نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي

البقاعي القرن التاسع الهجري
Add Enterpreta Add Translation

page 2

الٓمٓ١

سورة البقرة[1]

مقصودها إقامة الدليل على { أن- [2] } الكتاب { هدى -[3] } ليتبع[4] في كل { ما - [5] } قال ، وأعظم ما يهدي إليه الإيمان بالغيب ، ومجمعه الإيمان بالآخرة ، فمداره[6] الإيمان بالبعث[7] الذي أعربت[8] عنه قصة البقرة { التي مدارها الإيمان بالغيب - [9] } فلذلك سميت بها السورة وكانت بذلك أحق من قصة إبراهيم عليه[10] الصلاة و[11]السلام لأنها في نوع البشر ومما تقدمها في قصة بني إسرائيل من الإحياء بعد الإماتة بالصعق[12] وكذلك ما شاكلها[13] ، لأن الإحياء في قصة البقرة عن سبب ضعيف في الظاهر بمباشرة من كان من آحاد الناس فهي أدل على القدرة ولا سيما وقد اتبعت بوصف القلوب[14] والحجارة[15] { بما عم- [16] } المهتدين بالكتاب والضالين فوصفها[17] بالقسوة الموجبة للشقوة[18] ووصفت[19] الحجارة[20] بالخشية الناشئة في الجملة عن التقوى[21] المانحة للمدد[22] المتعدى نفعه إلى عبادة الله ، وفيها[23] إشارة[24] إلى أن هذا الكتاب فينا كما لو كان فينا[25] خليفة من أولى العزم من الرسل يرشدنا في كل أمر إلى صواب المخرج منه[26] فمن أعرض خاب ، ومن تردد كاد ، ومن أجاب اتقى وأجاد .

وسميت بالزهراء[27] لإنارتها[28] طريق الهداية والكفاية في الدنيا والآخرة[29] ، و[30] لإيجابها إسفار الوجوه في يوم الجزاء لمن آمن بالغيب ولم يكن في شك مريب فيحال[31] بينه وبين ما يشتهي ، وبالسنام لأنه[32] ليس في الإيمان بالغيب بعد التوحيد الذي هو الأساس الذي ينبني[33] عليه كل خير والمنتهى[34] الذي هو غاية[35] السير والعالي[36] على كل غير بأعلى[37] ولا أجمع من الإيمان بالآخرة ، و[38]لأن السنام أعلى ما في بطن[39] المطية الحاملة والكتاب الذي هي سورته[40] هو أعلى ما في الحامل للأمر[41] : وهو الشرع الذي أتاهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم[42] .

" بسم الله " الذي نصب مع كونه باطنا دلائل الهدى حتى كان ظاهرا " الرحمان " الذي أفاض رحمته على سائر خلقه بعد الإيجاد ببيان الطريق ، " الرحيم " الذي خص أهل وده بالتوفيق[43] [44]

قال العلامة أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة لمفتاح الباب { المقفل-[378] } في معنى ما رواه عن ابن وهب من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل[379] القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف : زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال[380] فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا / ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا : آمنا به ، كل من عند ربنا – وهذا الحديث رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في مسنده وأبو يعلى الموصلى ومن طريقة ابن حبان في صحيحه ، كلهم من طريق ابن وهب[381] عن حيوة[382] عن عقيل ابن خالد عن سلمة ابن أبي سلمة ابن عبد الرحمان ابن عوف عن أبيه ابن مسعود رضي الله عنه – فذكره من غير ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقال العلامة الحافظ أبو شامة عبد الرحمان ابن إسماعيل الدمشقى { الشافعي -[383] } في كتابه " المرشد الوجيز[384] إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز " بعد أن ساق هذا الحديث من رواية سلمة ابن أبي سلمة ابن عبد الرحمان عن أبيه عن ابن مسعود[385] رضي الله عنه :قال أبو عمر ابن عبد البر : هذا حديث عند أهل الحديث لم يثبت ، وأبو سلمة لم يلق ابن مسعود ، وابنه سلمة ليس ممن يحتج به ، وهذا الحديث مجمع على ضعفه من جهة إسناده وقد رده قوم من أهل النظر منهم أحمد ابن أبي عمران فيما سمعه الطحاوي منه ، ويرويه الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أم سلمة { عن أبي سلمة- [386] } عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا[387] ، قال أبو شامة : وهكذا رواه البيهقي في كتاب المدخل وقال : هذا مرسل جيد ، أبو سلمة لم يدرك ابن مسعود ، ثم رواه موصولا وقال : فإن صح فمعنى قوله : سبعة أحرف ، أي سبعة أوجه ، وليس المراد به[388] اللغات التي أبيحت القراءة عليها وهذا المراد به الأنواع التي[389] نزل القرآن عليها والله اعلم[390] .

قلت[391] : عزاه شيخنا العلامة مقرئ زمانه شمس الدين محمد بن محمد بن[392]محمد بن[393] الجزرى[394] الدمشقي الشافعي في أوائل كتابه[395] " النشر في القراءات العشر " إلى الطبراني من حديث عمر ابن أبي سلمة المخزومي رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود رضي الله عنه : إن الكتب كانت تنزل من السماء من باب واحد وإن القرآن انزل من[396] سبعة أبواب على سبعة أحرف : حلال وحرام ومحكم ومتشابه وضرب أمثال و { أمر و -[397] } زاجر[398] ، فأحل حلاله وحرم حرامه وأعمل بمحكمه وقف عند متشابهه واعتبر أمثاله فإن كلا من عند الله وما يذكر إلا أولوا الألباب . ورواه الحافظ أبو بكر ابن أبي داود في " كتاب[399] المصاحف " من وجه آخر عن عبد الله قال : إن القرآن أنزل على نبيكم صلى الله عليه وسلم من سبعة أبواب على سبعة أحرف – أو : حروف – وإن الكتاب قبلكم كان ينزل – أو : نزل - من باب واحد على حرف واحد . ورواه البيهقي في فضل القرآن من الشعب عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : نزل القرآن على خمسة أوجه : حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال .

قال الحرالي : وفي حديث آخر من طريق ابن عمر رضي الله عنهما : إن الكتب كانت تنزل من باب واحد وإن هذا القرآن أنزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف ، وقال في معنى ذلك[400] ، اعلم أن القرآن منزل[401] عند انتهاء الخلق وكمال كل الأمر بدءا فكان[402] المتخلق به جامعا لانتهاء كل خلق وكمال كل أمر ، فلذلك هو صلى الله عليه وسلم قثم[403] الكون – وهو الجامع الكامل – { و -[404] } لذلك كان خاتما ، وكان كتابه[405] ختما ، وبدأ المعاد من حد ظهوره ، إنه هو يبدئ ويعيد ، فاستوفى[406] صلاح هذه[407] الجوامع الثلاث التي قد خلت في الأولين بداياتها وتمت عنده نهايتها[408] ، بعثت لأتمم مكارم الأخلاق –رواه أحمد عن معاذ رضي الله عنه رفعه ، وهي صلاح الدنيا والدين والمعاد التي جمعها في قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : اللهم أصلح لي ديني الذي[409] هو عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي إليها[410] معادي وفي كل صلاح إقدام وإحجام فتصير الثلاثة الجوامع ستة مفصلات هي حروف القرآن الستة التي لم يبرح يستزيدها[411] من ربه حرفا[412] حرفا ، فلما استوفى الستة وهبه[413] ربه حرفا جامعا سابعا فردا لا زوج له ، فتم إنزاله على سبعة أحرف .

فأدنى[414] تلك الحروف هو[415] حرف إصلاح[416] الدنيا ، فلها حرفان : أحدهما حرف الحرام الذي لا تصلح[417] النفس والبدن إلا بالتطهير[418] منه لبعده عن تقويمها[419] ، والثاني حرف الحلال الذي تصلح النفس والبدن عليه لموافقته لتقويمها ؛ وأصل هذين الحرفين في التوراة ، وتمامهما في القرآن .

ثم يلي[420] هذين حرفا صلاح المعاد : أحدهما حرف الزجر والنهي التي لا تصلح الآخرة إلا بالتطهير منه لبعده عن حسناها ، والثاني حرف الأمر الذي تصلح الآخرة عليه لتقاضيه بحسناها[421] ، وقد يتضرر على ذلك حال الدنيا ، لأنه يأتي على كثير من حلالها لوجوب إيثار[422] الآخرة لبقائها وكليتها على الدنيا لفنائها وجزئيتها لكون خير الدنيا جزءا من مائة[423] وشر الدنيا جزءا من سبعين { جزءا -[424] } ولا يؤثر[425]هذا الجزء الأدنى لحضوره على ذلك الكل الأنهى لغيابه إلا من سفه نفسه وضعف إيمانه فتخلص المرء[426] من حرف الحرام طهره وتخلصه من النهي طيبه ؛ وأصل هذين الحرفين في الإنجيل وتمامهما في القرآن .

ثم يلى[427] هذين حرفا صلاح الدين : أحدهما حرف المحكم الذي بان للعبد فيه خطاب ربه من جهة أحوال قلبه وأخلاق نفسه وأعمال بدنه فيما بينه وبين ربه من غير التفات لغرض النفس في عاجل الدنيا ولا آجلها ، والثاني حرف المتشابه الذي لا يتبين للعبد فيه خطاب ربه من جهة قصور عقله عن إدراكه ووجوب تسبيح ربه عن تمثل[428] عبده إلى أن يؤيده الله بتأييده . والحروف الخمسة للاستعمال وهذا الحرف السادس للوقوف ليكون العبد قد وقف لله بقلبه عن حرف كما قد كان أقدم لله على تلك الحروف ، ولينسخ بعجزه[429] وإيمانه عند هذا الحرف السادس انتهاء ما تقدم من طوقه[430]/[431] وعلمه[432] في تلك الحروف ابتداء ؛ وأصل هذين الحرفين في الكتب المتقدمة كلها وتمامها[433]في القرآن .

فهذه الحروف الستة يشترك فيها القرآن مع سائر الكتب ويزيد عليها تمامها وبركة جمعها ، ويختص القرآن بالحرف السابع الجامع مبين المثل الأعلى ومظهر الممثول الأعظم حرف الحمد الخاص بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو حرف المثل ، وعن جمعه وكمال جمعه لمحمد[434] صلى الله عليه وسلم في قلبه وقراءته على لسانه وبيانه في ذاته ظهرت عليه خواص خلقه الكريم وخلقه العظيم ، ولا ينال إلا موهبة من الله تعالى لعبده بلا واسطة ، والستة[435] تتنزل بتوسطات من استواء الطبع وصفاء العقل بمثابة وحي النبي وإلهام الولي .

ولما كان حرف الحمد هو سابعها الجامع افتتح الله به[436] سبحانه وتعالى الفاتحة أم القرآن وأم الكتاب وجمع فيها جوامع الحروف السبعة التي بثها في القرآن كما جمع في القرآن ما بث في جميع الكتب المتقدمة ، كفضة[437] ثقلت على مريد[438] السفر { فابتاع بها ذهبا فذلك مثل القرآن ثم ثقل عليه الذهب -[439] } فابتاع به جوهرا ، فذلك مثل أم القرآن فأذن كمال الحروف { التي انزل عليها القرآن-[440] } موجودة في جوامع أم القرآن ، فالآية الأولى تشتمل على حرف الحمد السابع ، والثانية تشتمل على حرفي الحلال والحرام اللذين أقامت الرحمانية بهما[441] الدنيا ، يريد -[442] والله سبحانه وتعالى أعلم[443] - أن الرحمانية وسعت على العباد الاستمتاع بالمخلوق من النعم والخيرات الموافقة لطباعهم وأمزجتهم وقبول نفوسهم في جميع جهات الاستمتاع فكان في ذلك رحمتان : رحمة بالإباحة وهي إزالة حرج الحظر ، ورحمة يمنع لحاق حرج الإثم أو يجعل المباح شهيا للطبع ، وأما الرحيمية فطهرتهم من مضار أبدانهم ورجاسة نفوسهم ومجهلة قلوبهم ، ففي ذلك رحمة واحدة وهي حمية المحبوب عن المضار[444] من المحبوب أو يريد – وهو والله تعالى[445] أعلم أقرب[446] - أن الرحمانية أقامت بعمومها[447] كل ما[448] شملته الربوبية من إفاضة النعم وإزاحة النقم على وجه مسعد أو مشق ، والرحيمية أقامت بخصوصها كما تقدم بما ترضاه الإلهية إدرار النعم ودفع النقم على الوجه المسعد خاصة – انتهى .

والآية الثالثة تشتمل على أمر الملك القيم على حرفي الأمر والنهي اللذين يبدو أمرهما في الدين ، والرابعة تشتمل على حرفي المحكم في قوله " إياك نعبد " والمتشابه في قوله : " وإياك نستعين " ولما كانت بناء[449] خطاب محاضرة لم تردد[450] مسألتها في السورة فانفرد هذان[451] الحرفان عن الدعاء فيهما ، وعادت مسألة الآية الخامسة على حرف الحمد ومسألة الآية السادسة على آية النعمة من حرفي الحلال والحرام ومسألة الآية السابعة على آية[452] الملك من حرفي الأمر والنهي فجمعت الفاتحة جوامع / الحروف السبعة .

ولما ابتدئت[453] الفاتحة[454] أم القرآن بالسابع[455] الجامع الموهوب[456] ابتدئ[457] القرآن بالحرف السادس[458] المعجوز عنه وهو حرف المتشابه ، لأنه[459] عن إظهار العجز ومحض الإيمان كانت الهبة[460] والتأييد[461] ، وليكون العبد يفتتح القرآن بالإيمان بغيب[462] متشابه في قوله " الم " فيكون أتم انقيادا لما دونه وبريئا من الدعوى في مستطاعه في سائر الحروف ؛ ثم ولى السادس المفتتح به القرآن الخامس المحكم من وجه في قوله سبحانه و[463] تعالى " ويقيمون الصلاة[464] ومما رزقناهم ينفقون " لأن من عمل بها من قلبه شعبة إيمان وعلم كانت له من المحكم ، ومن عمل بها ائتمارا وإلجاء ولم يدخل الإيمان في قلبه كانت له حرف أمر " وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا[465] " .

وهذا إنما وقع ترتيبه هكذا في القرآن المتلو[466] وأما تنزيله في ترتيب البيان فإن أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم هو حرف المحكم وهو قوله[467] سبحانه و[468] تعالى " اقرأ باسم ربك الذي خلق " .

" خلق الإنسان من علق " اقرأ وربك الأكرم[469] " الآيات الخمس[470] وأول ما أنزل إلى الأمة في ترتيب البيان هو من حرف الزجر والنهي وهو قوله سبحانه و[471] تعالى " يا أيها المدثر " قم فأنذر[472] " [473] { أي - [474] } " نذير لكم بين يدي عذاب شديد[475] " أعلمهم بما[476] تخاف[477] عاقبته[478] في الآخرة وإن كانوا قد اتخذوا في الدنيا مودة بأوثانهم وقال تعالى[479] " إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض[480] " الآية ، فابتدأ[481] سبحانه و[482] تعالى ترتيل الأمة بإصلاح المعاد الأهم لأن عليه يصلح[483] أمر الدنيا من استقل بآخرته كفاه الله أمر دنياه ؛ وبدأ منها بحرف الزجر والنهي وهو المبدوء به في الحديث وردد النبي صلى الله عليه وسلم لفظ الزجر بلفظ النهي لأن المقصود بهما واحد وهو الردع عما يضر في المعاد ، إلا أن الردع على وجهين : خطاب لمعرض ويسمى زجرا كما يسمى في حق البهائم ، وخطاب لمقبل على التفهم ويسمى نهيا ؛ فكأن الزجر يزيغ[484] الطبع والنهي يزيغ[485] العقل – انتهى . وقد بان[486] من هذا سر افتتاح البقرة بالحروف المقطعة .

ولما كان الذي ابتدئت به السورة[487] من ذلك شطر حروف المعجم كان كأنه قيل من زعم أن القرآن ليس كلام الله فليأخذ الشطر الآخر ويركب عليه كلاما يعارضه به ، نقل ذلك الزركشي في البرهان عن القاضي أبي بكر قال : وقد علم ذلك بعض أرباب الحقائق ، وجمعها .

الزركشي في قوله : نص حكيم قاطع له سر وعن أبي بكر رضي الله عنه[488] : في كل كتاب { سر -[489] } وسر الله في القرآن أوائل السور وعن علي[490] رضي الله تعالى عنه[491] وكرم وجهه[492] : إن[493] لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي .

ولما كانت حروف المعجم تسعة[494] وعشرين حرفا بالهمزة { و -[495] } كان أحد[496] شطرها على التحرير متعذرا فقسمت خمسة عشر وأربعة عشر ، وأخذ[497] الأقل من باب الأنصاف وفرق في[498] / تسع[499] وعشرين سورة على عدد الحروف[500] ، وتحدى به على هذا الوجه ، وأبدى الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية الدمشقي[501] الحنبلي في كتاب له كالتذكرة سماه " بدائع الفرائد[502] " سرا غريبا في ابتداء القرآن بقوله " الم " حاصله أن حروفه الثلاثة جمعت[503] المخارج الثلاثة : الحلق واللسان والشفتان[504] - على ترتيبها ، وذلك[505] إشارة إلى البداية التي هي بدء الخلق والنهاية التي [506] هي المعاد والوسط الذي هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي ؛ وفي ذلك تنبيه على أن هذا الكتاب الذي ركب من هذه الحروف التي لا تعدو المخارج الثلاثة التي بها يخاطب جميع الأمم جامع لما يصلحكم من أحوال بدء الخلق وإعادته وما بين ذلك ، وكل سورة افتتحت بهذه الحروف ذكرت فيها الأحوال الثلاثة .

وقال الحرالي في تفسيره : " ألف " اسم للقائم الأعلى المحيط ثم لكل مستخلف في القيام كآدم والكعبة " ميم " اسم للظاهر الأعلى الذي من أظهره مالك يوم الدين ، واسم للظاهر الكامل المؤتى جوامع الكلم[507] محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم لكل ظاهر دون ذلك كالسماء والفلك والأرض ، " لام " اسم لما بين باطن الإلهية التي هي محار العقول[508] وظاهر الملك الذي هو متجلى يوم الجزاء من مقتضى الأسماء الحسنى والصفات العلى التي هي وصل تنزل ما بينهما كاللطيف ونحوه ، ثم للوصل الذي[509] كالملائكة وما تتولاه[510] من أمر الملكوت . وهذه الألفاظ عند انعجام[511] معناها تسمى حروفا ، والحرف طرف الشيء الذي لا يؤخذ منفردا وطرف القول الذي لا يفهم وحده ، وأحق ما تسمى[512] حروفا إذا نظر إلى صورها و[513] وقوعها أجزاء من الكلم ولم تفهم لها دلالة فتضاف إلى مثلها جزء من كلمة مفهومة تسمى[514] عند ذلك حروفا وعند النطق بها هكذا ألف لام ميم { فينبغي أن يقال فيها أسماء وإن كانت غير معلومة الدلالة كحروف ألف باء تاء -[515] } فإنها كلها أسماء على ما فهمه الخليل وإنها إنما تسمى حروفا عند ما تكون أجزاء كلمة محركة للابتداء أو مسكنة للوقف والانتهاء[516] .

وأما حقيقتها فهي جوامع[517] أصلها في ذكر أول من كلام الله تعالى فنزلت إلى الكلم العربية وترجمت بها ونظم منها هذا القرآن العربي المبين ، فهي في الكتب العلوية الملكوتية المترتبة في الجمع والتفصيل آية وكلم[518] وذات كتاب فلما نزلت إلى غاية مفصل القرآن أبقيت[519] في افتتاحه لتكون علما على نقله للتفصيل من ذلك الكتاب ، ولأنها أتم وأوجز في الدلالة على الجمع من المفصل منها ودلالتها جامعة للوجود كله من أبطن قيمه إلى أظهره وأظهر مقامه وما بينهما من الوصلة { و -[520] } الواصلة وهي جامعة الدلالة على الكون المرئي للعين[521] بالعين والوحي المسموع ، ولأجل ما اقتضته من الجمع لم تنزل في كتاب متقدم لأن كتاب كل وقت مطابق بحال الكون فيه والكون كان بعد لم يكمل فكانت كتبه وصحفه بحسبه . ولما كمل الكون في وقت سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان كتابه كاملا[522] جامعا فوجب ظهور هذه الجوامع فيه[523] ليطابق الختم البدء ، لأنهما طرفا كمال وما بينهما تدرج[524] إليه ، وقد كان وعد بإنزالها في بعض تلك الكتب فكان نزولها نجازا[525] لذلك - انتهى[526] .

وأما مناسبة ما بعد ذلك[527] للفاتحة[528] فهو أنه لما أخبر سبحانه[529] وتعالى[530] أن عباده المخلصين سألوا في الفاتحة هداية الصراط المستقيم الذي هو { غير- [531] } طريق الهالكين أرشدهم في أول التي تليها[532] إلى أن الهدى المسؤول إنما هو في { هذا -[533] } الكتاب ، وبين لهم صفات الفريقين الممنوحين بالهداية حثا على التخلق بها والممنوعين منها زجرا عن قربها فكان / ذلك من أعظم المناسبات لتعقيب الفاتحة بالبقرة ، لأنها سيقت لنفي الريب عن هذا الكتاب ولأنه هدى للمتقين ، ولوصف المتقين وما يجازون به بما[534] في الآيات الثلاث ولوصف الكافرين الذين لا يؤمنون لما وقع من الختم على حواسهم والحتم[535] لعقابهم ليعلم أن ما اتصف به المتقون هو الصراط المستقيم فيلزم وما اتصف به من عداهم[536] هو طريق الهالكين فيترك ، وفي الوصف بالتقوى بعد ذكر المغضوب عليهم و[537] الضالين إشارة إلى أن المقام مقام الخوف .

وإن شئت قلت : مقصود[538] هذه السورة وصف الكتاب فقط[539] وما عدا ذلك فتوابع ولوازم ولن يثبت أنه هدى إلا بإثبات أنه حق[540] معنى ونظما ، ولما كان المعنى أهم قدم الاستدلال عليه فأخبر من تماديهم على الكفر بما يكون تكذيبهم به تصديقا له ، واتبع ذلك بذكر المنافقين إعلاما بأن المنفى الإيمان[541] بالقلب وأنه لا عبرة باللسان إذا تجرد عنه ، وساق ذلك على وجه يعلمون به أنه الحق بما هتك من سرائرهم وكشف من ضمائرهم ، فلما تم ذلك وكان المقصود منه الدعاء إلى الله انتهزت تلك الفرصة بقوله تعالى " يا أيها الناس اعبدوا ربكم " لما أسس لها من الترغيب بالترهيب ، ثم أقيم الدليل على حقية نظمه بتقصيرهم عن مدى سهمه ، فرجع حاصل ذلك إلى إثباته بعجزهم عن معارضته في معناه بإيجاد ما أخبر بنفيه وفي نظمه بالإتيان بمثله ، فلما ثبت ذلك ثبت أنه من عند الله فثبت تأهله لتعليم الشرائع فجعلها ضمن مجادلة أهل الكتاب بما يعلمون حقيته[542] بلا ارتياب من الدعاء إلى ما أخفوه من الدعائم الخمس التي بنى عليها الإسلام .

ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ٢

ولما كان معنى { الم } هذا كتاب[543] من جنس حروفكم التي قد فقتم[544] في التكلم[545] بها سائر الخلق فما عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله إلا لأنه كلام الله أنتج ذلك كماله ، فأشير إليه بأداة البعد ولام الكمال[546] في قوله[547] { ذلك الكتاب } لعلو مقداره بجلالة آثاره وبعد رتبته عن نيل المطرودين . ولما علم كماله أشار إلى تعظيمه بالتصريح بما ينتجه ويستلزمه ذلك التعظيم فقال { لا ريب فيه } أي في شيء من[548] معناه ولا نظمه في نفس الأمر عند من تحقق بالنظر[549] فالمنفي[550] كونه متعلقاً للريب ومظنة له ، ولم يقدم الظرف لأنه كان يفيد الاختصاص فيفهم أن غيره[551] من الكتب[552] محل الريب .

قال الحرالي : " ذا " اسم مدلوله المشار إليه ، واللام مدلوله معها بُعدمّا { الكتاب } من الكتب وهو وصل الشيء المنفصل بوصلة خفية من أصله كالخرز[553] في الجلد بقد منه والخياطة في الثوب بشيء من جنسه ليكون أقرب لصورة اتصاله الأول ، فسمي به ما ألزمه الناس من الأحكام وما أثبت بالرقوم من الكلام { لا } لنفي ما هو ممتنع مطلقاً أو في وقت " الريب " التردد بين موقعي تهمة بحيث يمتنع من الطمأنينة على كل واحد منهما . انتهى . وأصله قلق النفس واضطرابها[554] ، ومنه ريب[555] الزمان لنوائبه المقلقة ، ولما كان ذلك يستلزم الهدى قال : { هدى } وخص المنتفعين[556] لأن الألد[557] لا دواء له والمتعنت[558] لا يرده شيء فقال : { للمتقين } أي الذين جبلوا في أصل الخلقة على التقوى ؛ فافهم ذلك أن غيرهم لا يهتدي به بل يرتاب وإن كان ليس موضعاً للريب أصلاً[559] .

قال الحرالي : جمع المتقي وهو المتوقف عن الإقدام على كل أمر لشعوره بتقصيره عن الاستبداد وعلمه[560] بأنه غير مستغن بنفسه فهو متق لوصفه وحسن فطرته والمتقى[561] كذا متوقف لأجل ذلك ، والتقوى[562] أصل يتقدم[563] الهدى وكل عبادة ، لأنها فطرة توقف تستحق الهدى وكل خير وهي وصية الله لأهل الكتاب[564] . انتهى .

ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ٣

ثم وصفهم بمجامع الأعمال تعريفاً لهم فقال :{ الذين يؤمنون بالغيب } أي الأمر الغائب الذي[565] لا نافع في الإيمان غيره ، وعبر بالمصدر[566] للمبالغة . { ويقيمون الصلاة } أي التي هي حضرة المراقبة وأفضل أعمال البدن بالمحافظة عليها وبحفظها في ذاتها وجميع أحوالها[567] . ولما ذكر[568] وصلة الخلق بالخالق وكانت النفقة مع أنها من أعظم دعائم الدين صلة بين الخلائق أتبعها بها فقال مقدماً للجار ناهياً عن الإسراف ومنبهاً بالتبعيض على طيب النفقة لأن الله[569] طيب لا يقبل إلا طيباً وآمراً بالورع وزاجراً عما فيه شبهة [ لأن الرزق يشمل الحلال والحرام والمشتبه[570] ] { ومما رزقناهم } أي مكناهم من الانتفاع به على عظمة خزائننا وهو لنا دونهم { ينفقون } أي في مرضاتنا مما يلزمهم من الزكاة والحج والغزو وغيرها ومما يتطوعون به من الصدقات وغيرها ، والمراد بهذه الأفعال هنا إيجاد حقائقها على الدوام[571] .

قال أبو حيان وغيره في قوله تعالى في سورة الحج

{ إن الذين كفروا ويصدون[572] }[ الحج : 25 ] المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار . انتهى . وهذا مما لا محيد عنه وإلا لم يشملْ[573] هذا في هذه السورة المدنية من تخلق به قبل الهجرة [574]وقوله[575] تعالى

{ فلم تقتلون أنبياء الله من قبل[576] }[ البقرة :91 ] قاطع في ذلك .

وقال الحرالي : { يؤمنون } ، من الإيمان وهو مصدر آمنه يؤمنه إيمانا إذا آمن من ينبهه على أمر ليس عنده أن يكذبه أو يرتاب فيه ، و " الغيب " ما غاب عن الحس ولم يكن عليه علم يهتدي[577] به العقل[578] فيحصل به العلم[579] ؛ وصيغة { يؤمنون } و { يقيمون } تقتضي الدوام على الختم ، وإدامة العمل إلى الختم تقتضي ظهوره عن فطرة أو جبلة وأنه ليس عن تعمل ومراءاة ، وعند ذلك يكون علما على الجزاء ؛ و { الصلاة } الإقبال بالكلية على أمر ، فتكون من الأعلى عطفاً شاملاً ، ومن الأدنى وفاء بأنحاء التذلل[580] والإقبال بالكلية على التلقي ، وإيمانهم بالغيب قبولهم من النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقاه بالوحي من أمر غائب الدنيا الذي هو الآخرة وما فيها وأمر غائب الملكوت وما فيه إلى غيب الجبروت وما به بحيث يكون عملهم على الغائب الذي تلقته قلوبهم على سبيل آذانهم كعملهم على ما تلقته أنفسهم على سبيل أعينهم وسائر حواسهم وداموا على عملهم ذلك على حكم إيمانهم إلى الخاتمة .

ولما كانت الصلاة التزام عهد العبادة مبنياً على تقدم الشهادة متممة بجماع[581] الذكر وأنواع التحيات لله من القيام له تعالى والركوع له[582] والسجود الذي هو أعلاها والسلام بالقول الذي هو أدنى التحيات كانت لذلك تعهداً للإيمان وتكراراً ، ولذلك[583] من لم يدم الصلاة ضعف إيمانه وران عليه كفر فلا إيمان لمن لا صلاة له ، والتقوى وحد[584]ه أصل[585] والإيمان[586] فالصلاة ثمرته ، والإنفاق خلافة ولذلك البخل عزل عن خلافة الله

{ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه[587] }[ الحديد :7 ] وهذا الأمر بتمامه هو الذي جعلت الخلافة لآدم به إلى ما وراء ذلك من كمال أمر الله الذي أكمله بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فالتقوى قلب باطن ، والإنفاق وجه ظاهر ، والإيمان فالصلاة وصلة بينهما . ووجه ترتب الإيمان بالغيب على التقوى أن المتقي[588] لما كان متوقفاً غير متمسك بأمر كان إذا أرشد إلى غيب لا يعلمه لم يدفعه بمقتضى ما تقدم له علمه ؛ ووجه ترتب الإنفاق على الإيمان بالغيب أن المدد غيب ، لأن الإنسان لما كان لا يطلع على جميع رزقه كان رزقه غيباً ، فإذا أيقن بالخلف جاد بالعطية ، فمتى أمد بالأرزاق تمت خلافته وعظم فيها سلطانه وانفتح له باب إمداد برزق أعلى وأكمل من الأول .

فاذا أحسن الخلافة فيه بالإنفاق منه أيضاً انفتح له باب إلى أعلى إلى أن ينتهي إلى حيث ليس[589] وراءه مرأى[590] وذلك هو الكمال المحمدي ، وإن بخل فلم ينفق واستغنى بما عنده فلم يتق فكذب تضاءل أمر خلافته وانقطع عنه المدد من الأعلى ؛ فبِحَقٍّ سمي الإنفاق زكاة[591] ؛ وفي أول الشورى كلام في الإيمان عن علي رضي الله عنه نفيس . انتهى[592] .

وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ٤

ولما وصفهم بالإيمان جملة أشار[593] إلى بعض تفصيله على وجه يدخل فيه[594] أهل الكتاب دخولاً أولياً فقال :

{ والذين يؤمنون } أي يوجدون هذا الوصف بعد سماعهم للدعوة إيجاداً مستمراً { بما أنزل اليك } أي من القرآن والسنة سواء كان قد وجد أو سيوجد ؛ { وما أنزل من قبلك } أي على الأنبياء الماضين ، ولما كان الإيمان بالبعث[595] من الدين بمكان عظيم جداً[596] بينه بالتقديم إظهاراً لمزيد الاهتمام فقال : { وبالآخرة } أي التي هي دار الجزاء ومحل التجلي وكشف الغطاء ونتيجة الأمر . قال الحرالي : الآخرة معاد الأمر بعد تمامه على أوليته . انتهى . ولما تقدم من الاهتمام عبر بالإيقان وأتى بضمير الفصل فقال[597] : { هم يوقنون } لأن ذلك قائد إلى كل خير وذائد عن كل ضير ، والإيقان كما قال الحرالي صفاء العلم وسلامته من شوائب الريب ونحوه ، من يقن الماء وهو ما نزل من السماء فانحدر إلى كهف جبل فلم يتغير من قرار ولا وارد . انتهى . فهو[598] يكون بعد شك ولذا[599] لا يوصف[600] به الله[601] . والوصف[602] بهده الأوصاف كما ترى إشارة إلى أمهات الأعمال البدنية والماليه من الأفعال[603] والتروك ، فالإيمان أساس الأمر والصلاة مشار بها إلى التحلي[604] بكل خير والتخلي[605] عن كل شر

{ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر[606] }[ العنكبوت : 45 ] وكلاهما من أعمال البدن ، والنفقه عمل مالي ، فحصل بذلك[607] حصر الفعل والترك الضابطين لجميع الأعمال كيف ما تشعبت ، وصرح بالفعل وأومى إلى الترك إيماء لا يفهمه[608] إلا البصراء تسهيلاً على السالكين ، لأن الفعل من حيث هو ولو[609] كان صعباً أيسر على النفس من الكف عما تشتهي . وفي وصفهم أيضاً بالإيمان بما أنزل إليه وإلى من قبله من التقريع والتبكيت لمن سواهم ما ستراه في الآيات الآتيه .

أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ٥

ولما أخبر عن أفعالهم الظاهرة والباطنة أخبر بثمرتها[18] فقال :{ أولئك } أي الموصوفون بتلك الصفات الظاهرات ، ولما تضمن ما مضى أن إيمانهم كان عن أعظم استدلال فأثمر لهم التمسك بأوثق العرى من الأعمال استحقوا[610] الوصف بالاستعلاء الذي معناه التمكن فقال : { على هدى } أي عظيم ، وزاد في تعظيمه بقوله : { من ربهم } أي المحسن إليهم بتمكينهم منه ولزومهم له تمكين من علا[611] على الشيء ، ولما لم يلازم الهدى الفلاح عطف عليه[612] قوله مشيراً بالعاطف إلى مزيد تمكنهم في كل من الوصفين { وأولئك } [613]أي العالو الرتبة[614] { هم } [615]أي خاصة[616] { المفلحون } أي الكاملون في هذا الوصف الذين انفتحت لهم وجوه الظفر ، والتركيب دال على معنى الشق والفتح وكذا أخواته من الفاء والعين نحو فلج بالجيم وفلق وفلذ وفلى .

قال الحرالي : وخرج الخطاب في هذه الآية مخرج المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ومخرج إحضار المؤمنين بموضع الإشارة وهي مكانة حضرة دون مكانة حضرة المخاطب . انتهى . وكونها للبعد إعلام بعلو مقامهم . والفلاح[617] الفوز والظفر بكل مراد ونوال البقاء الدائم في الخير .

page 3

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ٦

ولما أردف البيان لأوصاف المؤمنين التعريف بأحوال الكافرين وكانوا قد انقسموا على[618] مصارحين ومنافقين[619] وكان المنافقون قسمين جهالاً من مشركي العرب وعلماء من كفار بني إسرائيل كان الأنسب ليفرغ من قسم برأسه على عجل البداءة أولاً بالمصارحين فذكر ما أراد من أمرهم في آيتين ، لأن أمرهم أهون وشأنهم أيسر لقصدهم بما يوهنهم بالكلام أو بالسيف على أن ذكرهم على وجه يعم جميع الأقسام[620] فقال مخاطباً[621] لأعظم المنعم[622] عليهم على وجه التسلية والإعجاز في معرض الجواب لسؤال من كأنه قال[623] : هذا حال الكتاب للمؤمنين فما حاله للكافرين ؟ { إن الذين كفروا } أي حكم ، بكفرهم دائماً[624] حكماً نفذ ومضى فستروا[625] ما أقيم من الأدلة على الوحدانية عن العقول التى هيئت لإدراكه والفطر الأولى التي خلصت عن مانع يعوقها عن الانقياد له وداموا على ذلك بما دل عليه السياق بالتعبير عن أضدادهم بما يدل على تجديد الإيمان على الدوام واللحاق بالختم[626] والعذاب ، ولعله عبر بالماضي والموضع للوصف تنفيراً من مجرد إيقاع الكفر ولو للنعمة وليشمل[627] المنافقين وغيرهم .

ولما دل هذا الحال على أنهم عملوا ضد ما عمله المؤمنون من الانقياد كان المعنى[628] { سواء عليهم أأنذرتهم } أي إنذارك[629] في هذا الوقت بهذا الكتاب[630] { أم لم تنذرهم } أي وعدم إنذارك[631] فيه و[632]بعده وقد انسلخ عن أم والهمزة معنى الاستفهام ، قال سيبويه : جرى هذا على حرف[633] الاستفهام كما جرى على حرف[634] النداء[635] في قولك : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة . انتهى . ولعله عبر بصورة الاستفهام وقد سلخت عن معناه إفهاماً لأنهم توغلوا في الكفر توغل من وصل في الحمق إلى أنه لو شاهد[636] الملك يستفهمك عنه ما آمن .

ولما كان كأنه قيل في أي شيء استوت حالتاهم[637] قيل في أنهم { لا يؤمنون } وهي دليل على خصوص كونه هدى للمتقين[638] وعلى وقوع التكليف بالممتنع لغيره فإنه سبحانه كلفهم الإيمان وأراد منهم الكفران ، فصار ممتنعاً لإرادته عدم وقوعه ، والتكليف به جار على سنن الحكمة فإن إرادة عدم إيمانهم لم تخرج إيمانهم عن حيز الممكن فيما يظهر ، لعدم العلم بما أراد الله من كل شخص بعينه ، فهو على سنن الابتلاء ليظهر في عالم الشهادة المطيع من غيره لإقامة الحجة ؛ ويأتي في الصّافّات عند

{ افعل ما تؤمر[639] }[ الصافات : 102 ] تتمة لهذا[640] .

قال الحرالي : فحصل بمجموع قوله : { سواء عليهم } إلى آخره وبقوله : { لا يؤمنون } خبر تام عن سابقة أمرهم ولاحقة كونهم ، فتم بالكلامين الخبر عنهم خبراً واحداً ملتئماً كتباً سابقاً وكوناً لاحقاً . انتهى . وكل موضع ذكر فيه الكفر فإنما عبر به إشارة إلى أن الأدلة الأصلية في الوضوح بحيث لا تخفى[641] على أحد ولا يخالفها إلا من ستر مرآة عقله إما عناداً وإما بإهمال النظر السديد والركون إلى نوع تقليد .

خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ٧

ولما كان من أعجب العجب كون شيء واحد يكون هدى لناس دون ناس علل ذلك بقوله : { ختم الله } أي بجلاله { على قلوبهم } أي ختماً مستعلياً عليها فهي لا تعي حق الوعي[642] ، لأن الختم على الشيء يمنع الدخول إليه والخروج منه[643] ، وأكد المعنى بإعادة الجار فقال : { وعلى سمعهم } [644]فهم لا[645] يسمعون حق السمع ، وأفرده لأن التفاوت فيه نادر ، قال الحرالي : وشرّكه في الختم مع القلب لأن أحداً لا يسمع إلا ما عقل . انتهى . { وعلى أبصارهم غشاوة } فهم لا ينظرون بالتأمل .

ولما سوى هنا بين الإنذار وعدمه كانت البداءة بالقلوب أنسب تسوية لهم بالبهائم ، ولما كان الغبي قد يسمع أو يبصر فيهتدي وكان إلى السمع أضر[646] لعمومه وخصوص البصر بأحوال الضياء نفى السمع ثم البصر تسفيلاً لهم عن حال البهائم ، بخلاف ما في الجاثية فإنه لما أخبر فيها بالإضلال وكان الضال أحوج شيء إلى سماع الهادي نفاه ، ولما كان الأصم ، إذا كان ذا فهم أو بصر أمكنت هدايته وكان الفهم أشرف نفاهما على ذلك الترتيب .

ولما وصفهم بذلك أخبر بمآلهم[647] فقال : { ولهم عذاب عظيم } قال الحرالي : وفي قوله : { ولهم } إعلام[648] بقوة تداعي[649] حالهم لذلك العذاب واستحقاقهم له وتنشؤ ذواتهم إليه حتى يشهد[650] عيان المعرفة به -[651] أي العذاب[652] - وبهم أنه لهم وكان عذابهم عظيماً آخذاً في عموم ذواتهم لكونهم لم تلتبس[653] أبدانهم ولا نفوسهم ولا أرواحهم بما يصد عنهم شيئاً من عذابها كما يكون للمعاقبين من مذنبي مؤمني[654] الأمم حيث يتنكب العذاب عن وجوههم ومواضع وضوئهم ونحو ذلك . انتهى . وسيأتى عند قوله تعالى :

{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً[655] }[ البقرة : 165 ] ما يلتفت إلى هنا[656] .

قال الحرالي : " الكفر " تغطية ما حقه الإظهار ، و " الإنذار[657] " الإعلام بما يحذر ، و " الختم " إخفاء خبر الشيء بجمع أطرافه عليه على وجه يتحفظ به و " القلب " مبدأ[658] كيان الشيء من غيب قوامه ، فيكون تغير كونه بحسب تقلب قلبه في الانتهاء ويكون تطوره وتكامله بحسب مدده في الابتداء والنماء ، والقلب من الإنسان بمنزلة السكان من السفينة بحسب تقلبه يتصرف سائره ، وبوضعه للتقلب والتقليب سمي قلباً ، وللطيف معناه في ذلك كان أكثر[659] قسمه صلى الله عليه وسلم بمقلب القلوب ، " والغشاوة " غطاء مجلل لا يبدو[660] معه من المغطى شيء و " العذاب[661] " إيلام لا إجهاز فيه ، و " العظيم " الآخذ في الجهات كلها .

انتهى . وفي تعقيب ذكر المؤمنين بذكر المختوم على مداركهم المختوم بمهالكهم تعظيم للنعمة على من استجاب له . إذ قال " اهدنا " فهداه ، وإعلام بأن الهدى ليس إلا بيده ليلحّوا في الطلب ويبرؤوا من ادعاء حول أو قوة .

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ٨

ولما افتتح سبحانه بالذين واطأت قلوبهم ألسنتهم في الإيمان وثنى بالمجاهرين من الكافرين[662] الذين طابق إعلانهم إسرارهم في الكفران اتبعه ذكر المساترين الذين خالفت ألسنتهم قلوبهم في الإذعان وهم المنافقون ، وأمرهم أشد لإشكال أحوالهم والتباس أقوالهم وأفعالهم ، فأضر الأعداء من يريك الصداقة فيأخذك من المأمن ؛ وما أحسن ما ينسب إلى الإمام أبي سليمان الخطابي في المعنى :

تحرّز من الجهال جهدك أنهم *** وإن أظهروا فيك المودة أعداء[663]

وإن كان فيهم من يسرك فعله *** فكل لذيذ الطعم أوجله داء

لا جرم ثنى سبحانه بإظهار أسرارهم وهتك أستارهم في سياق شامل لقسميهم ، فقبح أمورهم ووهّى مقاصدهم وضرب لهم الأمثال وبسط لهم بعض البسط في المقال فقال تعالى : { ومن الناس[664] } أي لما أرسلنا رسولنا انقسم الناس قسمين : مؤمن وكافر ، وانقسم الكافر قسمين : فمنهم من جاهر وقال : لا نؤمن أبداً ، ومنهم من يقول ، ولعله أظهر ولم يضمر لانفرادهم عن المجاهرين ببعض الأحكام ، أو لأنه سبحانه لما ذكر طرفي الإيمان والكفر وأحوال المؤمنين وأحوال الذين كفروا ذكر المنافقين المترددين بين الاتصاف بالطرفين بلفظ الناس لظهور معنى النوس فيهم لاضطرابهم بين الحالين ، لأن النوس هو حركة الشيء اللطيف المعلق في الهواء كالخيط المعلق الذي ليس في طرفه الأسفل ما يثقله[665] فلا يزال مضطرباً[666] بين جهتين ، ولم يظهر هذا المعنى في الفريقين لتحيزهم إلى جهة واحدة . قاله الحرالي ، وعرف للجنس[667] أو للعهد في الذين كفروا لأنهم نوع منهم ، وسر الإظهار موضع الإضمار على هذا ما تقدم ، { آمنا بالله } أي وحده بما[668] له من الجلال والجمال مستحضرين لذلك ، ولما كانوا متهمين أكدوا بإعادة الجار فقالوا : { وباليوم الآخر } الذي جحده المجاهرون ، { وما هم بمؤمنين } أي بعريقين في الإيمان كما ادعوه بذكر الاسم الأعظم وإعادة الجار ، ولعله نفى العراقة فقط لأن منهم من كان مُزَلزلاً حين هذا القول غير جازم بالكفر وآمن بعد ذلك ، وحذف متعلق الإيمان تعميماً في السلب عنهم لما ذكروا وغيره ، وجمع هنا وأفرد في [ يقول ] تنبيهاً على عموم الكفر لهم كالأولين وقلة من يسمح[669] منهم بهذا القول إشارة إلى غلظتهم وشدة عثاوتهم[670] في الكفر وقوتهم .

وفي ذكر قصتهم وتقبيح أحوالهم تنبيه على وجوب الإخلاص وحث على الاجتهاد في الطهارة من الأدناس في سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم .

وتصنيف الناس آخر الفاتحة ثلاثة أصناف : مهتدين ومعاندين وضالين ، مثل تصنيفهم أول البقرة ثلاثة : متقين وكافرين مصارحين وهم المعاندون وضالين وهم المنافقون ، وإجمالهم في الفاتحة وتفصيلهم هنا من بديع الأساليب وهو دأب القرآن العظيم الإجمال ثم التفصيل .

وقد سمى ابن إسحاق كثيراً من المنافقين[671] في السيرة الشريفة في أوائل أخبار ما بعد الهجرة[672] ، قال ابن هشام في تلخيص ذلك : وكان ممن انضاف إلى يهود ممن سمي لنا من المنافقين من الأوس والخزرج ، من الأوس زوي بن الحارث وبجاد بن عثمان ابن عامر ونبتل بن الحارث وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم . " من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل ! وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث إليه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين ، وهو الذي قال : إنما محمد أذن " وعباد بن حنيف أخو سهل وعمرو بن خذام[673] وعبد الله بن نبتل وبَحْزَج وهو ممن كان بنى مسجد الضرار وكذا جارية[674] بن عامر ابن العطاف وابنه زيد وخذام[675] بن خالد وهو الذي أخرج مسجد الضرار من داره ومِرْبع بن قيظي وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عامد إلى أحد : لا أحل لك يا محمد إن كنت نبياً أن تمر في حائطي[676] ! فابتدره المسلمون ليقتلوه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال " هذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر " ، وأخوه أوس بن قيظي وهو الذي قال يوم الخندق " إن بيوتنا عورة[677] " وحاطب بن أمية بن رافع وكان شيخاً جسيماً قد عسى في الجاهلية وكان ابنه يزيد[678] من خيار المسلمين ، قتل رضي الله عنه يوم أحد فقال أبوه لمن بشره بالجنة : غررتم والله هذا المسكين من نفسه ! وبشير بن أبيرق[679] أبو طعيمة . وفي نسخة : طعمة[680] ، وهو سارق الدرعين الذي أنزل الله فيه

{ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم[681] }[ النساء :107 ] وقزمان[682] حليف لهم أجاد يوم أحد القتال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول[683] : " إنه من أهل النار ، فجرح فبشر بالجنة فقال : والله ما قاتلت إلا حمية لقومي[684] ! فلما اشتدت به الجراحة قطع رواهش[685] يده فمات " .

ومن الخزرج رافع بن وديعه وزيد بن عمرو وعمرو بن قيس وقيس بن عمرو بن سهل [686]والجد بن قيس[687] وهو الذي قال : " ائذن لي ولا تفتني[688] " [689]وعبد الله بن أبيّ رأس المنافقين وإليه كانوا يجتمعون وهو القائل

{ ليخرجن الأعز منها الأذل[690] }[ المنافقون : 8 ] وفيه وفي وديعة العوفي[691] ومالك بن أبي فوقل وسويد وداعس وهم من رهطه نزل

{ ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب[692] }[ الحشر : 11 ] الآية حكاية لما كانوا يدسونه إلى بني النضير إذ حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدق الله وكذبوا .

وكان ممن تعوذ بالإسلام وأظهره وهو منافق من أحبار يهود من بني قينقاع سعد ابن حنيف وزيد بن اللُّصيت وهو الذي قال في عزوة تبوك : يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته ! فأعلمه الله بقوله وبمكان الناقة ، ونعيمان بن أوفى بن عمرو وعثمان بن أوفى ورافع بن حريملة وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات : " قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين " ، ورفاعة بن زيد بن التابوت وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هبت تلك الريح وهو قافل من غزوة بني المصطلق : " لا تخافوا ، إنما هبت لموت عظيم من عظماء المنافقين " ، وسلسلة بن برهام وكنانه بن صوريا . فكان هؤلاء من المنافقين ومن نحا نحوهم يحضرون المسجد فيسمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم . انتهى . وفيه اختصار فأنزل الله تعالى فيهم[693] هذه الآيات .

يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ٩

وابتدئت قصتهم بالتنبيه على قلة عقولهم وخفة حلومهم من حيث أن محط حالهم أنهم يخادعون من لا يجوز عليه الخداع وأن الذي حملهم على ذلك أنهم ليس لهم نوع شعور ولا شيء من إدراك بقوله تعالى - جواباً لسؤال من كأنه قال : فما قصدهم بإظهار[694] الإيمان و[695]الإخبار عن أنفسهم بغير ما هي متصفة به مع معرفتهم بقبح الكذب وشناعته وفظاعته وبشاعته ؟ { يُخادعون الله } أي يبالغون في معاملته هذه المعاملة بإبطان غير ما يظهرون مع ما له من الإحاطة بكل شيء ، والخداع[696] أصله الإخفاء[697] والمفاعلة في أصلها للمبالغة لأن الفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده { والذين آمنوا } أي يعاملونهم تلك المعاملة ، وأمره[698] تعالى بإجراء أحكام الإسلام عليهم في الدنيا صورته صورة الخدع[699] وكذا امتثال المؤمنين أمره تعالى فيهم . قال الحرالي : وجاء بصيغة المفاعلة لمكان إحاطة علم الله بخداعهم ولم يقرأ غيره ولا ينبغي ، والخداع إظهار خير يتوسل به إلى إبطان شر يؤول إليه أمر ذلك الخير المظهر[700] . انتهى .

{ وما يخدعون[701] } أي بما يغرون به المؤمنين { إلا أنفسهم } يعني أن عقولهم لخباثتها[702] إنما[703] تسمى نفوساً ، والنفس[704] قال الحرالي ما به ينفس المرء[705] على غيره[706] استبداداً منه واكتفاء بموجود نفاسته على من سواه . انتهى . وقراءة الحذف هذه لا تنافي قراءة يخادعون لأن المطلق لا يخالف المقيد بالمبالغة ، وعبر هنا[707] بصيغة المفاعلة لشعورهم كما قال الحرالي بفساد [708]أحوالهم في بعض الأوقات ومن بعض الأشخاص وبصيغة المجرد لعمههم عن فساد[709] أحوالهم في أكثر أوقاتهم وعمه عامتهم ولا يكون من الله سبحانه إلا بلفظ الخدع لأنهم لا يعلمون ما يخفى[710] عنهم من أمره ولذلك جاء في آية النساء

يخادعون الله وهو خادعهم[711] }[ النساء : 142 ] . انتهى .

{ وما يشعرون } أي نوع شعور لإفراط جهلهم بأنهم لا يضرون غير أنفسهم لأن الله يعلم سرهم كما يعلم جهرهم[712] . وحذف[713] متعلق بالشعور للتعميم[714] والشعور كما قال الحرالي أول الإحساس بالعلم كأنه مبدأ إنباته قبل أن تكمل صورته تتميز . وانتهى .

فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ١٠

ثم بين سبحانه أن سبب الغفلة عن هذا الظاهر كون آلة إدراكهم مريضة ، شغلها المرض عن إدراك ما ينفعها فهي لا تجنح إلا إلى ما يؤذيها ، كالمريض لا تميل نفسه إلى غير مضارها فقال جواباً لمن كأنه قال : ما سبب فعلهم هذا من الخداع[715] وعدم الشعور[716] ؟ { في قلوبهم مرض }[717] أي من أصل الخلقة يوهن قوى الإيمان فيها ويوجب ضعف أفعالهم الإسلامية وخللها ، لأن المرض كما قال الحرالي : ضعف في القوى يترتب عليه خلل في الأفعال { فزادهم الله } أي[718] بما له من صفات الجلال والإكرام لمخادعتهم[719] بما يرون من عدم تأثيرها[720] { مرضاً } أي سوء اعتقاد بما يزيد من خداعهم وألماً في قلوبهم بما يرون من خيبة مطلوبهم ، فانسد عليهم باب الفهم والسداد جملة ، والزيادة قال الحرالي : استحداث أمر لم يكن في موجود الشيء . انتهى . { ولهم } أي مع ضرر الغباوة في الدنيا الملحقة بالبهائم { عذاب أليم } في الآخرة أي شديد الألم وهو الوجع اللازم . قاله الحرالي { بما كانوا } قال الحرالي : من كان الشيء وكان الشيء كذا إذا ظهر وجوده وتمت صورته أو ظهر ذلك الكذا من ذات نفسه . انتهى . { يكذبون } أي يوقعون[721] الكذب وهو الإخبار عن أنفسهم بالإيمان مع تلبّسهم بالكفران ، والمعنى[722] على قراءة التشديد يبالغون في الكذب ، أو ينسبون الصادق إلى الكذب ، وذلك أشنع الكذب .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ١١

ولما أخبر تعالى عن بواطنهم أتبعه من الظاهر ما يدل عليه فبين أنهم إذا نهوا عن الفساد العام ادّعوا الصلاح العام بقوله : { وإذا قيل لهم } وبناؤه للمجهول إشارة إلى عصيانهم لكل قائل كائناً من كان { لا تفسدوا في الأرض } أي بما نرى[723] لكم من الأعمال الخبيثة ، والفساد[724] انتقاض صورة الشيء . قاله الحرالي ، { قالوا } قاصرين فعلهم على الصلاح نافين عنه كل فساد مباهتين غير مكترثين { إنما نحن مصلحون[725] } والإصلاح تلافي خلل الشيء . قاله الحرالي[726] .

أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ١٢

ولما كان حالهم مبنياً على الخداع بإظهار الخير وإبطان الشر وكانوا يرون إفسادهم لما لهم من عكس الإدراك إصلاحاً فكانوا يناظرون عليه بأنواع الشبه كان قولهم ربما غرّ من سمعه من المؤمنين لأن المؤمن غرّ كريم والكافر خِبّ لئيم فقال تعالى محذراً من حالهم مثبتاً لهم ما نفوه عن أنفسهم من الفساد وقاصراً له عليهم { ألا إنهم هم } أي خاصة { المفسدون } أي الكاملو[727] الإفساد البالغون من العراقة فيه ما يجعل إفساد غيرهم بالنسبة إلى إفسادهم عدماً لما في ذلك من خراب ذات البين وأخذ المؤمن من المأمن .

وقال الحرالي : ولما كان حال الطمأنينة بالإيمان إصلاحاً وجب أن يكون اضطرابهم فيه إفساداً لا سيما مع ظنهم أن كونهم مع هؤلاء تارة ومع هؤلاء تارة من الحكمة والإصلاح وهو عين الإفساد لأنه بالحقيقة مخالفة هؤلاء وهؤلاء فقد أفسدوا طرفي الإيمان والكفر ، ولذلك قيل : ما يصلح المنافق ، لأنه لا حبيب مصاف ولا عدو[728] مبائن ، فلا يعتقد منه على شيء - انتهى .

ولما كان هذا الوصف موجباً لعظيم الرهبة اتبعه ما يخففه[729] بقوله : { ولكن لا يشعرون } أي هم[730] في غاية الجلافة حتى لا شعور لهم يحسنون به التصرف فيما يحاولونه من الفساد الآن بما دلت عليه ما في الآية السابقة الدالة على أن المضارع للحال ولا فيما يستقبل من الزمان لأن لا لا تقارنه إلا وهو بمعنى الاستقبال ، فلأجل ذلك لا يؤثر إفسادهم إلا في أذى أنفسهم ، فلا تخافوهم فإني كافيكموهم .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ١٣

ولما بين حالهم إذا أمروا بالصلاح العام بين أنهم إذا دعوا إلى الصلاح الخاص الذي هو أس كل صلاح سموه سفهاً فقال : { وإذا قيل } أي من أي قائل كان { لهم آمنوا } أي ظاهراً وباطناً { كما آمن الناس }[731] أي الذين هم الناس ليظهر عليكم ثمرة ذلك من لزوم الصلاح واجتناب الفساد والإيمان المضاف إلى الناس أدنى مراتب الإيمان[732] قاله الحرالي ، وهو[733] مفهم لما صرح به[734] قوله : وما هم بمؤمنين { قالوا أنؤمن } أي ذلك الإيمان { كما آمن السفهاء } أي الذين[735] استدرجهم إلى ما دخلوا فيه بعد ترك ما كان عليه آباؤهم خفة نشأت عن ضعف العقل ، ثم رد سبحانه قولهم بحصر السفه فيهم فقال : { ألا إنهم هم السفهاء } لا غيرهم[736] لجمودهم على رأيهم مع أن بطلانه أظهر من الشمس ليس فيه لبس { ولكن لا يعلمون } أي ليس لهم علم أصلاً لا بذلك ولا بغيره ، ولا يتصور لهم علم لأن جهلهم مركب وهو أسوأ الجهل والعلم ، قال الحرالي : ما أخذ بعلامة وأمارة نصبت آية عليه - انتهى . ولما كان الفساد يكفي في معرفته والسد عنه أدنى تأمل والسفه لا يكفي في إدراكه والنهي عنه إلا رزانة[737] العلم ختمت كل آية بما يناسب ذلك من الشعور والعلم[738] ولما كان العام جزء الخاص قدم عليه .

وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ١٤

ولما بيّن نفاقهم وعلته وسيرتهم عند دعاء الداعي إلى الحق بهذة الآيات بين سيرتهم في أقوالهم في خداعهم دليلاً على إفسادهم بقوله : { وإذا لقوا } واللقاء[739] اجتماع بإقبال { الذين آمنوا } أي حقاً ظاهراً وباطناً ، ولكن إيمانهم كما قال الحرالي[740] فعل من أفعالهم لم ينته إلى أن يصير صفة لهم ، وأما المؤمنون الذين صار إيمانهم صفة لهم فلا يكادون[741] يلقونهم بمقتضاه ، لأنهم لا يجدون معهم مدخلاً في قول ولا مؤانسة ، لأن اللقاء لا بد فيه من إقبال ما من[742] الملتقيين . [743]

انتهى { قالوا } خداعاً { آمنا } معبرين بالجملة الفعلية الماضية التي يكفي[744] في إفادتها[745] لما سيقت له أدنى الحدوث[746]

{ وإذا خلوا } منتهين { إلى شياطينهم } أي الذين هم رؤوسهم من غير أن يكون معهم مؤمن ، والشيطان هو الشديد البعد عن محل الخير - قاله الحرالي ، { قالوا إنا معكم }[747] معبرين بالأسمية الدالة على الثبات مؤكدين لها دلالة على نشاطهم لهذا الإخبار لمزيد حبهم لما أفاده ودفعاً لما قد يتوهم من تبدلهم من رأى نفاقهم للمؤمنينَ[748] ثم استأنفوا في موضع الجواب لمن قال : ما بالكم تلينون للمؤمنين قولهم[749] ؟ { إنما نحن مستهزئون } أي طالبون للهُزء[750] ثابتون عليه فيما نظهر من الإيمان والهزء إظهار الجد وإخفاء الهزل فيه قاله الحرالي .

ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ١٥

فأجيب من كأنه قال : بماذا جوزوا ؟ بقوله : { اللهُ[751] يستهزىء بهم } أي يجازيهم على فعلهم بالاستدراج بأن يظهر لهم من أمره[752] المرذي[753] لهم ما لا يدركون وجهه فهو يجري عليهم في الدنيا أحكام أهل الإيمان ويذيقهم في الدارين أعلى هوان على معنى الشق والفتح وكذا أخواته من الفاء والعين نحو فلج بالجيم وفلق وفلذ وفلى .

قال مجدداً لهم ذلك بحسب استهزائهم ، وذلك أنكأ من شيء دائم توطّن النفس عليه ، فلذلك عبر بالفعلية دون الاسمية . مع أنها تفيد صحة التوبة لمن تاب دون الاسمية .

{ ويمدهم } من المد[754] بما يلبس عليهم . وقال الحرالي : من المدد وهو مزيد متصل في الشيء من جنسه ، { في طغيانهم } [755]أي تجاوزهم الحد في الفساد . وقال الحرالي : إفراط اعتدائهم حدود الأشياء ومقاديرها انتهى . وهذا المد بالإملاء لهم حال كونهم { يعمهون } أي يخبطون خبط الذي لا بصيرة له أصلاً . قال الحرالي : من العمه وهو انبهام الأمور التي فيها دلالات ينتفع بها عند فقد الحس فلا يبقى له سبب يرجعه عن طغيانه ، فلا يتعدون حداً إلا عمهوا فلم يرجعوا عنه فهم أبداً متزايدو الطغيان - انتهى .

أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ١٦

فلما تقرر ذلك كله كانت فذلكته من غير توقف { أولئك } أي الشديدو[756] البعد من الصواب { الذين اشتروا } أي لجوا في هواهم فكلفوا أنفسهم ضد[757] ما فطرها الله عليه مع ما نصب من الأدلة حتى أخذوا { الضلالة } أي التي هي أقبح الأشياء { بالهدى }[758] الذي هو خير الأشياء ومدار كل ذي شعور عليه ، فكأنه لوضوح ما قام عليه من الأدلة مع ما ركز منه[759] في الفطر كان في أيديهم فباعوه بها ، وسيأتي في سورة يوسف عليه السلام بيان[760] أن مادة شرى بتراكيبها الاثني عشر تدور على اللجاجة { فما } أي فتسبب عن فعلهم هذا أنه ما { ربحت تجارتهم[761] } مع ادعائهم أنهم[762] أبصر الناس بها { وما كانوا } في نفس جبلاتهم { مهتدين }[763] لأنهم مع أنهم لم يربحوا أضاعوا رأس المال ، لأنه لم يبق في أيديهم غير الضلال الذي صاحبه في[764] دون رتبة البهائم مع زعمهم أنه لا مثل لهم في الهداية .

page 4

مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ١٧

فلما علم ذلك كله وكانت الأمثال ألصق بالبال وأكشف للأحوال مثل حالهم في هداهم الذي باعوه بالضلالة بالأمور المحسوسة ، لأن للتمثيل بها شأناًعظيماً في إيصال المعاني حتى إلى الأذهان الجامدة وتقريرها فيها بقوله تعالى { مثلهم[765] } أي في حالهم هذه التي طلبوا أن يعيشوا بها { كمثل الذي استوقد ناراً }[766] أي طلب أن توقد له وهي هداه ليسير في نورها ، وأصلها من نار إذا نفر لتحركها واضطرابها ، فوقدت وأنارت .

{ فلما أضاءت } أي[767] النار ، وأفرد الضمير باعتبار لفظ " الذي " فقال : { ما حوله } وأراد أن ينتفع بها في إبصار ما يريد ، وهو كناية عما حصل لهم من الأمنة بما قالوه من كلمة الإسلام من غير اعتقاد { ذهب الله } الذي له كمال العلم والقدرة ، وجمع الضمير نظراً إلى المعنى لئلا يتوهم أن بعضهم انتفع دون بعض بعد أن أفرده تقليلاً للنور وإن كان قوياً في أوله لانطفائه في آخره فقال : { بنورهم }[768] أي الذي نشأ من تلك النار بإطفائه لها ولا نور لهم سواه ؛ ولم يقل : بضوئهم ، لئلا يتوهم أن المذهوب به الزيادة فقط ، لأن الضوء أعظم من مطلق النور

{ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً }[769] [ يونس : 5 ] فذهب نورهم وبقيت نارهم ليجتمع عليهم حرّها مع حر الفقد لما ينفعهم من النور ، وعبر[770] بالإضاءة أولاً إشارة إلى قوة أولهم وانمحاق آخرهم ، لأن محط حالهم الباطل والباطل له صولة ثم تضمحل عند من ثبت لها ليتبين[771] الصادق من الكاذب ، وعبر بالذهاب به[772] دون إذهابه ليدل نصاً على أنه سبحانه ليس معهم وحقق ذلك[773] بالتعبير عن صيّر بترك[774] فقال : { وتركهم في ظلمات } أي بالضلالة[775] من قلوبهم وأبصارهم وليلهم أي ظلمات لا ينفذ[776] فيها بصر ، فلذا كانت نتيجته { لا يبصرون }[777] أي لا إبصار لهم أصلاً[778] ببصر ولا بصيرة . [779]

صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ١٨

ولما فرغ من المثل كشف المراد بظلماتهم بأنها ما في آذانهم من الثقل المانع من الانتفاع بالسماع ، وما في ألسنتهم من الخرس عن كلام الخير الناشىء عن عدم الإدراك الناشىء عن عمى[780] البصائر وفساد الضمائر والسرائر ، وما على أبصارهم من الغشاوة المانعة من الاعتبار وعلى بصائرهم من الأغطية المنافية للادّكار[781] فقال[782] : { صم } أي عن السماع النافع { بكم } عن النطق المفيد لأن قلوبهم مختوم عليها فلا ينبعث منها خير تقذفه[783] إلى الألسنة { عمي } في البصر والبصيرة عن الإبصار المرشد لما تقدم من الختم على مشاعرهم ، ولما كان في مقام إجابة الداعي إلى الإيمان قدم السمع لأنه العمدة في ذلك ، وثنى بالقول لأنه يمكن الأصم الإفصاح عن المراد ، وختم بالبصر لإمكان الاهتداء به بالإشارة ؛ وكذا ما يأتي في هذه السورة سواء بخلاف ما في الإسراء ، { فهم } أي فتسبب عن ذلك أنهم { لا } ولما كان المراد التعميم في كل رجوع لم يذكر المرجوع عنه فقال : { يرجعون[784] } أي عن طغيانهم وضلالهم إلى الهدى الذي باعوه ولا إلى حالهم الذي كانوا عليه ولا ينتقلون[785] عن حالهم هذا[786] أصلاً ، لأنهم كمن هذا حاله ، ومن هذا حاله لا يقدر على مفارقة موضعه بتقدم ولا تأخر

أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ١٩

{ أو } مثلهم في سماع القرآن الذي فيه المتشابه والوعيد والوعد { كصيب } أي أصحاب صيب أي مطر عظيم ، وقال الحرالي : سحاب ممطر دارٍّ ثم اتبعه تحقيقاً لأن المراد الحقيقة قوله : { من السماء } وهو كما قال الحرالي ما علا فوق الرأس ، يعني هذا أصله[787] والمراد هنا معروف ، ومثل القرآن[788] بهذا لمواترة[789] نزوله وعلوه وإحيائه القلوب كما أن الصيب يحيي الأرض ، ثم أخبر عن حاله بقوله : { فيه ظلمات } أي لكثافة السحاب واسوداده { ورعد } أي صوت مرعب يرعد عند سماعه[790] { وبرق } أي نور مبهت للمعانه وسرعته قاله الحرالي ، والظلمات مثل ما لم يفهموه ، والرعد ما ينادى عليهم بالفضيحة والتهديد والبرق ما يلوح لهم معناه ويداخلهم رأي في استحسانه .

ولما تم مثل القرآن استأنف[791] الخبر عن حال الممثل لهم[792] والممثل بهم[793] حقيقة[794] ومجازاً[795] فقال : { يجعلون أصابعهم }[796] أي بعضها ولو قدروا لحشوا الكل لشدة خوفهم[797] { في آذانهم من الصواعق } أي من أجل قوتها ، لأن هولها يكاد أن يصم ، وقال الحرالي : جمع[798] صاعقة[799] وهو الصوت الذي يميت[800] سامعه أو يكاد ، ثم علل هذا بقوله : { حذر الموت والله } أي والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { محيط بالكافرين[801] } فلا يغنيهم من قدره حذر[802] ، وأظهر موضع الإضمار لإعراضهم عن القرآن وسترهم لأنواره .

يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ٢٠

ثم استأنف[803] الحديث عن بقية حالهم فقال : { يكاد البرق } أي من قوة لمعه وشعاعه وشدة حركته وإسراعه { يخطف أبصارهم } فهم يغضونها عند لمعه وخفضه في ترائبه ورفعه ، ولما كان من المعلوم أن البرق ينقضي لمعانه بسرعة كان كأنه قيل : ما[804]ذا يصنعون عند ذلك ؟ فقال[805] : { كلما }[806] وعبر بها دون إذا[807] دلالة على شدة حرصهم على إيجاد المشي[808] عند الإضاءة { أضاء لهم مشوا فيه } مبادرين إلى ذلك حراصاً عليه لا يفترون عنه في وقت من أوقات[809] الإضاءة مع أنهم يغضون أبصارهم ولا يمدونها غاية المد خوفاً عليهم ووقوفاً مع الأسباب ووثوقاً بها واعتماداً عليها وغفلة عن رب الأرباب ، وهو مثل لما وجدوا من القرآن موافقاً لآرائهم ، وعطف بإذا لتحقق خفوته بعد خفوقه قوله : { وإذا أظلم عليهم قاموا } أي أول حين الإظلام لا يقدرون على التقدم خطوة واحده إشارة إلى أنه ليست لهم[810] بصائريسيرون بها فيما كشف البرق لأبصارهم من الأرض قبل الإظلام بل[811] حال انقطاع اللمعان يقفون لعمى بصائرهم ووحشتهم وجبنهم وغربتهم وشدة جزعهم وحيرتهم ، وهكذا حال هؤلاء لا يقيسون ما أشكل عليهم من القرآن على ما فهموه .

( ولو شاء الله } الذي له العظمة الباهرة مع شدة حرصهم وتناهي جزعهم ، ودل على مفعول شاء بقوله : { لذهب بسمعهم } أي بقاصف الرعد ولم يغنهم سدّ آذانهم { وأبصارهم } بخاطف البرق ولم يمنعه غضَّهم لها ، ثم علل ذلك بقوله : { إن الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { على كل شيء } أي مشيء أي يصح أن تقع عليه المشيئة هذا المراد وإن كان الشيء كما قال سيبويه يقع على كل ما أخبر عنه ، وهو أعم العام كما أن الله أخص الخاص ، يجري على الجسم والعرض والقديم والمعدوم والمحال ، وقول الأشاعرة : إن المعدوم ليس بشيء[812] ، بمعنى أنه ليس بثابت في الأعيان[813] متميز فيها[814] { قدير } إعلاماً بأن قدرته لا تتقيد بالأسباب ، [815]قال الحرالي : القدرة إظهار الشيء من غير سبب ظاهر انتهى[816] .

ولعله سبحانه قدم المثل الأول لأنه كالجزء من الثاني ، أو لأنه مثل المنافقين ، جعلت مدة[817] صباهم بنموهم وازدياد عقولهم استيقاداً[818] مع جعل الله إياهم على الفطرة القويمة وزمان بلوغهم بتمام العقل الغريزي إضاءة ؛ والثاني مثل المنافقين وهو أبلغ . لأن الضلال فيه أشنع وأفظع . فالصيب القرآن الذي انقادوا له ظاهراً ، والظلمات متشابهه[819] ، والصواعق وعيده ، والبرق وعده ، كلما أنذروا بوعيد انقطعت قلوبهم خوفاً

{ يحسبون كل صيحة عليهم[820] }[ المنافقون : 4 ] وكلما بشروا انقادوا رجاء ، وإذا عرض المتشابه وقفوا تحيراً وجفاء وكل ذلك وقوفاً مع الدنيا وانقطاعاً إليها ، لا نفوذ[821] لهم إلى ما وراءها أصلاً ، بل هم كالأنعام ، لا نظر لهم إلى ما[822] سوى الجزيئات والأمور المشاهدات ،

{ فإن كان[823] لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم[824] }[ النساء : 141 ]

{ يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً[825] }[ النساء : 73 ] والكلام[826] الجامع النافع في ذلك أن يقال إنه سبحانه شبّه في الأول مثلهم بمثل المستوقَد لا بالمستوقِد ، و[827]في الثاني شبه مثلهم في خوفهم اللازم ورجائهم المنقطع[828] بأصحاب الصيب لا بمثلهم[829] ؛ فتقدير الأول مثلهم في أنهم سمعوا أولاً الدعاء ورأوا الآيات فأجابوا الداعي إما بالفعل كالمنافقين وإما بالقوة في أيام الصبا[830] لما عندهم من سلامة الفطر وصحة النظر ، ثم تلذذوا فرجعوا بقلوبهم من نور ما قالوه بألسنتهم من كلمة التقوى نطقاً أو تقديراً إلى ظلمات الكفر ، فلم ينفعهم سمع ولا بصر ولا عقل[831] ، فصاروا مثل البهائم التي لا تطيع الراعي إلا بالزجر البليغ ، مثلهم في هذا يشبه مثل المستوقد في أنه لما أضاءت ناره رأى ما حوله ، فلما ذهبت لم يقدر على تقدم ولا تأخر ، لأنه لا ينفع في ذلك سمع ولا كلام فإذن[832] استوى وجودهما وعدمهما ، فصار عادماً للثلاثة ، فكان من هذه الجهة[833] مساوياً للأصم الأبكم الأعمى ، فهو مثله لكونه لا يقدر على مراده إلا أن قاده قائد حسي ، فهو حينئذ[834] مثل البهائم التي لا تقاد[835] للمراد إلا بقائد ، فاستوى المثلان وسيتضح ذلك عند قوله تعالى :

كمثل الذي ينعق[836] }[ البقرة : 171 ] ولذلك كانت النتيجة في كل منها صم[837] إلى آخره و " أو " بمعنى الواو ، ولعله عبر بها دونها لأنه[838] وإن كان كل من[839] المثلين صالحاً لكل من القسمين فإن احتمال التفصيل غير بعيد ، لأن[840] الأول أظهر في الأول[841] والثاني في الثاني . [842]

وجعل الحرالي المثلين للمنافقين فقال : ضرب لهم مثلين لما كان لهم حالان وللقرآن عليهم تنزلان ، منه ما يرغبون فيه لما فيه من مصلحة دنياهم ، فضرب لهم المثل الأول ، وقدمه لأنه سبب دخولهم مع الذين آمنوا[843] لما رأوا من[844] معاجلة عقاب الذين كفروا في الدنيا ؛ ومنه ما يرهبونه ولا يستطيعون سماعه لما يتضمنه من أمور شاقة عليهم لا يحملها إلا مؤمن حقاً ولا يتحملها إلا من أمن ، ولما يلزم منه من[845] فضيحة خداعهم فضرب له المثل الثاني ؛ فلن يخرج حالهم عند نزول نجوم القرآن عن مقتضى هذين المثلين انتهى . وضرب الأمثال المنهي إلى الحمد[846] المنتهي إلى الإحاطة بكل حد لا سيما في أصول الدين الكاشف لحقيقة التوحيد الموصل إلى اليقين في الإيمان بالغيب المحقق لما لله تعالى[847] من صفات الكمال الدافع للشكول الحافظ في طريق السلوك مما[848] اختص به القرآن من حيث كان منهياً إلى الحمد ومفصحاً[849] به فكان حرف[850] الحمد ، وذلك أنه حرف عام[851] محيط شامل لجميع الأمور كافل بكل الشرائع في سائر الأزمان ؛ فكان أحق الرسل به من كانت رسالته عامة لجميع الخلق وكتابه شاملاً لجميع الأمر وهو أحمد ومحمد صلى الله عليه وسلم .

قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتابه " عروة المفتاح " : هذا الحرف لإحاطته أنزل وتراً وسائر الحروف أشفاع لاختصاصها ، ووجه إنزاله تفهيم ما غمض[852] من المغيبات بضرب مثل من المشهودات ، ولما كان للأمر تنزلات وللخلق تطورات كان الأظهر منها مثلاً لما هو دونه في الظهور ، وكلما ظهر ممثول صار مثلاً[853] لما هو أخفى منه ، فكان لذلك أمثالاً عدداً منها مثل ليس بممثول لظهوره وممثولات تصير أمثالاً لما هو أخفى منها إلى أن تنتهي الأمثال إلى غاية محسوس أو معلوم ، فتكون تلك الغاية مثلاً أعلى كالسماوات والأرض فيما يحس والعرش والكرسي[854] فيما يعلم

{ وله المثل الأعلى في السماوات والأرض[855] }[ الروم : 27 ]

{ الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم[856] }[ غافر : 7 ] وذلك المثل الأعلى لإحاطته اسمه الحمد

{ وله الحمد في السماوات والأرض[857] }[ الروم : 18 ] وأحمده أنهاه وأدناه إلى الله تعالى بحيث لا يكون بينه وبين الله تعالى واسطة ، فلذلك ما استحق أكمل الخلق وأجمعه وأكمل الأمر وأجمعه الاختصاص بالحمد ، فكان أكمل الأمور سورة الحمد وكان أكمل الخلق صورة محمد صلى الله عليه وسلم ، كان خُلقه القرآن

و{ لقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم[858] }[ الحجر : 87 ] ودون المثل الأعلى الجامع الأمثال العلية المفصلة منه

{ ضرب لكم مثلاً من أنفسكم[859] }[ الروم : 28 ] ولإحاطة أمر الله وكماله في كل شيء يصح أن يضربه مثلاً

{ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها[860] }[ البقرة : 26 ]

{ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً[861] }[ العنكبوت : 41 ] وللمثل حكم من ممثوله ، إن كان حسناً حسنَ مثله ، وإن كان سيئاً ساء مثله ؛ ولما كان أعلى الأمثال الحمد كان أول الفاتحة الحمد ، ولما كان أخفى أمر الخلق النفاق كان أول مثل في الترتيب مثل النفاق ، وهو أدنى مثل لما خفي من أمر الخلق ، كما أن الحمد أعلى مثل لما غاب من أمر الحق ، وبين الحدين أمثال حسنة وسيئة

{ مثل الجنة التي وعد المتقون[862] }[ الرعد : 35 ] الآيتين ،

{ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها[863] }[ الجمعة : 5 ]

{ فمثله كمثل الكلب[864] }[ الأعراف : 176 ] الآيتين . وبقدر علو المثل أو دنوه أو توسطه يتزايد للمؤمن الإيمان وللعالم العلم وللفاهم الفهم ، وبضد ذلك لمن اتصف بأضداد تلك الأوصاف ، { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } ومعرفة أمثال القرآن المعرفة إحاطة ممثولاتها وعلم آياته المعلمة اختصاص معلوماتها هو حظ العقل واللب وحرفه من القرآن ، ولكل حرف اختصاص بحظ من تدرّك[865] الإنسان وأعمال القلوب والأنفس والأبدان ، فمن يسر[866] له القراءة والعمل بحرف منه اكتفى ، ومن جمع له قراءة جميع أحرفه علماً وعملاً فقد أتم ووفّى ، وبذلك يكون القارىء من القراء الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنهم أعز من الكبريت الأحمر "

{ يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم[867] }[ آل عمران : 74 ] .

ثم قال فيما به يحصل[868] قراءة هذا الحرف : اعلم أن قراءة الأحرف الستة تماماً وفاء بتفصيل العبادة ، لأنها أشفاع ثلاثة للتخلص والتخلي وثلاثة للعمل والتحلي ، لأن ترك الحرام طهرة البدن وترك النهي طهرة النفس وترك التعرض للمتشابه طهرة القلب ، ولأن تناول الحلال زكاء البدن وطاعة الأمر زكاء النفس وتحقق العبودية بمقتضى حرف المحكم نور القلب ؛ وأما قراءة حرف الأمثال فهو وفاء العبادة بالقلب جمعاً ودواماً { وله الدين واصباً[869] }[ النحل : 52 ] و { الذين هم على صلاتهم دائمون[870] }[ المعارج :23 ] فالذي يحصل قراءة هذا الحرف إنما هو خاص بالقلب ، لأن أعمال الجوارح وأحوال النفس قد استوفتها الأحرف الستة التفصيلية ، والذي يخص القلب بقراءة هذا الحرف هو المعرفة التامة المحيطة بأن كل الخلق دقيقة وجليلة خلق الله وحده لا شريك له في شيء منه ، وأنه جميعه مثل لكلية أمر الله القائم بكلية ذلك الخلق ، وإن كلية ذلك الأمر الذي هو ممثول لمثل الخلق هو مثل لله تعلى :

{ وله المثل الأعلى }[ الروم : 27 ] وأن تفاصيل[871] ذلك الخلق المحيطات أمثل لقيامها من تفاصيل ذلك الأمر المحيطات بها ، وأن تفاصيل الأمر المحيطات أمثال لأسماء الله تعالى الحسنى بما هي محيطة ؛ و[872]لجمع هذا الحرف لم يصح إنزاله إلا على الخلق الجامع الآدمي الذي هو صفوة الله وفطرته ، وعلى سيد الآدميين محمد خاتم النبيين وهو خاصته وخاصة آله ، وعنه كمل الدين بالإحسان ، وصفا العلم بالإيقان ، وشوهد في الوقت الحاضر ، ما بين حدي الأزل الماضي والأبد الغابر ، وعن تمام اليقين والإحسان تحقق الفناء لكل فانٍِ وبقي وجه رب محمد ذي الجلال والإكرام ، وكان هذا الحرف بما اسمه الحمد هو[873] لكل شيء بداء[874] وختام انتهى . [875]