و{ الرحمن الرحيم } اسمان بُنيا للمبالغة ، من رَحِمَ ، كالغضبان من غضب ، والعليم من علم ، والرحمة في اللغة ، رَقَّةُ القلب[59] ، وانعطافٌ يقتضي التفضل والإحسان ، ومنه الرَّحِم[60] ؛ لانعطافها على ما فيها . وأسماء الله تعالى إنما تُؤخذ باعتبار الغايات ، التي هي أفعال[61] ، دون المبادئ التي هي انفعالات ، و{ الرحمان } أبلغ من { الرحيم } ؛ لأن زيادةَ المبنى تدل على زيادة المعنى[62] ، كقَطَّعَ وقَطَعَ ، وذلك إنما يُؤخذ تارة باعتبار الكمية ، وأخرى باعتباره الكيفية .
فعلى الأول : قيل : يا رحمانَ الدنيا ؛ لأنه يَعُمُّ المؤمنَ والكافر ، ورحيمَ الآخرة ؛ لأنه يختص بالمؤمن ، وعلى الثاني قيل : يا رحمان الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا ؛ لأن النعم الأخروية كلها جِسَام ، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة .
وإنما قدّم { الرحمان } - والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى - لتقدُّم رحمة الدنيا ، ولأنه صار كالعَلَم من حيث إنه لا يوصف به غيره ، لأن معناه المنعم الحقيقي البالغُ في الرحمة غايتَها ، وذلك لا يصدُق على غيره تعالى . انظر البيضاوي[63] . وسيأتي الكلام عليهما في المعنى .
ثم هذه التربية التي ربى سبحانه بها خلقه إنما هي رحمة منه وإحسان ، لا لزوم عليه وإيجاب ، ولذلك وصلَه بقوله : { الرحمان الرحيم } ، أي : الرحمان بنعمة الإيجاد ، الرحيم بنعمة الإمداد . " نعمتان ما خلا موجود عنهما ، ولا بد لكل مُكَوَّنَ منهما : نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ، أنعم أولاً بالإيجاد ، وثنى بتوالي الإمداد " . كما في ( الحِكَم ) [64] . فاسمُه { الرحمان } يقتضي إيجادَ الأشياء وإبرازها ، واسمه { الرحيم } يقتضي تربيتَها وإمدادها . ولذلك لا يجوز إطلاق اسم { الرحمان } على أحد ، ولم يَتَسَمَّ أحد به[65] ؛ إذ الإيجاد لا يصح من غيره تعالى ، بخلاف اسمه { الرحيم } فيجوز إطلاقه على غيره تعالى ؛ لمشاركة صدور الإمداد في الظاهر من بعض المخلوقات مجازاً وعاريةً[66] .
أو : الرحمان في الدنيا والآخرة ، والرحيم في الآخرة : لأن رحمة الآخرة خاصة بالمؤمنين . أو الرحمان بجلائل النعم والرحيم بدقائقها ، فجلائل النعم مثل : نعمة الإسلام والإيمان والإحسان ، والمعرفة والهداية ، وكشف الحجاب وفتح الباب والدخول مع الأحباب ، ودقائقُ النعم مثل : الصحة والعافية والمال الحلال ، وغير ذلك مما يأتي ذكره في المُنْعَم عليهم .