المحبة " فاطلبه إن كنت له أهلا ، وإلا فغض بصرك عن آثار رحمة الله ولا تنظر إليها ، ولا تسرح في ميدان معرفة الصنع ولا تتفرج فيه ، واشتغل بأشعار المتنبي وغرائب النحو لسيبويه وفروع ابن الحداد[24] في نوادر الطلاق وحيل المجادلة في الكلام ، فذلك أليق بك ، فإن قيمتك على قدر همتك { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم }[25] و{ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده }[26] . ولنرجع إلى الغرض ، والمقصود التنبيه على أنموذج من رحمة الله في خلق العالمين .
وثانيهما : تعلقها بقول : { ملك يوم الدين }[27] فيشير إلى الرحمة في المعاد يوم الجزاء عند الإنعام بالملك المؤبد في مقابلة كلمة وعبادة ، وشرح ذلك يطول .
والمقصود : أنه لا مكرر في القرآن ، فإن رأيت شيئا مكررا من حيث الظاهر ، فانظر في سوابقه ولواحقه لينكشف لك مزيد في إعادته .
14- الرحمة ترجع إلى الإرادة مضافة إلى قضاء حاجة المحتاج الضعيف . [ روضة الطالبين ضمن المجموعة رقم 2 ص : 66 ] .