اللباب في علوم الكتاب لابن عادل

ابن عادل القرن التاسع الهجري
Add Enterpreta Add Translation

صفحة 226

حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ ٤٠

قوله : { حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } عذابنا ، أو وقته ، أو قولنا " كن " .

{ وَفَارَ التنور } اختلفوا في التَّنور : قال عكرمةُ والزهري : هو وجه الأرض[18783] ، أي نبعث الأرض من سائر أرجائها حتى نبعث التنانير التي هي محال النار وذلك أنَّه قيل لنوح : إذ رأيت الماء قدْ فَارَ على وجه الأرض ، فاركب السَّفينة أنت وأصحابك .

وروي عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال : التنور طلوع الفجر ، ونور الصَّباح[18784] وقيل : التَّنُّور أشرف مكان في الأرض وأعلاه . وقيل : " فَارَ التَّنُّورُ " يحتمل أن يكون معناه : اشتدَّ الحر كما يقالُ : حمي الوطيسُ .

ومعنى الآية : إذا رأيتَ الأمر يشتد والماء يكثر فانْجُ بنفسك ومن معك إلى السفينة .

وقال الحسنُ ومجاهدٌ والشعبيُّ : إنه التنور الذي يخبز فيه[18785] . وهو قول أكثر المفسِّرين ، ورواه عطيَّة عن ابن عبَّاس[18786] .

قال الحسنُ : كان تَنُّوراً من حجارةٍ ، كانت حواء تخبزُ فيه ، فصار إلى نُوح - عليه الصلاة والسلام -[18787] واختلفوا في موضعه فقال مجاهدٌ والشعبيُّ : إنَّه بناحية الكوفة[18788] وعن علي أنَّهُ في مسجد الكوفة[18789] . وقال مقاتلٌ بموضع يقال له : عين وَرْدة بالشَّام[18790] وقيل : عين بالهند .

قال الزمخشريُّ : " حتَّى " هي التي يُبْتَدَأ بعدها الكلام ، دخلت على الجملة من الشَّرطِ والجزاء ، ووقعت غاية لقوله { وَيَصْنَعُ الفلك } أي : وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد والألف واللاَّم في " التَّنُّور " قيل : للعهدِ . وقيل : للجنس .

ووزن " تَنُّور " قيل : " تَفْعُول " من لفظ النور فقلبت الواوُ لأولى همزة لانضمامها . ثم حذفت تخفيفاً ، ثم شدَّدُوا النون كالعوضِ عن المحذوف ، ويعزى هذا لثعلب .

وقيل : وزنه " فَعُّول " ويعزى لأبي علي الفارسيِّ . وقيل : هو أعجميٌّ ، وعلى هذا فلا اشتقاقَ له . والمشهورُ أنَّه ممَّا اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصَّابون .

ومعنى " فَارَ " أي : غلا قوة وشدة تشبيهاً بغليان القدر عند قوة النّضار ، ولا شبهة في أنَّ نفس التَّنور لا يفوزُ ، فالمرادُ : فار الماءُ في التَّنور .

قال اللَّيْثُ - رحمه الله - : " التَّنُّور عمَّت بكل لسان وصاحبه تنَّار قال الأزهريُّ : وهذا يدلُّ على أن الاسم يكون أعْجَميّاً فتعربه العرب ، فيصير عربيّاً ، والدليلُ على ذلك أنَّ الأل " تَنَرَ " ، ولا يعرفُ في كلام العرب " تنر " وهو نظير ما دخل في كلام العرب من كلام العجم الدِّيباج والدِّينار ، والسُّندس ، والإستبرق ، فإنَّ العرب تكلَّمُوا بها ؛ فصارت عربيةً " . قيل : إنَّ امرأته كانت تخبز في ذل التنور ، فأخبرته بخروج الماءِ من ذلك التنور فاشتغل في الحالِ بوضع هذه الأشياء في السفينة .

قوله : { قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين } قرأ العامَّة بإضافة " كُل " ل " زَوْجَيْنِ " .

وقرأ حفص[18791] بتنوين " كُل " ، فأمَّا العامة فقيل : إنَّ مفعول " احْمِلْ " " اثْنَيْن " ، و " مِنْ " كُلِّ زَوْجَيْنِ " في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المفعول ؛ لأنه كان صفة للنَّكرة ، فلمَّا قُدِّم عليها نُصب حالاً وقيل : بل " مِنْ " زائدة ، و " كُل " مفعول به ، و " اثْنَيْن " نعت ل " زَوْجَيْن " على التَّأكيدِ ، وهذا إنَّما يتمُّ على قول من يرى زيادة " مِنْ " مطلقاً ، أو في كلامٍ موجب .

وقيل : قوله : " زَوْجَيْن " بمعنى العُمومِ أي : من كُل ما له ازدواجٌ ، هذا معنى قوله : { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ } وهو قولُ الفارسيِّ وغيره .

قال ابنُ عطيَّة : ولو كان المعنى : احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين ، لوجب أن يحمل من كُلِّ نوع أربعة ، والزوج في مشهور كلامهم للوحد ممَّا له ازدواجٌ .

قال - سبحانه وتعالى - : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [ الذاريات : 49 ] ، ويقال للمرأة زوجٌ ، قال تعالى : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] يعني المرأة ، وهو زوجها ، وقال : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى } [ النجم : 45 ] فالواحدُ يقال له : زوجٌ ، قال تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين } [ الأنعام : 143 ] ، { وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين } [ الأنعام : 144 ] .

فالزَّوجان : عبارة عن كل اثنين لا يَسْتغني أحدهما عن الآخر ، يقال لكُلِّ واحدٍ منهما زوج ، يقال زوج خفٍّ ، وزوج نَعْلِ ، والمراد بالزَّوجين ههنا : الذَّكر والأنثى .

وأمَّا قراءة حفص فمعناها : من كلِّ حيوان أو من كلِّ صنف ، و " زَوْجَيْن " مفعولٌ به ، و " اثْنَيْنِ " نعتٌ على التأكيد ، كقوله { لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } [ النحل : 51 ] ، و " مِنْ كُلّ " على هذه القراءة يجوز أن يتعلق ب " احْمِلْ " وهو الظَّاهرُ ، وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من " زَوْجَيْنِ " وهذا الخلاف والتخريج جاريان أيضاً في سورة " قَدْ أفْلَحَ " .

فصل

اختلفوا في أنه هل دخل في قوله : " زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ " غير الحيوانِ أم لا ؟ فنقول فالحيوانُ مرادٌ ولا بد ، وأما النَّباتُ فاللفظ لا يدل عليه ، إلا أنه بقرينة الحال لا يبعد دخوله لأنَّ الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه .

قال ابنُ الخطيب : " وروي عن ابن مسعودٍ أنه قال : لم يستطع نوحٌ أن يحمل الأسد حتَّى ألقيت عليه الحمى ، وذلك أنَّ نُوحاً - عليه الصلاة والسلام - قال : يا ربِّ فمن أين أطعم الأسد ، إذا حملته ؟ قال الله - تعالى - : " فسوف أشغله عن الطعام فسلَّط الله عليه الحمى " [18792] وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها ، فإنَّ حاجة الفيل إلى الطَّعام أكثر ، وليست به حُمَّى " .

وروى زيد بن أسلم عن أبيه مرسلاً أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لمَّا حمل نوح في السفينة من كُلِّ زوجين اثنين ، قال أصحابه : وكيف يطمئن ، أو تطمئن المواشي ، ومعنا الأسد ، فسلَّط الله عليه الحمى ، فكانت أوَّلُ حمى نزلت الأرض ، ثم شكوا الفأرة فقالوا : الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا ، فأوحى الله إلى الأسدِ ، فعطس الأسد فخرجت الهرة ؛ فتخبأت الفأرة منها[18793] .

قوله : " وأهْلَك " نسقٌ على " اثْنَيْنِ " في قراءة من أضاف " كُل " ل " زَوْجَيْنِ " ، وعلى " زَوْجَيْنِ " في قراءة من نوَّن " كُل " وقوله : " إلاَّ من سبقَ " استثناءٌ متصل في موجب ، فهو واجب النَّصْبِ على المشهُور .

وقوله : " وَمَنْ آمَنَ " مفعول به نسقاً على مفعول " احْمِلْ " .

فصل

روي أنَّ نوحاً - عليه الصلاة السلام - قال يا رب : كيف أحملُ من كلِّ زوجين اثنين ؟ فحشر الله - تعالى - إليه السباع والطير ، فجعل يضربُ بيده في كل جنس فيقع الذَّكرُ في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى ، فيجعلهما في السفينة .

والمراد بأهله : ولده وعياله { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } بالهلاك يعني : امرأته واعلة وابنه كنعان .

" ومَنْ آمَنَ " يعنى : واحمل من آمن بك ، قال تعالى : { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } . قال قتادةُ وابن جريج ومحمد بن كعب القرظي : لم يكن في السفينة إلا ثمانية نفر نوح وامرأته وثلاثة بنين سام وحام ويافث[18794] ونساؤهم .

وقال الأعمشُ : كانوا سبعة : نوحٌ وثلاثة بنين له وثلاثُ كنائن[18795] وقال ابن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم ، نوح وبنوه : سام وحام ويافث ، وستة أناس ممن كان به ، وأزواجهم جميعاً[18796] .

وقال مقاتل : كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأةً ، وبنيه الثلاث ونساءهُم[18797] .

فجميعهم ثمانية وسبعون ، نصفهم رجال ، ونصف نساء .

وعن ابن عباسٍ : كان في سفينة نوح عليه السلام ثمانون رجلاً ، أحدهم جرهم ، يقال : إنَّ في ناحية " المَوْصِل " قريةً ، يقال لها : قريةُ الثَّمانين ، سمِّيت بذلك ؛ لأنَّهم لما خرجوا من السَّفينة بنوها ، فسُمِّيت بهم[18798] .

قال مقاتلٌ : حمل نوحٌ معه جسد آدم ، فجعله معترضاً بني الرِّجال والنِّساء[18799] .

وقال الحسنُ : لم يحمل نوحٌ في السفينة إلاَّ ما يلد ويبيض فأما ما يتولَّد من الطين ؛ فالحشرات ، والبقِّ ، والبعوض ؛ فلم يحمل منه[18800] . ثم قال تعالى { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } يعني : حكم الله عليه بالهلاك ، وهو ابنه ، وزوجته ، وكانا كافرين ، فأما ابنه فهو يام ، وتسميه أهل الكتاب : كنعان ، فهو الذي انعزل عنه ، أما امرأةُ نوحٍ ، فهي أمِّ أولاده كلهم : حام ، وسام ، ويافث ، وهو أدرك ؛ انعزل ، وغرق ، وعابر ، وقد مات قبل الطوفان ، فقيل مع من غرق وكانت خمس سبق عليها القول بكفرها ، وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة فيحتمل أنها ماتت بعد ذلك .

فإن قيل : الإنسان أشرف من سائر الحيواناتِ ، فما الفائدة من ذكر الحيوانات ؟

فالجوابُ : أنَّ الإنسانَ عاقلٌ وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاكِ عن نفسه ، فلا حاجة إلى المبالغة في التَّرغيب فيه ، بخلاف السَّعْي في تخليص سائر الحيوانات ؛ فلهذا وقع الابتداء به .

فإن قيل : الذين دخلوا السَّفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله : { إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } [ الشعراء : 54 ] ؟ فالجواب : كلا اللفظين جائز ، والتقدير - ههنا - : وما آمن معه إلا نفر قليل .

فصل

احتجوا بقوله { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } في إثبات الفضاءِ السَّابق والقدر الواجب ، لأنَّ قوله { سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ } يدلُّ على أنَّ من سبق عليه القول ومن آمَنَ لا يغيَّرُ عن حاله ، فهو كقوله - عليه الصلاة والسلام - : " السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقى في بطن أمه " [18801] .