{ مالك يوم الدين }
الإيضاح
قرأ بعض قراء مالك ، وبعض آخر ملك ، والفارق بينهما أن المالك هو ذو الملك { بكسر الميم } والملك هو ذو الملك { بضم الميم } وقد جاء في الكتاب الكريم ما يعاضد كلا من القراءتين ، فيعاضد الأولى قوله : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا } ويعاضد الثانية قوله : { لمن الملك اليوم } .
قال الراغب : والقراءتان وإن رويتا عن جمع كثير من الصحابة ، فالثانية يكنفها من الجلال والروعة وإثارة الخشية ما لا يوجد مثله في القراءة الأولى ، فهي تدل على أنه سبحانه هو المتصرف في شؤون العقلاء بالأمر والنهي والجزاء ، ومن ثم يقال ملك الناس ولا يقال ملك الأشياء .
والدين يطلق لغة على الحساب ، وعلى المكافأة ، وعلى الجزاء ، وهو المناسب هنا ،
وإنما قال مالك يوم الدين ، ولم يقل مالك الدين ليعلم أن للدين يوما معينا يلقى فيه كل عامل جزاء عمله .
والناس وإن كانوا يلاقون جزاء أعمالهم في الدنيا باعتبارهم أفرادا من بؤس وشقاء جزاء تفريطهم في أداء الحقوق والواجبات التي عليهم –فربما يظهر ذلك في بعض دون بعض ، فإنا نرى كثيرا من المنغمسين في شهواتهم يقضون أعمارهم وهم متمتعون بلذاتهم ، نعم إنهم لا يسلمون من المنغصات ، وربما أتتهم الجوائح في أموالهم ، واعتلت أجسامهم ، وضعفت عقولهم ، ولكن هذا لا يكون جزاء كاملا لما اقترفوه من عظيم الموبقات ، وكبير المنكرات ، كذلك نرى كثيرا من المحسنين يبتلون بهضم حقوقهم ولا ينالون ما يستحقون من حسن الجزاء ، نعم إنهم ينالون بعض الجزاء بإراحة ضمائرهم وسلامة أجسامهم وصفاء ملكاتهم وتهذيب أخلاقهم ، ولكن ليس هذا كل ما يستحقون من الجزاء ، فإذا جاء ذلك اليوم استوفى كل عامل جزاء عمله كاملا إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، جزاء وفاقا لما عمل { ولا يظلم ربك أحدا } ، { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } .
أما الناس باعتبارهم أمما وجماعات فيظهر في الدنيا ظهورا تما ، فما من أمة انحرفت عن الصراط السوي ، ولم تراع سنة الله في الخليقة إلا حل بها ما تستحق من الجزاء من فقر بعد غنى ، وذل بعد عزة ، ومهانة بعد جلال وهيبة .
وقد جاء قوله : { مالك يوم الدين } إثر قوله : { الرحمان الرحيم } ليكون كترهيب بعد ترغيب ، وليعلمنا أنه تعالى ربى عباده بكلا النوعين من التربية ، فهو رحيم بهم ، ومجاز لهم على أعمالهم كما قال : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ، وأن عذابي هو العذاب الأليم } .