الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب

مكي ابن أبي طالب القرن الخامس الهجري
Add Enterpreta Add Translation

صفحة 1

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢

والحمد لله معناه الثناء الكامل . والشكر( [235] ) الشامل لله يكون لأفعاله الحسنة وفضائله الكاملة ، والحمد أعم من الشكر وأمدح . ورفعه بالابتداء ، " وَلِلَّهِ " في موضع الخبر تقديره : " الحمد ثابت لله " أو " مستقر لله " . فاللام متعلقة بهذا المحذوف الذي قامت اللام وما بعدها مقامه( [236] ) .

والنصب( [237] ) جائز في الحمد في الكلام على المصدر ، لكن الرفع فيه أعم لأن معناه إذا رفعتَه جميع " الحمد مني ومن جميع الخلق لله " وإذا نصبت فمعناه : " أحمد الله حمداً " ، فإنما هو حمد منك لله لا غير( [238] ) . فالرفع يدل على أن الحمد منك ومن غيرك لله ، فهو أعم وأكمل ، فلذلك أجمع القراء على رفعه في جميع ما وقع في القرآن من لفظ ( الْحَمْدُ لِلهِ ) ، إذ لم يكن/ قبله عامل( [239] ) فإذا كان " الحمد " مبتدأ ، و " لله " خبر ، وهو في اللفظ بمنزلة قولك : " المال لزيد " في حكم الإعراب ، وليس مثله في المعنى لأنك إذا قلت : " الحمد لله " أخبرت بهذا ، وأنت معتمد أن تكون حامداً لله داخلاً في جملة الحامدين طالباً للأجر على قولك ، مقراً إذا رفعته أن جميع الحمد منك ومن غيرك لله متقرباً بذلك إلى الله ، متعرضاً لعفوه مظهراً( [240] ) ما في قلبك بلسانك ، شاهداً بذلك للهز ولست تخبر أحداً بشيء يجهله ، فأنت غير مخبر على الحقيقة بشيء استقر علمه عندك ، وليس ذلك العلم عند غيرك . وإذا قلت : " المال لزيد " ، فأنت مخبر بما استقر علمه عندك مما ليس علمه عند غيرك . فاعرف الفرق بينهما .

فأما علة حذف الألف الثانية/ من " الله " في الخط ففيها أيضاً اختلاف .

قال قطرب( [241] ) : " حذف استخفافاً إذ( [242] ) كان طرحها من الخط لا يلبس .

وقيل : إنما حذفت الألف على لغة مَن يقول قال : " الله/ بغير مد ، كقول الشاعر :

أَقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ الله( [243] ) .

وقيل : حذفت الثانية لأن الأولى( [244] ) تكتفي( [245] ) عنها ، وتدل عليها( [246] ) .

وقيل : إنما حذفت لئلا يشبه خط " اللات " في قول من وقف عليه( [247] ) بالهاء .

فأما حذف ألف( [248] ) ( الرَّحْمَنِ ) من الخط( [249] ) فلكثرة الاستعمال والاستخفاف ، ولأن المعنى لا يشكل بغيره( [250] ) .

وقدم ( الرَّحْمَانِ ) على ( الرَّحِيمِ ) لأن " الرحمن " اسم شريف مبني للمبالغة لا يتسمى به غير الله جل ذكره ، والرحيم قد يوصف به الخلق فأخر لذلك .

وقيل : الرحيم ، ولم يقل : الراحم ، لأن فعيلا فيه مبالغة أيضاً تقارب مبالغة الرحمن( [251] ) ، فقرن بالرحمن دون الراحم( [252] ) إذ الراحم لا مبالغة في بنيته لأنه يوصف بالراحم مَن رحم مرة( [253] ) في عمره ، ولا يوصف بالرحيم إلا مَن تكررت منه الرحمة .

وقيل : إنما قدم الرحمن على الرحيم لأن النبي عليه السلام كان يكتب في كتبه( [254] ) " باسمك اللهم " حتى نزل( [255] ) : ( بِسْمِ اللَّهِ مُجْرَاهَا )( [256] ) فكتب ( بِسْمِ اللَّهِ ) ، حتى نزل : ( قُلُ ادْعُوا اللَّهَ أَوُ ادْعُوا الرَّحْمَنَ )( [257] ) ، فكتب ( بِسْمِ اللَّهِ ) ، فسبق نزول الرحمن . ثم نزل : ( وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )( [258] )( [259] ) . فكتب ذلك على ترتيب ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم( [260] ) .

وقال ابن مسعود( [261] )/ " كنا نكتب زماناً باسمك اللهم " حتى نزلت : ( أَوُ ادْعُوا الرَّحْمَنَ ) ، فكتبنا " بسم الله الرحمن " / فلما نزلت " التي في النمل كتبناها( [262] ) " .

ومعنى ( الرَّحْمَنِ ) : الرفيق بخلقه ، ومعنى : ( الرَّحِيمِ )( [263] ) العاطف على خلقه بالرزق وغيره( [264] ) .

وقيل : إنما جيء بالرحيم( [265] ) ليعلم الخلق أن ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) على اجتماعهما لم يتسم( [266] ) بهما غير الله جل ذكره ، لأن الرحمن على انفراده قد تسمى به مسيلمة( [267] ) الكذاب لعنه الله( [268] ) ، و( الرَّحِيمِ ) على انفراده( [269] ) قد يوصف به المخلوق . فكرر الرحيم بعد الرحمن( [270] ) ، وهما صفتان لله أو اسمان ، ليعلم الخلق ما( [271] ) انفرد به الله تعالى ذكره( [272] ) من اجتماعهما له ، وما ادعى بعضه بعض خلقه( [273] ) .

وهذا القول هو معنى قول عطاء( [274] ) لأنه قال : " لما اختُزِلَ( [275] ) الرحمن من أسمائه( [276] ) –أي تسمى به غيره- ، صار لله الرحمن الرحيم " ( [277] ) .

والألف واللام في ( الرَّحِيمِ ) للتعريف ، وإنما اختيرا( [278] ) للتعريف ، لأن الهمزة تختل بالتسهيل والحذف والبدل وبإلقاء حركتها على ما قبلها ، واللام تدغم في أكثر الحروف وكلاهما من الحروف الزوائد .

وفي وصل ( الرَّحِيمِ ) ب( الْحَمْدُ ) ، عند النحويين ثلاثة أوجه :

-أحدها( [279] ) : أن تقول " الرَّحِيمُ . الحَمْدُ لله " ( [280] ) فتكسر( [281] ) الميم وتقف عليها وتقطع ألف الحمد . وهذا مستعمل عند القراء حسن ، وهو مروي( [282] ) عن النبي صلى الله عليه وسلم روته أم سلمة( [283] ) .

- والثاني( [284] ) : أن تقول : " الرَّحِيمِ الحَمْدُ لله " ، فتَصِل الألف وتعرب الرحيم بحقه من الإعراب فتكون الكسرة خفضاً ، وإن شئت/ قدرت أنك وقفت على الرحيم بالإسكان ، ثم وصلت فكسرت( [285] ) الميم لسكونها وسكون لام الحمد بعدها ، ولا يعتد بألف الوصل لسقوطها في درج الكلام .

وهذان الوجهان حسنان مستعملان في القراءة .

- والوجه الثالث : حكاه الكسائي سماعاً من العرب ، أن تقول : " الرَّحِيمَِ الحَمْدُ " فتح الميم ووصل الألف وذلك أنك تقدر( [286] ) أنك أسكنت الميم للوقف عليها وقطعت ألف الحمد للابتداء/ بها ، ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفتها فانفتحت الميم . ولا يقرأ بهذا( [287] ) .

وقد ذكر الفراء( [288] ) هذا التقدير في قوله تعالى : ( أَلَمِّ اللَّهُ )( [289] ) وذكره غيره( [290] ) . وستراه إن شاء الله ومثله قياس وصل " نَسْتَعِينُ " ب " اهْدِنَا( [291] ) " .

والألف الأول من اسم " الله " تحذف من الخط مع اللام ، تقول : " لله الحجة ، ولله الأمر " ، فإن قلت : " بالله أتق " ، و " ليس كالله أحد " ؛ لم يجز حذف الألف من الخط ، وعلة حذفها من الخط مع اللام ، دون سائر حروف الجر ، أنَّ اللام مع الألف يصيران حرفاً( [292] ) واحداً في رأي العين . والألف مع اللام الثانية( [293] ) بمنزلة " قَدْ " لأنهما زيدا معاً للتعريف لا يفترقان . فلو أثبتت( [294] ) الألف مع اللام الأولى( [295] ) ، كنت قد فصلتها( [296] ) مع اللام الأولى( [297] ) من اللام الثانية .

/وقيل : إنما حذفت الألف من الخط مع اللام( [298] ) ، لئلا تصير " لا " فتشبه النفي . فإن كانت( [299] ) الألف مقطوعة لم تحذف الألف مع اللام ، ولا مع غيرها من حروف( [300] ) الجر في الخط نحو قولك : " لألواحك حُسْنٌ ، ولألواحِك بياض " ، وإنما ذلك ، لأن الألف في هذا ليست مع اللام للتعريف إذ اللام أصلية فجاز انفصالها من اللام الثانية مع اللام الأولى .

قوله : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ )[ 1 ] .

الرب( [301] ) المالك . فمعناه : مالك( [302] ) العالمين .

وقيل : الرب السيد( [303] ) .

وقيل : المصلح( [304] ) ، يقال : " رَبَّه يَرُبُّه رَبّاً " إذا أصلحه . ويقال على التكثير : رَبَّتَهُ ورَبَّاهُ ورَبَّبَهُ( [305] ) .

/فالذين يقولون : " رَبَّتَه " بالتاء ، أصله عندهم رَبَّبَهُ( [306] ) ثم أبدلوا( [307] ) من الباء الثالثة " ياء " ، كما يقال( [308] ) ، " تَقَضَّيْتُ " في " تَقَضَّضْتُ( [309] ) " ثم أبدلوا من الياء تاء . كما أبدلوا من الواو تاء في " تُراتِ " ، و " تُجاهٍ " ، و " تولج " وأصله " وولج( [310] ) " على " فوعل( [311] ) ، من " ولجت " . وبدل( [312] ) التاء من الياء قليل شاذ ، وهو في الواو كثير .

و( الْعَالَمِينَ ) جمع عالم . والعالم هو جميع الخلق الموجود في كل زمان . وروى عبد الوهاب بن مجاهد( [313] ) عن أبيه في قول الله :

( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) . قال : " العالمون ثمانية عشر ألف ملك في نواحي( [314] ) الأرض الأربع ، في كل ناحية أربعة آلاف ملك( [315] ) وخمسمائة( [316] ) ملك مع كل ملك منهم عدد الجن والإنس ، فبهم يدفع( [317] ) الله العذاب عن أهل الأرض " .